فتلقته المركيزة بابتسامة لها في ثغور الحسان معان يفهمها المحبون، وظهرت منها عليها سيماء الإعجاب به والحب له، فمدت إليه يدها البيضاء فقبلها باحتشام، ثم أبقاها بين يديه فقالت: تأخرت عني يا «ڤكتور» وقد كنت أنتظر قدومك لنتشاور فيما ألبس الليلة لمرقص السفارة، فإني أريد أن أكون ملكة الحسان فيه. - ما عليك إلا أن تظهري، فما أحد ينازعك التاج. - لست أطلب منك المدح وإنما أروم المشورة، فماذا تقول في إكليل من زهر العطر شاهي؟ (زهر يعرف أيضا بإبرة الراعي ينظم بين الجواهر وتجعل باقة منه على الصدر فوق ثوب من اللاذ الأزرق). - هذه غاية الحسن والزينة، فإن العطر شاهي نادر الوجود في هذه الأيام، أما الثوب الأزرق فتكونين فيه قمرا في سماء زرقاء عليه إكليل من الجواهر والزهر من دونه أكاليل النجوم الزهر. - أتستحسن ذلك حقيقة؟ - غاية الاستحسان. - لا أخفي عنك أن هذا الرأي مكتسب، فإن «باتون» الزهار قال ل «جمدراتي» إن امرأة قد استشارته فيما نتزين به من الزهر، فأشار عليها بالعطر شاهي، ثم لم يجد منه غير شيء قليل فآثرني به عليها. - أصاب وراعى النظير. - وأنت متى تتبعني إلى السفارة؟ - بعد زيارة الوزير، فقد علمت أن الأمر على ما نريد، وأن النجاح عتيد، وأزيدك أنه قد عزم على عرضي للنيابة متى جاء وقت الانتخاب، فسوف أصير باهتمامك نافعا للوطن. - آه لو كنت تعلم مقدار إعجابي بمزاياك، وما أذكره في كل يوم من أنك لولاي لكنت باقيا في بلادك مجهول المكان خامل الذكر، تنمو نمو النبات بلا منفعة ولا أثر مع كونك مخلوقا لتعظم في الدنيا آثارك، ويعلو في الوجود منارك، فكلما نظرت إليك الآن وسمعتك متكلما بأحسن بيان، ورأيت ما لك من المزية على الأقران؛ حمدت الله سبحانه واجب الحمد على أن وجدت في سبيلك لأرشدك إلى غايات المجد. - صدقت أيتها الحبيبة المفداة بالروح، فلقد هديتني سبيل الفلاح، وأنقذتني من عذاب الضجر، ولولا أن رأيتك لمت غما ويأسا محترقا بشعلة الذكاء التي أوقدتها في قلبي السماء، فقد كنت أذوب كل يوم كما يذوب الشمع، ولا أدرك لذلك سرا فأهيم من التصور في أودية آمال يمثلها الخيال، وليست بموجودة في واقع الحال حتى استقبحت وجودي واستهجنت من كان لهم في قلبي مكان من الحب؛ فصرت منفردا لا أجد أنيسا، ولا ألتمس جليسا إلى أن تجليت لي في مظهر الجمال، فتحولت هاتيك الأحوال، فأنا الآن حي بهواك سعيد برضاك لا أرى من محاسن الوجود سواك، أغمض الطرف حين لا أكون لديك، ولا ترى عيناي عينيك لأعود بالفكر إلى الأيام السالفة، فأذكر ملتقانا الأول إذ رأيتك في كنيسة منزلنا بين البروق اللامعة، فخلتك ملكا على سحابة تنبعث منها أشعة النور، ثم أذكر موقفنا على الآثار والأطلال، ورجوعنا من الغد إلى عين التلاقي، حيث اتحد منا القلبان، وامتزجت الروحان، فنطقت أنفسنا بالحب من غير لسان، وأذكر المأدبة التي رأيتك فيها بهجة الأنظار وفتنة الأفكار، وأحاديثنا من بعدها في كل يوم على تلك العين، ونحن من وراء حجاب من الخفاء لا ترانا عين رقيب ولا عين، وإني ما كنت حيا إلا بقربك ولا موجودا إلا في حبك، فكان غيابك عني غياب الروح عن البدن، فلم يكن بك من حاجة لاستخلافي قبل سفرك أن أسير إلى باريس على أثرك، بل لو نهيتني عن ذلك لما كنت أنتهي، فإنك قد حببت إلي الحياة وأنت هي، وأوضحت ذاتي لذاتي، وهتكت سجوف الخفاء عن صفاتي، فكل ما لدي من مال وما عساه أن يكون في من حسن وكمال، وما ظهر علي من مخايل الذكاء وما ترين في من البهجة والرواء، فهو مستمد من محاسنك الغراء، فأذني لي أجث بين يديك لأثني واجب الثناء عليك. قال هذا ورام الترامي على قدميها، فأنهضته وهي تقول: آه ما ضر الزمان لو سمح بتلاقينا قبل هذه الأيام؟! ولم يكن بين كل منا والآخر حاجز مكروه. - كان ذلك من فوق اليدين يا قرة العين، على أننا قد وجدنا لنحيا معا مؤتلفين متحدين، ويمين الله لن نفترق ما دمنا أحياء. - لا ريب عندي في صدق حبك وثبات قلبك. ثم قالت ولسانها يتلجلج وصوتها يتهدج: ولست ألم بما في نفسك من العواطف الأجنبية عني إلا بلطف واحتراز، ولكني في قلق مستمر منها، فلا بد أن أسألك: هل عندك خبر من «بواتو»؟ - نعم. - وكيف حال مدام «ديلار»؟ (تعني زوجته). - تزعم أنها الآن أحسن حالا، ولكني في ريب من ذلك، فقد رأيت في كتبها سرا غريبا لم أر مثله من قبل؛ فأيقنت أنها تكتم عني حقيقة الأمر. - إن كانت منحرفة المزاج، فقد وجبت عليك زيارتها لتدفع الظنون، وترى أولادك الذين تحبهم حبا صادقا. - أذكرتني من ذنبي ما كنت ناسيا يا «أليس»، نعم، إني مخطئ إلى التي لم أر منها إلى الآن غير الحب، وإن أولادي أعزاء علي، غير أن هذا الحب وذاك الذنب يخفيان في مظهر هواك، فإنك تسليني عن كل موجود، ولا أسلوك بشيء من الوجود، ولقد أفرغت قلبي من كل شيء سوى حبك، فصار لك الملك فيه بلا شريك.
ملكتك القلب فرفقا به
ما أحسن الإحسان ممن ملك!
أستغفر الله فما أنت من
هذا الملا إن أنت إلا ملك
وحينئذ ضرب ناقوس الباب إشارة إلى قدوم زائر جديد، فانقطع حديث الأليفين، وانصرف «ڤكتور» يسعى في شأنه وبقيت المركيزة تنتظر قدوم الزائر، ولما عاد «ڤكتور» إلى منزله للعشاء، رفع إليه الخادم كتابا من الكونتة «سرزول» ترجوه فيه أن يأتي منزلها في الساعة الثالثة بعد الظهر، فإن تأخر عن هذا الميعاد، فلا يزعجن نفسه بالمسير إليها، فإنها لا تكون في المنزل بعد الساعة الخامسة.
وكانت هذه الكونتة من نساء القصر الملكي قبل الثورة، ولها صداقة قديمة مع والد «ڤكتور»، وكانت كريمة الخلق، شريفة عالية النسب، معروفة بالفطنة والذكاء، ولها أصدقاء كثيرون في حي النبلاء المسمى «فوربورسين جرمين»، وكان «ڤكتور» قد أفنى الحيل في استعطافها إليه، فأعرضت عنه بما بها من الحرص على التستر والاحتشام الظاهري، وما رأت من تهتكه في حب «أليس»، بل وقفت له ولها بالمرصاد توسعهما عذلا ولوما، وتروم التفريق بينهما رحمة بزوجة «ڤكتور»، حتى فرط منها إلى بعض الناس قول يشعر باستعدادها لإصلاح ما أفسد الهوى بين «ڤكتور» و«ماري»، فصار هذا الشأن همها الفرد من ذلك الحين، وكانت صداقتها مع الكونت «ديلار» قديمة أتى عليها نحو خمسين عاما، وقيل: بل كان بينهما حب لا يفي لفظ الصداقة بمعناه، ثم تحول ذلك الحب صداقة بعد أن ارتحل الشباب وأقفر مغناه، فكان الكونت يستريح إلى حبيبته القديمة بأسرار ضميره، فلما وقع من «ڤكتور» ما علمناه كتب إليها يخبرها بسفره، وما ألم ببيتهم من الغم، وكيف صبرت «ماري» على ذلك صبرا جميلا، وأعلمته هي بما كان من ابنه في باريس، وأنه بلغ من شدة حبه للمركيزة أن غادر لأجلها آبائه في السياسة، وانحاز إلى نصراء الوزارة، فأضاع شرفه في سبيل الحب، وكانت الكونتة غاضبة على «ڤكتور» من وجهين: الأول أنه تهتك في الحب فأضاع أدبه، والثاني أنه اتبع من السياسة مذهبا لا يلائم نسبه، وطالت المراسلة بينها وبين أبيه فيما يحسن التوسل به إلى رده عن الغواية وإرشاده سبيل الهداية، ثم سارت بنفسها إلى مرلي، ولا شك أنها لم تغادر مستقرها الأمين إلا لأمر ذي بال، وكانت بعد رجوعها متحجبة في منزلها لا تزار إلا في أوقات معينة، ولا تخرج إلا متنكرة مستصحبة فتاة من النساء تزعم أنها أتت بها من «بواتو» لتكون لها رفيقة، فالتبس أمرها على الناس، فصارت كمن يعد مكيدة لأهل الحكم.
فلما وقف «ڤكتور» على كتابها ساءه فوات الوقت الذي استزارته فيه، وخاف أن تتخذ تأخره عنه حجة جديدة عليه؛ فإنه كان - على ذكائه وحسن بيانه - يخاف جدالها في قضية حبه التي لا تقوم له فيها حجة ولا برهان، فكتب إليها يعتذر بما وجد من العذر، ثم أقبل على إصلاح شأنه استعدادا للذهاب إلى المرقص.
ولما جاء الوقت المعين في أوراق الدعوة تجلت غرف السفارة الإنكليزية بأنواع الزينة المعتادة في المآدب الكبيرة، وتقاطر إليها المدعوون من كل جانب، حتى كاد الزحام يمنعهم من الحركة - يا عجبا كيف لا يمنعهم من الفرح والهناء - وكانت المركيزة الحسناء في المرقص فتنة للناظرين سطعت جواهر حليها من تحت أزهار العطر شاهي، فاستوقفت لها الأبصار، فما تحدث من رآها إلا في حسن زيها وجمال محياها، ولم تكن أتت المرقص إلا بعد نصف الليل، كما هي عادة الحسان المتصببات «لتنتظر فيعظم الشوق إليها»، فدار بها الناس وهي دائرة النظر على «ڤكتور» حتى لمحته بين الجمع فتقدمت إليه، ورأت علائم إعجابه بها بين عينيه، فلمعت لذلك أسرتها وتمت به مسرتها.
وعند الساعة الأولى بعد نصف الليل أعلن الحاجب قدوم الكونتة «سرزول» والويكونتة «ديلار»، فالتفت أهل المرقص متعجبين مما سمعوا، فإنهم كانوا يعرفون «ڤكتور ديلار»، ولكن لم يكن فيهم من رأى زوجته، بل كان أكثرهم يحسبونه عزيبا، فلما نطق الحاجب باسم تلك الخاتون المنسوبة إليه أخذهم في أمرها حب الاستطلاع، فداروا بها من كل جانب يرمونها بالأنظار، ويتداولون في شأنها الأقاويل والظنون، أما هي فكانت مرافقتها للكونتة كافلة لها بحسن القبول عند السفيرة وسائر خواتين المأدبة، ولكنها كانت مع ذلك خائفة كاسفة البال، مشردة الفكر لائذة بأذيال رفيقتها تهيبا من «ڤكتور» أن تلقاه فيسوءه انقيادها إلى رأي مدام «سرزول» حتى وهن عزمها وكاد الخوف يعجزها عن الوقوف لولا أن شدت الكونتة أزرها، وأزالت من قلبها الرعب، وعللتها بإدراك الأماني، وأنها ستكون هي المشار إليها بالبنان بين جميع من في المرقص من الحسان.
Bilinmeyen sayfa