ثم وضحت في ذهنه فكرة: مختار، أنا أريدك أن تذهب إلى القاهرة. - أسافر، أسافر حتى ولو لم أكن ناويا للسفر، فما بالك وأنا أنتويه. - الحاجة عندها قطعة مصاغ تريد أن تبيعها لتشتري بثمنها قطعة أخرى رأتها عند إحدى السيدات اللائي يزرنها. - وما له.
واعتصرت قلب مختار يد قاسية كبت آثارها أن تبدو على وجهه، فما يدري هل وفق إلى ذلك أم لم يوفق، وإنما قال كلمته السريعة، ثم صمت لحظات يكتم إجهاشة بكاء تعتصر فؤاده، حتى إذا استوثق أن صوته لن يخونه قال: هاتها. - هاكها.
فأخذ الكردان ووضعه في جيبه وقام: أقوم أنا لأعود مبكرا. - مع السلامة. •••
حين نزل مختار إلى القاهرة توجه من فوره إلى الصاغة وعرض الكردان للبيع، فكان أكبر ثمن له ثلاثمائة جنيه، فأعاده إلى جيبه، وقبل أن يغادر الدكان الذي كان فيه بحث في دفتر التليفون وعثر على الرقم الذي يريده وأدار القرص به: منزل سعدون بك؟ - وجاءه صوت سعدون. - نعم أنا هو، من الطالب؟ - مختار عمر صديق الحاج حامد.
ورحب به سعدون: يا أهلا يا مرحبا! أين أنت يا مختار أفندي؟ - أنا هنا في القاهرة وأريد أن أشوفك. - يا مرحبا نتغدى معا اليوم. - أعفني من الغداء، أريد أن أرجع اليوم. - تعال أولا ثم نتكلم في موضوع الغداء. •••
وقص عليه قصة الكردان ومرض الحاجة توحيدة، وأطرق سعدون طويلا وقد تمزقت نياط قلبه: ألهذا نأتي بمن يخلفنا؟! أنهب لهم مالنا وأنفسنا ليجعلوا منا حطاما من البشر؟ وفكر كثيرا: كيف سيصل بالمال إلى حامد دون أن يعرف حامد أنه منه.
وحين طال الصمت خشي مختار أن يكون قد جاء إلى من لا يعنيه الأمر، وأنه أخطأ المقصد والمتجه فزاد حزنه، بل أضيف إليه الخجل من نفسه والأسف أنه أذاع سر صديقه بغير داع إلى ذلك، وقال: سعدون بك كأني لم أقل لك شيئا.
وأفاق سعدون من أحزانه وقال في حدة: يا أخي انتظر، أو فكر معي على الأقل! - أفكر؟! فيم أفكر؟ - ألا تدري فيم تفكر؟ - لا والله، بل ولا أدري أن المسألة تحتاج إلى تفكير. - شأنك عجيب يا مختار أفندي! - هل شأني أنا هو العجيب؟ - أم تراك تظن أنه شأني أنا هو العجيب؟ - والله نعم. أظن أن شأني أنا ليس عجيبا. صديق لك في محنة وقصدت إليك، فبدلا من أن تدفع عنه هذه المحنة تصمت؟! - وهل هي محنة واحدة؟ - الموجود حاليا محنة واحدة. - بل محن كثيرة. - كثيرة؟ - المحنة الأولى جحود ابنهما لهما. والمحنة الثانية كيف نقدم المال لهذين العظيمين؟ إنهما ليسا فقيرين من الذين تعودوا مد أيديهم للناس وابنهما من كبار أغنياء مصر. أما مسألة الكردان هذه فلا قيمة لها. - كيف؟ - سأعطيك المبلغ وآخذ الكردان، وأجعل الحفيدين يشتريان لجدتهما قطعتين من الذهب ضعفي ثمن هذا الكردان، على أن يكون ذلك بعد شهر أو أكثر، حتى لا يظنا بالهدية منهما ظنا لا نريده أن يخطر على بالهما. - نعم التفكير. - كيف نقدم لهما هذا المال بعد ذلك، تلك هي المحنة. - ونعم الأخ أنت يا سعدون بك. - قل هل عندكم مكتب بريد. - عندنا. - إذن حلت. - كيف؟ - لا شأن لك. انتظر حتى آتي لك بثمن الكردان. تقول ثلاثمائة جنيه؟ - نعم. - ولكنك تستطيع أن تقول إنك بعته بأربعمائة. - أنعم وأكرم!
ومنذ ذلك اليوم كانت تصل الحاج حامد شهريا خطابات مسجلة بمبلغ ثلاثمائة جنيه مع بطاقة باسم هارون حامد بركات. ولم يقف المبلغ عند هذا الحد، بل كان يرتفع مع زيادة الغلاء حتى بلغ بعد سنوات ستمائة جنيه في الشهر. ولم ينس في نفس الوقت عبد المجيد؛ فقد كان يزيد له المبلغ الشهري حتى يواجه الغلاء الذي يفغر فاه المتوحش على الناس.
الفصل السابع
Bilinmeyen sayfa