اعلم أن أول درجة من درجات التمدن هو اتباع ما جاء به الشرع وسنة الرسول والأخذ بالنواميس الإلهية، وتصديق ما أنزل الله من الكلام على أنبيائه - عليهم الصلاة والسلام؛ إذ إن كل من خالف الشرائع معرضا عما أمر الله من اتباع سنن المعروف والإذعان للأوامر الإلهية، يعد أول جاهل قد أعمت بصيرته وساوس الشيطان، وهو لا شك عديم التبصر، ما عنده من إدراكات ذوي العقول البشرية المدنية ولا ذرة؛ فإن كل ما تأتي به الرسل هو عين التمدن الحقيقي.
والعاقل البصير لا يشك فيما أنزل الله وسنه الرسول مما يرشد إلى سبل العناية الدنيوية والأخروية، ويبين للإنسان عظم القدرة الإلهية وتصرفها بما تقتضيه المشيئة، وإن ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأصول والأحكام هو الذي نشر التمدن في أقطار العالم بما انبعث عنه من أنوار الهدى والعدالة التي عمت سائر الآفاق فمحت ظلام الجهالة والاستبداد.
ومن تأمل فيما كانت عليه أكثر الأمم السالفة من التهور والسذاجة، وقاسها بمن جاء بعدهم بعد ظهور الأمة الإسلامية، تحقق له صدق ذلك، على أنه لا يختلف فيه عاقلان. فقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أتيتكم بشريعة حنيفية بيضاء، لم يأت بها نبي قبلي، ولو كان أخي موسى حيا لم يسعه إلا اتباعي.» وقال - عليه الصلاة والسلام: «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال.» وقال - تعالى - في كتابه الكريم:
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (الأحزاب: 45-46)، وقال - تعالى:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء: 107)، فلا شك أن الله - سبحانه وتعالى - رحم عباده بهذا النبي الكريم، فأتى بما لم يأت به نبي من قبله، مظهرا حقيقة الحق للناس كاشفا لهم عما اشتملت عليه الكائنات من حقائق الحكم الدالة على وحدانية الله - سبحانه وتعالى، مبينا لهم بذلك الطرق المؤدية لخير الدين والدنيا ليميزوا الحسن من القبيح ويفرقوا بين السقيم والصحيح، فانتشل به
صلى الله عليه وسلم
هذا العالم من حضيض الحيرة والضلالة، وكانت شريعته سبب انتظام العالم وأمته خير أمة أخرجت للناس، وبها انتشر التمدن في الأقطار وانبثت في الناس روح الحضارة والتقدم بما رفع عن عاتقهم من ثقل الجور والتهور والاستبداد.
ولما كانت الملوك الإسلامية لا تفتر عن الفتوحات وبث العلوم والمعارف في الناس، كانت الحضارة والتقدم ينتشران شيئا فشيئا في الأرض حتى تيسر لهم بزمن قليل تمدين أكثر العالم بواسطة فتوحاتهم العظيمة وتقدمهم في البلاد التي نالت بحلولهم أسباب السعادة والترقي، وكل ما فتحوه من البلاد رغبوا أهله في الدخول في هذا الدين القويم وترك التهور والضلال، وما مضى على ذلك إلا سنين قلائل حتى انتشر الإسلام من الشرق في الهند إلى الغرب في بلاد الأندلس «إسبانيا». والاستيلاء على هذا كله مما يتعذر على أعظم دولة الاستيلاء عليه بجملة قرون، وهذا أعظم دليل على ما بني عليه هذا الدين من قواعد العدل وأساس التمدن.
ومن نظر في قوانين وأحكام باقي الأمم المتمدنة التي توصلت إليها عقولهم بالاستنباطات التي وضعوها بقوانين مخصوصة للعالم، وجد أن تلك القوانين التي جعلوها أساسا للأحكام قل أن تخرج عن الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات بين الناس. وعبر عن تلك القوانين العلامة رفاعة بك المصري بما معناه ما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يسمى ما يشبه عندهم «بالحقوق الطبيعية والنواميس الفطرية»، وهو عبارة عن قواعد عقلية تحسينا وتقبيحا يؤسسون عليها أحكامهم المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية. أقول وهذه القوانين هي القوانين المدنية المستعمل غالبها الآن عند الحكومة المصرية.
Bilinmeyen sayfa