الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
بريق في السحاب
بريق في السحاب
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
استيقظ الصباح في قرية الحمايدة ليجد بيت الحاج حامد بركات قد صحا من نومه، وراح الحاج يتوضأ ليصلي الفجر، وراحت الحاجة توحيدة تعد الإفطار لزوجها بعد أن أدت الفريضة.
وجلس الحاج حامد بركات بعد أن تناول إفطاره يشرب القهوة السادة، وجلست إلى جانبه الحاجة توحيدة، وسألها: هل صحا هارون؟ - طبعا لا. هو كما تعلم يصحو في السابعة كأنه يصحو على منبه. - ربنا يكون في عونه. - حملته العبء من أول شبابه. - أنا تعبت! والديون تكاثرت علي، ولا أستطيع أن أكافح كما كنت أفعل في شبابي، وهو رفض أن يذهب إلى الجامعة، وأصر على أن يعمل في الأرض بعد أن نال البكالوريا. - هو يحب الأرض من طفولته. - كان يصحو معي في الفجر ليذهب إلى الغيط. - وهل أنسى؟ - وكان يصلي الفجر معي، وكأنه يؤدي حركات مفروضة عليه. - وهو الآن لا يصلي. - لم أستطع أن أرغمه على الصلاة. - الصلاة لا تكون بالإرغام يا حاج. قلب الإنسان هو الذي يحتم عليه الصلاة. - أنا اعتقادي أن الصلة بين العبد وربه لا يجوز أن يتدخل فيها أحد، حتى ولا الآباء والأمهات. - صدقت. - كل ما علينا نحن الآباء أن نعلم أطفالنا الصلاة، ونحثهم على قراءة القرآن دون أن نرغمهم على ذلك؛ لأن الإرغام سيجعلهم يبتعدون عن الصلاة والقرآن جميعا. - لك حق، ولكن وهم أطفال لا بد أن نرشدهم. - طبعا ، ونكافئهم أيضا، حتى إذا بلغوا مبلغ الشباب تركناهم يواجهون الله وحدهم. وإنك لن تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء. - مع ذلك كنت أتمنى أن يصلي هارون، كما أتمنى أن يتزوج. - وأنا أيضا أتمنى هذا، ولكن هارون مشغول بالدنيا شغلا يجعله لا يفكر في الآخرة أبدا، ولا في الزواج. - نعم يا حبة عيني مشغول بالدنيا أكثر من اللازم. - ولهذا تركت له كل شيء. وأنا يكفيني أن يوفر لي أنا وأنت اللقمة وفنجان القهوة. - وأنا وأنت لا يلزمنا شيء أكثر من هذا، ولكن يتهيأ لي أن فكرة الزواج تراوده الآن. •••
صحا هارون من نومه في الساعة السابعة، وتناول إفطاره ومر على أبيه. - صباح الخير يا أبويا. - صباح الخير يا بني. - أستأذنك. - إلى أين يا ابني؟ الساعة لم تصل إلى الثامنة. - ذاهب إلى بنك التسليف. - خير؟ - حضرتك تعلم أن الشغل فيه لا ينتهي. ندير ديونا ونؤجل ديونا ونأخذ السلف. - طبعا. - اليوم أريد أن أحصل على تقاوي القمح. - أليس الوقت مبكرا؟ - لقد جاءت إلى البنك، وأفضل أن أحصل عليها مبكرا حتى تكون جاهزة. - مع السلامة، الله يوفقك.
وحين ذهب هارون إلى البنك أحس من الإقبال الشديد على التقاوي أنها ستكون قليلة هذا العام، وأن الفلاحين سيضطرون أن يشتروها من السوق السوداء عند زراعة القمح وترقيع الأرض؛ أي إعادة زراعة أجزاء الأرض التي لم تنبت ما بذر فيها في أول مرة.
وبمكر اقتصادي لا مثيل له يتمتع به هارون، كتب إقرارا أنه سيزرع أربعين فدانا من القمح، مع أنه لم يكن أعد من الأرض إلا عشرين فدانا فقط لزراعة القمح. وبقدرة فائقة على الصداقات والاتصالات استطاع أن يحصل على التقاوي التي يريدها، وهو ينوي أن يبذر نصفها فقط ويبقي النصف الآخر ليبيعه بأغلى الأثمان؛ فهو يعلم أن الفلاح عند الحاجة إلى زراعة الأرض يدفع عمره ليحصل على التقاوي التي يحتاج إليها.
وهارون لا يعنيه في شيء أن يرفق بالناس، وإنما يعنيه أولا وأخيرا أن يحصل على المكاسب من أي سبيل، مهما يكن في هذا السبيل عنت بالآخرين وإثقال على مقدراتهم.
كان جالسا إلى مدير البنك ليكمل إجراءات صرف الكيماوي، حين دخل الحجرة سعدون عمارة، وهو رجل طويل القامة ضخم الجسم يعرفه هارون ويعرف هارون، ولكنها معرفة لا ترقى إلى مستوى الصداقة؛ ففارق السن بينهما ليس هينا. ولكن هارون - شأن أعيان الريف جميعا - يعرف كل شيء عن كل إنسان في المنطقة وما حولها، وقد كان يتوق إلى لقاء سعدون، وكان يريد أن يأتي هذا اللقاء صدفة دون إعداد سابق.
وقد كان سعدون أغلب وقته مقيما بالقاهرة بعيدا عن أرضه؛ ولهذا لم يكن إنتاج أرضه إنتاجا يرضى عنه الفلاح الخبير.
استقبل هارون القادم عليه في غرفة مدير البنك بترحاب شديد: مرحبا سعدون بك، عاش من شافك. - أهلا هارون بك، ماذا أعمل؟ أنا قليل المجيء إلى العزبة كما تعرف. - أعرف. هل جئت اليوم وحدك أم جاءت معك العائلة؟ - لا والله جئت وحدي؛ فلن أبقى هنا أكثر من ليلة واحدة. - إذن فالغداء عندي اليوم. - يا سيدي حفظك الله. - لا والله لن أقبل عذرا، والبك مدير البنك سيشفع لي عندك.
وقال مدير البنك محروس مهنا: ولماذا أشفع وأنت لم تدعني معه؟
وقال هارون: أخاف إن دعوتك أن أغضب السيدة حرمك، فأنا أعرف أن أولادك في القاهرة وزوجتك معك، وأنك إذا تركتها فستتغدى وحدها.
وقال محروس: لكم أخاف منك يا هارون بك. ليس شيء في بيوتنا إلا وأنت مطلع عليه. - ليس في الأرياف سر. - ولكني أعيش هنا في المدينة في الزقازيق، فكيف تعرف أخباري كلها؟ - أولاد الحلال كثيرون، والناس ليس لهم تسلية إلا أخبار الناس. - ترى يا هارون بك هل تعرف ما يدور في البيوت فقط، أم تعرف أخبارنا في حجرات النوم أيضا؟ - ليس في حجرات النوم أسرار تستحق الذكر يا محروس. - يعني تعرف هذا أيضا؟ ربنا ينجينا منك يا هارون بك.
والتفت هارون إلى سعدون وهو يقول له: هيه يا سعدون بك، الغدا عندي أم أذيع أسرارك؟
وقهقه سعدون عمارة وهو يقول: المسألة أصبحت تهديدا إذن؟
وقال محروس : تهديد واضح؟ - نعم تهديد، ما رأيك؟
وقال محروس: وما الداعي للتهديد؟ لا يا عم، الغدا أهون.
وأكمل هارون عمله مع محروس، وذكر سعدون ما جاء فيه وأنهى هو أيضا موضوع التقاوي الذي كان قادما من أجله، وصحب هارون سعدون إلى البيت. وسرعان ما أعطى أوامره بإعداد غداء يليق بالموضوع الذي دعا من أجله سعدون إلى الغداء. •••
تناولا الغداء في حجرة المائدة، وانتقلا إلى غرفة الاستقبال. وكان بيت الحاج حامد ذا طابقين؛ فالطابق الأول خالص للاستقبال تقريبا، والطابق الأعلى مخصوص للنوم.
قال هارون: هل تحب أن تنام قليلا، أم لست متعودا على نوم القيلولة؟ - ليس دائما. - أما أنا فأحب أن أنام. - وهو كذلك، تفضل!
وصحبه إلى غرفة خاصة لنوم الضيوف في مثل هذه الحالات، واطمأن إلى صلاحية الغرفة للنوم، وأقفل بابها عليه وذهب إلى أريكة بحجرة الجلوس واتكأ عليها، وغفت عيناه وأحلام سعيدة تداعب جفنيه. •••
حين صحا سعدون من النوم جلس إلى هارون في حجرة الاستقبال يحتسيان القهوة، وقال هارون: ما رأيك يا سعدون بك، عندي لك مشروع يفرحك. - يا ليت. قل ما هو. - أنت أغلب الوقت بعيد عن البلد، وأرضك حوالي سبعين فدانا ليس فيها أرض مؤجرة لفلاحين. - عندك أخباري كلها، كيف عرفت أنها سبعون فدانا مع أن المسجل منها خمسون فقط؟ - أتحب أن أذكر لك أسماء الأربعة الذين بعت لهم العشرين فدانا الأخرى بيعا صوريا؟ - لا، لا داعي، واضح أنك تعرف كل شيء عني. - أنت لست هاويا للفلاحة، والبنتان عندك لا تحبان الريف ... وأنت تحب أن تقضي وقتا مع الأصدقاء، والزراعة عندك الآن لا تأتي بهمها. - والله لك حق. - كم تكسب من الأرض الآن؟ - حوالي ألفي جنيه في السنة. - هذا ما قدرته فعلا. - أنت وضعت يدك على حقيقتي. أنا لست فلاحا ماهرا ولا محاسبا ماهرا، وأعلن أنني مسروق في كل شيء، سواء فيما أنفق على الزراعة، أو ما أحصل عليه من محصول الأرض على السواء. - ما رأيك لو أعطيتك ثلاثة آلاف جنيه في السنة، تأخذها دفعة واحدة كل عام في شهر نوفمبر.
وصمت سعدون قليلا، ثم قال: أحيانا أحب أن أجيء إلى البلدة ومعي أسرتي. - سبحان الله! أنا أستأجر الأرض لا أشتريها، وبيتك لا يلزمني. تعال أنت وأسرتك كلما شئت. - على بركة الله. - نكتب عقدا. - عقد إيجار؟ - عقد توكيل بإدارة الأرض، وعندما أسلمك المبلغ تكتب لي إيصالا به. - توكلنا على الله. - توكلنا على الله.
الفصل الثاني
حين عاد سعدون إلى بيته، استقبلته زوجته وفية الزهار التي تزوجها منذ خمسة وعشرين عاما زواجا نمطيا؛ فقد كان والده عبد الهادي بك عمارة صديقا لوالدها عثمان بك الزهار، وكانا متجاورين في الأرض، وكانا يقيمان شأن ذلك الزمان بالريف أغلب الوقت. فكانا يسهران معا في بيت أحدهما يلعبان النرد ويلتقيان بالناس. وكان كل منهما يعرف أصدقاء الآخر معرفته بأصدقائه وبفلاحي أرضه هو؛ فكان عبد الهادي دائما يلتقي في مجلس عثمان الزهار باثنين لا يغيبان عن مجالسته؛ أحدهما عطا الله عبد السيد، وهو تاجر أقطان صغير يعمل في كميات قليلة من القطن دون توسع في البيع أو الشراء، ولكنه كان ميسورا كريما على نفسه، حسن المظهر دائما، وكان يلبس الجلباب البلدي الأنيق، فإن كان الشتاء يلبس معطفا من الصوف الجيد. وكان يجيد الحديث عالما بأسرار المنطقة. وكان عبد الهادي يسمع منه دائما أخبارا جديدة. وكان لبيبا في تعليقاته، ذكيا كل الذكاء في تفهمه لما يسمع. وكان يقرأ الجرائد بدقة شأن التجار ليتقصى أخبار السياسة صاحبة العامل الأول في أسعار التجارة وخاصة القطن. أما الرجل الثاني فقد كان الحاج وافي العسكري، وليس اسم العسكري دليلا على أنه كان يعمل في الجيش أو الشرطة، وإنما هو اسم وجده لنفسه وعرفت به أسرته دون أن يكون له معنى أو أصل تاريخي. وقد كان الحاج وافي من أعيان بلدة النمايلة التي بها أرض عثمان بك الزهار وبيته. وكان الحاج وافي يعمل في تجارة الغلال. وكان يأبى أن يشتري أرضا لتظل أمواله كلها سائلة حرة يشتري بها ما يتاح له من صفقات. وكانت محاوراته مع عطا الله أفندي تضفي على الجلسة نسمات رطيبة من الضحك وخفة الروح. وقد كان أيضا على صلات كثيرة بالناس، شأنه شأن عطا الله أفندي، وكان يعرف خباياهم. ولم يكن له إلا ولد واحد، وكان هذا يسعده على عكس ما عرف عن أعيان الريف من حبهم لكثرة الأبناء، في حين كان لعطا الله أربعة أبناء كلهم ذكور.
وكان عثمان بك إذا زار عبد الهادي بك وجد عنده دائما ناظر زراعته إبراهيم أفندي جندية، ولم يكن أفنديا كامل الأفندية، وإنما كان يلبس مثل عطا الله عبد السيد الجلباب البلدي والطربوش. وبالطربوش وحده اكتسب لقب أفندي كما اكتسبه أيضا بخبرته الدقيقة بالحساب والدوبيا. والدوبيا هذه لفظة لا يعرفها أبناء الجيل الجديد ... إنها طريقة خاصة للحسابات، أغلب الأمر كانت تتم بها محاسبات الزراعة.
وكان إبراهيم رجلا أمينا غاية الأمانة، لا عيب فيه إلا ادعاءه لنفسه من الأعمال الجلائل ما لم يقم به، ولكن هذا في ذاته كان يضفي على حديثه ظرفا يتيح لعبد الهادي بك وجلسائه أن يتفكهوا به ويتندروا عليه. فكان يقبل دعاباتهم في سماحة، ويمضي في حديثه عن أعماله الجليلة وكأن أحدا لم يقل شيئا أو يسخر مما يقول.
وكان من جلسائه الشيخ متولي عبد الموجود، وكان فلاحا حاذقا في الفلاحة، ويحفظ القرآن وإن كان لا يلبس العمامة، وكان لا يملك إلا فدانين يحصل منهما على محصول لا تنتجه خمسة أفدنة. وكان عبد الهادي يغدق عليه الهدايا، وكان هو محبا أشد الحب لعبد الهادي بك.
وكان في مجلس عثمان أيضا شخص آخر يجده عبد الهادي كلما زاره، وهو بلال أفندي عبد الفتاح. وكان مدرسا في المدارس الإلزامية، ومحبا للشعر يحفظ منه الكثير وينظم منه القليل. وكان عبد الهادي وعثمان يأنسان إلى حديثه، سواء كان راويا للشعر أو ناظما له. وكان لماح الذهن حاضر البديهة يملك أربعة أفدنة، وكانت مع مرتبه تجعل منه واحدا من أغنياء القرية، خاصة وأنه كان شديد البخل إلا في ملبسه الذي كان دائما أنيقا. وكانت الصداقة بين عثمان وعبد الهادي وطيدة، ولهذا لم يكن غريبا أن يتزوج سعدون وفية. ولم يلاق عبد الهادي بك من ابنه أي ممانعة؛ فلم يكن سعدون يعرف فتاة أخرى، وكانت الفتيات عنده كلهن متساويات لا فارق ثمة بين فتاة وفتاة، وكل ما فعله أنه سأل أباه عنها: شفتها يا أبويا؟ - طبعا شفتها. - حلوة؟ - قمر. - توكل على الله.
ولم تكن وفية قمرا، ولكنها أيضا لم تكن قبيحة. كانت فتاة كأي فتاة لا تجتذب عينيك إذا رأيتها، وهي أيضا لا تجعل عينيك تنصرفان عنها. كانت بيضاء البشرة، ذات شعر أسود لا هو بالمسترسل ولا هو أيضا بالملبد، ذات عينين سوداوين في غير ضيق ولا اتساع. تلقت تعليمها في المدارس حتى بلغت السنة الثانية من الثانوي، ثم ضاقت بالتعليم أو ضاق بها التعليم فأقامت في بيت أبيها تنتظر العدل.
وتزوجت سعدون، وكان سعدون أيضا قد ترك التعليم بعد حصوله على البكالوريا التي تقلبت عليها الأسماء فأصبحت توجيهية ثم أصبحت ثانوية عامة.
ولم يكن سعدون راغبا في إكمال تعليمه، ولا كان أبوه مهتما بذلك أيضا، راجيا أن يتفرغ سعدون لفلاحة الأرض.
ولكن سعدون لم يكن يهوى الفلاحة، فما لبث بعد زواجه بسنة وبضعة أشهر أن أقام في بيت أبيه في القاهرة في حي جاردن سيتي. ولم يكن البيت فخما ولا كان متواضعا، وإنما وسط بين هذا وذاك. ولم يكن أبوه راضيا عن ذلك، ثم احتسب الله: ربما بعد أن أموت أنا يضطر سعدون إلى فلاحة الأرض، فليس له مورد رزق حقيقي إلا هي وعمارة الزمالك وعمارة عابدين، وهما عمارتان قديمتان ما يلبثان أن يهدما ويجد سعدون نفسه وجها لوجه مع الأرض. وماذا سيفعل في أرض زوجته، إنها سترث أيضا؟ اتركها لله كله بأمره.
تعود سعدون منذ ذهب إلى القاهرة أن يجلس في بار الأنجلو الذي يضم كثيرين من الأعيان، وكان البار في الصباح مقهى، وفي الليل بار.
وأصبح سعدون زبونا دائما له في الليل، أما في الصباح فهو يعكف في البيت على القراءة، فكان يقرأ بنهم شديد وبمتعة لا مثيل لها . ووجد نفسه في جلسة المساء جالسا إلى قوم لا هم لهم إلا شرب الخمر وتبادل الحديث المخمور، فكان لا بد له أن يشاربهم. وأعجبته نشوة الخمر فصار يشرب، حتى إذا مرت به وفية آخر الليل لتصحبه إلى البيت، وجدته في حالة سكر بين. وضاقت بهذه الكارثة، ولكنها ما لبثت أن راضت نفسها على قبول الأمر الواقع، فلم يكن لها حيلة إلا أن تقبل الأمر الواقع.
وأحب سعدون الخمر وفتن بمجالسة المخمورين، وتعود كلما جاء السائق ليدعوه للقيام ويبلغه أن الست تنتظره يقول له: يا مغفل، ابحث عني بعض الوقت، هل لا بد أن تجدني بهذه السرعة؟
ويتابع الشرب، ويظل السائق رائحا غاديا بينه وبين وفية حتى يقوم كارها.
ولم تمض سنة على مجيئه إلى القاهرة حتى حملت وفية طفلتها الأولى حميدة، ولم يمض أكثر من عام وبعض عام حتى رزق الزوجان بابنتهما الثانية وجيدة. ولم يكن سعدون يهمه أن ينجب البنين أو البنات؛ فقد أصبح لا يعنيه من الحياة إلا الكأس والقراءة التي يتفرغ لها نهاره كله. ولم يكن أمر سعدون خافيا على هارون، ولكنه أبى أن يذكر له وهو يفاوضه في الأرض معرفته بحبه لبار الأنجلو وما يشربه فيه.
كانت حميدة في العشرين من عمرها حين تمت الصفقة بين هارون وسعدون.
وكان سعدون إذا لم يكن مخمورا غاية في التعقل والاتزان، وكانت الخمر تخرجه عن وقاره بعض الشيء، ولكنه لم يكن يخرج عن أدبه قط. وكان يستطيع أن يتحكم في ألفاظه. وكان ذكيا في سكره، فإذا أراد أن يصارح أحد أصدقائه برأي لاذع فيه، ادعى أنه سكران وقال ما يريد قوله.
لهم صديق اسمه عيسى حامد ثري غاية الثراء، بخيل كز غاية البخل والكزازة، ويتمتع شأن كل بخيل بصفاقة يشهد له بها جميع رواد المقهى. يأتي في كل ليلة ويمر على المناضد واحدة بعد أخرى، وتدعوه كل منضدة إلى كأس أو كأسين يشربه أو يشربهما وينتقل إلى منضدة أخرى، فما إن تنتهي دورته على المناضد حتى يكون قد نال من الويسكي كفايته دون أن ينفق مليما واحدا. وفي ليلة مر كعادته بمنضدة سعدون، وكان لسان سعدون قد بدأ يتلوى من الخمر فيبدو كأن الويسكي قد تعتعه فنادى بأعلى صوته: مانولي!
فجاء القاهي: أفندم سعادة البك؟ - حسابنا كله الليلة عند عيسى بك حامد.
وزلزل عيسى زلزالا شديدا: ماذا؟! - أي ماذا يا أخي؟! أنت كل يوم تأتي إلى المقهى وتسكر مجانا وتروح. ادفع مرة الحساب عن نفسك، ألا تحب أن تشعر مرة بلذة السكر على نفقتك الخاصة؟ - ولكن هذا ظلم يا سعدون بك. - الظلم ما أفعله أنا بك أم ما تعمله أنت في زبائن المقهى كل ليلة؟ خف ولا تثقل حتى لا يضيق بك أصحابك ورفاق كأسك.
وهكذا كان يفعل سعدون كلما عن له أن يصارح أحد الجالسين معه برأيه فيه، فكان أصدقاؤه يحبون مجالسته كل الحب، ويضحكون مما يفعله ويقوله.
وقد ارتاح سعدون كل الارتياح للصفقة التي أتمها مع هارون، وحين عاد إلى زوجته بعد إتمام الصفقة أخبرها بها فإذا هي تقول: مبروك يا سعدون ولكن لماذا نسيتني؟ - كيف؟ - أرضي. - أليست أرضك مع عطا الله أفندي والحاج وافي؟ - إنها معهما بناء على عقد بيع صوري، ولا أحصل منهما إلا على مبالغ ضئيلة. فلم لا تؤجر الأرض لهارون ويدفع لي مثلما يدفع له؟ - والله فكرة. •••
كان عثمان الزهار يدرك أن ليس له إلا بنت واحدة، وكان يملك مائة فدان، لو مات عنها ما ورثت ابنته إلا نصف الأرض، ويشاركها أخوه مجدي وأخته تفيدة في النصف الآخر. فتشاور مع زوجته بهية على أن يبيع أرضه مناصفة لعطا الله أفندي وللحاج وافي، ويكتب كل منهما على نفسه وصل أمانة بقيمة الأرض. واستحسنت بهية الفكرة، ونفذها عثمان فعلا وسجل الأرض، ولم يمر على تسجيل الأرض سنة حتى كان عثمان قد انتقل إلى رحمة الله قبل أن يشهد ثورة 52. •••
أما عبد الهادي فقد شهد ثورة 52، ولحق به قانون الإصلاح الزراعي الأول. وكان يملك سبعين فدانا فلم يكن واقعا تحت طائلة القانون، ولكنه أدرك بإلهام لا يدري مأتاه أن الأمر لن يقف بالثورة عند هذا، فقال لابنه سعدون: أرى ألا نبقي لك أكثر من خمسين فدانا. - تريد أن تبيع عشرين فدانا؟ - نبيعها ولا نبيعها. - يجب أن تكون واثقا من المشترين. - لقد فكرت فيهم فعلا. - إبراهيم أفندي جندية ومن؟ - أنا لا أريد أن أبيع للشخص الواحد أكثر من خمسة أفدنة. - كلام معقول. - طبعا سأبيع خمسة أفدنة لوالي قطب. - طبعا هذا واحد منا. - وما رأيك في الاثنين الآخرين؟ - موجودان. - من؟ - ما رأيك في الشيخ متولي وبلال أفندي؟ - ونعم. - على بركة الله. - على بركة الله.
وتم البيع الصوري لكل هؤلاء فعلا، ولكن استمر عبد الهادي يزرع حتى توفي. وحين ورث سعدون الأرض ظل الأمر على ما كان أيام أبيه، ولم يجد هارون أيه صعوبة في تسلم الأفدنة السبعين كاملة بما فيها العشرون فدانا المبيعة بيعا صوريا. •••
أما الحاج حامد بركات والد هارون فكان لا يملك إلا بيتا في عابدين وأربعين فدانا، وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي الأول باع أرضه كلها لابنه هارون حتى يعفيه من ضريبة التركات. وكان هارون في ذلك الحين قد ترك الدراسة وبقي في الأرض يفلحها ويحاول أن يسدد الديون المتراكمة عليها لبنك التسليف. ولم يكن الأمر سهلا، ولكنه بذكائه الشديد استطاع أن يجعل أموره تسير. وكان هارون في ذلك الحين في الخامسة والعشرين من عمره، ولكن درايته بإدارة السلفيات وتأجيلها والحصول على سلفة جديدة لتسديد سلفة قديمة حل موعدها، كانت دارية واسعة مكنته ومكنت أباه وأمه أن يعيشوا عيشة ميسرة. وحين تمكن من عقد صفقته مع سعدون أحس أنه على أبواب الغنى الذي يسعى له سعيا حثيثا، لا يرده عنه شيء، ولا يقف في سبيل وصوله إليه حائل، مهما يكن هذا الحائل متصلا بالنزاهة أو غيرها.
الفصل الثالث
دق جرس التليفون في بيت الحاج حامد بركات وكان المتحدث سعدون عبد الهادي، وسأل عن هارون. وأمسك هارون سماعة التليفون ليسمع صوت سعدون: كيف أنت يا هارون بك؟ - مرحبا. - هل تنوي المجيء إلى القاهرة قريبا؟ - أنا تحت أمرك. - أريد أن أراك في أمر يهمك. - أجيء إليك باكرا إن شاء الله. - نتغدى معا. - وهو كذلك. •••
على الغداء كانت المائدة معدة إعدادا أنيقا، وتحلق حولها أسرة سعدون وفية هانم وحميدة ووجيدة.
كان هارون يفكر تفكيرا جادا في الزواج.
وكان يعرف أن لسعدون بنتين، ولكنه لم يكن رآهما من قبل.
وكانت حميدة مقبولة السمات لا هي بالجميلة الباذخة الجمال، ولا هي أيضا على شيء مما يعاب في وجوه الفتيات، وكذلك كانت أختها. إلا أن حميدة كانت ذات شعر أسود داكن منساب تجيد التعامل معه، وتجعل منه وسيلة من الوسائل التي يكسب بها الفتيات وجوههن جمالا ورقة وعذوبة. وقد كانت حميدة وادعة، فيها طيبة وهدوء طبع، كما كانت أختها كذلك. وربما كان لشعور الفتاتين بما يدمنه أبوهما من شرب الخمر أثر في جعلهما تشعران ببعض الأسى الذي يلون هذا الهدوء، ويجعل فيه رضا بما قسمه الله لهما.
وإن لهارون عينا نافذة ظلت تنتقل بين الفتاتين في ذكاء ودهاء، حريصا دائما ألا يشعر الوالدان أو الفتاتان أنه ينعم النظر فيهما.
كان هارون فتى أقرب إلى الطول منه إلى القصر، وكان شعر رأسه مرجلا، ولم يكن بالشعر الكث، واسع الجبهة، ضامر الخدين، له ذقن مدبب، وأنف ووجه أقرب إلى الطول منه إلى الاستدارة. وكان من أولئك الناس الذين يستطيعون أن ينفذوا إلى الذين يلاقونهم بابتسامة ثابتة لا تترك فمه، ومع ذلك يستطيع أن يشيع فيها الحياة بما له من موهبة قادرة على إرضاء جميع الناس، والتلطف في الحديث إليهم، ومعرفة مواضيع الحوار القريبة إلى نفوسهم. بل وبمقدرة فائقة على الوصول في لمحة خاطفة إلى المكامن الخفية في نفوس محدثيه التي تجعلهم سعداء راضين عن أنفسهم وعنه كل الرضاء.
وانتهى الغداء وانصرفت الفتاتان، وخلا المكان بهارون وسعدون ووفية هانم.
ونظر سعدون إلى زوجته وقال: تتكلمين أنت أم أتكلم أنا؟
وفي ذكاء لماح قال هارون: إن كان لي رأي، أنا أرى أن صوت السيدات أجمل بكثير من صوت الرجال.
وقال سعدون مستجيبا لتظرف هارون: إذن قضي الأمر، تكلمي يا ستي.
وقالت وفية على استحياء: يعني يا هارون بك تأخذ أرض زوجي وتترك أرضي؟ - والله أحببت أن أجرب الأمر في أرض سعدون بك أولا. - ولماذا لا تجرب في أرضنا معا. - أنا أعرف أن عطا الله أفندي والحاج وافي يزرعان الأرض ويقدمان ريعها كاملا إليك. - الحقيقة أنا لا أشكو منهما شيئا فكلاهما رجل أمين، ولكنهما يزرعان الأرض زراعة تقليدية، وطبعا كثر خيرهما فهما لا يكسبان مني شيئا، إنما شعورهما أنهما ليسا مالكين ولا حتى مستأجرين يجعلهما خائفين من التعامل مع الأرض. - أنا أعرف أن الأرض ليست مؤجرة. - هذا صحيح، إنها ليست مؤجرة. - لا تنسي يا هانم أن عطا الله أفندي والحاج وافي مع ما هو مشهور عنهما من أمانة، يكسبان من الأرض مكسبا كبيرا. - أترى ذلك؟ - يكسبان الوجاهة، وشعور الناس بالحاجة إليهما. - والله، جايز. - بل مؤكد، وأظنك تأخذين من كل منهما ألفا وخمسمائة جنيه كل عام.
قال سعدون: حتى هذه تعرفها؟
وقالت وفية: فعلا.
قال هارون: أيرضيك أن أدفع إليك في الأرض كلها أربعة آلاف جنيه؟ - على بركة الله. - وسأوقع العقدين مع عطا الله أفندي والحاج وافي. - وهو كذلك، ونحن سنبلغهما أن يسلماها إليك. - على بركة الله.
الفصل الرابع
جلس هارون إلى والده وأمه وهما يشربان قهوة الصباح، وقال الحاج حامد: هيه يا هارون، ماذا تنوي أن تزرع أرض سعدون وزوجته؟ - والله يا أبي لم أقرر بعد. أبحث في فكرة زراعة موالح. - ربنا يوفقك يا ابني. - المهم أريد أن أقول لكما شيئا أعتقد أنكما ستفرحان له.
وقال أبوه: هيه هل آن الأوان؟
وقالت الأم في فرحة: أخيرا نويت؟
وضحك هارون مقهقها وهو يقول: وهل قلت شيئا؟
وقال الحاج حامد: بل قلت كل شيء.
وقال هارون: إذن موافقان؟
وقال الحاج: على الزواج نعم، ولكن ألا تخبرنا من العروس؟
قال هارون: حسبتك عرفتها؟
وقالت الأم: حميدة بنت سعدون عمارة.
وضحك هارون: وكيف عرفتها؟
وقال الحاج حامد في ظرف وابتسامة: المسألة لا تحتاج إلى ذكاء. - وما رأيك يا أبويا؟ - والله لا عيب فيها إلا إدمان أبيها للخمر.
وقالت الحاجة توحيدة: ونحن ما لنا وما له؟
وقال الحاج حامد: توكل على الله، إن سعدون صديقي وحبيبي منذ سنوات.
وشدت الأم ابنها فقام من مجلسه، واحتضنته أمه في سعادة غامرة ودموع من الفرح تترقرق في عينيها: ألف مبروك يا بني، ألف مبروك يا هارون.
وقال هارون: على مهلك يا أمي، ألا نعرف أولا إن كانت عائلة سعدون موافقة أم لا؟
قالت الأم: لا، من هذه الجهة لا يكن عندك فكر. طبعا موافقة.
وقال هارون: متى تستطيعان السفر إلى القاهرة؟
وقال الحاج حامد: إن شئت قمنا معك الآن.
وقال هارون: لا ليس إلى هذا الحد. نكلمهم أولا ونتفق على موعد.
وقال الحاج حامد: وهو كذلك. •••
إن للفتيات في سن حميدة ووجيدة حاسة سادسة يدركن بها أن هناك نظرة نافذة تحيط بهن، وتتعرف ما يحاولن أن يخفينه من أعماق نفوسهن.
وبهذه الحاسة لم يخف عن حميدة ووجيدة النظرات المتلصصة التي كان يختلسها هارون طوال فترة الغداء.
وأدركت حميدة أنها أقرب إلى اختياره من وجيدة: كانت نظراته إلي أكثر تعمقا. والله لا بأس به، ربما كان أكبر مني قليلا ولكنه مناسب على أيه حال، وأحسب أنني أستطيع أن أطمئن إلى حياتي وأنا زوجة له. وأنا - والحمد لله - لا أحب أحدا بذاته، وإن كان توفيق قريبنا الذي لا أعرف درجة قرابته لي يحاول أن يشعرني باهتمامه بي، إلا أنني لا أرتاح إليه. إنه لا يعرف شيئا عن مشاعر الحب التي يحاول أن يتخفى وراءها بالنظرات التي أحس فيها بالكذب، والكلمات التي أشعر فيها بالاصطناع الذي يفشل أن يخفيه.
وأحسب أن توفيق بلا مشاعر على الإطلاق. وأرى أيضا أن هارون بلا مشاعر على الإطلاق، ولكنه لا شك ذو عقل واع رصين تجربته أكبر من سنه بكثير. ثم هو ليس فقيرا فقر توفيق، فإن كان يفكر في مال أبي وأمي فليزيد هذا المال، فليس هناك ما يدعوه أن ينهبه. أما توفيق فشاب ما زال في نزق الشباب، وليس بعيدا حين يخلص هذا المال إلي بعد عمر طويل أن ينهبه توفيق لينفقه على ملذات الشباب، الأمر الذي لا أخشاه مطلقا من هارون؛ فواضح أن هارون كلف بالثروة ولوع بالغنى. ولا بأس على أن يكون زوجي، فأغلب الأمر أنه سيجعلني سعيدة في حياتي، وأنه سيجعل حياتي هذه بلا مشاكل على الإطلاق. وأنا أعرف نفسي وأعرف أنني أحب أن أحيا حياة راضية، وإن كنت أحب الأشياء النفيسة، فلا يستطيع أحد أن يلبي هذه الرغبات التي تزخر بها نفسي إلا رجل غني، وواضح أن هارون سيصبح ذلك الغني الذي يتمنى لنفسه أن يكونه.
أما وجيدة فقد أحست بنظرات هارون: واضح أنه اختار حميدة؛ فأنا وحميدة متقاربتان في الجمال. وطبيعي ما دام الأمر كذلك أن يختار الكبرى ما دام الاختيار قائما على العقل وحده، فما رآني ولا رأى حميدة قبل اليوم، وليس في شيء يجعله يفضلني على حميدة.
وفيم العجلة؟ فكما وجدت حميدة هارون، أو كما وجد هارون حميدة، فالطبيعي والمعقول أن أجد من يجدني أنا أيضا، فهنيئا لحميدة بهارون، وهنيئا لهارون بحميدة. •••
لم يدهش سعدون ولا دهشت وفية حين دق جرس التليفون في منزلهما وكان المتحدث الحاج حامد بركات؛ فكلاهما لم يغرب عنه سرعة اقتناع هارون أن يتولى أرض وفية كما تولى أرض سعدون، ورأيا في ذلك دلالة على أنه انتوى شيئا، ولم تستطع وفية أن تكتم ما جاش في صدرها: أتراهنني أنه ينوي أن يخطب واحدة من البنتين؟ - لا، لا أراهنك فهذا أمر محتمل. وما رأيك؟ - والله الرجل لا عيب فيه. - ربما كان أذكى مما ينبغي. - وهل هذا عيب؟ - أحيانا كثيرة يكون الذكاء المفرط شرا من الغباء. - ما هذا الكلام؟ - عيب الأذكياء أنهم لا يقدرون ذكاء الآخرين فيقعون في مشاكل لا حد لها. - ما هذه الفلسفة؟ - تعلمتها من تجاربي مع الناس، ومن كثرة ما قرأت. - أهذا عيبه في نظرك؟ - وهو يتعجل الغنى. - الله يبارك له. - عيب هؤلاء أنهم لا يذكرون الله كثيرا ولا يعنيهم أن يرضوه. - يا أخي قل هذا الكلام لنفسك! - الله يعلم ما بيني وبينه، أما إن كنت تقصدين الخمرة فعقوبتها ستون جلدة، وأنا عامل حسابي أن يجلدني الملائكة الجلدات الستين، ثم سيكون كتابي بعد هذا في يميني إن شاء الله. - عيني عليك باردة، أنت مرتب كل أمورك مع ربك. - حسبي أني لا أوذي أحدا. - بل أنت تؤذي أهم إنسان بالنسبة لك. - من هذا؟ - نفسك. أنت تحطم كبدك، والذي لا يحافظ على نفسه لا يستطيع على أن يحافظ على الناس. - المرض والموت من عند الله. - سبحانه من عنده كل شيء، ولكن الإنسان لا ينتحر ثم يقول الموت من عند الله، هذا كفر. - الكفر والإيمان الله وحده يعلمه. - ألا تخشى أن تعتدي على أحد وأنت سكران؟ - أنا لا أشرب إلا بعد أن أصلي العشاء، وكل الذين حولي سكارى والحمد لله، والسكران يفهم السكران الآخر ولا يغضب منه. - عجيبة! إننا نسمع كل يوم عن السكران الذي قتل، والسكران الذي بطح. - أتظنين أنني يمكن أن أقتل أو أبطح؟ - المهم هل معنى هذا أن نرفض هارون؟ - أنا لم أقل نرفضه، ولكن فقط أذكر لك عيوبه، وأدعو الله أن يقيه شر نفسه ولهفته على جمع المال. - ولمن سيكون هذا المال، أليس لابنتك وأحفادك؟ - يا وفية المهم ليس المال، إنما المهم كيف نجمع هذا المال. - أيسرق؟ - إذا تأكد أن أحدا لن يكشف سرقته. وهناك وسائل كثيرة لجمع المال عند المنهوم، السرقة واحدة منها. - اترك المستقبل لله. - كان التليفون الذي دقه في منزلهم الحاج حامد يوم السبت، وتواعدوا على أن يتناول الحاج حامد وأسرته الغداء في بيتهم يوم الإثنين. •••
قال حامد: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، أنا يا سعدون بك أملك أربعين فدانا وبيتا في المنيرة، ولذلك لم تنل مني الثورة سهما واحدا. وأنا وأنت أصدقاء منذ زمن بعيد. - نحمد الله ونشكر فضله. - منذ أول قانون بعت الأرض بعقد مسجل في الشهر العقاري لهارون ابني، ولم يبق على ذمتي شيء إلا البيت. وهارون هو الذي ينفق علي أنا وأمه، ونحن مطالبنا لا تزيد على اللقمة والهدمة وفنجان القهوة. - أطال الله عمرك. - ونريد أن نزوج هارون. - على بركة الله. - مد يدك واقرأ معي الفاتحة على خطبة حميدة لهارون. - على بركة الله، ولكن ألا ترى أن نسألها؟ - طبعا، قم فاسألها. - قد تطلب مهلة. - المهلة تكون حين تريد أسرة الخطيبة أن تسأل عن أسرة الخاطب، وهذا لا داعي له بيننا؛ فكل منا يعرف عن الآخر كل شيء.
ولأول مرة يتدخل هارون قائلا: يا أبي لا تحرج سعدون بك.
وقالت وفية: لا يا هارون، ليس هناك أي حرج، وإن كان على السؤال فسأقوم أنا وأسألها الآن.
وقال الحاج حامد: توكلي على الله.
وقامت وفية وعادت وعلى وجهها إشراق الأم حين تفرح بابنتها وقالت: اقرأ الفاتحة يا سعدون على بركة الله.
وما هو إلا شهر وبعض شهر حتى تم الزواج.
الفصل الخامس
كان الحاج حامد قد اشترى بيته بالمنيرة أيام الحرب العالمية الثانية، وكان يقيم به أوقاتا كثيرة، إلا أنه أخيرا فضل أن يقيم ببيته في قريته الحمايدة ولا يترك الريف؛ فقد كان أصدقاؤه في القاهرة أغلبهم قد اشتغل بهموم الدنيا التي تكاثرت بعد الثورة، فوجد أن في إقامته بالحمايدة ما يعينه على قطع الوقت مع أهل البلد الذين يزورونه، وفي لعب النرد مع بعضهم وأغلب القاصدين إليه.
وربما كان مختار عمر أكثر الزائرين له انتظاما في الزيارة. ومختار عمر مدرس ابتدائي أحب الحاج حامد وأنس إليه، وكان يلعب معه النرد أحيانا، حتى إذا ملاها جرى بينهما الحديث تعليقا على ما جاء في الصحف، أو تعليقا على ما يحدث في القرية أو في القرى المجاورة. وكان مختار يزور الحاج حامد في الصباح حين ينتهي من دروس المدرسة، ويتركه وقت الغداء ليعود إليه بعد القيلولة ليستأنفا ما انقطع من حديث الصباح أو الظهيرة. وكان هناك زائرون كثر للحاج حامد، فهو يحظى بين أهل الحمايدة بالحب والتقدير؛ فقد كان رجلا سمحا في معاملته للناس، حريصا أن يرضي الجميع، وكان يعين الناس على قضاء حوائجهم. وكانوا يعرفون أنه ليس ذا ثراء؛ فلم يكن أحد يطلب إليه أن يعينه بمال، هبة كان هذا المال أو كان قرضا. وكان منتداه في الصيف حديقة غير معتنى بها، ولكنها تقع من البيت في مكان ظليل بجوار جدار البيت. وكان هذا المنتدى في الشتاء قاعة واسعة داخل البيت، نظيفة الأثاث في غير أناقة. وهكذا تيسرت له الحياة. وكان هارون بارا به، يراعي دائما أن يجعله هو ووالدته في غير حاجة إلى شيء. وكان إلى ذلك الحين يلبي أية رغبة لهما حتى وإن لم يبدياها، رغم أنه كان يجهد كل الجهد في الحصول على المال لكثرة الدين. وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي كان الحاج حامد يزرع فدادينه الأربعين كلها، ولم يكن ماهرا في الزراعة؛ ولهذا أصبحت الأرض مدينة لبنك التسليف بدين ليس هينا، وإن كان لا يستغرق الأرض كلها.
وقد أدرك هارون أنه لا يصلح للتعليم في سن باكرة، ولم يكن أبوه حريصا على إرغامه أن يكمل تعليمه؛ فقد كان قد تبين فيه هوايته الشديدة للزراعة، وارتأى أن إشرافه على الأرض سيكون خيرا له من الشهادة، خاصة وأنه يتعثر دائما في دراسته، كما يتعثر أبوه في زراعته.
ترك التعليم وهو في الثالثة الثانوية، وكانت حتى ذلك الحين تعادل الأولى الثانوية الآن. وبطبيعة الحال لم يتول شأن الأرض منذ بقائه بالبيت، وإنما ظلت الأرض تحت رعاية أبيه. وحين صدر قانون الإصلاح الزراعي كان هارون هو فعلا الذي يرعى الأرض ويعامل بنك التسليف، وما كان على أبيه إلا التوقيع حين يطلب إليه هارون هذا التوقيع.
فحين صدر القانون خشي الحاج حامد أن تصدر قوانين أخرى. ولحسن حظه أو حظ هارون - إن شئت - أنه لم يكن يؤجر الأرض، ولا كان يشارك الفلاحين بالمزارعة فيها، وإنما كان يزرعها جميعا لحسابه، وكذلك فعل هارون حين استقل بالإشراف على الأرض.
كان هارون قد شغلته الأرض ورغبة الغنى حتى عن نفسه، وخاصة أن حالة الزراعة في الفترة التي أعقبت القانون وما استتبعه من إجراءات جديدة في بنك التسليف، وهبوط أسعار المحاصيل، كل ذلك جعله ذاهلا عن كل شيء، إلا أن يواجه هذا الطوفان الجديد، وإن لم يكن خاضعا لأهوال هذا الطوفان.
وهكذا لم يفكر في الزواج إلا بعد ذلك بسنوات، وربما كان لقاؤه بحميدة هو الذي جعله يتذكر أنه لم يتزوج بعد، وأنه قد آن له أن يفعل. وما كان إلحاح أمه عنده إلا كلمة عابرة تلتقطها منه أذن وتفلتها منها الأذن الأخرى. وحين تزوج كانت الليلة الأولى موقفا صعبا بالنسبة إليه وإلى حميدة في وقت معا؛ فهو مع خبرته الواسعة في معاملة الحياة والناس لم يتعود أن يعامل النساء إلا في نزوات عابرة كانت تتم في الليالي التي يقضيها بالقاهرة. أما حميدة فموقفها موقف الفتاة الشريفة التي عاشت عمرها كله في بيت أبيها، ولا تعرف عن الرجال إلا ما كان زميلاتها في المدرسة يتهامسن به تهامسا خاطفا لا يكون تجربة ولا يقدم علما، خاصة وأنها تركت المدرسة في سن مبكرة. وكانت الليلة الأولى في بيت المنيرة؛ فقد استقر الرأي أن يقضوا فيه الأيام التالية للزواج.
وحين خلت بهما الحجرة: شرفت منزلك. - شكرا. - إن شاء الله سأعمل على أن تكوني سعيدة دائما ولا تحملي هما. - أتوقع هذا منك. - وما الذي جعلك تتوقعينه؟ - الذي سمعته عنك والذي رأيته فيك. - وماذا سمعت؟ - أنك حملت مسئولية بيتك وأنت في سن صغيرة، وأنك جاد في حياتك، وأنك قادر على جعل الناس يحبونك. - الحمد لله! وما الذي رأيته في؟ - رأيتك في لقائي الوحيد بك تزن الكلام قبل أن تقوله، وتأبى أن تقول كلاما إلا إذا كان له معنى. - أرجو الله أن تكون حياتي معك محققة لهذه الآراء. - إن شاء الله. - قولي لي. - أقول لك. - هل تحبين البقاء في هذا البيت الكبير، أم نجعل الإقامة الأساسية لنا في البلد؟ فقد قال لي والدك مرة إنكم تحبون أن تقضوا في الريف بضعة أيام من حين إلى آخر. - هذا صحيح. - ثم إنك في البلد ستجدين أمي وأبي معك دائما، وهنا ستكونين وحدك في فترات طويلة، فأنت تعرفين أن دخلنا الأساسي من الزراعة، ولا بد لي أن أكون قريبا من الأرض أغلب الوقت. - واضح أنك تريدني أن أقيم في البلد؟ - ذكاء توقعته منك. - أنا أواجه حياة جديدة، وأريد أن يكون أساس معاملتي لك الصراحة والصدق. - أحب هذا. - ولو أنك لا تفعله.
وقهقه هارون وهو يقول: وكيف عرفت هذا أيضا؟ - واضح أنك بارع في الدوران بالحديث، وأن لك قدرة على أن تجعل الرغبة التي في نفسك تعرض عليك من الذي تحدثه، فيبدو الأمر كأنه عرض منه هو لا رغبة في نفسك أنت.
وقهقه مرة أخرى وهو يقول: واضح أنك تحاولين في ذكاء شديد أن تحللي كل جانب من جوانب نفسي. - أنت منذ اليوم المحور الذي تدور عليه حياتي كلها. - وأنت أيضا. - أشكرك، ولكن هذا مستحيل؛ فإن لك مشاغلك في الزراعة وزيادة دخلك ومعاملة الناس، فأنا قد أمثل جانبا هاما في حياتك، في حين تمثل أنت حياتي كلها. - ولكن كل هذه المحاور التي قد تشغلني الهدف منها أن تجعل حياتنا سعيدة. - إن الرغبة في الغنى أغلب الأمر تكون غريزة في النفس، وإن كانت تحاول أن تبحث لنفسها عن مبررات أخرى. - ماذا قرأت من كتب؟ - لا أخفي عليك أني أحب القراءة والروايات، بالذات العربية، والأجنبية الفرنسية بالذات؛ فقد كنت في مدرسة فرنسية إلى السنة الثانية الثانوية. - أعرف، وواضح أن ثقافتك أكبر بكثير مما حصلته في المدرسة. - وماذا تقرأ أنت؟ - أنا كما تعرفين لم أكن تلميذا مجدا ... - هذا لا شأن له بالقراءة. - أحب أن أقرأ في الاقتصاد. - طبعا. - ولا أخفي عنك أن قراءتي فيه تجعلني حين أتحدث إلى أساتذة الاقتصاد الكبار أفهم لغتهم كل الفهم. - مؤكد، وأغلب الأمر أنك تجادلهم مجادلة الند للند. - الحقيقة لا أشعر أنهم يعرفون شيئا لا أعرفه. - ليس هذا بغريب عليك، فما دمت تقرأ في الاقتصاد فأنت مثلهم في العلم النظري، وتزيد عليهم في الممارسة العملية. - إنك ماهرة جدا في الحديث. لقد استطعت أن تبعدي بنا عن سؤالي الأول ولو أنني أحسب أنني عرفت الإجابة. - لا شك أنك عرفتها. - لك ما شئت، فلتقيمي إذن في القاهرة. - ولكن هذا لا يمنع أن أرافقك إلى البلدة حين ترغب في ذلك. - اتفقنا. •••
توثقت الصداقة بين سعدون والحاج حامد، فكان الحاج حامد يحرص كل الحرص أن يزور سعدون كلما جاء إلى زيارة زوجة ابنه. وكان سعدون يأنس إلى الحاج حامد، وكان يكثر من زيارته في البلدة، ويعود في نفس اليوم حتى لا تفوته جلسة المقهى.
وجرت الحياة رخاء في الأسرة الصغيرة الجديدة، وفي الأسرتين الأخريين اللتين جمعهما النسب الجديد.
وشاء الله أن يكون زواج هارون خيرا وبركة على بيت سعدون؛ فلم تمض إلا شهور ثلاثة حتى تقدم لخطبة وجيدة أستاذ بدرجة مدرس في كلية الحقوق يملك أبواه حوالي عشرين فدانا وهو ابنهما الوحيد، هو أيضا شأن هارون في عائلة حامد. ولم يكن العريس أمجد حماد قد رأى العروس، فدبرت تحية هانم الأحمدي واسطة العريس اللقاء، ورضي كل من العروسين عن الآخر. وتم الزواج بعد شهرين من الخطبة، وسكن الزوجان حي الجيزة ليكون الزوج قريبا من الجامعة. ولم تمر سنة حتى رزقا بهناء، ثم مرت سنة أخرى ورزقا بأيمن.
الفصل السادس
ما هذا الذي حدث؟! كيف استطاع هارون أن يجحد فضل أبويه هذا الجحود؟ لقد أصبح لا يزورهما إلا في القليل النادر، حتى إنه كان يزور القرية ويمر بالأرض ولا يلقى والديه، وإنما يذهب إلى مزارعه الأخرى.
ربما زارهما مرة في الشهر، أو قد يمر شهران أو أكثر ولا يراهما! وكأنما كان الحاج حامد يتوقع هذا، ولكن الحاجة توحيدة كانت تعيسة بهذا التجاهل من ابنها تعاسة فاجعة.
وكان هارون قد دأب أن يسهر مع حميه سعدون، ولكنه كان لا يشرب معه إلا في القليل النادر. وفي هذه السهرات تعرف على عبد المجيد زين الدين، وكان زين الدين مشهورا أنه من كبار الأغنياء. وفي ليلة سأل هارون: ماذا تزرع يا هارون؟ - أحاول زراعة الموالح. - تحتاج إلى صبر طويل وإنفاق كبير وخبرة عميقة. - وماذا ترى سعادتك؟ - أتعرف مكتبي في شارع قصر النيل رقم 14. - عظيم. - تمر علي غدا الساعة الثانية عشرة.
قال له في المكتب: عندي لك زراعة تكسب منها مبالغ خيالية. - خيرا؟ - الأعشاب الطبية. - سمعت عنها، ولكن كيف أبيعها؟ - هذا عملي؛ فإني متعاقد مع شركات أجنبية، وإني سأشتري منك المحاصيل كلها، وسأدلك على محلات التقاوي وكيفية الزراعة، وأدفع لك مقدم ثمن المحصول حتى لا تتكلف أنت وحدك الإنفاق عليها. وتستطيع أن تبقي في نفس الوقت على أشجار البرتقال. - شيء عظيم. - نكتب عقدا؟ - عشرة عقود إذا أردت. - سنكتب عقدا واحدا على أربعة أنواع من الأعشاب، وبعد أن تجرب الزراعة نزيد العقود إن شاء الله. - وهو كذلك.
وكانت فاتحة خير عميم على هارون؛ فقد بدأ يزرع هذه الأعشاب وبرع في زراعتها براعة فائقة، واستطاع أن يبقي أشجار الموالح في الأرض، وكسب آلافا من الجنيهات. •••
ومرت سنوات ازدادت فيها ثروة هارون زيادة فائقة، وأنجب في خلال هذه السنوات شهاب وفائق من بعده، وطبعا فرح بولديه ولكن فرحه بالمكاسب كان أكبر. وكانت حياته في البيت هادئة مطمئنة، ولم يكن ازدياد ثروته مفاجأة لحميدة؛ فقد كانت تعرف رغبته العارمة في الغنى والاستكثار من الأموال. •••
لم يكتف هارون بالمكاسب التي كانت تدرها عليه عقوده مع مكتب عبد المجيد زين الدين، فتاقت نفسه إلى مكاسب أعظم، حتى وإن ضحى بمن كان سببا في هذا الغنى الذي بلغه؛ فراح يغدق المال على رفعت فواز سكرتير عبد المجيد زين الدين، وقد كان مثله شرها للمال. وفي يوم: - قل لي يا رفعت. - تحت أمرك يا هارون بك. - لو طلبت منك شيئا؟ - لا أتأخر. - أسماء الشركات التي يتعامل معها عبد المجيد زين الدين في الخارج. - آه، وماذا تصنع بها؟ - مجرد علم. - هارون بك أنت رجل ذكي، فأرجوك لا تظن أن الآخرين أغبياء. - أعطيك عن اسم كل شركة خمسمائة جنيه. - ألف. - ألف.
وعرف الأسماء وعناوينها، وسافر إليها، واستطاع في سهولة أن يغري الشركات بالتعاقد معه على أن يكون وكيلها في مصر وفي الشرق الأوسط كله، وقد كان واثقا من نجاح عروضه؛ لأن الأسعار التي قدمها كان فيها للشركة أرباح أكبر مما يحققه لها عبد المجيد زين الدين.
ولم يهم هارون أنه قطع مورد الرزق الوحيد الذي كان يعيش عليه عبد المجيد زين الدين، ولم يهمه أيضا أن الحياة سترغمه على لقائه؛ فعند المال كل شيء مباح، وكل شيء يهون.
كان لقاؤه بعبد المجيد زين الدين في المقهى مع سعدون. ولم يقل عبد المجيد شيئا أول الأمر، حتى إذا شرب كأسه الثالثة وسرت حمياه في دمائه.
نظر إلى سعدون: سعدون. - أفندم؟ - أهنئك. - خير إن شاء الله. - لقد زوجت ابنتك الكبرى لأسفل رجل في العالم. - أعوذ بالله لماذا هذا؟
وقال هارون: لا عليك يا عمي؛ فإن الخسارة مؤلمة.
فقال سعدون: هل تسببت في خسارته؟
وقال عبد المجيد: خسارة هينة. خرب بيتي تماما.
وقال سعدون: لا حول ولا قوة إلا بالله! لماذا يا هارون؟ لماذا يا ابني أنت غير محتاج.
وقال هارون في تحد وصلافة وجمود وجه: السوق لا يعرف إلا من يفهمه.
وقال عبد المجيد في ثورة مكبوتة: بلا شرف؟ - هذه ألفاظ لا شأن لها بالسوق.
وقال سعدون: بل التجارة شرف يا ابني. لا حول ولا قوة إلا بالله!
وقال هارون لينهي المناقشة: أستأذن أنا ... سلام عليكم.
وقال عبد المجيد: الله يخرب بيتك كما خربت بيتي ... مع السلامة. ولماذا السلامة؟ مع الموت والخراب إن شاء الله.
وانصرف هارون، وتجهم المجلس، وقال سعدون: لا علينا، نعود إلى ما كنا فيه.
وعندما حان انصرافهم همس سعدون في أذن عبد المجيد: أنت بكرة في المكتب؟ - إن شاء الله. - انتظرني الساعة الثانية عشرة. - أهلا وسهلا.
سعدون في طبيعته هادئ خجول، ولعل كثرة قراءته زادت من خجله هذا.
لا يزول عنه خجله إلا حين يشرب. وكان في مجلسه من عبد المجيد أسيفا يكاد الحياء يرتج شفتيه، ولكنه كان مصمما أن يقول ما يريد قوله: أنا آسف. - وأنت ما ذنبك؟ - علي الأقل عرفته عن طريقي. - كان يمكن أن أعرفه عن طريق أي إنسان. - على كل حال أنا أشعر كأنني أنا المذنب. - الأمر لله. - أنا لا أستطيع أن أعوضك عن الخسارة التي لحقت بك، ولكنني أرى من واجبي أن أخفف وقعها عليك. - أنا شاكر مشاعرك على كل حال. - المشاعر في هذه المواقف لا تعني شيئا. - لا يملك الناس غيرها. - عبد المجيد، لك عندي في كل شهر مائتا جنيه. كنت أتمنى أن أقدم لك أكثر ولكن ... - ما هذا الذي تقول؟! - ما سمعت. - وكيف أقبل؟ - لتفكر أولا كيف تعيش مستورا.
وصمت عبد المجيد وأطرق، ولم يستطع أن يرد دمعتين تحدرتا على وجنتيه. - لا أستطيع في حالتي التي أنا عليها اليوم أن أمتنع، فإن تكن كرامتي ترفض فحاجتي تلح. - أخوك ويقف إلى جانبك. - ونعم الأخ! - سلام عليكم. - مع ألف سلامة مع الشكر ... لا أستطيع ...
واختنق مرة أخرى بالبكاء. - السلام عليكم. •••
ولم يقل سعدون شيئا لهارون عما صنعه مع عبد المجيد، فكان شأن هارون عجيبا معه؛ فقد زاد من المبالغ التي كان متفقا عليها معه ومع حماته دون أن يطلب ذلك؛ ربما لأنه كان يعلم أن إباحة الأرض له ليزرعها قائمة على توكيل من صاحبي الأرض الصوريين، فكان في مقدور سعدون وزوجته أن يأمرا عطا الله أفندي والحاج وافي بأن يسقطا التوكيل عن هارون كما يسقطه عنه سعدون نفسه. وإذا فقد هارون هذه الأرض فإنه يفقد شيئا ليس هينا، ولو أنه استولى بنفس الطريقة على أرض أخرى كثيرة، أصحابها يقيمون بعيدا عنها ولا قدرة لهم على مواجهة الزراعة، ولكن مساحة الأرض المتاحة له من حميه وحماته ليست بالشيء القليل، وهو أيضا حريص ألا يسيء إلى بيته، ولا ينغصه من ناحيته منغص. فلو أن حماته وحماه لم يرضيا عنه لأثار هذا ما لا يحب له أن يثور من مشاكل في بيته.
أما أبوه وأمه فلا يستطيعان أن يثيرا مشاكل فبخل عليهما بخلا شديدا؛ فكانت تمر شهور لا يرسل إليهما مالا مع علمه أن لأبيه ريع أرضه التي استولى عليها، وله أيضا بيته الذي يقيم فيه، وإن يكن قد جمل بيت أبيه هذا وأثثه بأفخر الفراش، إلا أنه يظل مع ذلك بيت أبيه.
الوحيد الذي كان يزور حامد وزوجته من القاهرة هو سعدون، وقد أصبح يصحب حفيديه شهاب وفائق ليزورا جديهما ويمرحا في القرية في كل يوم جمعة. وأنس الطفلان إلى الجدين أنسا شديدا. وكان المال الذي يرسله إليهما هارون كلما تذكرهما لا يكاد يفي بما يحتاجان إليه من طعام وملبس ودواء، فكانا في ضيق مالي شديد لم يخف أمره على سعدون، وكان حائرا ماذا يستطيع أن يفعل إلا أن يأتي في كل أسبوع بهدية كبيرة نافعة للأبوين المهجورين، فأحيانا يأتي لهما بطعام وفير، أو يأتي لهما بملابس، وكان يقبلانها في إذعان يقرب إلى الذلة.
وتعرف سعدون في هذه الزيارات على أصدقاء حامد جميعا، وأنس إليهم وأحبهم. •••
مرضت الحاجة توحيدة وعادها طبيب الوحدة وهو صديق؛ فلم يقبل أن يتقاضى أجر الزيارة. ولم يكن المرض خطيرا ولكنه كان يحتاج إلى دواء على أية حال، وليس معهما ثمن الدواء، واضطر الحاج حامد كارها حزينا أن يطلب ابنه في التليفون ويخبره أن والدته مريضة. - مريضة بماذا؟ - المصران الغليظ. - بسيطة. - الحمد لله. - على كل حال سأحضر قريبا لأراها. - أهلا بك.
واستكبر الأب أن يقول لابنه أرسل الدواء، ووضع سماعة التليفون. ورأت الأم ما ارتسم على وجهه من أسى وشجن وحزن، وقامت من فراشها، وما هي إلا لحظات حتى عادت: حاج حامد. - نعم يا توحيدة. - لا تحمل الهم أبدا، خذ هذا الكردان. - حتى المصاغ القليل الذي تملكينه ستبيعينه هو أيضا؟! - بيعه خير من أن يرثه ابن لنا جحد أبويه. بعه يا حاج حامد. ما فائدة المصاغ إن لم يكن عونا عند الشدة، فما دمنا فقدنا ضمير ابننا، فلا بأس علينا أن نستعين بمصاغنا.
وأخذ الحاج حامد المصاغ، ولم يكن معه أجر السيارة إلى الزقازيق أو القطار إلى القاهرة، فراح يفكر في الأمر.
ترك الحاج توحيدة في مجلسها وخرج يخلو بنفسه في غرفة الاستقبال، ولم يتح له مختار عمر أن يخلو إلى نفسه طويلا: سلام عليكم!
وفي صوت هادئ ليس فيه رنة الترحاب التي تعودها مختار منه: أهلا. - ما لك؟ - لا شيء. - بلا هناك أشياء . أنت تحمل هما ثقيلا. - ومن فيها مرتاح يا مختار؟ - المؤمن. - نحمده؛ فبالإيمان نحتمل الحياة. - كنت مسافرا إلى القاهرة، ولكنني لا أستطيع أن أتركك على هذه الحال.
أنا كنت ذاهبا أزور الأولياء وبعض أقاربي. - كتر خيرك.
ثم وضحت في ذهنه فكرة: مختار، أنا أريدك أن تذهب إلى القاهرة. - أسافر، أسافر حتى ولو لم أكن ناويا للسفر، فما بالك وأنا أنتويه. - الحاجة عندها قطعة مصاغ تريد أن تبيعها لتشتري بثمنها قطعة أخرى رأتها عند إحدى السيدات اللائي يزرنها. - وما له.
واعتصرت قلب مختار يد قاسية كبت آثارها أن تبدو على وجهه، فما يدري هل وفق إلى ذلك أم لم يوفق، وإنما قال كلمته السريعة، ثم صمت لحظات يكتم إجهاشة بكاء تعتصر فؤاده، حتى إذا استوثق أن صوته لن يخونه قال: هاتها. - هاكها.
فأخذ الكردان ووضعه في جيبه وقام: أقوم أنا لأعود مبكرا. - مع السلامة. •••
حين نزل مختار إلى القاهرة توجه من فوره إلى الصاغة وعرض الكردان للبيع، فكان أكبر ثمن له ثلاثمائة جنيه، فأعاده إلى جيبه، وقبل أن يغادر الدكان الذي كان فيه بحث في دفتر التليفون وعثر على الرقم الذي يريده وأدار القرص به: منزل سعدون بك؟ - وجاءه صوت سعدون. - نعم أنا هو، من الطالب؟ - مختار عمر صديق الحاج حامد.
ورحب به سعدون: يا أهلا يا مرحبا! أين أنت يا مختار أفندي؟ - أنا هنا في القاهرة وأريد أن أشوفك. - يا مرحبا نتغدى معا اليوم. - أعفني من الغداء، أريد أن أرجع اليوم. - تعال أولا ثم نتكلم في موضوع الغداء. •••
وقص عليه قصة الكردان ومرض الحاجة توحيدة، وأطرق سعدون طويلا وقد تمزقت نياط قلبه: ألهذا نأتي بمن يخلفنا؟! أنهب لهم مالنا وأنفسنا ليجعلوا منا حطاما من البشر؟ وفكر كثيرا: كيف سيصل بالمال إلى حامد دون أن يعرف حامد أنه منه.
وحين طال الصمت خشي مختار أن يكون قد جاء إلى من لا يعنيه الأمر، وأنه أخطأ المقصد والمتجه فزاد حزنه، بل أضيف إليه الخجل من نفسه والأسف أنه أذاع سر صديقه بغير داع إلى ذلك، وقال: سعدون بك كأني لم أقل لك شيئا.
وأفاق سعدون من أحزانه وقال في حدة: يا أخي انتظر، أو فكر معي على الأقل! - أفكر؟! فيم أفكر؟ - ألا تدري فيم تفكر؟ - لا والله، بل ولا أدري أن المسألة تحتاج إلى تفكير. - شأنك عجيب يا مختار أفندي! - هل شأني أنا هو العجيب؟ - أم تراك تظن أنه شأني أنا هو العجيب؟ - والله نعم. أظن أن شأني أنا ليس عجيبا. صديق لك في محنة وقصدت إليك، فبدلا من أن تدفع عنه هذه المحنة تصمت؟! - وهل هي محنة واحدة؟ - الموجود حاليا محنة واحدة. - بل محن كثيرة. - كثيرة؟ - المحنة الأولى جحود ابنهما لهما. والمحنة الثانية كيف نقدم المال لهذين العظيمين؟ إنهما ليسا فقيرين من الذين تعودوا مد أيديهم للناس وابنهما من كبار أغنياء مصر. أما مسألة الكردان هذه فلا قيمة لها. - كيف؟ - سأعطيك المبلغ وآخذ الكردان، وأجعل الحفيدين يشتريان لجدتهما قطعتين من الذهب ضعفي ثمن هذا الكردان، على أن يكون ذلك بعد شهر أو أكثر، حتى لا يظنا بالهدية منهما ظنا لا نريده أن يخطر على بالهما. - نعم التفكير. - كيف نقدم لهما هذا المال بعد ذلك، تلك هي المحنة. - ونعم الأخ أنت يا سعدون بك. - قل هل عندكم مكتب بريد. - عندنا. - إذن حلت. - كيف؟ - لا شأن لك. انتظر حتى آتي لك بثمن الكردان. تقول ثلاثمائة جنيه؟ - نعم. - ولكنك تستطيع أن تقول إنك بعته بأربعمائة. - أنعم وأكرم!
ومنذ ذلك اليوم كانت تصل الحاج حامد شهريا خطابات مسجلة بمبلغ ثلاثمائة جنيه مع بطاقة باسم هارون حامد بركات. ولم يقف المبلغ عند هذا الحد، بل كان يرتفع مع زيادة الغلاء حتى بلغ بعد سنوات ستمائة جنيه في الشهر. ولم ينس في نفس الوقت عبد المجيد؛ فقد كان يزيد له المبلغ الشهري حتى يواجه الغلاء الذي يفغر فاه المتوحش على الناس.
الفصل السابع
لم يمل الحفيدان شهاب وفائق زيارة جديهما حتى بعد أن أصبحا شابين يستميلهما ما يستميل الشباب من متع وانطلاق؛ فقد كان يجدان عند جديهما وجدتهما نوعا من الرعاية والحب لا يجدانه في ظل أبيهما، وإن وجداه من أمهما.
دخل شهاب كلية الهندسة، ودخل فائق كلية التجارة، وكانا جادين في الدراسة جدا يمكنهما دائما أن يحصلا على درجة مشرفة. وكان سعار المال يزداد تحكما في والدهما يوما بعد يوم، فالأرقام لا نهاية لها، وجمع المال عند بعض الناس غريزة في ذاته، قد يدعي المسعور منهم أنه إنما يجمع الأموال لأولاده أو يجمعه ليتقي فجاءات الحياة. كذب هذا جميعه وأشباهه؛ فهارون قد أصبح من الغنى بمكان يندر أن يصل إليه أحد، وأصبح واثقا أنه يستطيع أن يواجه الحياة حتى آخر الحياة، بل إن ابنيه وزوجته أصبحوا في مأمن من ريب الفقر، بل إنهم من بعده سيصبحون من أعظم الأغنياء، وكذلك الأحفاد حين يأتي الأحفاد. ولكن هارون لا يكتفي ولا يهدأ أو يستريح؛ فجمع المال في ذاته هو حياته وكل ما يسعى له. أما ولداه فقليلا ما يراهما، ونادرا ما يعلم ماذا هما صانعان بحياتهما، وإنما يعرف خبر نجاحهما ضمن سائر الأخبار التي تلقيها إليه حميدة فيما تلقي إليه من أخبار حين يجمعه بها الليل بعد يوم طويل هو فيه دائما ملهوف على زيادة ثروته.
والذي لا يعنى بولده ليس عجيبا ألا يعنى بوالديه. قد يتذكرهما فجأة فيطلبهما في التليفون، وما داما لا يطلبان مالا في المكالمات فإنه يطمئن نفسه، بل هو لا يريد أن يسأل نفسه من أين لهما بالمال. فإن سمحت نفسه وكان في حالة نفسية مرحة أرسل إليهما بعض المال، متصورا أن فيما يرسل من حين إلى حين غاية الكفاية ليعيش والداه. في يوم من الأيام النادرة في حياة هارون جلس إلى أسرته على مائدة الغداء، وفجأة قال شهاب: أبي لماذا لا يأتي جدي وجدتي ليعيشا معنا؟
وكأنما كان السؤال لكمة أصابت رأس هارون، فصمت حينا، ثم قال: جدك له أصدقاؤه في البلدة ولا يجد السعادة في البعد عنهم، كما أنه لا يحب أن يغير بيته لا هو ولا جدتك، وقد علت بهما السن ومن الصعب أن يغيرا مكان الإقامة في سنهما هذه. وانقض عليه فائق: ولماذا لا تذهب أنت إليهما؟
وأطرق هارون حائرا في غير خجل؛ فمثله لا يعرف الخجل: يا فائق أنا لا أراكما إلا في القليل النادر، فكيف تطلب مني أن أذهب إليهما؟ - لا يمكن أن يتركا هكذا. - أنا أطلبهما بالتليفون كلما وجدت فرصة.
ويقول شهاب: لا تستطيع أن تتصور كم يفرحان حين نذهب إليهما مع جدي سعدون كل أسبوع، أو حتى حين يتخلف جدي عن الذهاب ونذهب أنا وفائق إليهما. - هذا طبيعي.
ويقول فائق: ولكني يا أبي أجد سحابة حزن تغشى وجهيهما كلما سألانا عنك.
وصمت، ثم قال في محاولة لإقفال الموضوع: الحقيقة أنا مقصر. - هل تذهب معنا يوم الجمعة القادم؟ - لا أستطيع أن أعدك الآن؛ فأنا لا أعرف مواعيدي.
وأطرق الشابان وقالت حميدة: لماذا لا تذهب يا هارون؟ إن هذا سيفرح ولديك وأبويك، بل ويفرحني أيضا فأنا مشوقة إليهما. سنوات طويلة لم نرهما. - لا أستطيع أن أعرف مواعيدي وأنا معكم في البيت. سأرى مواعيدي.
ورأى مواعيده ولم يذهب. أتراه كان يخشى اللقاء بعد هذا الجحود الطويل منه؟ ربما وإن كان هذا بعيدا عن خلقه.
كانت الحياة في بيت هارون رغدة سعيدة، فهو حريص ألا يشغل نفسه بمناقشات داخل البيت، فكل ما تطلبه حميدة أو ولداه مجاب؛ فلم يكن غريبا أن يكون لكل منهم سيارة خاصة، وأن تكون النقود في أيديهم كافية دائما لما تتوق إليه نفس أي واحد من ثلاثتهم. ولكن الثلاثة جميعا كانوا يشعرون أنهم لا يعيشون كما يعيش الناس، وأن هناك شيئا كبيرا يفتقدونه فيفقدونه. وكانوا لا يخفون هذه المشاعر عن بعضهم البعض، فكان شهاب يقول دائما: لقد حول أبونا أبوته إلى نقود واستراح.
وكان فائق يجيبه: إنه يملك المال، وكل عاطفته منصرفة إليه. أما نحن فلنأخذ ما نريد على شرط واحد، ألا نزعجه بأي أمر من أمورنا.
وتقول حميدة في محاولة لإرضاء ابنيها: وماذا تريدان؟ وماذا ينقصكما؟
ويقول شهاب دون ريث من تفكير: ينقصنا أب.
وتصيح حميدة وهي تعلم أنها على غير حق: أطال الله عمره! يعني هو مشغول كل هذا الشغل من أجل من، أليس من أجلنا؟
ويقول فائق: أبدا. إنه يعمل ليل نهار ليشبع هوايته في جمع المال.
وتقول حميدة: هل تأخر عنكما في شيء؟
ويقول شهاب: أتعرفين يا أمي أننا لولا جلوسنا مع جدنا سعدون وجدنا حامد ما عرفنا أي شيء عن الحياة ولا المبادئ ولا القيم؛ فهذه أشياء لا نتعلمها من المدارس أو الكليات، ولا يستطيع الشباب في مثل عمرنا أن يحدثونا عنها.
وتقول حميدة: والله يا بني لا يصدق عليك إلا ما يصدق على البشر كلهم. إنا أحدا منهم لا يرضى عن حاله أبدا، وكل إنسان يبحث في داخله عما يتعسه أكثر مما يبحث عما يسعده.
ويقول شهاب: أهذا رأيك؟ - وما رأيك أنت؟ - رأيي أن الحياة العامة ممارسة، ومعرفة الناس وتجاربهم ثروة أكبر من ثروة المال.
ويكمل فائق: ونحن شباب في يدنا المال، وحتى أصدقاؤنا في الكلية يتقربون إلينا لننفق عليهم فما ندري من منهم الصادق ومن المنافق.
ويقول شهاب: نحن أكثر الناس حاجة إلى أبينا كإنسان، لا كأموال.
وتقول حميدة: أجربتم القراءة؟
ويقول فائق: قليلا ما نقرأ، ولكن القراءة وحدها لا تكفي. قد تهب لنا الثقافة، ولكنها لا تهب لنا الخبرة.
ويقول شهاب: لا تعجبي يا أمي إذا ضل بنا الطريق، ووقعنا في أخطاء لا يجدي المال في تلافيها.
وبقلب الأم تصيح حميدة: يا ابني قل وغير! لا قدر الله ولا كان. - أخاف يا أمي، أرجو ألا يقدر الله، ولكن إذا ضللنا فسيكون الخطأ من طريقة عيشنا لا من شيء آخر.
الفصل الثامن
كان سعدون في بيته بجاردن سيتي الذي لم يغيره منذ زواجه، ولم يكن بحاجة أن يغيره؛ فقد كان المال وافرا عنده من ريع الأرض الذي كان يزيد زيادة فاحشة. كما أنه أصاب مبلغا يزيد على مليوني جنيه حين آلت عمارة عابدين للسقوط، وقررت الجهات المختصة إزالتها حتى لا تنقض على من بها. ورأى سعدون أن بيع أرضها خير له من إعادة بنائها. وكانت العمارة مقامة على حوالي ألف متر، وكان سعر المتر في هذه المنطقة قد تجاوز الألفي جنيه. فباع الأرض بما يزيد على مليوني جنيه؛ وبذلك أصبح موفورا في ماله السائل، كما كان موفورا بأرضه وأرض زوجته وفية الذي وصل إيجار الفدان فيها إلى ألف جنيه في العام، كان يدفعها لها هارون راضيا؛ فقد كان يكسب من الأرض أضعاف هذا المبلغ.
جاء الخادم يبلغه أن عبد المجيد زين الدين بالدور الأول يرجو أن يلقاه، فتعجب سعدون لهذه الزيارة المفاجئة؛ فقد كان لا يرى عبد المجيد إلا في أول كل شهر ليسلمه المبلغ الذي تعهد أن يقدمه إليه، والذي زاد إلى أربعمائة جنيه في السنوات الأخيرة. كان مرتديا ملابسه فنزل من فوره إلى غرفة الاستقبال في بيته: مرحبا عبد المجيد بك! - أهلا بالرجل العظيم! - وبعد لك؟ إنك دائما تخجلني. قهوتك مضبوطة أليس كذلك؟ - نعم.
وطلب سعدون القهوة لضيفه الذي ظل شبه صامت لا يتكلم، وإذا تكلم لا يتكلم إلا عن الجو والصحة وأولاده، وهذه الأحاديث لا تعني شيئا، وكلما تكلم ازدادت دهشة سعدون من هذه الزيارة التي لم يتصور أن يكون المراد منها مجرد الحديث عن الجو والصحة والأولاد. عرف من الأحاديث أن إلهام حفيدة عبد المجيد من ابنه وجدي أصبحت في السنة الثالثة من كلية التجارة، وأن حفيدة نبيل من ابنه إسماعيل في السنة الرابعة من كلية الطب، ولكن ماذا يعني هذا؟ إن هذه الأنباء نفسها ليست جديدة عليه؛ فهو على صلة شهرية في الصباح بعبد المجيد، شهرية في الصباح وتكاد تكون شبه يومية في مقهى الهيلتون الذي انتقلوا إليه بعد أن هدمت الأنجلو. وكان عبد المجيد قد أقلع عن شرب الخمر وأصبح أقرب ما يكون إلى التصوف، لكنه كان يحب الجلوس إلى من بقي من أصدقاء الأنجلو في مقهى الهيلتون، يتبادلون الحديث ويعلقون على الأحوال الاقتصادية والمالية، ويفرج المكروب عن كربه، ويترحمون على الأيام الخوالي، ويتناقلون أخبار بعضهم البعض. إنها زيارة غريبة! ماذا حدث للرجل؟ إن الزيارة المنزلية لم تصبح سمة العصر. ماذا يريد الرجل، وفيم هذا الحديث الذي لا جديد فيه؟ وشرب عبد المجيد القهوة ورشف رشفة من الماء: لا تعجب كثيرا من هذه الزيارة. - البيت بيتك وتشرف في كل وقت. - مرت حوالي عشر سنوات منذ اليوم الذي تفضلت فيه ...
وقاطعه سعدون: وبعد لك يا عبد المجيد بك! ما معنى هذا الكلام؟ - اسمعني إلى آخر حديثي. - تحت أمرك. - بعد النكبة التي أنزلها بي هارون ظللت قرابة سنتين وأنا لا مورد لي إلا ما آخذه منك. - وبعد معك؟ - اسمعني. كانت سنوات مظلمة، وكان الأولاد بالمدارس وبغير ما كانت آخذة منك الله وحده يعلم إلى أي مصير كنت سأرمى. في السنة الثالثة لاحت لي فرصة تجارية بدت في أول أمرها ضئيلة الموارد، فقلت في نفسي أبلغك وأتوقف عن أخذ المبلغ الشهري منك، ولكنني راجعت نفسي. ماذا أفعل إذا لم ينجح المشروع؟ ورأيت أن أنتظر قليلا. كان المشروع تجارة أخشاب، وكبر المشروع وأصبح المال الذي أناله منك غير ذي موضوع. لكنني فكرت قليلا، فوجدت أن المبالغ التي تعطيها لي أنت لست في حاجة إليها؛ فقد كنت أعرف أن إيجار أرضك يزيد دائما، وأنك بعت أرض عابدين فكان همي الوحيد كيف أرد لك فضلك؟ وجدت أن أحسن ما أستطيع أن أصنعه أن أستمر في أخذ المبلغ منك وأستثمره في مشروعي وكأنك شريك معي بما تقدمه لي كل شهر. واعتبرت نفسي كأني أدخر لك. - ماذا؟! - اسمع. - لا أسمع شيئا! وهل هذا معقول؟ - بل هو المعقول. في هذه الحقيبة نصف مليون جنيه، هي أرباحك التي كسبتها مما قدمته إلي في هذه السنوات.
ووقف سعدون ذاهلا وهو يصيح: ماذا تقول يا رجل؟ هذا المال نتيجة جهدك وعملك. - ولكنه مالك أنت، وكل ما فعلته أنني أشركتك معي. - وجهدك؟ - كنت سأقوم به على أية حال، سواء كان مالك أو لم يكن مالك. إنه كان يدخل ضمن إيرادي، أليس كذلك؟ - كيف أقبل هذا؟ - هذا ربح حلال، وأنت تعرف أنني الآن أؤدي الفروض جميعا، وهذا المال زكاته مدفوعة وعلم الله ليس فيه مليم من حرام. - لا يمكن أن أقبل هذا. - لقد كنت كريما وأنت تعطي، فاسمح لمن أخذ أن يكون على درجتك من الكرامة. - أترضاها لي؟ - أوترضى أنت لي أن أستحل مالك في أسود أيام عمري، ولا أرد لك الفضل بعد أن أكرمني الله هذا الإكرام؟ - ولكن أنا لم أقدم إليك ما قدمت لتتاجر لي فيه، بل لم أكن أتوهم هذا. - ولكنني أخذت منك ما أخذت في السنوات الأخيرة كلها، على نية التجارة بها باسمك. - فلو كنت خسرت ماذا كنت تصنع؟ - لو كنت خسرت لظللت أتقاضى منك ما خصصته لي، وتكون أنت قد خسرت مالا كنت تتبرع به. - والله ... - يا سعدون بك من الكرامة أن تعين الآخرين على حفظ كرامتهم. - هذا معنى جميل. - إنه حق. - إذن فاسمح لي أن أشعر أنني أسمو إلى المكان الذي وضعتني فيه.
ألم تستر فقري، وأتحت لي العيش كريما على نفسي وأولادي وعلى الناس في سنوات ما كنت أدري فيها كيف أواجه الحياة؟ أستأذن أنا، سلام عليكم.
وقام الرجل من مجلسه وسعدون ما يزال في حالة ذهول، وقف هو يقول: انتظر. - لم يبق عندي ما أقوله. - هذا المال ليس حقي. - بل إنه أقل من حقك.
واتجه إلى الباب وهو يقول: سلام عليكم.
وخرج وسعدون في ذهوله لا يزال.
ثم جلس وهو يقول في صوت مرتفع: أيمكن هذا؟ هل هناك ناس مثل هذا الرجل؟ اللهم أحمدك يا رب. إنك أرحم بعبادك من أن تتركهم وليس فيهم مثل هؤلاء العظماء.
الفصل التاسع
انتهى اليوم الدراسي في كلية الهندسة، وخرج شهاب من الكلية وبرفقته صديقه حلمي فؤاد واتجها إلى سيارة شهاب. - إلى أين يا شهاب؟ - إلى البيت. - ماذا تصنع في البيت؟ - ما يصنعه خلق الله في بيوتهم. - يا أخي لقد تعبنا اليوم، لماذا لا نتغدى في أحد المطاعم ونقضي يوما ممتعا. - لا مانع. انتظرني في السيارة حتى أكلمهم في البيت. - أترى ذلك مهما؟ - حتى لا أشغل والدتي. - على كيفك، ولو أنني في بيتنا أعود حينما أريد، ولا يسألني أحد أين كنت. - المسألة ديتها تليفون. - على كيفك.
وحين عاد شهاب سأل حلمي: أتعرف مطعما معينا؟ - اطلع.
وعلى الغداء قال حلمي: قل لي يا شهاب، ألم تتصل في حياتك بالبنات؟ - اتصالات عابرة. - مثل ماذا؟ - ما تيسر. - ألم تذهب إلى بيت من بيوت المتعة؟ - أسمع عنها ولكني لم أرها. - هل من المعقول هذا؟! - أتراه غير معقول؟ - لو أن الشباب جميعهم مثلك لخربت هذه البيوت. - يا ليتها تخرب. - اسكت، أنت لا تعرف شيئا. - أعرف ماذا؟ - هناك ينسى الإنسان نفسه. - وينقلب إلى حيوان. - وما البأس؟ أليست الحيوانية جزءا منا؟ - جزء بغيض. - على أساسه تبقى الحياة، لولاه لفني البشر. - هذا في الزواج. - ولكننا قبل الزواج شباب، ولا بد أن نجرب الحياة. - أتظن ذلك؟ - بل أنا واثق. - أذهبت أنت إلى بيت من هذه البيوت؟ - مرتين في حياتي؛ وهذا لقلة المال طبعا، فلو كان معي مال لذهبت إليها يوميا. - أين هذا البيت؟ - ما رأيك نذهب الليلة. هل معك فلوس؟ - معي. - إذن نلتقي في التاسعة ونتمشى بالسيارة قليلا، ثم نذهب. - والله لا مانع.
والتقيا، وذهبا، وواجه شهاب حياة جديدة عليه، سعد ببعضها وتقزز من بعض آخر فيها.
النساء عرايا، وصاحبة البيت عجوز تفعل بوجهها الأفاعيل لتبدو في غير سنها، وفي البيت صمت كئيب على غير ما تصوره الأفلام المصرية، الهمس هو صوت المتحدثين، والغمز بالعين الواحدة إشارات كأضواء خجلى لا تنطفئ ولا تنير. وقلة قليلة من رجال لا يعرف أحدهم الآخر، وإنما كل منهم في شأن يغنيه، يجلس في صحبة كأس يحسوها في توتر شديد.
ألح حلمي على شهاب أن يشرب كأسا من الويسكي، وأطاعه آخر الأمر ولكنه لم يكمل الكأس؛ فذوقه رفض طعم الشراب ولم يجد له تلك النشوة التي سمع بها.
وحين خرج من البيت كان يشعر بشيء من الخجل والغضب من نفسه. •••
يحرص فائق على الذهاب إلى الكلية كل يوم رغم الزحام الشديد، ورغم أنه لا يستفيد شيئا من المحاضرات التي يلقيها الأساتذة؛ فقد كان يعتمد في نجاحه على مذاكرته هو في بيته. وهو في ذلك مثل الأغلبية الكاثرة من الطلبة، ولكنهم مع ذلك يصرون على الذهاب إلى الكلية، ولكل من الطلبة سبب خاص به في ذهابهم إلى الكلية؛ فأغلبهم لا يصيب شيئا من الفائدة بالمحاضرات، بل إن كثيرا منهم يذهب إلى الكلية ولا يدخل إلى المحاضرة، ويقول قائلهم: إن وجدت الكرسي الذي أقتعده، فلن أجد الهواء الذي أتنفسه. ولكن الطلبة مع ذلك يحرص أغلبهم على الذهاب إلى الكلية. وأين سيجد كل هؤلاء الأصدقاء ومن ينادمهم وينادمونه؟ وأين سيجد الفتيات بهذه الأعداد الهائلة؟ ولكل من الطلبة فتاة من زميلاته يعجب بها، وسواء لديه إن كان عنده أمل في صداقتها أو لا أمل له.
وكان فائق من هؤلاء الكثرة الذين يحرصون على الذهاب إلى الكلية، وكان له في فتاة بذاتها مأرب، ولكنه ما كان يدري كيف يتقرب منها أو يرمي شباكه عليها؛ فقد كانت صلاته الاجتماعية محدودة، وكانت المآدب التي يقيمها أبوه لا يأتي إليها من الفتيات من هن في مثل سنه، وإنما كن في سن أمه، فإن صغرنها فبسنوات قليلة لا يتصور أن تكون واحدة منهن على علاقة به.
وفي الكلية أغلب الفتيات يتجمعن بعيدا عن الطلبة، ولم يكن يتصور أن يقتحم عليهن تجمعهن ويخاطب واحدته التي يعجب بها كل الإعجاب. وكل ما استطاع الوصول إليه بعد جهد جهيد أن اسمها إلهام، وحتى لم يعرف اسم أبيها.
وكان فائق يذهب إلى المكتبة كثيرا بعد انتهاء المحاضرات ليحصل على بعض مراجع؛ فقد كان حريصا أن يكون نجاحه بتقدير يشرفه.
دخل إلى المكتبة ووجد فيها إلهام فخفق قلبه. إنه محقق في يومه هذا ما عجز عن تحقيقه منذ التفت قلبه إليها. عثر على المرجع الذي جاء من أجله ووضعه أمامه وفتحه ولم يستطع أن يقرأ منه شيئا؛ فقد كانت عيناه على إلهام أن تخرج وهو مستغرق في القراءة. الكتاب يستطيع أن يعود إليه في أي وقت، ولكن هذه الفرصة هيهات أن يجعلها تفلت من يديه. قامت إلهام لتعيد ما معها من مراجع ، فقام من فوره وأعاد المرجع لم يقرأ منه حرفا. وخرج مع إلهام من المكتبة. كانت ساحة الجامعة تكاد تكون خالية، ومشت إلهام فتبعها لا ينطق بكلمة، حتى إذا بلغا خارج الجامعة وقفت إلهام تبحث عن سيارة أجرة، وحينئذ تجرأ وأقدم: أين سيارتك؟ - في الإصلاح. - هل إذا عرضت أن أوصلك أكون تجاوزت مكاني؟ - مطلقا. أنت زميلي، وأي تجاوز أن يعين زميل زميلة له؟ - تفضلي.
وفي السيارة وجد نفسه يقول دون ريث تفكير: أنت لا تعرفين كم مر بي من زمن أنتظر هذه الصدفة. - بل أعرف. - تعرفين؟! - منذ أول يوم نظرت فيه إلي. - كيف؟! هذا غير معقول! - بل هذا هو المعقول؛ فالفتاة منا تحس بالنظرات حتى وإن لم ترها. - إذن؟ - إنك في كل يوم تتحرى أن تقف على مقربة مني ومن زميلاتي ونظرك موجه إلي. - لم أجرؤ أن أتقدم إليكن. - وأنا لم أعرف كيف أشجعك. - بنظرة بابتسامة، أو بشبه ابتسامة. - أترضى لي أن أكون البادئة؟ - مجرد إشارة عابرة. - لا يعقل أن تكون الإشارة الأولى مني أنا. - أعرف أن اسمك إلهام، عرفته وأنا أسمع زميلاتك ينادينك. - ولم تحاول أن تعرف بقيه اسمي؟ - خشيت على سمعتك. - إلهام وجدي. - اسم الوالد؟ - طبعا. - ظننت أنه قد يكون اسم الأسرة. - اسم الأسرة زين الدين. - وأنا فائق. - فائق هارون بركات. - لم أفرح بسماع اسمي مثل هذه اللحظة. - لا يا شيخ! - تعرفينه بالكامل. - هذا أمر ليس صعبا. - كيف عرفته؟ - من زملائك. - أنا لا أعرف زميلات. - لماذا؟ - لا أدري، ربما كنت خجولا أكثر مما ينبغي. - شيء غريب في زماننا هذا. - زوار بيتنا كثيرون، ولكنهم يجيئون لنا في أعمال ولا معنى لوجودي معهم. وفتيات أسرتنا قليلات جدا؛ فأنا لا أعرف إلا ابنة خالتي هناء، وليس لي عم ولا بنات عم؛ فدائرتي الاجتماعية ضيقة جدا. وأنا طالب لا بأس بي، أنال تقديرا دائما في كل عام. - أما هذا فأعرفه. - أنت ما أخبار دراستك؟ - طالبة من درجة مقبول، ولكني أنجح وراضية بقسمتي كل الرضا والحمد لله. - نعمة. - أراك تسير ولا تسألني عن عنواني ، ومع ذلك فأنت في الطريق الصحيح. - إن كنت خجلت أن أتعرف بك، فإنني لم أخجل أن أتبعك بسيارتي كلما خرجنا معا من الجامعة. - معقول! - هذه أول مرة أراك فيها بالمكتبة. - لأنها أول مرة أذهب فيها إلى المكتبة. - ماذا كنت تريدين منها؟ - هذا شأني. - هل اسم الكتاب سر؟ - ليس سرا، وإنما أنا ذهبت حتى يخف الزحام وأجد سيارة أجرة. - فقط؟ - ولأقرأ بعض مواد في القانون التجاري لم أفهمها من شرح الدكتور طلبة. - وفهمتها؟ - أوتريد أن تبحث عن حجة لتذاكر معي؟ - اسمعي، أرجوك أن ترفقي بي فأنا خجول كما ذكرت لك، وأنا في نفس الوقت معجب بك إعجابا شديدا. - أشكرك. - بل أنا الذي أشكرك. - أتعرف لماذا أشكرك؟ - ربما لإعجابي بك. - لأنك اخترت الكلمة المناسبة، ولم تقل الكلمة التي يستسهل كل فتى أن يقولها لفتاة. - أنا صادق دائما، أو على الأقل أحاول أن أكون صادقا. - لقد وصلنا، ومن حقك علي أن أقول لك إنني أيضا معجبة بك. - بماذا؟! - كنت أقدر في نفسي محاولتك التقرب مني وتعففك عن فرض نفسك علي، أما الآن وبعد حديثي معك، فأنا أيضا أحمل لك نفس الإعجاب الذي تحمله لي.
الفصل العاشر
قال سعدون: يا هارون أنا نويت إن شاء الله أن أبيع أرضي وأرض زوجتي. وصمت هارون قليلا. إنه سيخسر لا شك، ولكن المبالغ التي تعود عليه من الزراعة جميعا أصبحت ضئيلة هينة لا قيمة لها بجانب ثروته التي أصبحت شامخة، وإن كان قد جمعها بكل الوسائل التي لا تنتسب إلى الشموخ. وبيع سعدون للأرض أمر طبيعي فقد علت به السن، فمن الطبيعي أن يضمن انتقال الثروة إلى بنته فهو لم يرزق الولد. - ابن عطا الله الذي اشترى أرض حماتك من أبيها، أنت تعرفه؟ - نعم نصيف، إنه ولد طيب. - جدا، وإلا لانتهب الأرض التي اشتراها أبوه شراء صوريا من عثمان بك الله يرحمه، فثمن الأرض اليوم تضاعف عشرات الأضعاف. - طبعا، وما شأن الحاج وافي؟ - كبر في السن، وأخشى أن يختاره الله، وهو طبعا ما زال على وفائه. - والأربعة الذين اشتروا الأرض من والدك؟ - كلهم على قيد الحياة ووافقوا على البيع. - الحمد لله، وهل جاءك في الأرض ثمن؟ - نعم ثمن لا بأس به. طبعا أنت لا تفكر في الشراء؟ - مطلقا، والواقع أن الزراعة كلها لم تصبح موردا هاما من مواردي المالية. - أعلم هذا يا هارون، ويا ليتك بقيت في الزراعة! - لماذا؟ - أنت تعمل في كل شيء؛ في المقاولات، في التصدير والاستيراد، في التجارة الداخلية والخارجية. لقد أصبح المال بالنسبة إليك غاية لا وسيلة. - وهل في هذا عيب؟ - العيب ليس في العمل، وإنما في طريقة العمل. والمال عظيم طالما بقي وسيلة، وكارثة حين يصبح غاية؛ فالأرقام لا تنتهي، والمنهوم للمال يرتكب كل شيء ليرضي جشعه. - ماذا تعني؟ - أعني معاملتك مع الآخرين. أنت لا تراعي الله، وما دمت لا تراعي الله فأنت لا تفكر بإنسانية في معاملتك، لا يهمك أن تخرب بيوت الناس وتمحقهم محقا لتنال أنت بضعة نقود. - هذه هي قوانين السوق. - ألا تفكر مطلقا في قوانين الله. - والله إن جئت للحق، إن هذه الفكرة لا تخطر على بالي مطلقا. - ومع ذلك حلفت بالله في أول جملتك. - تعود سخيف. - أليس هو خالقنا؟ - أشك في هذا. - فمن الخالق؟ - لا أدري، ربما كانت الطبيعة. - كلام فارغ. الطبيعة لا عقل لها ولا إرادة. - ما تعني؟ - أعني أن المعادلات الكيماوية التي تنتسب للطبيعة ليس لها إرادة، فإذا وضعت أكسجين مع هيدروجين لا بد أن ينتج ماء. وإذا أوصلت سلكا كهربائيا سالبا بآخر موجب لا بد أن تنتج قوة كهربية. - وماذا في هذا؟ - إن الله صنعها هكذا، ولكنه أبقى لنفسه الإرادة في أشياء لا تستطيع الطبيعة أن تقترب منها. - مثل ماذا؟ - مثل إنجاب البنين. كان المفروض أنه ما دام رجل سليم قد تزوج من فتاة سليمة فلا بد أن ينجبا أطفالا، ولكن هذا لا يحدث، ولا يأتي الأطفال إلا بقوة إلهية عليا. ومثل نزول المطر؛ فقد كان المفروض أنه ما دام البخار قد تصاعد إلى السماء فلا بد أن ينزل المطر، ولكن هذا لا يحدث ، فإن الله ينزل المطر حينما يشاء. والأمثلة على وجود إرادة عظمى وقوة إلهية لا يحيط بها البشر. - لقد تقدم العلم كثيرا. - ولكنه عجز عن أن يجعل العقيم منجبا، وعجز عن دفع السيل الذي لا يبقي ولا يذر، أو إنزال المطر. وكل تقدم علمي كشف عن قوى إلهية كامنة في الطبيعة يتيح الله للبشر أن يتعرفوا عليها بإرادته وفي اللحظة التي يريدها. وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت. - أنا لا أفكر في هذه الأشياء. - لقد عجز رئيس أمريكا أكبر دولة في التاريخ أن يمنع السيول أن تصيب بيته هو. لقد عجز علم دولته التي وصلت إلى القمر أن يواجه إرادة الله في السيول أو الجفاف أو البرد أو الحر أو الميلاد أو الوفاة، وتأتي سعادتك تقول الطبيعة هي التي خلقت. يا لها من خالق عاجز مخلوق بلا عقل ولا تفكير! إن هذا العالم يستحيل أن يديره إلا قوة عليا من التفكير والتدبير، فالذي خلق الضوء خلق العينين، والذي خلق الحديث خلق الأذنين. أي طبيعة هزيلة هذه التي تفكر فيها. كم أنت مسكين يا بني! - المهم أنني خلقت. - وأنت أيضا ستموت، فلو أن الطبيعة هي التي خلقتك أتراها أيضا هي التي ستميتك؟ - لا أدري. - فكر قليلا. هل للموت معادلة كيماوية؟ أنت ترى الطفل يموت، والصبي يموت، والشاب يموت، ويبقى الشيخ العجوز المريض، وترى كما قال شوقي:
وقد ذهب الممتلي صحة
وصح السقيم فلم يذهب - إن كل هذا الذي تقول لا يشغلني في كثير أو قليل. - لأنك بعيد عن الله كل البعد. دينك وإلهك المال وحده، ولا شريك له، حتى حبك لأبيك وأمك لا وجود له، بل حبك لأبنائك الذي يجب أن يكون غريزيا بالسليقة ضئيل عندك بجانب حبك للمال. - العالم كله مهموم بالمال وبالتقدم العلمي. - إن العالم كله لم يستطع أن يصل إلى سر الروح، وقد أنفق الاتحاد السوفييتي المليارات من الأموال ليصلوا إلى سر الروح حتى يدللوا به على صحة مذهبهم الإلحادي، وما زال سر الروح مستغلقا على العالم أجمع. ألا إنها من أمر ربي. - أنت غاضب علي. - أنا حزين لأجلك، وحزين لأجل أبنائك الذين لا يسمعون اسم الله في بيتهم إلا في الصلاة التي تقيمها أمهم. أنجاهم الله من كفرك.
الفصل الحادي عشر
دق جرس التليفون في بيت هارون، ورفعت حميدة السماعة: ماما. - شهاب؟ - لا، أنا الباشمهندس شهاب. - صحيح؟ - وفائق أيضا أصبح الباشمحاسب فائق.
وفي طفر من الفرح غامرة قالت حميدة: صحيح؟ الحمد لله يا ابني. ألا تأتي لأقبلك؟ وأين أخوك؟ - أنا سأقضي اليوم مع إخواني، وسأتأخر في المساء. أما فائق فقد طلب مني أن أخبرك أنه سيتغدى خارج البيت ولن يتأخر بعد ذلك. - ألم يكن من المعقول أن تأتي أنت وأخوك لنفرح بكما أنا وأبوك؟ - أبي مشغول، المهم أن تعرفي أنت، وقد كلمتك بعد أن عرفت النتيجة مباشرة لأني أنا وفائق نعرف أن الأمر يهمك. - يهمني؟! إنه أملي الذي أعيش له وبه. - الحمد لله. قولي أنت لأبي، وما أظن الأمر يهمه كثيرا. - أهذا الكلام؟ - المهم لا تنشغلي إذا تأخرت قليلا في المساء. - ما تشوفه يا ابني، الأمر لله. - مع السلامة. - مع السلامة. •••
لم يبد هارون الفرح الذي ينبغي لأب تخرج ولداه اللذان ليس له غيرهما، وكأن الأمر كان مفروضا لا شك فيه، وألم بقلب حميدة بعض الألم من استقبال هارون لخبر هو في عرف الأسرات من أهم الأخبار التي تسعد لها الأسر جميعا.
تناول هارون غداءه في سرعة ولم ينم نومة القيلولة، وخرج وهو ينبئ زوجته أنه سيتأخر في المساء، ولم تسأله لماذا فهكذا تعودت.
وأمسكت التليفون لتخبر أختها بنجاح ابنيها، وبشرتها وجيدة بأن هناء أيضا حصلت على ليسانس الحقوق، وأن أيمن نجح وأصبح في السنة النهائية من نفس الكلية. وكان الدكتور أمجد في البيت، وكان سعيدا غاية السعادة بنجاح ابنته وابنه. وهنأ حميدة بنجاح ولديها، واستردت حميدة فرحتها التي كان استقبال هارون قد خفف منها.
وراحت حميدة تكلم أبويها وصديقاتها جميعا، وفجأة تذكرت أنها لم تكلم الحاج حامد فأدارت القرص وكلمته في البلدة، فكانت سعادته الواضحة من صوته أعظم ألف مرة مما رأته من عدم اهتمام هارون بالخبر. وكلمتها حماتها الحاجة توحيدة وهي تقول: لو كنت أعرف كيف أزغرد لزغردت، ولكن انتظري! يا نبوية، يا أم الهنا، يا سعدية، زغردن يا بنات واملأن الدنيا زغاريد.
وسمعت حميدة زغاريد الخادمات في التليفون فأحست قلبها يزغرد معهن، وهكذا ملأت السعادة جوانح حميدة؛ فقد عبرت هذه الزغاريد عن كثير من خلجات الفرح التي يدق بها فؤادها.
ولم تمض ساعات حتى جاءتها أختها وجيدة وابنتها هناء ومعهما صناديق من الحلوى، وأقبلت الكثيرات من صديقاتها يحملن أيضا ما يجاملن به حميدة صديقتهن الطيبة الحبيبة إليهن بخلقها السلس وصداقتها الحنون الخالصة بلا شوائب؛ فقد كن يحملن لها الود الصادق وإن كانت منهن من تكن لها بعض الحسد على الغنى الفاحش الذي أصابه زوجها، إلا أن أولئك كن يجهدن غاية الجهد أن يخفين حسدهن حتى كن يبدين أكثر حبا لها من المخلصات اللواتي لا يحملن لها إلا الحب الخالص الكريم.
ولم يسكت التليفون عن الرنين ممن لا يستطعن المجيء يقدمن التهنئة ويسعدن بالزيارة في الغد.
وطال بالسيدات الحديث حتى أوشك موعد العشاء أن يحين، فبدأن في الانصراف ولم يبق إلا وجيدة وابنتها هناء فقد بقيتا قليلا، ثم قالت وجيدة: نقوم أنا وهناء فإننا الليلة سنحتفل بالنجاح، وقد أعددت وليمة، إذا كان هارون سيتأخر فلماذا لا تأتي معنا يا حميدة؟ - هارون فعلا سيتأخر وكذلك شهاب، ولكني أعتقد أن فائق في طريقه الينا وسأكرمه بعشاء فاخر.
وقبل أن تكمل جملتها دخل فائق وسعادة الدنيا كلها في وجهه وعينيه، واستقبلته خالته وهناء بالتهليل، وحين استقر بهم المجلس قالت هناء: هذه الفرحة الكبرى التي في وجهك وعينيك فرحة النجاح وحده؟ - أليس التخرج جديرا بهذا؟ ألم تفرحي أنت بالتخرج؟ - أنا كنت واثقة، وكل ما كان يهمني هو درجة التخرج. - جيد. - خسئت، بل جيد جدا. - ومن سمعك وشرفك أنا أيضا، بل وشهاب أيضا. ما درجة أيمن؟ - جيد. - نعمة. - ولكني ما زلت مصرة أن في عينيك مع فرح النجاح فرحا آخر. - ما سر إصرارك هذا؟ - أنا وأنت كنا ننال تقديرا في جميع سنوات الدراسة، فنجاحنا بدرجة جيد جدا أمر متوقع، وهذه السعادة التي تتناثر حولك وراءها سر آخر. - ولماذا تحاولين أن تكشفي أسراري؟ - فضول المرأة. - ألا يرده اقتران الليسانس بدرجة جيد جدا؟ - تظل المرأة هي المرأة. - ولن أشفي فضولك هذا. - ما تلبث الأسرار أن تنكشف وتذيع وتصبح على كل لسان، والذي لا يشتري يتفرج. - انتظري حتى تشتري وتتفرجي. - ألا تنال ابنة خالتك حق السبق؟ - كأنك نلت الليسانس في الصحافة. - والمحامية أيضا تبحث عن الحقيقة. - لقد بدأت الممارسة مبكرة جدا.
وقاطعتها وجيدة: كعادتكما لا ينتهي لكما نقاش، قومي يا بنت.
وقامت هناء: أيقال للجيد جدا يا بنت؟ - وإن أصبحت رئيسة النقض أنت عندي بنت. هيا حتى لا نتأخر عن أبيك وأخيك.
وقامتا.
وما لبث أن أعد العشاء وجلست إليه حميدة وفائق، لكنها لاحظت أنه غير مقبل على الطعام إقباله الذي تعودته منه ففاجأته: فائق هل تعشيت؟
وأرتج على فائق لحظات، ثم ما لبث أن تمالك نفسه وهو يقول: أنا ... أبدا ... أبدا والله. - بل تعشيت. - أبدا. - المهم قم بنا. - ألا تكملين عشاءك؟ - وحدي، أنا شبعت. - لم تأكلي. - ربما أكون أنا الأخرى قد تعشيت.
وضحكت وضحك وقاما، وذهبا إلى غرفة المعيشة وجلسا أمام التليفزيون، وكان يعرض به فيلم عربي قديم ولكنهما كانا مستمتعين به، وقبل أن ينتهي الفيلم دق جرس التليفون، ونظر كلاهما إلى الآخر، وكان فائق أسبق إلى التليفون. - بيت هارون بك بركات؟ - نعم من يريده؟ - هنا قسم قصر النيل. حضرتك هارون بك؟ - لا أنا ابنه. - ألك أخ اسمه شهاب؟ - نعم ما له؟ - عندنا وليس معه بطاقة، نرجو أن يأتي أحد من عندكم. - هل هناك شيء؟ - من يأتي سيعرف. - شكرا!
ووضع فائق السماعة وهو في حالة ذهول تام وقد امتقع وجهه وجف فمه حتى لا يستطيع أن ينطق، وذعرت الأم وسارعت إليه: ماذا؟ ... ماذا يا فائق؟ ... ماذا حدث؟
وجمع فائق الكلمات ونطقها بصعوبة: شهاب في القسم.
ودقت صدرها وارتمت إلى أقرب كرسي منها. - لماذا؟ ماذا فعل؟ - لا أدري، لا بد أن أذهب إليه. - تذهب إليه وحدك؟ - أبي غير موجود، ماذا أصنع؟ - انتظر.
وطلبت الدكتور أمجد وأجابها، وروت له ما حدث. - فائق عندك؟ - نعم. - يأتي إلي الآن وسأذهب معه.
وفي القسم قدم الدكتور أمجد نفسه كما قدم فائق، وسأل وعرف كل شيء؛ لقد هاجم بوليس الآداب بيتا وكان به شهاب. وقال أمجد: لا أظنكم تحتجزونه. - لو كان معه بطاقة ما استدعيناكم. - معي بطاقة. - إذن سنفرج عنه في الحال.
وخرج ثلاثتهم وركبوا السيارة صامتين لم ينطق أحد بكلمة، وحين بلغوا منزل الدكتور أمجد نزل دون تحية. وسار أمجد في طريقه ولأول مرة تكلم شهاب: إلى أين؟ - إلى البيت. - أمر لآخذ سيارتي.
ودله على الطريق. ونزل شهاب وقال لفائق: أنا لن أذهب إلى البيت. - أنا تركت ماما بين الحياة والموت. - طمنها أنت. أنا لن أذهب إلى البيت. - إلى أين تذهب الآن؟ - اطمئن، لا تخف.
وتركه دون أن يكمل الحديث، وركب سيارته وسار بها وفائق مذهول في مكانه. •••
لا أمل لي إلا هو. أنا الآن أريد مكانا أختفي فيه عن الوجوه اللائمة، وأريد الغفران وأريد الحب. قد أجد هذا من أمي وحدها، ولكن سأجد كل ما أكره في وجوه الآخرين.
الفصل الثاني عشر
كان الحاج حامد نائما هو وزوجته الحاجة توحيدة، وفي سنهما هذه لا يكون النوم عميقا؛ فلم يكن عجيبا أن يسمعا طرقا خافتا واضح الاستحياء على الباب الخارجي للمنزل.
وقام إلى الباب الحاج حامد وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويدعوه أن يكون الطارق يحمل خيرا أو لا يحمل سوءا على الأقل.
وفتح الباب، وما إن رأى شهاب حتى صاح به في وهن وخوف: شهاب أهلا يا بني! خيرا إن شاء الله.
وفي لعثمة قال شهاب: خيرا إن شاء الله يا جدي. - تعال، ادخل، ماذا بك؟ اجلس. - لا تخف يا جدي كلنا بخير. - انتظر حتى أطمئن ستك. - لا تجعلها تقوم من فراشها، أريدك وحدك. - حاضر يا ابني.
وعاد الحاج حامد إلى حفيده، وروى شهاب على جده كل شيء في صراحة وشجاعة، وأطرق الحاج حامد قليلا، ثم رفع رأسه إلى شهاب: غفور رحيم يا بني. - لا أحب أن أرى أحدا الآن إلا أنت؛ فعندك أجد الحب الذي لا أجده من أحد إلا عند أمي. - غفور رحيم يا بني. - أريد أن أبقى عندك بضعة أيام. - أهلا بك لبضعة أيام وبضعة أشهر وبضع سنوات، هذا بيتك يا ابني. - أعرف ذلك، لا تقل شيئا لستي. - سأقول إنك مختلف مع أبيك، وربنا يسامحني على الكذب. - هكذا أحسن. - هل تعرف أمك أين أنت؟ - لا أحد يعرف. - هذا غير معقول! - لا أريد أن أرى أمي؛ فستكون حزينة حتى وإن غفرت لي. - يا ابني أنت لا تعرف قلب الأم، إنها الآن في حالة جنون وهي لا تستحق منك هذا. - إذن أخبرها. •••
حين وصل فائق إلى البيت لقفته أمه على الباب: خيرا يا فائق، أين شهاب؟ - لا شيء، شهاب بخير ولم يفعل شيئا. - فلماذا كان في القسم؟ - مسألة بسيطة. - ماذا؟
وصمت فائق حائرا، إن قال حادثة سيارة لازداد ذعر أمه. جلس وأطرق. - انطق. - مجرد عراك بينه وبين أحد الضباط. - هكذا من غير مناسبة؟
وجاء هارون من غرفة النوم على صوت ابنه وأمه: قل الحقيقة. - ماذا أقول يا أبي؟ - الحقيقة.
وقالها بعد أن فكر أنه إن لم يقل هو الحقيقة فسيقولها الدكتور أمجد. قالها وهو خزيان وكأنه هو الذي ضبط.
وكان رد الفعل عند أمه صمتا متألما ودمعات غزيرة، أما هارون فكان شأنه عجبا؛ لقد قعد بعد أن كان واقفا وراح يضحك في قهقهة، ثم قال وهو يضحك: وأين هو الآن؟ ألا تعرف؟ - رفض أن يعود معي إلى البيت، ولا أدري أين ذهب.
وقالت حميدة: هل هذا معقول؟! ألا يأتي لنطمئن عليه على الأقل؟
وقال فائق: قال لي طمئن أمي، ورفض أن يقول لي أين سيذهب.
وقال هارون ضاحكا: وأين تظنانه سيذهب؟ هيا لننام.
وصرخت حميدة وهي تدق صدرها: أنام؟! أنام وأنا لا أعرف أين ابني وما حالته؟ شهاب يختشي من ظله، ربنا أعلم بحاله الآن.
وضحك هارون وهو يقول: لقد أثبت أنه لا يختشي ولا يحزنون. قومي نامي فقد اطمأننا عليه. - أبدا لا يمكن أنام. - إذن أنام أنا، وأنت يا فائق ألا تنام؟ - أنا سأبقى مع ماما. - أنت حر.
وعاد هارون إلى غرفة نومه. •••
دق جرس التليفون في بيت هارون، وانتفضت إليه حميدة واختطفت السماعة: أهلا يا حاج، خيرا؟
وجاءها صوت الحاج حامد: اطمئني، شهاب عندنا. - الله يطيل عمرك يا حاج، الله يخليك.
ووضعت السماعة وقال فائق: الحمد لله. - الآن ننام. - تصبحين على خير. - لقد أصبحنا فعلا أو نكاد. - سأذهب إليه. - طبعا. •••
لم يكن هارون مرحبا بالذهاب إلى بيت أبيه، ولكن حميدة في هذه المرة قالت له في حزم: إن لم تذهب معي فسأعود من البلد إلى بيت أبي. ولأول مرة يسمع هارون هذا التهديد، فلم يجد مناصا من الذهاب. •••
وفي السيارة اتفق ثلاثتهم ألا يفاتحوا شهاب في الموضوع مطلقا. وحين وصلوا رحب الحاج حامد ترحابا شديدا بحميدة وبفائق، وسلم سلاما فاترا على هارون، أما الحاجة توحيدة فقد رحبت بالجميع. وقال شهاب: كيف استطعت المجيء يا أبي؟ - أمك يا سيدي. - لقد توقعت أن تقول هذا.
وقال هارون: المسألة لا تستحق هذه الهوسى.
وقال الحاج حامد: هل من الهوس أن تزور أباك وأمك؟ يا خسارة! - مشاغلي يا أبي لا تتصورها. - أعرف أنك والحمد لله قد أصابك السعار.
وقالت الآم: أتكتفي بأن ترسل إلينا مالا في كل شهر ولا تأتي؟
ورأى الحاج حامد الدهشة على وجه هارون. لم يستطع هارون أن يخفيها، بل قال في لعثمة: ... مالا!
وقالت الأم في سذاجة: نعم، الراتب الذي ترسله كل شهر. أتظن أن الأم والأب يكفيهما المال؟ - نعم. - ألم تسمع؟ - آه إن مكتبي يرسله كل شهر.
وصمت وقد حسب أنه قد خرج من المأزق، ولكن عقله كان حائرا حيرة كبرى. إنه واثق أنه لا يرسل شيئا، وواثق أن مكتبه لا يرسل شيئا، فما هذا المال الذي تتكلم عنه أمه؟
وتغير الموضوع وتناولا الغداء، وحين أزمع هارون العودة إلى القاهرة نظر إلى شهاب: أتأتي معنا؟
وأجاب شهاب في حسم: سأبقى بضعة أيام مع جدي. - على كيفك.
الفصل الثالث عشر
في الصباح ترك الحاج حامد حميدة نائمة، وخرج إلى حجرة الاستقبال الملحقة ببيته، وأرسل رسولا إلى مختار عمر يطلب منه أن يجيء إليه بأسرع ما يستطيع. وما إن انتهى مختار عمر من أعماله العاجلة حتى سارع إلى الحاج حامد. وتأكد الحاج حامد أنه منفرد بمختار وسأله: مختار، أنت تعرف أنني أتلقى في كل شهر مبلغا يصل اليوم إلى ستمائة جنيه.
وأدرك مختار ما يريده له الحاج حامد، فأطرق في حيرة واشتد به وجيب قلبه وامتقع وجهه، فأوشكت ظنون حامد أن تصبح مؤكدة. وبعد لحظة مريرة طويلة قال مختار: نعم. - كنت حتى الأمس واثقا أن هارون هو الذي يرسل لي هذا المبلغ. - وما الذي جعلك تشك في ثقتك هذه؟ - هارون نفسه، لقد زارني بالأمس بعد سنوات طويلة من الانقطاع عن زيارتي. - وهل نفى أن يكون هو مرسل المرتب الشهري؟ - لم ينف، وإنما دهش ووضحت الدهشة على وجهه، ثم ما لبث أن استرد دهشته عن وجهه وزعم أن مكتبه يرسل المبلغ في كل شهر. - ولماذا لم تصدقه؟ - صدقته أمه فهي التي ذكرت أمر هذا المبلغ، أما أنا فلم أصدق، وأريد أن أعرف الحقيقة منك.
وأطرق مختار طويلا، ثم انفجر: لقد ضاق صدري بهذا السر، وإنني أشعر أن في كتمانه ظلما لصاحب الفضل وتكريما لمن لا فضل له. - إذن؟ - الحقيقة أن هارون لا يرسل شيئا.
وراح مختار يروي على الحاج حامد القصة منذ كلفه ببيع الكردان حتى يومهم هذا، وكان كلما أوغل في الرواية ازداد حزن الحاج حامد وراحت نفسه تتمزق كل ممزق. أكان يعيش هذه السنوات على الصدقة وابنه على هذا الغنى الفاحش؟ أرضي له ابنه هذا؟ فما قيمة هذا الابن إلا أن يكون حزنا لوالديه وعبثا على الحياة جميعها؟ وجمع الكلمات المفككة على لسانه ليسأل مختار: هل يعرف هارون شيئا مما رويته لي؟
وقال مختار في لعثمة: لا أظن. - لا فرق، ربما كان علمه أعظم سفالة من عدم علمه، ولكن الجحود والانحطاط وضياع الكرامة يحيط به من كل جانب. - كان لا بد أن أخبرك. - لقد أسأت إلي بكتمانك. - أنا لم أقصد، وإنما خشيت أن أراك في الحالة التي أنت عليها الآن. - كان الموت جوعا خيرا مما ألاقيه الآن. - نسيبك وقام بواجبه. - ليس واجبه أن يطعمني ويكسوني ولي ابن وهبت له كل شيء، وأسلمت له أمري وأمر أمه. - لا أجد ما أقوله.
وصمت الحاج حامد واحترم مختار صمته. النار والألم والضياع يطبقون على فؤاده حتى لقد كان يلقف أنفاسه من الهواء اجتذابا. وطال الصمت. ماذا يصنع؟ كيف يرد لسعدون هذا الدين؟ وهل يقبل سعدون أن يتقاضاه؟ أيكون سعدون أشفق عليه من ولده عصارة حياته ودمه وقلبه وماضيه وحياته وما بقي له من أيام على سطح الحياة؟ كيف تستطيع الحياة أن تصنع شخصا في عظمة سعدون وتصنع في نفس الوقت شخصا في انحطاط هارون؟ كيف تسع الدنيا قلبا فيه هذه الرقة التي ينعم بها سعدون وتسع معه قلبا فيه هذا الجحود وهذه الصلابة الخسيسة الدنيئة المتوحشة في كيان هارون؟ ماذا أنا صانع؟ كيف أعلن غضبي وشكري، وألمي وامتناني؟ ماذا أنا صانع؟ لا أستطيع أن أفكر الآن. - مختار. - نعم. - أرجو أن تمر علي غدا بعد أن تصلي الفجر. - أمرك.
وقام مختار عن مجلس الحاج حامد، وخلت الحجرة به موجودا بلا وجود، يكاد فؤاده أن يتوقف عن النبض. صغرت الحياة أمام عينيه ولكن دعا ربه ألا يموت حتى ينزل ثورته على ابنه، ويتقدم بشكره إلى أعتاب سعدون. وظل هذا الدعاء يتردد في كيانه وتنتفض به جوانحه وهو يقوم من مجلسه ويدلف إلى غرفته، وتتلقاه زوجه فيهولها ما هو فيه من شحوب وغيظ ينتفض به وجهه، وقد ورمت أعراق دمائه حتى لتوشك الدماء أن تنبجس منها. - ما لك؟ - اتركيني. - أتركك؟! كيف؟
قال في حسم: توحيدة، اتركيني الآن، وفورا. - لا حول ولا قوة إلا بالله، أمرك. - ولا أحد يدخل عندي. - ماذا أقول لشهاب؟ - قولي له ما شئت، ولكنني لا أريد أن أرى أحدا، أسمعت؟ - أمرك.
وخرجت وأغلق الباب بالمفتاح وألقى بنفسه على السرير ذاهلا تملأ المهانة نفسه يزحمها الغيظ والأسى، وعيناه شاخصتان إلى الفراغ.
ومر به اليوم جميعا وهو على حاله هذا، حتى لقد أبى أن يتناول طعاما في يوم كله. والحاجة توحيدة وحفيدها حائران معذبان بالقلق لا يدريان مما يعانيه الشيخ من أهوال.
وكان كلما خرج من الغرفة ليتوضأ ويصلي يحاول شهاب أن يسأله عما به، فيزجره في عنف لم يعهده شهاب منه قبل ذلك مطلقا. ويئست الحاجة توحيدة أن تعرف منه شيئا عما به.
وانقضى اليوم وشهاب يفكر أن يسافر؛ فقد كان يظن أن جده غاضب عليه، ولكن الحاجة توحيدة تنفي عنه هذه الفكرة بكل ثقة، وترجوه ألا يترك جده وهو في حاله هذا، فيجد في كلامها منطقا، فربما كان جدي مريضا ولا يجوز أن يتركه، خاصة وأن معه سيارة لعلها تكون ذات فائدة، فيمكث في غير رغبة في المكوث. وهو أيضا لا يحس برغبة في الرحيل، ولكنه لا يدري ماذا يصنع بيومه هذا الطويل. خرج إلى القرية وراح يتمشى بلا هدف بين الحقول، ولم يعدم أن يجد بعض من يعرفهم ويعرفونه من أبناء القرية يحادثهم ويحادثونه، ثم ما يلبث كل منهم أن ينصرف إلى شأنه وينفرد به الطريق مرة أخرى، وتهز نفسه الوساوس بين شعوره بالخجل مما صنع وبين ما يعانيه جده.
والحاجة توحيدة والهة حائرة تدور في البيت بلا عمل، وتصلي فلا تفلت سنة ولا نافلة إلا أقامت صلاتها، ولكن الساعات بطيئات ثقيلة. وحين عاد شهاب إلى البيت لم يستطع أن يتصل بينهما حديث.
ويمر اليوم ويأتي الليل دون أن يذوق الحاج حامد لقمة في يومه هذا. هل أستطيع أن أطعم من مال الصدقة وأنا الذي عشت عمري كريما على نفسي وعلى الناس؟
وكيف أستطيع أن أسيغ الطعام. وكيف يقبله لساني أو جسمي؟! اللهم لا إله إلا أنت سبحانك.
وتطرق الحاجة توحيدة غرفته تريد أن تنام. - نامي في غرفة أخرى .
وتذعن المسكينة هذا الإذعان الذي يعرفه ذلك الجيل، والذي لا يتصور أن تكون الأمور إلا هكذا. أمر من الرجل وطاعة من الزوجة وبغير معرفة للأسباب.
ويفغر الليل فاه المظلم يحيط به الحاج حامد، ويظل يتقلب على فراشة. الموت أهون، ولكن لا ... يا رب العالمين لقد أطعتك عمري كله، اترك لي من الحياة فرصة حتى أسخط وأعلن سخطي على ابني، وحتى أشكر وأعلن شكري لمن أكرمني.
وفي تباشير الفجر قام الحاج حامد فتوضأ وأقام الصلاة، وأحس وهو يقرأ الفاتحة أنه اقترب إلى السماء غاية القرب، وأن أنساما من نسمات الملائكة تراوحه، وأن وجيب قلبه أصبح تخشعا وحنينا ورحمة. وراح الهدوء يسري في أوصاله شيئا فشيئا. وما إن ختم الصلاة حتى أحس نفسه خفيفا كملاك، سعيدا جذلا يملأ الفرح نفسه، والشكر لله يشيع في جوانحه. لقد ألهمه المولى عز وجل الطريق، فإذا هو إنسان جديد كأنما لم يخلق إلا في لحظته تلك. صلى النوافل وقام إلى دولابه وأخرج بضعة أوراق، وسرعان ما وجد الورقة التي يبحث عنها ووضعها في جيبه، ثم انبعث إلى زوجته يصيح بها في صوت جذل فرحان: توحيدة.
وكانت المسكينة قد فرغت من صلاتها هي الأخرى بعد ليلة لم يعرف النوم إلى جفونها سبيلا. صاح بها في صوته الفرحان المليء بالبهجة: أين أنت يا حاجة؟
ودق فؤاد الحاجة فرحا. اللهم أنك كريم يا رب العالمين. لقد عاد إلينا الحاج حامد. - جائية إليك يا حاج، الحمد لله على سلامتك. - الحمد لله حمدا يرضيه سبحانه. هل شهاب نائم؟ - نعم يا كبدي، لقد كان حاله بالأمس شر حال، وأغلب الأمر أنه لم ينم إلا مع الفجر. - دعيه نائما، وهاتي لنا الفطور. أشعر أنني سآكل ما في المنزل. - جاهز يا حاج.
وحين استقبل مختار قال له: هل أنت مشغول اليوم؟ - لا، تحت أمرك. - أريد أن نذهب معا إلى الزقازيق. - وما له؟ هيا بنا.
وذهبا إلى الزقازيق، واستأجر الحاج حامد سيارة أجره وطلب إلى السائق أن يذهب به إلى الشهر العقاري، ولم يملك مختار نفسه: الشهر العقاري! ماذا نفعل في الشهر العقاري؟ - سبحان الله يا أخي ماذا عليك لو انتظرت؟! هل معك بطاقتك؟ - معي. - عظيم.
وفي الشهر العقاري فوجئ مختار بالحاج حامد يوكله توكيلا خاصا لبيع بيته في المنيرة، وأن يقوم بكل الإجراءات التي تؤدي إلى بيع هذا البيت، وقدم للمسجل ورقة ملكيته المسجلة للبيت.
وفي دهشة قبل مختار التوكيل، وعاد مع الحاج حامد إلى البلدة في السيارة التي استأجراها، وحين استقر بهما المقام قال الحاج حامد: أسافر معك إلى القاهرة، اليوم أو غدا، ونذهب إلى السمسار في المنطقة، ثم أترك لك الأمر كله. أنا صحتي لا تساعدني والبركة فيك. - ماذا تريد أن تصنع؟ إن ابنك يقيم في هذا البيت. - وهل أحتاج إليك لتذكرني بهذا؟ - ما تشوفه، هل تريدني في شيء الآن؟ - أعد حقيبتك للسفر. - حقيبتي؟! هل سنبيت هناك. - إذا اقتضى الأمر. - وما له؟ نزور آل البيت على الأقل. - شيئا لله، يا آل بيت النبي. - السلام عليكم.
وانصرف مختار على وعد منه أنه سيكون جاهزا للسفر حين يستدعيه الحاج حامد.
وكان شهاب قد صحا من نومه وتناول فطوره، ومكث ينتظر جده الذي بشرته جدته أنه أصبح في خير حال.
وحين رآه قادما لم يكن محتاجا ليسأله؛ فقد كانت السعادة بادية على وجهه.
قال شهاب: لقد أخفتنا عليك البارحة خوفا شديدا. - شدة وزالت.
وهومت سحابة من الأسى على وجه الحاج حامد. شهاب بن هارون، أتراه مثله؟ هيهات! إن أحدا لن يكون جاحدا جحود هارون. وطالما شكا لي شهاب من عدم اهتمام أبيه به أو بأخيه. لا، الولد لا ذنب له. وانجابت غمامه الحزن وعاد إلى حفيده: قل لي يا شهاب، ماذا تنوي أن تعمل بعد أن نلت بكالوريوس الهندسة؟
وصمت شهاب قليلا، ثم قال: أنا لم أفكر بعد والله يا جدي. إن كان الأمر لي لبحثت عن عمل لي بعيد عن شركات أبي، ولكن هذا سيبدو أمرا غريبا وأنا لا أحب أن أعلن عدم اهتمام أبي بنا على الناس أجمعين. ما رأيك أنت يا جدي ؟ - أنا أفكر في شيء آخر. - شيء آخر؟ - نعم. - فيم تفكر يا جدي. - سأخبرك. - الآن. - ألم تفكر في الزواج. - والله لم أفكر فيه حتى الآن. - ولم لا؟
وفكر شهاب قليلا، ثم قال: فعلا ولم لا؟ - هل تحس قلبك يميل إلى فتاة بعينها؟ - تقصد أني أحب. - وما البأس؟ - كنت أتمنى، ولكن البيت الذي أعيش فيه ليس فيه مكان للحب، وهذا بفضل أبي الذي صرف قلبه كله إلى المال، ولا يتصور أنني وأخي وأمي نحتاج إلى شيء آخر غيره. - إذن فأنت لا تحب أحدا. - لا. - ألا تفكر في فتاة تصلح زوجة لك.
وصمت قليلا، ثم قال: أعتقد أن هناء ابنة خالتي بنت حلال وتصلح زوجة من جميع الوجوه. - عظيم! إنها فعلا فتاة عظيمة. - ولكن هل تظن أن أباها يقبل زواجها مني بعد الموقف المشين الذي رآني فيه. - لا تفكر في هذا، واعتمد على الله ثم علي. - أطال الله عمرك. - أمهلني بضعة أسابيع، وسأزوجك منها إن شاء الله. - هذا أمر يسير. - أمامي بعض أعمال أريد أن أنتهي منها، ثم أتفرغ لزواجك. - أمرك. - أنا أريد أن أسافر إلى القاهرة، وأنت محتاج أن تبقى هنا بضعة أيام تسترد فيها نفسك. سأتركك مع جدتك. - أنا فعلا أحتاج أن أبقى هنا بضعة أيام أخرى. - وهو كذلك. •••
لم يكن الوصول إلى السمسار بحي المنيرة أمرا عسيرا، فسرعان ما اهتدى إليه الحاج حامد ومختار. وقال الحاج حامد للسمسار الحاج صالح الرويني: انظر إلى هذا العقد.
وقرأ الحاج صالح العقد: أمرك. - أنا صاحب هذا البيت. - هل هو خال من السكان؟ - يقيم فيه ابني بلا عقد ولا تنازل مني ولا ورقة تثبت حقه فيه. - هل تتعهد بإخلائه؟ - إذا وجدت أي صعوبة أذللها. - كم تريد ثمنا لهذا البيت؟ - أنا أوجه إليك هذا السؤال. - من مليون ونصف مليون إلى مليونين. - شيء واحد أريده منك. - أنا تحت أمرك. - لا أريد المشتري أن يدخل البيت. - هذا أمر صعب. - أنا حقيقة فلاح، ولكني أعرف الحال في القاهرة الآن. - ماذا تعني؟ - أعني أن المشتري لن يشتري البيت للإقامة فيه، فليس هناك من يقبل أن يشتري بيتا قديما كهذا البيت بمليونين من الجنيهات للإقامة فيه. - لعلك على حق. - المهم هو الموقع والأرض. - إذن أعطني بضعة أيام. - أسبوع مثلا.
أنا رجل كبير في السن، وقد سجلت هذا التوكيل لصديقي مختار. وقال مختار: أجيء إليك بعد أسبوع. - إن شاء الله. •••
باع الحاج حامد البيت وسجل البيع في عشرة أيام، وأرسل المشتري إنذارا إلى هارون بإخلاء البيت الذي يقيم به بغير سند قانوني.
ووقع الأمر على هارون وقوع الصاعقة، ولم يكن تركه للبيت هو السبب في حسرته وألمه، وإنما إدراكه أن أباه غاضب عليه هذا الغضب الماحق. وأحس كأن يدا من حديد تعتصر فؤاده، ولكن قليلا ما اعتصرته.
وفي بضعة أيام كان قد استأجر بيتا آخر كبيرا مفروشا يقيم فيه حتى يدبر أمره.
الفصل الرابع عشر
حين زار الحاج حامد سعدون في بيته بادره سعدون بقوله: أعرف فيم جئت. - مؤكد. - أليس العقاب قاسيا؟ - بل أقل كثيرا مما ينبغي. لقد أعطيت هذا الولد أربعين فدانا يكسب منها الآن أكثر من ستين ألف جنيه، أما كان ينبغي أن يحط في عينه حصوة ملح ويعطيني أنا وأمه عشر ما يكسب من أرضي؟ وصمت سعدون وأطرق لا يجد ما يقول. - والألعن من الفلوس، الابن الذي يجحد أبويه حتى لو لم تكن الأرض أرضهما، ماذا يساوي في الحياة؟ أنا فقدت هارون فهو إنسان ... وأستغفر الله أن يكون إنسانا، هو كيان غير بشري ليس له قلب. والذي لا يعرف كيف يعامل أبويه لا يعرف كيف يعامل أبناءه. - هون عليك يا حاج حامد. - أنت الذي جعلت الحياة مقبولة مني، فلولاك لأصبحت الدنيا بلا معنى. وأي معنى يمكن أن يكون للحياة إذا خلت من عظماء أمثالك. - أرجوك يا حاج حامد، أنا لم أصنع إلا ما يجب أن يصنعه الإنسان. - لقد صنعت صنيعا لا يمكن أن يطالبك به أحد.
ويقول سعدون في خجل، وكأنه يعتذر: المسألة أهون من هذا، لقد رأيت أنني كان ينبغي لي أن أقدم لحميدة ابنتي مبلغا يعينها على الحياة مثلما يفعل الآباء كلهم في أيامنا هذه، ولكني وجدتها في غير حاجة إلى ...
ويكمل الحاج حامد: فحولت المبلغ إلى أبي زوجها الذي ما زال ابنه على قيد الحياة، والذي أعطاه أبوه أربعين فدانا، والذي أصبح اليوم من أكبر أغنياء مصر وربما من أكبر أغنياء الدنيا. هل تقدر الألم الذي أشعر به؟ - طبعا. - لا، وأرجو الله ألا تراه أبدا. ولكني يا سعدون رجل لم أترك فرضا، وليس لي في الدنيا إلا هارون، فلماذا يعذبني به الله هذا العذاب؟ - سبحان الله يا حاج حامد. إن الله هو الذي يحاسبنا ولسنا نحن الذين نحاسب الله. ومن أدراك ماذا يعد الله لك من خير في الدنيا والآخرة؟ إن للسماء عدالتها الخاصة بها، وليس من حق البشر أن يحاسبوها. - أستغفر الله العظيم، والحمد لله سبحانه على كل ما أعطى وما لم يعط. أستغفر الله. الغرض. - أي غرض؟ - كيف أشكرك؟ - بأن تنسى الأمر تماما. - هيهات! إن معي الآن مبلغا ضخما من المال. - وماذا تريد أن تقول؟ - أعلم أنك سترفض مني أن أرد دينك. - وما دمت تعلم هذا ففيم تتكلم؟ - سأرد دينك رغم أنفك. - كيف؟ أيمكن هذا؟ - نعم، اقرأ هذه الورقة.
وقدم إليه ورقة نظر فيها سعدون وبدت الدهشة على وجهه: ما هذا؟ - لا تندهش. - قيراطين أرض باسمي في قريتنا. - نعم. - ما معنى هذا؟ - معناه أنني اشتريت الأرض في بلدك للبناء، فأنا أعلم أنك بعت أرضك كلها وأرض زوجتك ولم يعد لك في بلدكم شيء، ولكني أردت أن أجعل صلتك بها أكرم صلة. - كيف؟ - سأبني في هذين القيراطين جامعا باسمك.
وطفرت الدموع إلى عيني سعدون، وقال وهو يجهش بالبكاء: هذا أكثر مما أستحق. - وهل نتحاسب؟ - هذا أكثر مما أستحق. - أتعرف الكلمة التي يقولها الناس شكرا لله؟ لا لقد أردت أن أقولها بهذا المسجد الذي أبنيه باسمك.
ومع البكاء الذي راح يعلو من سعدون لم يستطع أن يقول شيئا، وقام الحاج حامد: السلام عليكم ورحمة الله.
الفصل الخامس عشر
لم يستطع حامد أن يكمل حديثه مع سعدون في يومه هذا، فتركه وذهب إلى الفندق الذي يقيم فيه هو والحاجة توحيدة. بعد أسبوع عاد إلى سعدون الذي بادره قائلا: أتعرف ماذا صنعت بي؟ - أنا؟ أنا لا أصنع بك إلا الخير كل الخير. - هو ذاك. لقد أحسست بما صنعته أنت أن الله غفر لي ما تقدم من ذنبي، وترك لي الحرية فيما تأخر. أرجو أن أكون كفئا للأمانة. - أنت كفء لها إن شاء الله. - لم أتصور أن يقام باسمي مسجد وأظل أنا شاربا للخمر. - الله أكبر! - منذ تركتني لم أذق نقطة خمر ولم أترك فرضا. - اللهم لك الحمد والشكر. - وسأسافر إلى الخارج في أمريكا لأنظف دمائي مما لوثته بها من خمور. - على بركة الله. المهم، لقد جئتك اليوم في أمر يهمني ويهمك. - أنا إرادتك عندي أمر. - قم واطلب زوج ابنتك الدكتور أمجد. - وهو كذلك، ودون أن أعرف فيم تريده.
وقام سعدون إلى التليفون، ووجد أمجد بالبيت فطلب منه أن يأتي إليه.
وما هي إلا بضع دقائق حتى كان أمجد معهما، ويقول الحاج حامد: لم أشأ أن أفاتح سعدون بك في هذا الأمر إلا أمامك.
وقال أمجد: أنا تحت أمرك يا عم الحاج، فإنني أكن لك كل احترام. - أريد أن أزوج ابننا شهاب من ابنتنا هناء.
وأرتج على دكتور أمجد، وقال سعدون بعد ريث تفكير: يا أمجد إن شهاب لم يصنع إلا ما يصنعه شباب كثيرون، وسوء حظه هو الذي كشفه.
وقال الدكتور أمجد: كلنا خطاءون، ولكن ألا نترك فرصة للزمن لننسى.
وقال الحاج حامد: عقاب الزاني غير المحصن يختلف عن حد الزاني المحصن، هل سأعلمك الشريعة يا دكتور؟ - البشر لهم عاداتهم وقيمهم الخاصة، وهي لا ترتبط بالحدود الشرعية.
وقال سعدون: اذكر قول المسيح.
وقال دكتور أمجد: لا أستطيع أن أرميه بحجر، فكلنا خطاءون.
وقال الحاج حامد ضاحكا: أنت كنت في أوروبا، أتريد أن تقول لي إنك كنت فيها ملاكا من السماء؟
وضحك دكتور أمجد، وأكمل الحاج حامد: نعم اضحك. والله لو حلفت لي إنك لم تخطئ في أوروبا ما صدقتك.
وضحك ثلاثتهم وقال سعدون: أعرفت هناء بالحكاية؟
وقال دكتور أمجد: وهل كان يمكن أن تخفى عنها؟
وقال سعدون: وماذا كان تعليقها؟
وقال دكتور أمجد: ابتسمت وقالت مسكين.
وناقشتها فيم تقول مسكين؟ قالت: لقد انكشف شهاب هذا كل ما في الأمر.
وقال الحاج حامد في سعادة: زادها الله عقلا. هيه ماذا قلت يا دكتور أمجد؟ - من جهتي أنا لا مانع.
وقال الحاج حامد: طبعا تسألها وتسأل خالته أيضا.
قال سعدون: طبعا خالته ستكون سعيدة، ولكن اسمع يا أمجد، اترك هناء لأسألها أنا. - أمرك.
الفصل السادس عشر
أيكون هذا حبا؟ ومن أين لي بالحب وأنا لم أحس به إلا من أمي؟ أتراني أعرف الحب؟ كل كائن حي يعرف الحب حتى الحيوانات. ولكن هل حبي من ذلك النوع العاصف الذي لا يبقي ولا يذر؟ هل هو هذا الحب الذي يجعل الإنسان قد تحول إلى نبض قلب ووجيب فؤاد بلا تفكير ولا تدبر؟ لا أظن. كل ما أعرفه الآن أنني أريد أن أتزوج إلهام وأنها خير من يصلح لي. ولماذا لا؟ أما حبي فقد بحت به لها ولم أجد منها استنكارا ولا رفضا وفي أول لقاء: - إلهام؟ - نعم. - أريد ... - قل ماذا تريد؟ - أن نتزوج. - أكذب لو قلت لك إنك فاجأتني. - إذن؟ - ألم تتعرف على جوابي بعد كل هذه المرات التي قابلتك فيها؟ - إنه زواج، أن نصبح روحا واحدة في جسدين متلاصقين. الأمر لا يصلح معه التعرف، إنما لا بد من التأكد. - ولكن آباءنا تزوجوا بالأذن وحدها، وربما تزوج بعضهم بالأذن والعين، فما كانا ليلتقيا قبل الزواج وما كانا ليتعارفا. - ربما تقصدين أجدادنا، أما آباؤنا فقد أدركوا عهد التعرف. - ربما. - لم تجيبي. - بل أجبت. - أريدها صريحة. - أنا موافقة. - الجديد في عهدنا أن آخذك بين ذراعي وأنال قبلة، ولم ينتظر إذنها.
رأى من الطبيعي أن يفاتح أمه قبل أبيه: ماما. - هيه. - أريد أن أتزوج. - هكذا، أنت وشهاب في وقت واحد. - هل هناك مانع؟ - بالطبع لا. - إذن؟ - طبعا تعرفت على العروس، وأغلب الأمر اتفقتما. - هل عندك مانع؟ - أبوك رآني مرة واحدة قبل الزواج، ولم يسألني رأيي. - هذا أبي، إنه أمر يتفق تماما مع أخلاقه. لقد تزوج بعقله وحده وبالنفع الذي سيعود عليه من الزواج بك. - ولد! أهذا أسلوب تتكلم به عن أبيك؟ - أنا أصفه، هل عيب أن أصفه؟ - اسكت، اسكت أحسن. قل لي من عروسك؟ - لا أظن أنك تعرفينها؛ فقد كانت زميلتي في الكلية وليست من بنات أصدقائكم. - عرفني بها. - أتعنين أن تريها؟ - قل لي أولا من هي وابنة من، وبعد ذلك أذهب أنا لأراها. - اسمها إلهام وجدي، هل يعني لك هذا الاسم شيئا؟ - طبعا لا، إلا إذا أخبرتني من وجدي هذا؟ وما يعمل؟ و... - لا، لا، اطمئني تماما من هذه الناحية؛ فإنها من أسرة جديرة بكل الاحترام، وأبوها موظف كبير، وجدها من كبار الأغنياء. طبعا هذا الغنى يهم أبي كل الأهمية. - إذن فعلى بركة الله.
وحين جاء هارون عرف من حميدة رغبة ابنه، وسأله: من وجدي والد إلهام يا فائق؟ - اسمه وجدي زين الدين، وجده ...
وفوجئ فائق بأبيه وقد أصبح إنسانا آخر؛ تقلص وجهه، وعلت الكشرة ملامحه، وعلا نبض قلبه حتى ليكاد فائق أن يسمعه، وصاح بابنه: تقول من؟! - وجدي زين الدين. - ابن عبد المجيد زين الدين. - نعم. - ألم تجد في الدنيا كلها إلا حفيدة عبد المجيد زين الدين؟ - وما عيب وجدي زين الدين يا بابا؟ - أبوه يطيق العمى ولا يطيقني. - لماذا؟
وصمت هارون. وماذا يقول؟ فكر قليلا، ثم قال: خصومات قديمة في السوق. - وهل هذه الخصومات تحول بيني وبين زواجي بحفيدته. - نعم أنا أرفض، لن أطلب من ابن عبد المجيد زين الدين يد ابنته ولو انطبقت السماء على الأرض!
أحس فائق في هذه اللحظة أنه إذا كانت رغبته في الزواج من إلهام رغبة عابرة ليس يفجعه ألا تتم، فقد أصبحت الآن رغبة عارمة لا بد لها أن تتم؛ فليس أبوه عنده بالشخص الذي يثق في أسباب خصومته أو صداقته فهو عنده ظنين، علاقاته جميعها تعتمد على المال وحده، ولن أجعل المال يتحكم في رغباتي أنا الآخر وأصبح نسخة أخرى من أبي الذي لم أر منه أنا وأخي لحظة اهتمام بأمورنا. ولولا أن الله أراد لنا الفلاح ما فلحت ولا فلح شهاب. ما رأيك يا هارون بك أنني لن أتزوج إلا من إلهام مهما يكن رأيك في جدها ومهما تكن علاقاتك به.
وكان وجه حميدة شاحبا فقد أحزنها ما فعله زوجها، وأحست في عيني فائق إصراره أن يمضي في طريقه غير عابئ برأي أبيه. وقام فائق وقصد إلى حجرته مغضبا، ونظر هارون إلى زوجته: في ملايين الأرض كلها لم يجد إلا حفيدة عبد المجيد زين الدين! - يا هارون أنت خصومك في السوق كثيرون، وحرام أن تصنع بالولد ما صنعت. - أموت ولا أذهب إلى بيت عبد المجيد زين الدين. - أليس لأبنائك أي حق عليك؟ - أليس لي أنا أي حق على أبنائي؟ - متى سألت عنهم حتى يكون لك حق عليهم؟ - هل أخرت عنهم شيئا؟ - أولادك غيرك يا هارون. - ماذا تقصدين؟ - المال عندهم ليس كل شيء. متى أحسست بهم؟ متى همك أمرهم؟ حتى حين كان واحد منهم يمرض لم تكن تعنى به. - ألا أحب أولادي؟ - هارون ربما كانت هذه أول مرة أسمع منك فيها كلمة الحب. - أعوذ بالله! إلى هذا الحد. - لو عرفت الحب ما كنا اليوم في هذا البيت.
وعلت حمرة الغيظ وجه هارون وأطرق هنيهة، تذكر فيها كل ما كان منه نحو أبيه وما كان من أبيه نحوه، وقام عن مجلسه متجها إلى غرفته، وانحدرت بعض دمعات من عيني حميدة جففتها، ثم قامت إلى التليفون وطلبت أباها: بابا هل أنتم في البيت بعد الظهر؟ - أنا موجود ولا أدري إن كانت والدتك ستخرج أم لا. - أنا أريدك أنت. - أهلا وسهلا. •••
روت له ما وقع من هارون، وحين بلغت من القصة اسم عبد المجيد زين الدين صاح سعدون: قلت من؟! - عبد المجيد زين الدين، أتعرفه؟ - سبحانك يا رب وما أعجب تصريفك! اغفر يا رب! - ماذا يا أبي؟ - طبعا رفض هارون. - منذ سمع اسم عبد المجيد هذا. أهو رجل سيئ يا بابا؟ - بل من أحسن الناس وأشرفهم وأكرمهم وأكثرهم محافظة على كرامته، وبيني وبينه حب كبير وتقدير متبادل، ربما من الصعب أن يكون بين اثنين في الدنيا. إنه من أقرب الناس إلي وأنا من أقرب الناس إليه. - صحيح والنبي؟! -
صلى الله عليه وسلم . بل أقل من الصحيح. إنه بالنسبة لي أكثر من أخ. - شرح الله قلبك يا بابا، وربنا يبقيك ويطيل عمرك. - اذهبي إلى بيتك ولا تفاتحي هارون في شيء، واتركي الأمر كله لي. •••
أدرك هارون فيم يريده حموه حين طلب إليه أن يمر به، ولم يكن مرتاحا إلى هذا الاستدعاء ولكنه لم يستطع أن ينكص عن الذهاب إليه. وقال سعدون: أمرك عجيب يا هارون. - حسبت أنك أول من يجد لي العذر في رفضي أن يتزوج فائق من حفيدة عبد المجيد زين الدين. - يا أخي أنت الذي اعتديت عليه. - ليس المهم من المعتدي. - أعرفك أنك ليس لك في الشعر، ولكن يحضرني بيت لعزيز أباظة لا بد أن أرويه لك يقول:
وبغوا فلما قلت يا نفس اصبري
غضب الظلوم وعوتب المظلوم - أتحسب أن عبد المجيد سيرضى عن هذا الزواج؟ - هذا ليس شأنك. - أعرف ما بينكما من حب. - فاترك الأمر لي. - كل ما أرجوه منك ألا أحضر الفرح. - كيف هذا؟! وماذا يكون موقف عائلة العروس؟ - الحقيقة الموضوع كله ثقيل على نفسي. - اسمع، ما رأيك أن نزوج الولدين في يوم واحد؟
وفكر هارون لحظات، ثم قال: ولم لا والله فكرة، ولكني لا أريد أن أسلم على عبد المجيد. - يا سيدي ولا يهمك، وما أظن أنه سيحرص على السلام عليك. - إذن نتوكل على الله. •••
طلب سعدون التليفون وأجابه عبد المجيد زين الدين. - هل أنت خارج أم ستبقى بالبيت؟ - أنا تحت أمرك، أتحب أن أجيء إليك؟ - لا، في هذه المرة لا بد أن أجيء أنا إليك. - أهلا وسهلا. - الآن. - أهلا وسهلا. ••• - الكلام الذي سأقوله أقوله بما بيننا من حب. - خيرا إن شاء الله. - أنا الآن مدين لك بما صنعت معي. - أستغفر الله، بل سأظل أنا مدينا لك طول عمري. - لا داعي أن نتعازم على الديون؛ فلكل منا تقديره الخاص بما صنع الآخر. أنا أقدر أنني أنا المدين لك، وقد جئت لأزيد من مقدار هذا الدين أضعافا مضاعفة. - أنت تأمر في مالي وأبنائي كيف شئت. - أتمسك بكلمة أبنائك هذه. - لبيك. - أريد ابنتك إلهام. - تقصد طبعا حفيدتي. - شوقي قال عن الحفيد: ولدته مرتين. - تعبير جميل. - إنه شوقي. - لمن تريد إلهام؟ - جئنا للأمر الصعب. - ليس معك أمر صعب. - لحفيدي الذي ولدته مرتين. - يا ساتر يا رب! - ألم أقل لك؟ - طبعا لو كان المقصود ابن وجيدة ما احتجت إلى هذه المقدمة الطويلة. - ليس هذا بغريب عن ذكائك. - أترضى لي أن أزوج ابنتي من ابن هارون؟ - لا، ولكن أرضى لك أن تزوج ابنتك من حفيد سعدون. - غلبتني. لقد أقسمت ألا أمد يدي لهارون أبدا. - أنا الذي سأقرأ معك الفاتحة. - وأبلغه أنني لن أصافحه. - من هذه الناحية لا تخف. - توكلنا على الله. - نقرأ الفاتحة. - ألا أسأل الأب والأم والعروس؟ - أما عن العروس فهي زميلة فائق في الكلية، ولا بد أن الأمور بينهما مستقرة في أمان الله. أما الأبوين فهذا حقك وحقهما، ولو أنني أعتقد أنهما لن يمانعا ما دمت أنت قد وافقت. - أنت على حق، ولكن من ناحية الشكل، أنت تعرف أبناءنا في أيامنا هذه يحبون أن يشعروا أنهم أصحاب الأمر والنهي في بيوتهم. - أفوت عليك بكرة. - هل أنت متعجل؟ - يا رجل يا طيب ألا تعرف من المتعجل؟ - أهلا بك بكرة إن شاء الله. •••
أقيم الفرح للأخوين، وحرص كل من زين الدين وهارون ألا يتصافحا، ولم يلحظ أحد ما بينهما من جفاء إلا العالمون بما بينهما من خصومة. وانقضت الليلة على أحسن ما تكون، وحضر الفرح بإلحاح من الحفيدين الحاج حامد والحاجة توحيدة.
وبالطبع كانت هناك شقة فاخرة لكل من العروسين اختارها الأخوان وزوجتاهما في عمارة واحدة لم يذهبا إليها بعد الفرح، وإنما سافر شهاب وهناء إلى باريس لقضاء شهر العسل، وسافر فائق وإلهام إلى جنيف، وقد كان هذا أول سفر لأربعتهم إلى خارج مصر.
الفصل السابع عشر
عاد الأعراس إلى القاهرة بعد شهر العسل، وبدأت الحياة تأخذ مجراها الطبيعي بين كل من الزوجين، وحمدوا جميعا ما وفقهم الله له من اختيار. وتجاوز كل منهم الأيام الأولى ذلك الاختلاف الذي تتضح معالمه مع الحياة الجديدة، ووجد كل من الأعراس الأربعة أنه قريب في خلقه وتفكيره مع شريكه أو شريكته؛ فقد كان كل من الأربعة رضي الخلق سمحا لا يحب التعقيد.
وكان من الطبيعي أن تكون الحياة بين هناء وشهاب أكثر يسرا؛ فكل منهما يعرف الآخر منذ ولد، فما بعجيب أن تتفق بينهما الميول والمآرب والرغبات.
أما فائق وإلهام فقد وجدا بعض الصعوبات في الأيام الأولى، ثم ما لبثت الحياة أن لانت بينهما، وتجاوز كل منهما عما لا يتفق وعاداته؛ فقد كانت المبادئ الأساسية في خلق كل منهما واحدة.
عاد الزوجان والزوجتان سعداء جميعا. وبدأ شهاب يعمل مهندسا في شركة أبيه، كما عمل فائق محاسبا فيها أيضا، إلا أن الأخوين حين انفرد بهما المكان في صالون شهاب الفاخر كان بينهما حديث: - ما رأيك يا شهاب هل سنظل نعمل في شركة أبينا؟ - أنا معك؛ فأنا لا أستطيع أن أحقق ذاتي فيها. - ولا أنا. - نعمل حتى يجد كل منا مكانا آخر يرضيه فأنا لا أحب الفراغ. - نحن متفقان.
وعلى هذا الرأي استقر بهما الأمر، فكان كل منهما يعمل حتى لا يواجه الفراغ، وكان كل منهما يبحث عن المكان الذي يجد نفسه فيه. •••
حملت إلهام ولم تحمل هناء، ومرت ثلاثة أشهر دون أن تحمل، ووجد شهاب أمه تسأله عشرات المرات: هل آن لنا أن نفرح بابن لك أو ابنة كما سنفرح بمولود فائق؟ وأمام هذه الأسئلة المتلاحقة لم يجد شهاب بدا من أن يذهب إلى طبيب ليتأكد أن ليس به ما يمنع الإنجاب. وواجهته الحقيقة المريرة، إنه لا يصلح للإنجاب أبدا ولا يصلح معه علاج؛ فإن الذي يعانيه مرض خلقي لا يمنعه من المعاشرة الزوجية الطبيعية، ولكن يمنعه من الإنجاب.
وقع الخبر على شهاب موقعا عنيفا، وعاد إلى البيت وهو يجاهد نفسه جهادا شاقا ألا يبدو عليه ما يعانيه من ألم. سبحانك ربي لماذا أكون شجرة جافة بلا ثمار؟! حسبي الله ونعم الوكيل!
ادعى الإجهاد وذهب إلى فراشه وكأنه سينام، ولكن النوم لم يمس جفونه طول الليل، وهناء تحس أنه يعاني شيئا يخفيه. وفي الصباح ترك فراشه مبكرا وأحست به هناء فلحقت به، وعلى مائدة الإفطار سألته: ماذا بك يا شهاب؟ - ما رأيك أن نزور جدي في البلدة، إننا لم نزره منذ رجعنا من باريس؟ - لا مانع عندي، ولكن لماذا لا تقول لي ماذا بك؟ لا تقل الإجابة البلهاء لا شيء؛ فإن يكن زواجنا منذ شهور فإن معرفتي بك منذ بدأنا نعي ما حولنا أنا وأنت، فأنت ابن خالتي. - حين نعود من عند جدي سأخبرك.
وسافرا إلى الحاج حامد، ورحب بهما الجدان ترحيبا شديدا، وأدرك الحاج حامد أن حفيده يعاني مأساة يحاول أن يتكتمها. فما إن خلت بهما حجرة الاستقبال حتى نظر الجد إلى حفيده نظرة طويلة أدركها شهاب وقال: نعم. - فقل ما بك. - أنا عاجز عن الإنجاب. - عاجز عن الإنجاب أم عن المعاشرة الزوجية؟ آه نسيت أنت طبعا غير عاجز عن المعاشرة.
وابتسم شهاب فقد أدرك أن جده تذكر حادثة الآداب التي مر بها، وقال شهاب: الحيوانات الصالحة للإنجاب معدومة تقريبا. - لا حول ولا قوة إلا بالله.
وأطرق الحاج حامد قليلا، ثم قال: أكان يسعدك أن تأتي بابن يصنع بك ما صنعه أبوك؟ - أنت تعرف يا جدي أنني موفور المال والحمد لله. - وهل يتمثل الجود في المال فقط يا شهاب؟
وصمت شهاب قليلا، ثم قال: لا، طبعا. - لا أحد يعرف أين السعادة، وإن يكن سبحانه قال:
المال والبنون زينة الحياة الدنيا
فهو سبحانه أيضا قال:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم . الله وحده يعرف برحمته أين يكمن الخير لعباده. - فإذا رضيت أنا فما ذنب هناء. - أخبرها وخيرها. - طبعا لن تقبل الطلاق من أجل هذا. - هذا هو الأغلب. - هل أطلقها؟ - وهل دخلت إلى قلبها لتعرف أي الأمرين أحب إليها؛ أن تبقى معك بلا أولاد أم تتزوج من غيرك لتنجب؟ ألا يجوز أن يكون طلاقك لها أشد مرارة عندها من عدم الإنجاب؟ - وكيف أدري؟ - تدري من معاملتها لك ومعاملتها للحياة، فاصبر ولا تتعجل. - أمري إلى الله. •••
وفي الطريق إلى القاهرة خطرت برأس شهاب فكرة أنس إليها ووجد فيها الخلاص من حيرته. حاولت هناء أن تعرف منه ما يشغله، ولكنه أصر على الكتمان، ولم تفز منه إلا بجملة واحدة وهما يقتربان إلى القاهرة، بعد أن ومضت هذه الفكرة في خاطره واطمأن إليها: بعد وصولنا بساعة ستعرفين كل شيء.
بلغا القاهرة وأنزل الخدم الحقائب وقال لها شهاب: سأذهب إلى مشوار سريع وأعود حالا.
ما هي إلا بعض الساعة حتى كان شهاب جالسا مع زوجته، وصمت قليلا وهي تتحرق شوقا لتعرف ما يعانيه زوجها.
أخرج شهاب من جيبه ورقة وأعطاها لهناء وهو يقول: اقرئي هذه.
وقرأت وتولاها الذهول: ما هذا؟ - ألم تقرئي؟ - لماذا؟ - لأني عرفت من الطبيب أنني غير قادر على الإنجاب. - ومعنى هذا أن تكتب هذه الورقة! ألا تسألني؟ - أعرف ما ستجيبين به. - إن تصرفك تصرف فارس شريف، وأنا أقبل ما صنعت لسر واحد لا تعرفه أنت، وأعرفه أنا لأني درست القانون. - ما هو هذا السر؟ - إن إعطاء العصمة لي لا يمنعك حقك في الطلاق أنت أيضا حين تشاء؛ فأنت لم تتنازل عن حقك في الطلاق كما يظن عامة الناس وأفلام الشاشة، وإنما معناه فقط أنك أشركتني معك في الاختيار. أنت رجل عظيم، وطظ في الأولاد.
وطفرت دمعتان من عينيها استقبلهما بكاء عالي النشيج من شهاب، كأنه يطلق به كل ما عاناه في هذه الأيام. وقامت الزوجة واحتضنت زوجها وراحت تربت ظهره في حب وحنان وكأنها تعلن إليه إصرارها على الحفاظ عليه.
الفصل الثامن عشر
كان يوما مشهودا يوم ولادة إلهام؛ فقد كانت الولادة متعسرة، ولم يكن الطبيب قد جاء بعد، ولم يكن بالمستشفى الخاص الذي تلد فيه طبيب متخصص. ودق التليفون في المستشفى ليعلنهم طبيبها أنه في القبة وليس لديه سيارة ولا يستطيع العثور على سيارة أجرة، ودون ريث تفكير قام فائق: أنا ذاهب إليه.
وأسرع إلى سيارته.
إنه الأجل المحتوم، كانت اللحظة التي قدرها الله لصعود فائق إلى السماء ترتقبه في الطريق! كيف؟ لا يهم. إنها حادثة مثل كل الحوادث التي يلاقي فيها العباد ربهم. •••
نزل الخبر على الجميع كما ينبغي أن ينزل. إنها الفجيعة التي لا ينتظر أحد أنها ستنزل به، وهي أقرب إليه من حبل الوريد. إنها المصيبة التي يظن الناس جميعا أنها قد تقع للآخرين ولا يمكن ولا ينبغي ولا يجوز أن تقع بهم. •••
عرف هارون الحزن كما لم يعرفه في حياته قط، واضطربت به الحياة حتى لقد زهد في المال وهو المال. ومرت به أيام لا يدري عنها إلا أنها طويلة طويلة لا تنتهي. قابع هو في بيته لا يريد أن يرى إلى أعماله وأمواله، ولا يشتهي أن يسمع عنها ذكرا.
وفي يوم صحا من الفجر بعد نوم هالع كئيب، وركب سيارته وقال لسائقه: اذهب إلى أبي في البلدة. •••
وحين استقبله أبوه ارتمى بين أحضانه باكيا بكاء مريرا فيه اعتذار وفيه حزن وفيه رجاء جار بطلب الغفران، وظل على حاله فترة لا يدري أطالت أم قصرت. والحاج حامد تنهمر من عينيه الدموع وهو يربت ظهر ابنه لا يدري أهو بهذه الدمعات يبكي حفيده الذي مات، أم يبكي ولده الذي عرف الفجيعة في معناها السفاك القاتل، أم يبكي أيامه هو التي طالت حتى تشهد ما يشهده في هذه اللحظات؟
وحين استقر بهما المقام تبين هارون أن سعدون كان قد سبقه إلى أبيه، ووجد الدموع على خديه سجاما، وصمت ثلاثتهم، ثم تكلم سعدون أخيرا: لقد أسمت إلهام الولد حامد.
وبكى الأب والجد ثانية، وقال سعدون: لكل سحاب حزن بريق أمل يا حاج حامد. - الحمد لله. - يا حاج حامد أنت تستحق أن يكرمك الله، وقد أكرمك بابن لحفيدك، ومن يدري ماذا يدخر لك في السماء؟
وجمع حامد نفسه ليقول في أسى وامتثال لأمر الله: الحمد لله، الحمد لله على ما أخذ، والحمد لله على ما أعطى.
تمت بحمد الله في الساعة 2:10 من يوم الثلاثاء 11 فبراير 1992م، بمكتبي بمجلس الشورى.
Bilinmeyen sayfa