الوشم الأخير1
صح ..
ه... هي لعبة؟!
البطل
الجرح
الوشم الأخير1
صح ..
ه... هي لعبة؟!
البطل
الجرح
Bilinmeyen sayfa
البطل
البطل
تأليف
يوسف إدريس
الوشم الأخير1
طريق المعاهدة. الطريق الموصل إلى التل الكبير وفايد والإسماعيلية، هو نفس الطريق إلى بلدنا. ولم تكن تلك أول مرة أقطعه فيها. كنت أيام الحرب وما بعدها كلما ذهبت أو عدت أتأمل ما حولي وأجتر الذكريات، من يوم أن وضع الإنجليز أقدامهم في بلادنا ونحن نقول: لا .. قلناها مسلحة، وقلناها مقاطعة وقلناها ثائرة، وأيضا والعربة تقطع بي الطريق كنت أقول: لا.. هذه الوجوه الحمر والعيون الزرق والشعور الصفراء لا تمت إلى صحرائنا أبدا. إنها شيء غريب نشاز، إنهم أغراب، إنهم معتدون .. كنت أشاهد العساكر يروحون ويجيئون داخل الأسوار كالمعتقلين، والعرق يكسوهم، والنظرات المريضة تطل من عيونهم، وكنت أقول: إنهم يخطرون في أرضنا، هذه صحراؤنا، وهؤلاء الناس الملونون يأتون من بلاد بعيدة يحرسون أرضنا، يحرسونها منا! وكنت أغلي وأقول: لا.
طريق المعاهدة هو نفس الطريق إلى بلدنا، هو نفس الطريق الذي كنا نقطعه ونحن طلبة، ونحن في اللجنة الوطنية، ونحن نتستر بالليل والظلام ونأتي من القاهرة، ونزود الكتائب بأدوات العلاج والإسعاف، هو نفس ذلك الطريق الذي كنت أقطعه يوم الإثنين الماضي، وقد كدت أنسى، ونحن في القاهرة كثيرا ما ننسى. وتمر علينا أوقات لا نذكر فيها الاحتلال والإنجليز. وكنت لا أنسى، إذ كنت دائما مرغما على تذكر كل شيء. ويكفي أن ترى معسكرات الإنجليز في منطقة القنال مرة لكيلا تنساها أبدا. المنطقة صحراء قفر لا تنبت فيها حتى الحشائش؛ ومع هذا يدهشك ازدحامها. فليس فيها موضع واحد خال من سلك شائك أو ثكنة أو مخزن أو صهريج مياه. كلها مبنية بطريقة غريبة لا عهد للمصريين بها، تحس إذا ما رأيتها أن ساحرا جبارا لا بد قد نقلها من مكان لا نعرفه ووضعها فوق أرضنا. منطقة لا تجد المصريين فيها إلا حفاة عراة يطلبون الخبز ولو من يد الإنجليز، ولا تجد الإنجليز إلا سادة، يدبون فوق الصحراء، ويدافعون عن الإمبراطورية ، وكل هذا يحدث فوق بقعة من أرضنا .. من أرضنا.
كنت ما أكاد أرى المعسكرات ومن فيها، حتى أحس أننا نلهو ونعبث، وأننا نسينا في القاهرة أس البلاء، وأن هنا يكمن الداء، وأن هذا الجيش العارم من الميكروبات الكاكية المدمرة هو مشكلتنا وهؤلاء أعداؤنا، وصانعو أزمتنا، وقاتلو شهدائنا، وألا حياة لنا، ولا طعام، ما لم نجتث هذا الداء ونطرد الغاصبين.
كنت أقول لنفسي هذا والحقد يملؤني، وأكاد أنفجر وأنا أراهم داخل المعسكرات مطمئنين، باردي الأعصاب، يتصرفون وكأنهم ليسوا في بلاد أعداء، بل وكأنها أرضهم ونحن غزاتها.
ومهما كان غيظي وغيظ الآخرين، فقد كنا أفرادا، وكنا متفرقين، وكنا مشغولين بأزمات داخلية تطحننا، ولعل هذا كان السر في هدوء بال الإنجليز.
Bilinmeyen sayfa
ويوم الإثنين الماضي والعربة تمضي بنا على طريق المعاهدة، الطريق الذي أنشئ تنفيذا لمعاهدة 36 ليسهل «جلاء» قوات الاحتلال، فاستعمله الإنجليز أثناء الحرب ليسهل «دخول» قوات جديدة، والعربة تمضي بنا كالريح، فالطريق ممهد وجميل، صنع خصوصا لجلاء جيوش، فما بالك بعربة أومنيبوس، وترعة الإسماعيلية تتلوى كخيط طويل من الصبر، كطول بال المصريين، والحدائق على جانبيها، موز ومنجة، وبساتين بركات، وسجن أبي زعبل، ومحطة إذاعة لها عواميد هوائية طويلة طويلة تصل إلى عنان السماء لتذيع: نورا يا نورا يا نورا يا وردة حلوة في بنورة، والإنسان ما إن يتسلمه طريق المعاهدة حتى يحن إلى الصحراء ويحلم بالبحر الأصفر الهائل، وما يكاد يرى الرمال حتى يفاجأ بما فوقها من معسكرات فيركبه الغم.
أما المفاجأة هذه المرة فهي أني لمحت، في نفس المكان الذي اعتدت رؤية العساكر الإنجليز فيه، عسكريا مصريا أسمر، سمرته جميلة، كالعسل النحل حين يقطف في الشتاء ..
وقلت في نفسي هذا شيء جديد.
وتوالت المعسكرات. وتوالى ظهور العساكر المصريين، يرتدون نفس الرداء الإنجليزي، ولكن وجوههم سمراء، وضحكاتهم أعلى، ولا يلهثون من حرارة الشمس.
الأرض التي نمر عليها ملغمة بالتاريخ، في كل خطوة حادث جلل، على مرمى البصر دارت معركة التل الكبير، من نفس هذا الطريق عبر الجيش المصري سنة 1882، هنا خان خنفس بك ، في تلك البقعة وقف زعيم الشعب عرابي يتسلم هدايا الأهالي من الرز والطيور والسلاح.
هذه الأرض، لم يكن مصرحا لنا بالمرور فيها، كانت أقدام الإنجليز فقط هي صاحبة الحق في وطئها، لها أن تمضي عليها وتدوس تاريخنا، وأيامنا، ومفاخر قومنا، هذه الأكوام من الرمال قد تكون أجداث أجدادنا الذين ماتوا وهم يقولون: اللهم انصرنا على القوم الكافرين. وهم يقولون: الخديوي خائن. وهم يقولون نريد الدستور، نريد البرلمان. ماتوا وعرابي يقول: باسم أهالي الديار المصرية جئنا نطلب حقنا وحريتنا. هذه الأرض صارت معسكرات، وامتلأت بزجاجات الويسكي الفارغة، وأقام عليها أعداؤنا دورات مياههم وحظائر كلابهم.
والعربة لا تكف عن المضي سريعة كأسراب الأحداث، لا تتوقف كالزمن، والعساكر المصريون يظهرون، فجأة، في المعسكرات، ويتولون هم حراسة أرضنا ورمالنا وتاريخنا.
وتوقفت العربة في الإسماعيلية.
وللتاريخ هو الآخر وقفة في الإسماعيلية.
هذه البلدة النظيفة ذات البيوت المنخفضة. غريبة تلك البلدة، إنها ليست من مصر .. إنها معسكر مدني، أقيم للترفيه عن قوات الاحتلال، وموظفي القناة. فيلات رائعات يكسو اللبلاب جدرانها، ويتسلق حتى يغلفها، وشوارع لا تراب فيها .. ولا ذباب، وهدوء مأخوذ من هدوء بحيرة التمساح، وخواجات متمصرون، ومصريون كالخواجات، ولغة .. كملابس مجاذيب الحسين، من كل لسان كلمة، ومن كل بلد لكنة، حاول موظفو القناة الفرنسيون أن يجعلوا منها ضاحية من ضواحي باريس، ثم جاء الإنجليز، وحاولوا جعلها من ضواحي لندن، وكان هناك دائما مصريون، ولهذا بقيت مصرية، المصريون فيها أفقر الناس ولكنهم يدركون أنهم أصحابها، والأجانب أغنى الناس، ولكنهم يعلمون تماما أن مقامهم مهما طال موقوت.
Bilinmeyen sayfa
وفي الإسماعيلية رأينا الأعاجيب.
البلدة كانت تعتمد في حياتها أساسا على ما تنفقه القوات البريطانية فيها، ومع هذا كان أهلها أعنف من حارب تلك القوات.
والبلدة هز الجلاء اقتصادها، ومع هذا، فأهلها أسعد المصريين بالجلاء، إن الوطنية لا تباع أو تشترى، إنها ليست شيئا يراد، إنها في دم كل منا وأعصابه، إنها أغلى من كل دمائنا وأعصابنا، إنها أقوى من لقمة العيش. هؤلاء الناس المتناثرون كسالى يغزلون من تثاؤبهم حبال ملل طويلة، ويصنعون من البطالة نكتا وتفانين، هم أنفسهم الذين كان يرتعش من ذكرهم أرسكين.
وعلى ربوة عالية، تتحدى بعلوها الإسماعيلية ومن فيها، رأيت نصبا هائلا، وسألت عما يعنيه، قالوا إنه نصب الشهداء. وقفت أقرأ ما كتب: هذه القطعة من الأرض قدمها الشعب المصري لهؤلاء الذين ماتوا دفاعا عن الشرف من قوات المملكة المتحدة.
أما هؤلاء الذين ماتوا «دفاعا عن الشرف» فهم قتلى معركة التل الكبير وقتلى الحرب العالمية الأولى والثانية.
ولا يذكر الشعب المصري أنه قدم يوما هذه الأرض ليقام عليها نصب كهذا، ولا يعلم الشعب المصري أن من ماتوا كانوا يدافعون حقيقة عن الشرف.
أما الذي يدهش حقا، فهو أنك لا تجد لا في الإسماعيلية، ولا في أي مكان نصبا واحدا يخلد ذكرى الشهداء الذين سقطوا في معركة التل الكبير ولا في غيرها، الشهداء الذين ماتوا وهم يدافعون عن الشرف والحق، وكأننا نعترف مع الإنجليز أننا حين قاومنا كنا متمردين عصاة، لا نستحق تكريما ولا تخليدا.
وكل ما يقع عليه بصرك في الإسماعيلية يذكرك بتاريخ ناصع قريب، هذا مبنى القيادة الإنجليزية في الشرق الأوسط، هذه العمارة كان يحتلها البوليس الحربي، هذا هو الميدان الذي صوبت منه الطلقات إلى جنازة الشهداء.
وهذه الشرفة قتلت منها الممرضة الأمريكية، وتلك المحافظة وهذا هو سورها المشهود خلف هذا السور الأبيض الفقير المنخفض ظل عساكر بلوكات النظام يحاربون إلى آخر رمق وآخر طلقة في تلك المسافة التي لا تتعدى الخمسين مترا استشهد أكثر من خمسين عسكريا مصريا في ريعان الشباب. هنا دارت معركة المحافظة، وعلى هذا التراب الذي لم يتغير لفظ الشهداء آخر الأنفاس، إن التراب لا يزال كما هو، أما السور فقد أعيد بناؤه لأن الدبابات البريطانية اكتسحت السور القديم حين داهمت مبنى المحافظة لتتم المجزرة، داست فوق جثث العساكر الشهداء، فالتصقت جثث ببعضها، وتفتتت جثث حتى إنهم كانوا يجدون العناء في انتزاع الجثة من الجثة، والشهيد من الشهيد.
وسمعنا في الإسماعيلية بقايا قصص البطولة، القصص التي كانت أخبارا فمضت تلف وتدور حتى أصبحت حواديت وملاحم كملحمة أدهم الشرقاوي.
Bilinmeyen sayfa
وفي الإسماعيلية أيضا عرفنا آخر خبر: سيغادر بورسعيد الليلة آخر فوج من العساكر الإنجليز.
وانطلقت العربة ووجهتها بورسعيد. وكانت الساعة العاشرة مساء، والطريق مظلم، طريق معبد لامع تتهادى إليه أنوار السفن التي تعبر قنال السويس.
2
قنال السويس!
إن كل شيء هنا ينطق بأمجاد شعبنا وكل شيء يهتف بما لاقاه من ظلم هذه القناة، إن بلدنا وحدها مات منها عشرة وهم يحفرونها، هذه القناة الضخمة العريضة، هذا البحر المذهب الواصل بين بحرين حفره أجدادنا من مائة سنة، حفروه بكريكاتهم وفئوسهم وعظامهم واستطاعوا أن ينتزعوا ملايين الملايين من الأمتار المكعبة في غمضة شهور وكأنهم مردة أو جان. حفروا، وماتوا، واستهلكهم الكدح .. ولم يقبضوا شيئا. ذهب المال إلى الشركة، وذهب المجد إلى دليسبس، وذهبت الأسهم إلى إنجلترا وفرنسا، وبقيت القناة ممتدة واسعة زرقاء وتذكرنا أننا صانعوها ومنشئوها، وأن ماءها من دمنا، ودمنا تمخر عبابه السفن، ويغل في العام ملايين الجنيهات.
ووصلنا بورسعيد قبل منتصف الليل.
كانت البلدة نائمة أو تكاد، عمال الميناء فقط ساهرون، لا يزالون يتناولون عشاءهم الرخيص وطابورهم واقف أمام الباب ينتظر الإذن بالدخول، ووجدنا صيادا شيخا مسيناه بالخير وسألناه: الإنجليز ح يمشوا منين يا عم؟ ... - أهم طول النهار ماشيين. - هم مشيوا خلاص وآخر دفعة ح تمشي الليلة. تعرفشي منين؟ - هم خلاص ماشيين؟! - ماشيين. - بلا رجعة؟! - بلا رجعة. - الليلة؟! - الليلة. - في داهية. - تعرفشي ماشيين منين؟ - يمشوا من أي حتة .. الله يخرب بيتهم.
وتركنا الصياد الشيخ، وسألنا شيالا شابا وقال: من باب النافي. وذهبنا إلى باب النافي، ودخلنا، وركبنا لنشا، وبعد قليل ونحن في البحر .. قال البحار: هذا مبنى النافي.
ورأينا شيئين: باخرة سوداء كالحة راسية عند المبنى، وديدبانا واقفا. وغادرنا القارب إلى الرصيف، وقال الديدبان: إلى أين؟ .. قالها بإنجليزية ممطوطة وكان شابا لا يتجاوز العشرين، ومعه مدفع ستن، وكان هادئا، وعبيطا، وضيقا بنوبته في الحراسة، وكان أول إنجليزي نراه في منطقة القناة.
وكان في المبنى أربعة عساكر آخرون وضابط .. كانوا هم آخر قوات الاحتلال ، والباخرة السوداء واقفة اسمها إيفان جيب، تنتظر أن تحين اللحظة ليصعد العساكر وترحل، آخر رحيل.
Bilinmeyen sayfa
كان الليل داكن السحنة، وكانت الأنوار لا تدع سحنته على حال، أنوار موزعة في المينا صفراء وبيضاء وحمراء تزخرف الليل وكأنه سبورة سوداء محلاة بطباشير مشع ملون. وكان البحر هو الآخر يأخذ لونه من لون الليل إذا ما اسود اسود، وإذا ما حفل بالأضواء حفلت صفحته بالأضواء. وكان الديدبان بكل مدفعه صغيرا جدا، وبناء النافي ضخما، أنواره مشتعلة كلها، وفيه صمت كصمت القبور.
كان المكان بأجمعه يشبه قلعة مهجورة، وكأننا ضارب الطبلة حين هبط القلعة الخاوية في رواية الفرق الأجنبية.
وحادثنا العساكر .. فلاحين إنجليزا وأبناء فلاحين وعمالا، كل ما يعرفونه أنهم ذاهبون إلى قبرص، وأنهم راحلون عن بورسعيد، وأن مصر جميلة وأهلها ظراف، وكشف واحد عن ساعديه ليرينا رحلته عبر الدنيا وكان على كل يد من يديه أكثر من وشم. هذا رسمه في هامبورج بألمانيا وآخر في الهند وثالث في سنغافورة والرابع في مصر.
ورأيت في الوشم علامات، وكان العسكري الشاب يعلم بها انحسار الشمس عن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وكان المساكين يعلمون أنهم آخر من سيرحل عن بورسعيد ولكنهم كانوا لا يدركون معنى أنهم آخر الراحلين.
كانوا يداعبون بعضهم بعضا ويكتبون أسماءهم على حائط الكشك ويستعجلون اللحظة التي ترحل فيها الباخرة إلى قبرص وكانوا يقولون قبرص ومن عيونهم يطل الأسى، وتطل أمنية: أن يكون الرحيل إلى إنجلترا، فالغيبة طالت والحنين إلى الوطن غريزة.
وجاء الضابط عصبيا ومنفعلا، وفي أعماقه ترقد أرستقراطية إنجليزية ابتلى بها العالم من قديم الزمان. لماذا جئتم وكيف جئتم وماذا تريدون؟ وحين حاولنا إفهامه استنكر أن نقتحم على حامية بورسعيد معسكرها في مبنى النافي.
وأحسست بشيء يغلي في صدري حين نطق كلمة «الحامية».
الحامية!
لقد كنا محتلين إذن! هؤلاء العساكر السذج، وهذا الضابط المتكبر كانوا حامية بورسعيد! بورسعيد، هذه المدينة المصرية التي كنا نردد دائما أنها مصرية كانت محتلة، وكان لها حامية!
Bilinmeyen sayfa
حين نطق الرجل بالكلمة انبثقت في ذهني معان كثيرة كانت مختفية وكان الاختفاء قد طال عليها. جيش الاحتلال، والحامية، والإنجليز والوطن المستعمر المحتل، كانت معاني مؤلمة أفظع ما فيها أننا كنا نسيناها. وكان أعداؤنا فقط هم الذين لم ينسوا. كنت ذاهبا لمشاهدة رحيل آخر فوج وكأني ذاهب إلى نزهة، وكان الأمر جزءا من الرحلة، وإذا بضابط متعجرف يذكرني في آخر لحظة من لحظات الاحتلال، أننا كنا محتلين.
وحانت الساعة.
ومضى العساكر والضباط إلى الباخرة.
الهدوء مخيم، ومبنى النافي كبير صامت مشتعل بالأضواء، والسماء سوداء في لون الماء، والماء في لون السماء، والأنوار وحيدة متباعدة باردة، والبحر يوشوش ويدوي، والباخرة واقفة كالحوت الميت الطافي، والقبعات الحمر تروح وتجيء فوقها، والعساكر والضباط هادئون، سائرون إلى الباخرة في دقات أحذية رتيبة وظهورهم محملة، والبنادق في أيديهم، ولا أحد يشهد، ولا صوت يرتفع، ولا طلقة تدوي، ولا هزة تعتري الكون وتزلزل الأرض والسماء، والاحتلال ينتهي بهذه الخطوات الرتيبة التي تتلصص في سكون الليل، ينتهي ببساطة كما لو كان جيش الاحتلال رحلة مدرسية جاءت في إجازة وقضت في مصر ثمانين عاما، وها هم أعضاء الرحلة راجعون، والجو هادئ وجميل، والباخرة تنتظر، ولا تبقى سوى مناديل بيضاء تهفهف ليكمل المشهد، ويسدل الستار.
ولكم أحسست بالمرارة.
ما أردت أبدا أن يكون هكذا رحيل الأعداء.
كنت أود بعمري أن تودعهم رصاصات، وتهفهف فوقهم قنابل، وينتظرهم خضم البحر، إنهم أعداؤنا، استعمرونا وأذلونا وأذاقونا المر، وقتلونا ونهبونا وسلبونا وها هم يرحلون.
ليت رحيلهم كان بمعركة وانسحابهم تم بهجوم.
أعداؤنا يرحلون، بعد ثمانين عاما، ترى كيف صبرنا هذه الثمانين؟
ولماذا تأخر الرحيل؟
Bilinmeyen sayfa
أعداؤنا ذاهبون إلى قبرص. ترى هل تنزلق شمس الإمبراطورية عن قبرص؟ ترى عن قريب؟ ترى هل يضيف العسكري الإنجليزي إلى صدره - وقد ازدحم ساعداه - وشما آخر يدقه في نيقوسيا، ويكون الوشم الأخير؟
أعداؤنا يرحلون، فلتتبعهم الهزيمة أنى يرحلون.
بورسعيد يونيو 1956
صح ..
كان واضحا أن الصبي لا يمت إلى جاردن سيتي أبدا!
فصبي حاف مثله، جلبابه قديم متآكل، ورأسه محلوق بالماكينة، ومضلع، وفيه نتوءات كحبة البطاطس، ووجهه رمادي أصفر، وفيه «قوب» ... صبي مثل هذا لا يمكن أن يمت أبدا إلى جاردن سيتي، حي القصور والفيلات والسفارات.
أما كيف وصل إلى شوارع جاردن سيتي، فيبدو أنه أفاق فوجد نفسه هناك، أو أنه ضل الطريق، والغريب أنه لم يكن حزينا ولا مبتئسا أو خائفا .. كان في الحقيقة يبدو منتعشا طروبا.
كانت الدنيا في ساعتها الأولى، والشمس تلون الأرض وحسب ولا تلهبها، والبنايات غارقة في صمت أرستقراطي مهيب، وكل ما يسمع من أصوات إنما كان يأتي من العصافير والبوابين الضخام السود، الطيبين الجالسين على الأرائك يحرسون القصور، ويرتدون الجلاليب البيضاء الواسعة والعمامات المضحكة الكبيرة.
كل ما في الجو كان يوحي بالبشر ويبعث على النشاط، والولد يمضي على غير هدى في الشوارع المشمسة الواسعة، وينظر في شغف إلى البنايات والأشجار والنحاس الكثير اللامع، ويصفر، ويدندن أحيانا ويتوقف، ثم يستأنف المشي بطريقة المقص فيمد كلا من قدميه مكان الأخرى، ويسير أحيانا بعرض الشارع، وأحيانا يرفع قدمه ويمسكها بيده من الخلف، ويحجل على قدم واحدة، ولسانه يلوك فمه من الداخل، فيصنع ضوضاء مكتومة كنقيق الضفادع، ويجري إلى الأمام وإلى الخلف، ويحتل وجهه كله تعبير خالي البال المستمتع بكل ما يراه ويفعله، بلا شيء وراءه يفسد المتعة .. لا عمل، ولا أب، ولا أسطى!
وتعثر فجأة في شيء، ووجعته قدمه، وانحنى فوجد أن ما تعثر فيه كان قطعة حجر بيضاء، فرماها بغيظ على الأرض، ولم يكتف بهذا، بل دفعها بقدمه، وطار الحجر إلى الأمام مسافة ثم توقف، وحين وصل إليه ضربه بقدمه ضربة قوية أخرى، فطار الحجر واعتلى الرصيف، وحين وصل إلى مكان الحجر، انحنى والتقطه وحدق فيه مليا؛ ليتأكد أنه ليس شيئا ذا قيمة، واستأنف المشي وهو يقذفه إلى أعلى ويلتقطه. وبعد قليل غير الحركة فأمسك الحجر في قبضته ومد سبابته لتلامس الحائط الذي كان يمشي بجواره، وظل هكذا فترة، ويبدو أن أصبعه آلمته؛ فقد استبدلها بالحجر وتلفت مرة فوجد أن الحجر يصنع باحتكاكه مع الحائط خطا أبيض .. وأعجبته اللعبة فاستأنف المشي وهو يمر بالحجر على الحائط ، فيرسم خطا أبيض يبدو واضحا فوق الجدران الأنيقة الملونة، ورسم خطا على طول سراية آل سليمان، ثم مده إلى أن وصل عمارة الفكهاني، ثم فيلا سمعان، وعبر الشارع واستأنف حك الحجر بسور حديقة السفارة الأمريكية.
Bilinmeyen sayfa
وكأنما أعجبه سور السفارة حين وجده طويلا لا ينتهي، فمضى يجري فيجري الخط بجواره، ويتوقف فيتوقف، ويحرك يده إلى أعلى وأسفل، فيتموج الخط ويتعرج، ويسرع ويبطئ، فتتسع التعرجات وتضيق.
وقبل أن ينتهي السور كان قد انتهى شغفه بالخط فتوقف، وحرك يده بسرعة وعصبية فوق الحائط، فرسم الحجر خطا عصبيا متداخلا فيه نزق وغضب، ورفع يده عن السور ولعق فمه من الداخل، فصدر عنه نقيق الضفادع، وهز رأسه هزات كمن يراود نفسه، وهز جسده أيضا، ثم التصق بالحائط واختار بقعة ليس فيها خدوش، وتخير حافة بعينها من الحجر وأمسكه بحرص في يده، ثم انكب على الحائط وراح يعمل. وحين انتهى كان قد كتب كلمة: «محمد»، وحدق فيها، وتراجع إلى الوراء ولعق فمه وتأملها، كانت حروفها عجفاء ركيكة، وعقد يديه خلف رقبته وثنى جسده وركز انتباهه على «ميم» محمد، وكأنما أعجبته رأسها المستلقية إلى الوراء في عظمة؛ فقد عاد إلى الحائط بسرعة واندفاع، وكتب «ميما» أخرى، وضم شفتيه ونفخ أشداقه ونظر إليها، ويبدو أنها لم تعجبه فانكب على الحائط من جديد وكتب «ميما» ثانية جاءت أسفل الأولى بقليل، وقريبة منها حتى إنها اشتبكت مع ذيلها، وتراجع إلى الوراء ونظر إليها، وكأنما هي أيضا لم تعجبه، فقد رمى الحجر من يده، واستأنف المشي وهو يمط شفتيه ويلوي بوزه.
وفجأة استدار إلى الخلف بسرعة ونظر إلى الميمين من بعيد، ثم أقبل عليهما بلهفة، وبحث عن الحجر بعينيه حتى وجده، ومن جديد انكب على السور، ورسم خطا رأسيا بجوار الميمين، والتصق بالسور أكثر، وظل مدة طويلة يعمل وعرقه يسيل، ويده الصغيرة العصبية قد تشنجت أصابعها كالكماشة على الحجر، ولما انتهى كان قد كتب: «أممنا - الشعب - القنال.»
وتراجع إلى الوراء وراح ينظر إلى ما صنعه وهو يلهث منفعلا . وكأنما لم تعجبه الجملة فقد هز رأسه بشدة، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل وهو يغمض عينا ويفتح الأخرى، ولما انتهى كان قد كتب نفس الجملة مرة أخرى ودون أن يتراجع إلى الوراء كثيرا، حدق في الخط برهة قصيرة ويبدو أنه لم يعجبه أيضا، ووجد اللام طويلة وشرطة النون غير واضحة، والقاف مغلقة، والحروف كلها مائلة كالنخل حين تعبث به الرياح، يبدو هذا لأنه راح ينفخ في يده الممسكة بالحجر، لينفض عنها ذرات الغبار، ثم تخير حافة من حواف الحجر لم يستعملها، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل ويعرق، ويغمض عينا ويفتح الأخرى.
وحين انتهى فرك يده بشدة، كمن أتعبته الكتابة. وتراجع إلى الوراء ونظر إلى الجملة الأخيرة مليا، ثم علت وجهه ابتسامة رضاء، فعض شفته السفلى وأخرج من فمه نقيقا، ثم عاد إلى الحائط ورسم علامة «صح» أسفل الجملة الثالثة، وجعل للعلامة ذيلا مرحا طويلا؛ علامة الرضا الكامل.
وظل برهة يحدق في الجملة؛ كأنما ليتأكد أنها محفورة على حائط السور، بطريقة ليس من السهل محوها، وأنها ستظل هكذا فترة طويلة، وسيعرف كل من يقرؤها - بطريقة ما - أنه كاتبها. ظل برهة يحدق في الجملة، ثم ارتعش نصفه الأعلى كله، وأخرج من حلقه صوتا كصوت «العرسة»، ورفع قدمه اليسرى وأمسكها بيده من الخلف، وانطلق يحجل بقدم واحدة، ويمضي في الشارع المشمس الواسع.
ه... هي لعبة؟!
الردح، كالزغاريد، فن مصري أصيل. وكما أن الزغاريد لا تجيدها كل النساء، فكذلك الردح، هناك متخصصات فيه، يحفظن عددا لا نهاية له من الشتائم والأوصاف، بعضها عادي، وبعضها فيه تشبيهات واستعارات وكنايات، وبعضها أدب خالص. ولا يكفي الحفظ بل لا بد أن يكون في استطاعة الواحدة منهن أن تلضم الكلمة في الكلمة بلا تردد أو توقف، وتصنع من الشتائم سيالا متدفقا لا ينقطع، فإذا انقطع وقع المحال. ولا بد للشتمة المستعملة من وقع وموسيقى ولا بد أن يكون للصوت المستعمل مقام معين، يرتفع في الأماكن المهمة إلى «السوبرانو» وينخفض عند بعض الكلمات الماسة إلى «الألتو» فمع أن المسألة شتيمة في شتيمة، إلا أنه هناك على كل حال شتائم لا تصح، ونحن شعب مؤدب وخجول بطبعه. ثم لا بد للرداحة من موهبة فطرية تستطيع بها أن تخرج أرفع الأصوات وأعلاها بأقل مجهود، حتى لا تستنفد طاقتها وحتى تستطيع الصمود؛ فالردح مسابقة والفائزة هي من يعلو صوتها ويظل عاليا إلى النهاية.
والفنون كالغذاء لا بد من مزاولتها على الدوام، وكان طبيعيا إذن ألا ينقطع الردح عن الحارة ليلا أو نهارا، ولا يعرف عطلة أو راحة.
وفي ذلك اليوم وشعبان عائد من عمله بعد الظهر بقليل، والدنيا تسبح في أشباه السكون، في ذلك اليوم ما كاد يضع قدمه في أول الحارة حتى دق قلبه، فقد سمع ردحا عالي الوطيس يواتيه من آخرها. دق قلبه لأنه خاف أن تكون الخناقة مع امرأته، وامرأته غلبانة من الأرياف، وإذا كانت الخناقة معها فعوضه على الله، فهي مبتدئة لا تستطيع أن تجاري بطلات المدينة، صحيح أنها بدأت في الآونة الأخيرة تتعلم، ولكنها لا تزال «تطبش» كما يفعل الرجال حين يتعلمون السباحة على كبر. كل ما تستطيع أن تفعله هو أن تقف في النافذة، وتوارب الشيش، وتحاول الرد على غريمتها، وتخرج ردودها بعد جهد، فهي ريفية خجول لا تستطيع أن تحشو فمها بكلمة فارغة مثلما تحشو نساء المدينة أفواههن، ولذلك فمهما قالت، فكلماتها تتساقط كأوراق الخريف أمام التيار اللافح الذي يهب عليها من فم غريمتها.
Bilinmeyen sayfa
وصدق ظن شعبان، فالخناقة فعلا كانت مع امرأته، وكانت واقفة لا حول لها ولا قوة كما توقع، وامرأة إبراهيم أفندي قد وقفت في بلكونتهم وصوتها يجيب التائهين، والناس تتفرج بكل قحة، وهي لا تترك شاردة ولا واردة إلا قالتها.
وقف الرجل يتسمع عله يعثر للخناقة على سبب، أو يرى إلى أي حد وصل النزاع، ولكنه ما كاد يتوقف حتى فار الدم في رأسه، كانت المسألة قد وصلته هو شخصيا وأتت على رجولته ثم تعدته إلى أبيه وأمه وذقون أجداده أجمعين.
ودق الباب كثيرا قبل أن تفتح فهيمة امرأته. وامرأته سمعها ثقيل، وبابهم أصم، ولهذا طال دقه. ثم انفتح الباب وما إن رأته فهيمة حتى شهقت وبكت وأمطرت في الحال دمعا. وكاد يرفع يده ويرنها قلما وهو حانق على خيبتها وقلة محصولها من طول اللسان، ولكنه تردد، فلا بد للخناقة من سبب، ولا بد أن يعرف السبب.
وزعق زعيقا هائلا يسأل عن السبب. واعتدلت امرأته واختفت دموعها فجأة كما بدأت وقالت: ابنك انقتل. وأشارت إلى الكنبة. وسقط قلب شعبان على الأرض أمامه وكاد يسقط هو مغشيا عليه لولا أنه حدق في الكنبة. كان ابنه جالسا القرفصاء فوقها ورأسه معصوب بمنديل، وعلى المنديل بقعة دم كبيرة، وفي وجهه خرابيش وفي عينيه نظرة فأر وقع في المصيدة، ولم يكن مقتولا على أية حال.
وما كاد الولد يرى أباه ينظر ناحيته حتى تولاه رعب هائل وبكى بصوت عال وقال: أنا مالي .. هه؟ .. هو اللي ضربني الأول .. هه؟
وملأ شعبان صدره بالهواء بقوة محاولا كتم غيظه، ولو لم يخرج الهواء في الحال ويتنهد لانفجر. القضية كانت قد بدأت تتجسد أمام عينيه فلا بد أن واحدا من أولاد إبراهيم أفندي هو الذي ضربه، وإبراهيم أفندي له ثمانية أولاد، لا بد أن الضارب هو الولد الرفيع مثل عود القصب الذي يجري طول النهار ببنطلون أصفر قصير، وسيقان جافة. وهو لن يستحمل منه خبطة ولا لكمة ولكن هل يمد يده على طفل؟ ثم كيف لم يغلبه ابنه الخائب مثل أمه. ابنه صحيح أصغر منه في السن وأدق منه في العود ولكن كيف يغلب أي ابن في الدنيا ابنه؟ وكيف يجرحه ويبطحه؟
وتقدم شعبان، كان لا بد من رؤية الجرح قبل كل شيء، وما إن رآه الولد يقترب حتى انكمش إلى طرف الكنبة، ولم يوقفه عن انكماشه إلا انتهاؤها، وغمغم شعبان وهو يسبه ويلعن أباه ويهدئ من روعه ويطمئنه إلى أنه فقط يود رؤية الإصابة. وامتثل الولد بعد تهديد. وظل يرتعش وأبوه يفك المنديل، وصرخ وهو يجذبه ولم تكن الإصابة قاتلة ولا ربع قاتلة، كانت جرحا صغيرا، نصفه في الجبهة ونصفه في الشعر، والدم الذي حوله كثير والبن أكثر، بن يكفي لصنع ثلاث كنكات من القهوة وتبقى منه بعدها تلقيمة.
ومع أن شعبان أحس بالجرح يمتد من جبهة ابنه إلى قلبه إلا أن وجهه لم يتغير، وغيظه كان لا يزال كما هو. وأعاد رباط الجرح، وزغر لابنه وقال وهو يجلده بملامحه: وما ضربتوش ليه يا ..؟
وبكى الولد وهو يقسم بالقرآن الشريف أنه أشبعه ضربا ولكما وعضا. ولكنه خانه وضربه بزلطة فجرحه.
وبدأت العاصفة. فهيمة تريد إبلاغ البوليس وعمل محضر وقتل ابن إبراهيم أفندي، وإن لم يفعله، فستأخذ هدومها وعليه أن يوصلها إلى باب الحديد لتركب القطار وتعود إلى البلد حيث للولد أخوال يستطيعون حمايته والانتقام له. وشعبان ساخط على ابنه المغلوب المضروب. ويهدده بعلقة نصفها الموت حالما يطيب. علقة تصنع منه رجلا يعرف كيف يذود عن نفسه ويجرح بدلا من أن يأتيه مجروحا. ولا يترك لابنه فرصة للنجاة من العلقة إلا بأن يذهب في الحال ويجرح ابن ابراهيم أفندي جرحا يمتد من أنفه إلى قفاه.
Bilinmeyen sayfa
وتمضي ساعة.
وتهدأ العاصفة. ويستعيذ الزوج من الشيطان ومن ساعة الغضب. ويجد أن الناس للناس والطيب أحسن، وأنه لا بد أن يشتكي الولد لأبيه وهو يعرف أن إبراهيم أفندي رجل جد. لن يرضيه ما فعله ابنه. فإذا أدبه كان بها. وإلا فهناك ألف طريقة لتأديبه. وترفض الزوجة هذا الحل بدعوى أنها جرحت هي الأخرى .. جرحتها طويلة اللسان زوجة «سي» إبراهيم وفضحتها ولا بد من سن بسن وعين بعين والبادي أظلم. ويطمئنها الزوج ويعدها بأن حقها سيأتيها به كاملا غير منقوص وأن مقامها محفوظ وظفرها عنده بمليون واحدة كامرأة إبراهيم أفندي.
ويظل جو البيت مشحونا. وشعبان يخلع بنطلون الشغل وقميصه ويرتدي الجلباب ويريح يديه من نوبة السواقة التي بدأت في الخامسة وانتهت حين تصلب ظهره، وتورمت كفاه وزغللت عيناه. ويسأل عما طبخته الزوجة وهببته. ولا يجدها طبخت ولا هببت. ويلعن العيشة التي لا راحة فيها أبدا. الشغل أومنيبوس والبيت عربة كارو. وفي كل عودة لا بد أن يجد مصيبة. وكم مصيبة يتحملها العمر، والواحد له عمر واحد!
بعد قليل كان شعبان يمسك ابنه المرتجف المرتعش من يده ويدق باب إبراهيم أفندي.
دق مرة فسكتت الأصوات التي كان يسمعها في الداخل. وعاد يدق. فماتت الأصوات. وانطلق حينئذ يدق بلا توقف.
وفتح الباب أخيرا. فتح فجأة. وفجأة أيضا وجد الأسطى شعبان نفسه أمام صالة وفي نهايتها كومة بشرية هائلة. كان الوقت وقت غداء .. والعائلة كلها جالسة تتناوله. والمائدة صغيرة ضيقة لا تتسع لهذا العدد الهائل من أفراد العائلة.
كانت هناك الست شفاعات الزوجة. تخينة ومحنية على المائدة ككيس القطن المتني. وكانت هناك الحاجة تبارك والدة إبراهيم أفندي عجوز جدا وناحلة وشعرها مصبوغ بالحناء ولونه أصفر وأحمر وأبيض. ثم كان هناك ثمانية أطفال بدوا من كثرتهم وتجمعهم اثني عشر أو يزيدون، وكلهم باسم الله ما شاء الله، وبلا ضغينة أو حسد، أولاد إبراهيم أفندي، وفي الركن وفي مساحة لا تتعدى ورقة البوستة، كان يجلس رجل رفيع، لونه أصفر باهت ووجناته بارزة كالشرفات، كان هو بلا ريب إبراهيم أفندي، عميد العائلة والمسئول عن إنتاج هذا العدد الضخم من الكائنات الحية، والمسئول كذلك عن بقائها. وكان الجميع في معركة لا رحمة فيها ولا هوادة، فالطعام قليل، والمائدة ضيقة، والرغيف مهما كبر لا يحتوي إلا على عدد محدود من اللقم، والصراع دائر من أجل البقاء، أو نتش حتة أو الاعتداء على لقمة أو الحصول على غموس. صراع رهيب شمل العائلة كلها وشمل كذلك قططها. فالعائلة - من العز - تحيا معها أربع قطط، لها جيش من الأولاد، والقطط وأولادها لا بد أن تأكل، ولا بد لها من خوض صراع أمر وأدهى لتجد فرجة بين ساقين، أو ثقبا بين جسدين؛ لينالها من الوجبة على الأقل لحسة أو عظمة.
وكان كل شيء يدور في صمت شامل. ولا تسمع إلا أصوات الملاعق واحتكاك الأسنان بالأسنان وجعجعة المضغ، واللكزات التي يصوبها الأخ إلى أخيه والجار البشر إلى الجار القطة.
وما كاد الباب يفتح ويبدو الأسطى شعبان واقفا على عتبته حتى حدث هرج ومرج كثير. وقام إبراهيم أفندي يعزم، وتضايقت الست شفاعات من هذا القادم في وقت الغداء وأحس الأسطى شعبان بالخجل، وتبودلت عبارات مجاملة كثيرة وحلفت عشرات الأيمانات والأقسام، وتزحزحت مقاعد وماء ولد، وصرخت قطة.
وأخيرا جلس الأسطى على الكنبة، وهدأت الأصوات ثم التأم شمل الكومة البشرية مرة أخرى، وعاد السكون الذي لا تقطعه سوى أصوات الأشداق والأسنان وهي تمضغ اللقم وتمزقها، مضافا إليها أصوات ترحيبات كان يرددها إبراهيم أفندي وفمه ممتلئ بالخبز، وعقله ممتلئ بالتخمينات.
Bilinmeyen sayfa
وكان واضحا أن عاصفة ستهب بعد قليل، وانتهز كل فرصة الهدوء الذي يسبقها وراح يعبئ نفسه ويستعد.
الأسطى شعبان جالس ومكسوف يرتب ما سوف يقوله وينتقيه، ويجرب بينه وبين نفسه كيف يقوله، وإبراهيم أفندي يدرك أن أحد أولاده لا بد هو الجاني وهو السبب في الدم الذي جف على منديل ابن شعبان، ولا بد أن امرأته كالعادة تولت علاج الأمر بطريقتها الفاسدة وأخفت عنه الحكاية ككل مرة، وتركته ليواجه المصيبة وحده، ومع هذا كان عليه أن يدفع أول الأمر ببراءة أولاده أجمعين، ويتحدث عن طيبتهم ويأتي بالبراهين على أنهم أولاد حلال مسالمون، فإن أفلتت البراءة كان عليه أن يتصيد الحجج ويقيم المعاذير، ويعد آخر الأمر بالعقاب الباتر.
والست شفاعات نسيت تماما أنها لم تترك أبا لهذا الرجل الجالس أمامها إلا ولعنته وطوقته بأبشع التهم منذ وقت قليل، واندفعت ترحب به، وفي نفس الوقت تعد ما سوف تقوله دفاعا عن ابنها، ثم ما سوف تقوله دفاعا عن نفسها أمام زوجها إن هو سألها كيف أخفت ما حدث، ولم تنس بطبيعة الحال أن تحسب حساب الضرورة القصوى وتعد نفسها لخناقة، وتعد لشعبان سربا طيبا من الشتائم يليق بوداعه. والأولاد قلوبهم كانت تدق؛ فالجاني لا بد منهم، وكل منهم فرح أنه ليس الجاني وأنه سيشهد لتوه محاكمة رائعة يلذ له حضورها كشاهد رؤية فقط وليس كمتهم.
غير أن أمل الأولاد خاب، فبعد قليل جلجل صوت أبيهم يأمرهم بالانسحاب، ويأمر زوجته بإزالة بقايا الطعام .
وجلجلة صوت أبيهم وإن كانت لا تحدث إلا نادرا، ولا تحدث إلا في حضرة أغراب إلا أنها أحيانا تخيف ويحسن طاعتها. ورفعت بقايا الطعام. ولم يكن قد تبقى سوى الصحون والملاعق، وللإنصاف بقيت أيضا حبات أرز قليلة دخلت في شقوق المائدة ولم تستطع أصابع الأطفال ولا حتى أظافر القطط أن تصل إليها.
وكان في نية إبراهيم أفندي أن يجلجل صوته مرة ثالثة، ويأمر زوجته بتركه مع الأسطى شعبان على انفراد لولا أنه شك في احتمال طاعته، فآثر السلامة، والاحتفاظ بكيانه سليما أمام الضيف، ولا تجرحه كلمة ولا زغرة ولا تعليق.
وهكذا وليبعدها، أمرها بلهجة رقيقة لطيفة، لا يقولها إلا زوج غارق في سعادة زوجية دائمة، أن تعد القهوة. وأصابته نظرة جانبية مدببة كطرف الإبرة أفهمته أن ليس لديهم بن.
وحينئذ افتعل إبراهيم أفندي ضحكة ما، وقال للأسطى شعبان وهو يخبطه فوق ركبته: والا تشرب شاي أحسن .. أنا عارف .. أنت تحب الشاي .. كل الأسطوات يحبوا الشاي .. خليه تقيل يا أم نعيمة.
وبينما كان الشاي يعد، كانت أم نعيمة لا تتركهما على انفراد أبدا، وكأن في الأمر مؤامرة، فهي غادية رائحة تنقل كرسيا من مكان إلى مكان، أو تسأل إبراهيم أفندي إن كان يريد شيئا وويله إن كان قد أراد شيئا.
وأخيرا آن الأوان وقال إبراهيم أفندي: خير؟
Bilinmeyen sayfa
ولم يقل شعبان حرفا. أشار لابنه وسكت.
وقال إبراهيم أفندي وقد ارتسم أسى أكثر من اللازم على وجهه وكأنه فوجئ برؤية رأس الولد المجروح: خير؟ ما له؟ ما لك يا بابا؟ ما لك؟!
فقال شعبان: ابنك عوره. - ابني مين؟!
قالها إبراهيم أفندي باستنكار ثم أضاف: إنت متأكد .. يعني واحد من الأولاد اللي كانوا هنا دول هو اللي ضربه؟! - أيوه. - يا ولد، يا ولد انت وهوه!
قالها إبراهيم أفندي في شموخ وشهامة.
وجاء الأولاد يتدارون بعضهم في بعض. وكش فيهم الأب: اقف عدل يا ولد .. اقف عدل .. شيل إيدك من على كتف اخوك يا قليل الأدب.
ووقف الأولاد، وجاءت وقفتهم أقرب ما تكون إلى الطابور ، كانوا ثمانية وكانوا يصنعون مع الأرض مثلثا أصغرهم طوله أشبار وأكبرهم أطول من الوالد نفسه بقليل.
وحدق فيهم إبراهيم أفندي وهو يتفحصهم ليحزر من الجاني. ويحس بنوع من الثقة لأنه رئيس هذا الطابور كله يستطيع أن يحركه كيف يشاء. وقال لابن شعبان: مين، مين فيهم اللي ضربك يا بابا؟
وأشار الولد إلى فؤاد الذي يقف في الوسط وقال: ده.
وهنا ضاع زمام الموقف وهاج كل شيء، وارتفع صوت شعبان يحكي ويعنف وقد ذهب عنه خجله وحرجه، ويطالب أن يضرب الجاني علقة .. الآن .. أمام عينيه، وإلا كان ما كان.
Bilinmeyen sayfa
ورد عليه إبراهيم أفندي بصوت لا يقل عنه علوا، واشتركت أم نعيمة بلسانها ويديها ورموشها وعينيها، وتناثر الأولاد في الصالة بعضهم يردد كلمات الأب، وبعضهم يعزز حركات الأم، وبعضهم يقلد الأسطى شعبان ويسخر من كلماته، وفي تلك الأثناء هاجت القطط وانطلقت تموء دون أن يزجرها أحد .. وسقطت أشياء في الحمام وقرقعت قباقيب على البلاط ورفع صاحب القهوة المجاورة مذياعه على الآخر، وأذن المغرب، وبدأت صيحات اللبن الزبادي.
وآب كل شيء فجأة إلى هدوء، حين ارتفع صوت إبراهيم أفندي يقول: ولزومه إيه كتر الكلام .. نحقق .. واللي عليه الحق ينضرب بالجزمة. •••
وهكذا بدأ التحقيق.
وبدأ الخلاف، فمن من الولدين يحكي أولا؟
واستقر الرأي أخيرا على أن يبدءوا برواية المجني عليه المجروح، وبدأ ابن شعبان يتكلم، وما إن فتح فمه حتى صمت الجميع وترقبوا، وعم السكون، وحينئذ تلجلج ولم يستطع إخراج الكلمات إلا بعد أن نظر إلى أبيه، وكش فيه أبوه، فانطلق يقول: كنا .. كنا بنلعب .. وبعدين قسمنا قسمنا نفسينا. أنا كنت بدا .. بدافع ودهه (وأشار إلى فؤاد دون أن ينظر إليه) وده كان الأسطول .. جه جه يزقني ماقدرشي علي.
واندفع فؤاد الرفيع يقاطعه: أنا ما اقدرتش عليك؟ مش احنا قايلين مفيش طوب .. ضربتني بالطوبة ليه؟
وهب فيه أبوه يقول: اخرس. فخرس فؤاد وخرس ابن شعبان أيضا وعم سكون.
وتنحنح شعبان وقال لابنه: يا ولد احكي كويس، كنتم بتلعبوا إيه؟
ورفع إبراهيم أفندي جذعه ورأسه وذراعيه محتجا على سؤال الأسطى شعبان، طالبا أن يترك الولد ليروي ما حدث دون أي تدخل أو مساعدة.
وقال شعبان وأمره إلى الله: يا خوانا دانا عايز بس نعرفوا إيه الموضوع.
Bilinmeyen sayfa
ومضى الولد يقول: جه يزقني ماقدرش علي .. فراح جايب زلطة وحدفني بيها جت ف... ف... ف...
وبدأ الولد ينهنه لولا أن هب فيه أبوه: اكتم يا بن ال«...» إنت بنت؟! اكتم إوعى تتنفس.
وفعلت كلمات الأب فعل السحر.
ورفع الابن وجهه لأول مرة، وحدق في الموجودين بجرأة، وأشار إلى فؤاد وقال: علشان ما .. ماقدرتش علي .. رحت جبت زلطة يا جبان.
وهب فيه الجميع أن يخرس، فلم يخرس، ومضى كالوحش الصغير يهبهب ويعوي: عامللي أسطول .. والله لما تكون انت مليون أسطول .. علشان ماقدرتش علي .. حد حد كان قالك العب! حد حد قالك اعمل أسطول لما انت جبان؟!
وهنا جاءت زغدة «كده وكده» من أبيه فسكت، وعم السكون.
وكان لا بد أن يعم السكون، فإن أحدا لم يكن قد فهم شيئا، ثم إن ما تبادله الولدان زاد الأمر تعقيدا، وأصبح هم كل والد أن يعرف كنه تلك الخناقة بعد أن كان همه أن يعد نفسه للدفاع عن ابنه.
وكان واضحا أنهما لن يستطيعا أن يستخلصا السبب من المتخاصمين، والمجني عليه متحفز، والجاني ينكر، والحقيقة ضائعة بين التحفز والإنكار.
وكان لا بد من التدخل للعثور على الحقيقة، وإبراهيم أفندي الذي لم يرض بتدخل شعبان، بدأ هو الذي يتدخل ويسأل على اعتبار أنه والد الجاني فلن يحابي المجني عليه.
وأطال إبراهيم أفندي رقبته ومد رأسه وقال، كأي وكيل نيابة مدرب، موجها السؤال إلى ابن شعبان: اسمع يا شاطر .. قل لي كنتو بتلعبوا إيه؟
Bilinmeyen sayfa
فأجاب ابنه بسرعة: كنا بنلعب لعبة الكنال.
وأسكت ابنه بلعنة، وعاد يوجه السؤال للمجني عليه فقال الأخير: كنا .. كنا بنلعب .. لعبة الكنال.
وسأله إبراهيم أفندي بعقل حائر فعلا: لعبة الكنال دي إيه .. كورة؟
فأجاب الولد: لأ لأ .. لعبة الكنال ..قسمنا قسمنا نفسينا.
وهز إبراهيم أفندي رأسه وعاد يسأل: يا بني إيه بس لعبة الكنال دي؟
فقال الولد بفروغ بال الصغير: مانا مانا بقول لك أهه .. قسمنا قسمنا نفسينا .. إحنا إحنا الجيش المصري وهم أسطول الإنجليز وحطينا حطينا خط كده وقلنا قلنا ده الكنال.
وفي نزق الأطفال، ترك الولد مكانه بجوار أبيه وقد ذهب عنه تحفظه وخوفه تماما، ومضى وسط الصالة يمثل: حطينا خط كده .. يعني يعني الكنال .. والجيش المصري يقف هنا .. وأسطول الإنجليز يجي يجي من هنا .. وإذا عدوا الخط يبقى اتغلبنا وياخدوا الكنال.
وهنا غمز إبراهيم أفندي بعينه لشعبان عله يضحك، ولكن شعبان لم يضحك، كان وجهه لا يزال جادا ولا يزال يريد أن يطمئن إن كان ابنه محقوقا ليضربه أو صاحب حق ليشهد ضرب خصمه، أما الست شفاعات فكانت ساكتة ترقب الولد اللمض في اشمئناط واحتقار، والأولاد كانوا مشغولين بالتفكير في لعبة الكنال، يقلبون الأمر على وجهه ليروا إلى أي الفرق ينضمون إذا لعبوها، وأحس ابن شعبان بالجو فيه هدوء مريب، فسكت، ولكن أباه استحثه وزغده وقال: هيه .. قول.
فأجاب الولد بفرحة وكأنه أخذ إذنا باللعب في الحارة إلى ساعة متأخرة: أنا أنا كنت في الجيش المصري .. على اليمة دي .. فأم سحلول جه يهجم علي.
وقاطعه إبراهيم أفندي بلهجته الممدودة: أم سحلول مين؟
Bilinmeyen sayfa
فقال الولد على الفور: ده .. فؤاد.
ثم استدرك: أصل احنا مسميينه أم سحلول.
ونظر إبراهيم أفندي إلى ابنه شزرا واستدار إلى ابن شعبان وقال: اسمه فؤاد .. أم سحلول إيه دي.
وعاد ابن شعبان يحكي: وبعدين إذا إذا واحد.
والتفت إبراهيم أفندي فجأة إلى ابنه وهو يغلي: بقى كده يا وله يسموك أم سحلول! اتفرجي على ابنك يا ست هانم .. اتفرجي يا ست أم سح ...
وكاد يقولها ولكنه أنقذ لسانه في آخر لحظة والتفت لابن شعبان وقال: كمل .. كمل يا خويا .. كمل يا أم أربعة وأربعين إنت راخر.
وانطلق الولد: وبعدين إذا واحد من الأسطول قدر يعدي الخط تبقى فرقتنا اتغلبت. أنا كنت مع بندق وخشبة وحسام، وخشبة وحسام اتغلبوا، فاتلمت فرقة أم سحلول كلها علي .
وقاطعه إبراهيم أفندي : قلنا ميت مرة فؤاد .. قلنا فؤاد .. ده دي..
وتكلم شعبان: معلش يا إبراهيم أفندي .. عيال .. خليه براحته علشان يعرف يحكي كويس.
وزأر إبراهيم أفندي بصوت منخفض وعينين جاحظتين: يحكي يحكي إنما أم سحلول إيه؟ قلنا اسمه فؤاد .. هي قصة؟ .. ده دي.
Bilinmeyen sayfa
وهنا أشار فؤاد الرفيع إشارة خفية بيده لابن شعبان معناها: طيب .. والله لأوريك.
ولكن ابن شعبان لم يتوقف ومضى يقول: فضلت أنا وده .. هو إكمنه أطول مني حب يديني هدر قمت أما شكيته مقص راح نازل على سنانه فالولاد ضحكوا عليه وفضلوا يضحكوا ويقولوا: إيدن أهه .. إيدن إهه .. العبيط أهه .. العبيط أهه .. فهو اتغاظ ومسك زلطة وراح خابطني في رأسي.
واندفع فؤاد يقول: أبدا والله .. إنت ستين كداب في أصل وشك .. والله يا بابا ما ضربته .. هو اللي وقع .. أنا مالي .. أنا ماضربتوش .. إحنا اتفقنا إن إذا غلبنا منهم اتنين يسلموا .. هو ما رضيش يسلم وقعد يزق فينا وإحنا نزق فيه فراح واقع على الأرض اتعور.
وكان إبراهيم أفندي يحاول إسكات ابنه طوال الوقت، ومع هذا فقد تغاضى عنه حتى عثر في كلامه على حجة وحينئذ أسكته ومط رقبته وسأل ابن شعبان: إنتوا اتفقتوا صحيح إن إذا اتنين اتغلبوا تسلموا؟
وانتظر الجميع الجواب بفارغ الصبر، كان كل من بالحجرة قد نسي من الجاني ومن المجني عليه واستحوذت اللعبة على تفكيره، الأولاد كفوا عن الدوشة، وأم نعيمة يدها في خصرها وأذنها متجهة إلى مصدر الصوت والمتاعب، وشعبان مائل إلى الأمام يراقب ابنه في حماس، والجدة كفت عن المواء، والقطط هي الأخرى كفت عن الأنين واختفت بين طيات ملابس الجالسين.
وقال إبراهيم أفندي وهو ماض كوكيل النيابة في دوره يستدرج الولد: إنتو اتفقتوا صحيح يا حبيبي؟
وتلجلج ابن شعبان ونظر إلى أبيه يستشف ما وراء نظرته ثم قال: إحنا إحنا أيوه اتفقنا .. بس بس.
وتنفس إبراهيم أفندي لأول مرة بارتياح وعوج رأسه وقال وهو يكيل السؤال القاضي: طيب .. ليه بقى سيادتك ما سلمتش زي ما اتفقتوا؟
وواجهه ابن شعبان في دهشة واستغراب وقال: أسلم ازاي؟!
فعوج إبراهيم أفندي رأسه إلى الناحية الأخرى وقال: زي ما اتفقتوا .. ليه بقى يا سيدي ما سملتش؟
Bilinmeyen sayfa
فقال الولد على الفور: ما هو .. ما هو إذا سلمت يبقى اتغلبنا.
وأغلق ابراهيم أفندي عينه اليمنى وقال: تتغلبوا، تتغلبوا.
وزاد الاستنكار في وجه الولد وقال في دهشة: إذا اتغلبنا يكسبوا هم.
وأجاب إبراهيم أفندي وهو يغلق العين الأخرى: يكسبوا يكسبوا .. ليه ما سلمتش؟
وقال الولد بفروغ بال: مهم كانوا أخدوا الكنال.
فقال إبراهيم أفندي وهو يمط شفتيه: ياخدوه ياخدوه.
واندفع الولد بغضب حقيقي يقول: ياخدوه ازاي؟ ه... هي لعبة؟! ه... هي لعبة؟!
وكذلك اندفع أبوه يقول: وده اسمه كلام يا أبو فؤاد!
وكادت تحدث بوادر ضجة، لولا أن إبراهيم أفندي صرخ: هوس .. هوس .. يا اخوانا إيه اللي جرى؟ دي لعبة بيلعبوها .. قول يا بني ما سلمتش ليه؟ قول.
فقال الولد: أسلم ازاي؟!
Bilinmeyen sayfa
وقال أبوه: يسلم ازاي؟
وقالت أم نعيمة: زي الناس يا دلعدي.
واندفع فؤاد النحيل يقول: شفت يا بابا .. هو اللي قلبها جد .. إحنا كنا بنلعب .. هو اللي قلبها جد .. قلنا له سلم، قام شتمنا وقعد يضرب فينا عشان ما نعديش الخط .. والله هو اللي وقعني وقعد يضرب في .. وعضني .. ثلاث عضات أهم .. دا كان زي المسروع .. دا مكانش بيلعب. دا قلبها جد .. وكل ده عشان مش عايز يتغلب .. وأنا مالي؟ هو اللي وقع .. ولما وقع اتعور .. أنا مالي؟ والله ما لمسته .. دا يدوب قربت عليه نزل في ضرب.
وانخرط الولد في البكاء.
وهنا استعاد إبراهيم أفندي الشخطة التي شخطها شعبان في ابنه وشخط شخطة أعلى منها وقال: اخرس .. انت بتعيط زي النسوان .. عمى في عينك.
وصرخت فيه زوجته: جرى إيه يا إبراهيم سرعت الواد .. هو قد الشخطة دي؟ وإيه حكاية النسوان دي رخرة؟ ما تقعد معووج يا إبراهيم وتتكلم عدل .. اتكلم عدل يا إبراهيم.
وقرأ إبراهيم أفندي في الجملة الأخيرة إنذارا خفيا، وفعل الإنذار فعله في الحال.
وهكذا ضاع زمام الموقف واختلطت الأصوات ، صوت الأسطى شعبان تخين وتصاحبه حشرجة كحشرجة الكلاكس حين يعلق، وصوت إبراهيم أفندي رفيع أخنف كأنما يصدر عن طاقة واحدة من طاقتي أنفه، وصوت أم نعيمة حياني نواعمي طويل متين كحبال الكتان، وصوت الجدة أم إبراهيم أفندي كصوت ابنها تماما وكأنها جد. وكلمات شعبان فيها احتجاج صارخ، وكلمات إبراهيم فيها دعوة للسلام والمحبة وما يصحش يعملها الصغار ويقع فيها الكبار، وكلمات شفاعات عزف منفرد لزمارة كمساري ترام، وكلمات تقال، وكلمات لا تقال ولم يسلم الأمر حتما من بضع دعوات خرجت من فم الجدة واستقرت على رأس العدو، أي عدو.
وآب كل شيء إلى هدوء .. حين قال الأسطى شعبان: زي بعضه .. إحنا ما لنا بركة إلا بعض .. نصطلح نصطلح.
وقبل الجاني رأس المجني عليه .. وقبل المجني عليه رأس الجاني وتبودلت بعض نكات تناسب المقام .. وتفضلت الست أم نعيمة وضحكت على نكتة، وتفرق الأولاد وقد انتهت الرواية، وجاء الشاي وشرب الأسطى شعبان، وشرب إبراهيم أفندي على حس الضيف وتكلم الرجلان في السياسة وقال إبراهيم أفندي: إن الله معنا وسينصرنا على القوم الكافرين .. وقال شعبان عن الإنجليز: دول عضمهم دايب من شرب الخمر .. يدوبك تزق الواحد يقع.
Bilinmeyen sayfa