فقال فركنباك: علمت يا لويزا أنك لا تحسنين الضرب على البيانو، فهل تشائين أن آتيك بمدرس يعلمك إياه؟ - هذا كل ما كنت أتمناه، وكأنك يا عماه تعرف ما يدور في أفكاري. - كوني قريرة وأؤمل أن تعي دروسك جيدا كيما تحسنين الضرب عليه، فتسترضين بعلك بعد زواجك، أليس كذلك يا مكسيم؟
فدخلت عجوز وهمست في أذن جونريت فقامت هذه من ساعتها، وقالت: ريتا ترغب في أن تراكما قبل أن تذهبا للمكتب، فذهبنا إلى غرفتها، وكانت جالسة على المقعد بثوب كبير منحل الأزرار، مملوء بالنقوش والتصاوير، ولما أن رأتني همت أن تقف فخانتها عزيمتها، ثم جلست متعبة، فقالت: أتخونني قواي حتى لا أستطيع الوقوف؟ ترى دنا أجلي أم ماذا يا رباه؟ متى ينقضي هذا العذاب، فخفق قلب البارون لهذا الكلام وتولاه الحنان، وشاء أن ينشطها ببعض كلام عذب فخانه اللسان، فانحنى عليها وقبل خدها وجبهتها، ومسح عبرة سكبتها عينه.
على أنها استجمعت قواها في يده ومدتها لي فأمسكتها للحال، فضغطت عليها ونظرت إلي نظرة تترجم عن شعور قلبها، فشعرت إذ ذاك بانفعال أشق ما قاومت حياتي، وأدركت الفرق بين حطتي ورفعة هذا الصاحب الذي ما زال يبرهن لي عن حبه والتفاته، هذا الصاحب الذي ما فتئ يتعب في مستقبلي ليحققه ويضمنه، فكان جزائي له سلب شرفه، وسلب امرأته على أني نويت أن أصلح الشرف الذي دنسته، وأن أعوض عن غلطتي بإخلاص ثابت، لا تبدده الامتحانات، وأن أشتري سقوطي بسلوك حسن، وأن أمحو من فكري ذكرى غرام جر وراءه ندما وحزنا.
وبينما أنا في حل ومرتحل وأفكاري تصعد من لجة، وتنزل في أخرى، دخل الطبيب ضاحكا كعادته فسلم علينا.
فقال لها الطبيب: كيف أنت اليوم، فأجابت: إني منحطة القوى خائرة، فهل ترى زمن الولادة بعيد؟ - أقرب من قاب قوسين، ويجب أن تستحضري المرضع اليوم. - لا لزوم لمرضع فأنا أرضع ولدي. - الرضاعة تتعب، ومن كان مثلك يألف الاجتماعات والتنزه فصعب عليه أن ...! - قد حسبت لذلك حسابا مدققا.
طالت زيارتنا لها فظهرت عليها دلائل التعب، وكان ثوبها حين تتنفس يرتفع وينخفض مرة بعد مرة ببطء، كأنما تلاعبه نسيمات عليلة.
فودعناها وخرجنا فقال درتيل لفركنباك: أرى في كل ما تقول البارونة وتفعل تكلفا وتصنعا غير مألوف، ولا أعلم من أشار عليها أن ترضع ابنها. - الشيء الطبيعي يبدو أحيانا غير طبيعي، ولا تحسبني أقل شعورا منك، فقد أدركت ذلك منها ... ولكني أعجب كيف أنك تسألني عن حوادث كهذه، أسرارها عند الطب والأطباء؟! - نعم ... لكني أعني بذلك أنك ستصوم حولا كاملا عن النساء. - إذا جعت ففي الحانات مآكل لذيذة. - ذاك أمر آخر، والآن أنا ذاهب.
آه، كم عذبني هذا الطبيب الملعون، وإني لأقسم أن له نظرا ثانيا غير نظره يرى به الخفايا، فلما ابتعد تسرح همي وخف عنائي، وتنفست تنفس الفرج والراحة.
فقلت لفركنباك: إن لهذا الطبيب أفكارا مستغربة. - وهو مع ذلك سليم القلب، ناصح السريرة، وإنما يقول ما يقول؛ لأنه من السوفسطائيين؛ أي من الفلاسفة الذين يشكون في كل شيء، فأرباب هذا المذهب أشبه بتلك الأيدي الجميلة الملعونة التي تعطل ما تمسه، ولهم ضحكة غريبة تؤثر على الأفكار أيما تأثير ... إن ضحكة جوزيفا أحب إلي من كل شيء ... لكن كيف حال حبيبتك كورالي؟
فاضطربت وتلعثم لساني مما أدرك منه أني لم أهتم بها.
Bilinmeyen sayfa