وأما الصناعات، فإن العرب تعلموا جميعها لما دخلوا بلدان الرومانيين العظيمة حتى صاروا من أحذق أربابها، وكفاهم شهرة في ذلك سلاح طليطلة التي كانت تحت سلطانهم بإسبانيا، وحريريات غرناطة والجوخ الأخضر والأزرق بمدينة كونسة، والسروج والخروج والجلود بقرطبة. وكان أهل أوروبا يشترون هذه المهمات بأغلى ثمن ويتنافسون فيها مع شدة نفرتهم من أهلها المخالفين لديانتهم.
وبالجملة فقد بلغت إسبانيا من العمران إلى هذه الشهرة في القرون الأولى من مدة الخلفاء؛ حيث كانت الفتن عنها أسكن من المشرق، وقد تزايد نمو سكانها إلى أن صار بمدينة قرطبة وحدها مائتا ألف دار وستمائة جامع وخمسون مارستانا وثمانون مكتبا عموميا وتسعمائة حمام ومليون نفس.
فهاك برنامجا إجماليا للتمدن الذي نشره العرب من شاطئ تاج، وهو واد كبير بإسبانيا، إلى وادي هندوس بالهند. تمدنا يكاد يخطف نوره الأبصار، ولكنه لسرعة نموه كان معرضا للعطب. قال: «وتمدن أوروبا اليوم كان أبطأ في النمو، ولكنهم حصلوا بعد انقلابات وكسوفات على ما يمكن به طول البقاء المعتاد في كل بطيء النمو.»
وقال في بيان امتداد ملك العرب: «قد امتد ملكهم في ظرف مائة سنة من ظهور الإسلام مثل ما يمتد عظيم الخلقة فاتحا ذراعيه لالتقاط شيء، فبلغ من أقصى الهند إلى بيريني الكائنة بين فرانسا وألمانيا، وقدر امتداد هذا الملك من سبعة عشر إلى ثمانية عشر ألف فرسخ، ولم يبلغ هذا المبلغ دولة من الدول الماضية. وقد استمرت الديانة واللسان وأحكام القرآن نافذة في غالب البلدان التي فتحوها، واغتنمت أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصنائع وعلوما، وإن كان منها ما أخذوه من غيرهم، لكن لهم الفضل في تهذيب ذلك وتخليده بعدهم. ثم في النصف الثاني من القرن العاشر المسيحي توجه الراهب الفرانساوي جربير الذي جلس على الكرسي البابوي باسم سلفستر الثاني إلى مسلمي إسبانيا. وقرأ هناك علم الجبر والفلك وأجرى لأهل أوروبا النصرانية منهلا جديدا من معارف العرب، وجمع خزانة جليلة من الكتب وصنع كرتي السماء والأرض.» انتهى ما أمكن تلخيصه من كلام الوزير المشار إليه - أي: دروي وزير المعارف بفرانسا.
وفي تاريخ العرب لسدليو، مدرس علوم التاريخ بإحدى مدارس فرانسا وأحد أعضاء جمعية المعارف بها، ما معناه: «إني منذ مدة طويلة تنيف على العشرين سنة، وأنا مشتغل ببيان مزايا العرب على غيرهم من الأمم فيما يتعلق بالعلوم والقدم في التمدن مدة قرون متطاولة من أيام اليونان بالإسكندرية إلى أيام العصر الجديد، فلزمني أن أجمع ما تيسر لي من الأدلة على عظم هذه الأمة التي لم يعرف قدرها إلى الآن، وأعرضه على ما لغيري ممن تكلم عليها، فيتأسس تاريخ لها عمومي وإن كان ذلك مما لا تفي به طاقة إنسان واحد.
وقبل الشروع في ذلك على وجه الاختصار يلزمني أن أندب الناس إلى التأمل في أحوال هذا الجنس الذي كان كثير الفتوحات عديم الاستيلاء عليه في سائر مغازيه، ولم يزل مدة أربعة آلاف سنة على حال واحد في اكتساب الفضائل والمزايا التي تميز بها على غيره والتراتيب والعادات الخاصة به . ومن حجج ذلك أن الوقت الذي كانت فيه الممالك القديمة في مبدأ تكوينها ذات حيرة، كان هذا الجنس إذ ذاك قائما بنفسه قادرا على الإغارة على غيره. فقد كانت ملوك بابل ومصر من ذلك الجنس مدة تسعة عشر قرنا قبل التاريخ المسيحي، ثم بعد أن رجع إلى حدوده الأصلية، دفع عن نفسه سلطة الفراعنة وملوك الشام وامتنع من تسلط قيصر وإسكندر، ودام في استقلاله ضد الرومان الذين كانوا ملكوا الدنيا وبعد ظهور النبي
صلى الله عليه وسلم
الذي جمع العرب أمة واحدة تقصد مقصدا واحدا، ظهرت للعيان أمة كثيرة مدت جناح ملكها من نهر طاج في إسبانيا إلى نهر الغانج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة، كأنها نسيت بالمرة ما كان عندها من التمدن الروماني واليوناني. وبعد انقسام ممالك الإسلام لم تتعطل العلوم والآداب التي نتجت على أيديهم، فإن خلفاء بغداد وقرطبة ومصر وإن ضعفت قوتهم الملكية والسياسية، فإن سلطتهم الروحانية لم تزل قوية مطاعة في كل جهة لاجتهادهم في توسيع دوائرها بقدر طاقتهم، وقد نال النصارى، الذين استطاعوا إخراج العرب من إسبانيا بالخلطة معهم في الحروب معارفهم وصنائعهم واختراعاتهم، ثم المغل والترك الذين تسلطوا على آسيا وتداولوها كانوا خدمة في العلوم لمن تغلبوا عليها من فرق العرب.
وإلى الآن لم نطلع في أوروبا على الأصول التي تبين لنا عادات العرب اطلاعا تاما؛ إذ لم يعرف عندنا عن تواريخهم إلا تواريخ أبي الفداء وأبي الفرج والمقريزي وابن الأثير ونبذة من تاريخ ابن خلدون، ونجهل بالمرة تواريخ كثيرة نود لو نجد من يترجمها لنا، وإن كان المقدار الذي عندنا كافيا في رد غلط من غلط من أهل أوروبا في شأن العرب. ثم إني ذكرت في تاريخنا هذا ما يتعلق بفتوحات الخلفاء الأولين بتاريخ بني أمية في دمشق وقرطبة وبتاريخ دولة بني العباس في بغداد والفاطميين بمصر. وبانقسام الممالك الإسلامية بالمشرق بعد تسلط الترك والمغل عليهم، فبينت جميع ذلك بقدر الطاقة، وزدت عليه شيئا لم يوجد في التواريخ السالفة، وهو: برنامج التمدن العربي الذي توشحت عروقه في الدنيا القديمة واستمرت آثاره ظاهرة إلى الآن لكل من يبحث بالجد من أصل المعارف منا.
وفي أوائل القرن الثامن من تاريخنا تبدل ولوعهم بالفتوحات بالجد في المعارف والعلوم، فكانت إذ ذاك قرطبة ومصر وطليطلة وفاس والرقة وأصبهان تتسابق في ميدان العلوم مع بغداد تحت بني العباس. وترجمت في تلك المدة كتب اليونان وقدمت في المدارس وشرحت، وسرت حركات عقولهم في جميع مواد المعارف الإنسانية فنتج عنها من الاختراعات الغريبة ما شاع صيته في أوروبا، فتبين بلا إشكال أن العرب هم أساتيذنا بلا إنكار؛ لأنهم جمعوا الأدوات المؤسسة عليها تواريخنا المتوسطة، وبدءوا بكتابة الرحلات واخترعوا التآليف في تاريخ وفيات الأعيان. ووصلوا في صناعة اليد إلى غاية لا تحد، وبقية آثار أبنيتهم مما يدل على اتساع معارفهم، وكذلك اختراعاتهم الغريبة تزيد بيانا لفضائلهم التي لم ينزلوا إلى الآن منزلتهم التي يستحقونها بسببها. فإن علوم الفيزيك والطب والتاريخ الطبيعي والكيميا والفلاحة لما جاءت في أيديهم زاد فيها الغريب مع كونها من المحسوسات التي لا تصرف لها هممهم صرفا تاما، فكيف بالعلوم العقلية التي اجتهدوا فيها اجتهادا يفوق الحد من مبدأ القرن التاسع إلى انتهاء القرن الخامس عشر؟!
Bilinmeyen sayfa