140

Saraylar Arasında

بين القصرين

Türler

ثم ناظرا إلى ست أمينة: أين هن ستات الأمس؟!

نكست أمينة رأسها حياء في الظاهر، وفي الحق لتداري ابتسامة لم تستطع مغالبتها حينما ربط ذهنها بين الصورة التي يتخذها ياسين الآن، صورة المتأمل الواعظ المجني عليه، والصورة التي ضبط بها مساء أمس فوق السطح. على أن انزعاج ياسين كان أعظم بكثير من القدر الذي سمح له الموقف بأن يتظاهر به، فإنه على فداحة الخيبة التي مني بها في حياته الزوجية لم يفكر لحظة في قطع هذه الحياة، وجد فيها ملاذا مستقرا ورعاية إلى ما بشرت به من أبوة وشيكة رحب بها أيما ترحيب، تمنى دائما أن تبقى وراء ظهره ليعود إليها من شتى جولاته، كما يعود الرحالة في نهاية العام إلى وطنه، ولم يغب عنه ما سيجره عليه ذهاب زوجته من نزاع جديد بينه وبين أبيه وبين السيد عفت، إلى ما يلابس هذا كله من فضيحة ستفوح رائحتها حتى تزكم الأنوف ... بنت الكلب! ... لشد ما كان مصمما على أن يستدرجها إلى الاعتراف بأنها أخطأت خطأ أكبر من خطئه، بل لعله اقتنع بذلك لدرجة تقرب من اليقين، فأقسم ليحملنها على الاعتذار وليأخذن نفسه بتأديبها بمختلف الوسائل، ولكنها ذهبت ... قلبت خططه رأسا على عقب ... وضعته في مأزق غير يسير. بنت الكلب! ... وانتزع من تيار أفكاره على صوت صراخ يمزق الصمت المحيط بالبيت، فالتفت صوب فهمي وأمه، فوجدهما يرهفان السمع باهتمام وقلق، وتواصل الصراخ فأدركوا بسهولة أنه صادر عن امرأة، ولكن تساءلت أعينهم عن الناحية التي يترامى منها، وعن سببه: أنعي ميت أم عراك أم استغاثة؟ وراحت أمينة تستعيذ بالله من الشرور جميعا، حتى قال فهمي: إنه قريب ... لعله في طريق بيتنا.

ونهض فجأة مقطبا جبينه وهو يتساءل: ألا يكون الإنجليز قد هاجموا امرأة مارة بالطريق؟

وهرع إلى المشربية والآخران في أثره، بيد أن الصراخ انقطع غير تارك وراءه دليلا على الناحية التي ترامى منها، فرمى ثلاثتهم بأنظارهم خلال الخصاص يتفحصون الطريق، فاستقرت على امرأة لفتت الأنظار بوقفتها الغريبة وسط الطريق، وبمن أحاط بها من المارة وأصحاب الحوانيت، على أنهم عرفوها لأول وهلة وهتفوا معا: أم حنفي.

وتساءلت أمينة التي كانت أرسلتها لتعود بكمال من المدرسة: ما لي لا أرى كمال معها؟! وماذا يوقفها هكذا كالجماد! كمال ... رباه ... أين كمال؟

ثم مدفوعة بشعور غريزي: هي التي كانت تصرخ ... عرفت الآن صوتها ... أين كمال؟ ... أغيثوني.

لم ينبس فهمي ولا ياسين بكلمة. استغرقهما فحص الطريق عامة والمعسكر الإنجليزي خاصة، حيث رأوا أنظار المتجمعين - وفي مقدمتهم أم حنفي - تتجه، لم يكن ثمة شك لديهما في أن أم حنفي هي التي صرخت، حتى جمعت الناس حولها، بل شعرا بالبداهة أنها كانت تستغيث؛ لأن ثمة خطرا تهدد كمال، ثم تركزت مخاوفها في الإنجليز، ولكن أي خطر هو؟ ... وأين كمال؟ ... ماذا حدث للغلام؟ إن الأم لا تكف عن الاستغاثة بدورها، وهما لا يدريان كيف يسكنان خاطرها، لعلهما في حاجة إلى من يسكن خاطرهما ... أين كمال؟ ... إن الجنود ما بين جالس وواقف وماض لطيته، كل مشغول بشأنه كأن شيئا لم يقع، وكأن أحدا من الناس لم يتجمع. وهتف ياسين بغتة وهو يلكز فهمي في كتفه: ألا ترى هؤلاء الجنود الواقفين على هيئة دائرة تحت سبيل بين القصرين؟ ... إن كمال يقف بينهم ... انظر.

فلم تملك الأم أن صرخت قائلة: كمال بين الجنود ... ها هو يا ربي ... رباه ... أغيثوني.

أربعة جنود عمالقة وقفوا على هيئة دائرة متشابكي الأذرع، وقد مرت عينا فهمي أكثر من مرة دون أن تعثرا على ضالتهما. في هذه المرة لمح كمال واقفا وسط الدائرة كما لاح من فرجة انشقت عنها ساقا الجندي الذي يوليهم ظهره، خيل إليه أنهم سيتقاذفونه بأرجلهم كالكرة حتى يقضوا عليه، أنساه خوفه على أخيه نفسه، فاستدار قائلا بنبرات مضطربة: سأذهب إليه مهما تكن العواقب.

ولكن يد ياسين قبضت على منكبه وهو يقول بصوت حازم «قف» ... ثم خاطب الأم بصوت هادئ باسم قائلا: لا تخافي ... لو أنهم أرادوا أن يصيبوه بسوء ما ترددوا ... انظري إليه ألا يبدو منهمكا في حديث طويل؟! ثم ما هذا الشيء الأحمر الذي بيده؟! أراهن على أنها قطعة من الشوكولاتة! ... هدئي روعك ... إنهم يتسلون به (ومتنهدا) شد ما أفزعنا على لا شيء.

Bilinmeyen sayfa