فأشار السيد إلى جميل الحمزاوي ليأتي بهدية الشيخ وهو يقول مسرورا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وجاءه الوكيل باللفة فأخذها السيد وقدمها إلى الشيخ وهو يقول ضاحكا: في صحتك.
فتناولها الشيخ وهو يقول: رزقك الله رزقا واسعا وغفر لك.
فغمغم السيد «آمين»، ثم سأله باسما: ألم تكن يوما من أهل ذلك يا سيدنا الشيخ؟
فضحك الشيخ قائلا: سامحك الله، أنت رجل كريم طيب القلب، وبهذه المناسبة أحذركم من التمادي في الكرم؛ فإنه لا يتفق وما يطالب به التاجر من القصد.
فتساءل السيد دهشا: أتغريني باسترداد الهدية؟
فنهض الرجل وهو يقول: هديتي لا تجاوز القصد، فابدأ بغيرها يا بن عبد الجواد، والسلام عليكم ورحمة الله.
وغادر الشيخ الدكان مهرولا وغاب عن الأنظار، ولبث السيد مفكرا، ومضى يدير في نفسه ما ثار من جدل بينه وبين الشيخ، ثم بسط راحتيه في ضراعة وتمتم : «اللهم اغفر لي ما تقدم وما تأخر من ذنب، اللهم إنك أنت الغفور الرحيم.»
8
عند العصر غادر كمال مدرسة خليل أغا يضطرب في تيار زاخر من التلاميذ الذين يسدون الطريق بزحمتهم، ثم يأخذون في التفرق، بعضهم إلى الدراسة، وبعضهم إلى السكة الجديدة، وآخرون إلى طريق الحسين، على حين تتحلق جماعات منهم حول الباعة المتجولين الذين يعترضون تياراتهم عند رءوس الطرقات المتفرقة عن المدرسة بما تحمل سلالهم من اللب والفول السوداني والدوم والحلوى، وإلى هذا فلا يخلو الطريق في هذه الساعة من معارك تنشب هنا وهناك بين تلاميذ اضطروا إلى كتمان خلافاتهم في أثناء النهار تفاديا من العقوبات المدرسية. وكانت المرات التي سيق فيها إلى الاشتباك في معركة نادرة جدا، ولعلها لم تعد المرتين طوال العامين اللذين قضاهما في المدرسة، لا لندرة خلافاته التي لم تكن نادرة في الواقع ولا لكراهية للعراك، فقد أورثه اضطراره إلى تجنبه أسفا عميقا، ولكن لتقدم الكثرة الغالبة من التلاميذ عليه في السن مما جعله هو وقلة من أترابه غرباء في المدرسة يتعثرون في بنطلوناتهم القصيرة بين تلاميذ طعنوا فيما بعد الخامسة عشرة، وكثيرون منهم ناهزوا العشرين، فشقوا طريقهم في صلف وكبرياء وقد طرت شواربهم. من هؤلاء من كان يتعرض له في فناء المدرسة بلا سبب، فيخطف الكتاب من يده ويقذفه بعيدا كالكرة، أو من يسلبه قطعة من الحلوى فيدسها في فمه بغير استئذان مواصلا ما كان فيه من حديث، فلم تكن الرغبة في العراك لتنقصه، ولكنه كظمها تقديرا للعواقب، وما لباها حتى دعاه إليها أحد أقرانه الصغار، فوجد الهجوم عليه متنفسا لعواطفه الثائرة المكبوتة واسترداده لثقته بقوته ونفسه. وليس العراك أو العجز عنه بأسوأ ما لاقى من وقاحة المعتدين، فإلى هذا ما كان يترامى إلى أذنيه، سواء كان المقصود به أم غيره، من الشتائم والسباب، منه ما فطن لمعناه فحذره، ومنه ما جهله فردده في البيت بحسن نية، فأثار به عاصفة من الثورة والفزع اتصلت أنباؤها في صورة شكوى لضابط المدرسة الذي كان صديقا لأبيه ، ولكن سوء الحظ وحده هو الذي قضى بأن يكون أحد غريميه في المعركتين الوحيدتين اللتين خاضهما من أسرة فتوات معروفة بالدراسة، فلما كان عصر اليوم التالي للمعركة، وجد الغلام في انتظاره عند باب المدرسة عصابة من الشبان مدججين بالعصي في هالة من شر مستطير، ولما أشار إليه غريمه ليدل عليه تنبه لحركته وأدرك ما يتربص به من خطر، فتراجع هاربا إلى المدرسة وهو يستغيث بالضابط، وعبثا حاول الرجل أن يصرف العصابة عن مقصدها، وأغلظوا له القول حتى اضطر إلى استدعاء شرطي ليوصل الغلام إلى داره، وزار الضابط السيد في دكانه وأنبأه بما يتهدد ابنه من شر ناصحا إياه بمعالجة الأمر بالحلم والكياسة، ولجأ السيد إلى بعض معارفه من تجار الدراسة فمضوا إلى بيت الفتوات مستشفعين له، وهنالك استعان السيد بما عرف عنه من سماحة نفس ورقة شمائل، حتى ألان عريكتهم فأصدروا عن الغلام عفوهم، بل وتعهدوا بحمايته كأحد أبنائهم، ولم ينته اليوم حتى بعث السيد بمن يحمل إليهم نفحة من هداياه، ونجا كمال من عصي الفتوات، ولكنه كان كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ لأن عصا أبيه فعلت بقدميه ما لم تكن لتفعله عشرات العصي.
Bilinmeyen sayfa