وأمسكت ووجهها يشتد تجهمه، وكأن أنفها ازداد بروزا، وبدا عليها التأثر واضحا فاستطردت قائلة: يجب أن تقري بخطئك، خبريني كيف سولت لك نفسك هذا العبث يا مجنونة؟
فغمغمت عائشة وهي تجفف عينيها: أنت تسيئين الظن بي.
فنفخت خديجة مقطبة كأنما ضاقت بهذه المكابرة الضائعة، بيد أنها عدلت نهائيا عن نية الاعتداء أو حتى المعابثة، إنها تعرف دائما أين ومتى تقف فلا تجاوز الحد، وقد أشبعت السخرية ميولها العدوانية القاسية، فقنعت بها كما تقنع بها عادة، ولكن بقيت لديها ميول من نوع آخر - أبعد ما تكون عن العدوان والقسوة - لم تشبع بعد، ميول تنبعث من عاطفة الأخت الكبرى، بل من عاطفة أمومة لا يخطئها فيها أحد من الأسرة مهما اشتدت حملتها عليه، أو حملته عليها، وتحت تأثير الرغبة في إشباع هذه الميول الودية قالت: لا تكابري، لقد رأيت كل شيء بعيني، لست الآن أهزل ولكني أريد أن أصارحك بأنك أخطأت خطأ كبيرا، هذا عبث لم يعرفه هذا البيت في الماضي ، ولا يود أن يعرفه في حاضره أو مستقبله، إنه الطيش وحده الذي أوقعك فيه، أصغي إلي واعقلي نصيحتي، لا تعودي إلى هذا أبدا، لا يخفى شيء وإن طال كتمانه، فتصوري ماذا يكون من أمرنا جميعا لو لمحك أحد في الطريق، أو أحد من الجيران، وأنت أدرى بألسنة الناس، تصوري ماذا يكون لو نمى الخبر إلى أبي والعياذ بالله!
فنكست عائشة رأسها تاركة الصمت يعبر عن اعترافها، وقد تضرج وجهها بحمرة الخجل، ذلك الدم الذي ينزفه الضمير في الداخل إذا جرحته خطيئة، وعند ذاك تنهدت خديجة قائلة: حذار، حذار، فاهمة؟ ... (ثم نسمت عليها نسمة سخرية، فغيرت لهجتها شيئا ما) ألم يرك؟ فماذا يقعده عن أن يتقدم لك مثل الرجال الشرفاء؟ وقتها نقول لك مع ألف سلامة، بل في ستين داهية يا ستي.
استردت عائشة أنفاسها، فافتر ثغرها عن ابتسامة لاحت كلمعة اليقظة الأولى في العين عقب غيبوبة طويلة، وكأن خديجة عز عليها - برؤية هذه الابتسامة - أن تفلت الفتاة من قبضتها بعد أن نعمت بامتلاكها فترة طويلة، فصاحت بها: لا تظني أنك بلغت بر الأمان، إن لساني لا يسكت إذا لم تحسني مشاغلته.
فتساءلت الأخرى في ارتياح: ماذا تعنين؟ - لا تتركيه وحده حتى لا تعاوده نزعة الشر، ألهيه بشيء من الحلوى ليشغل بها عنك، علبة ملبس مثلا من شنجرلي. - لك ما تشتهين وأكثر.
وساد الصمت فشغلت كلتاهما بأفكارها. على أن قلب خديجة كان - كما كان من بادئ الأمر - مرتعا لضروب من المشاعر متباينة ... غيرة وحنق وإشفاق وحنان.
23
كانت ست أمينة مشغولة بإعداد أدوات القهوة استعدادا لجلسة العصر التقليدية، فجاءتها أم حنفي مهرولة، يبشر لمعان عينيها بأنباء سارة، ثم قالت بلهجة موحية: ستي ثلاث سيدات غريبات يرغبن في زيارتك.
أخلت الأم يديها من كل شيء، وانتصبت قامتها في عجلة دلت على تأثير الخبر في نفسها، وحدجت الخادم بنظرة اهتمام شديدة، كأنه من المحتمل أن تكون الزائرات من البيت المالك أو من السماء نفسها، ثم تمتمت استزادة من التوكيد: غريبات؟!
Bilinmeyen sayfa