سر برجوعه إلى البيت سرورا عميقا فتمتع بالدفء والحب. واستهان ساعات بمصابه. غير أنه كان يشرد أحيانا وهو ينظر إلى المتبقي من جسده الفارع فيذكر نشاطه وتقلبه بين الأماكن المحبوبة مختالا بشبابه وجماله فيهزج قلبه بالأشجان الخفية. ولم يكن يستسلم للحزن، كان يدفعه ويطارده ويقول لنفسه: عش في الواقع وإنه لغني بإمكانات لا حصر لها!
ولما قالت له جدته مرة: إني راضية إذعانا للمشيئة الإلهية.
فتفكر مليا ثم قال لنفسه ناشدا الراحة المطلقة: لا بأس لمن أبى الاستسلام للعدو أن يستسلم للقدر!
وقررت سنية أن تصوم رجب وشعبان ورمضان بالإضافة إلى يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع. أما كوثر فأوقفت نفسها على رعايته. وملأ هو وقته بألوان التسلية، يدفع كرسيه إلى الفراندا في الأجواء المناسبة، يتابع الراديو، التلفزيون، يستقبل أصدقاء النادي الرياضي في مساء معين؛ فأحيا ذكرى اجتماعات السمر التي ولع بها جده حامد برهان. ولم يجد في أمه محدثة شائقة بخلاف جدته التي لا ينفد مدخرها من ذكريات الماضي وغرائب الأحلام وعجائب عالمي الغيب والشهادة إلى مناقشاتها الواعية عن الدنيا وأحوالها. وتسأل كوثر أمها وهما منفردتان: كيف يصنع إذا وجد نفسه وحيدا ذات يوم؟
فتقول سنية بإيمانها الراسخ: لن يجد نفسه وحيدا أبدا!
ولأول مرة في حياته يغازل القراءة وتغازله، ومن عجب أنه انساق إليها بيسر وشغف، وتخلق في أعماقه ميل جديد نحو الدين؛ فاقتنى من مراجعه ما شاء، وهيمن عليه الاطلاع الديني بقوة مضت تزداد يوما بعد يوم، وحام حول الأسئلة المحيرة فتطلع إلى عالم الثقافة والأشواق بحماس لم يخطر له ببال من قبل. حتى الكتابة حلم بتجربتها حتى قال لنفسه من فوق كرسيه الطبي: ما أضيق الوقت وأقصر العمر !
وفي أحد أيام الجمع سأل خاله محمد: أينبغي أن يفقد الإنسان نصف جسمه ليهتدي إلى نفسه؟
فسأله محمد عما يعنيه فأجاب: فتح لي العجز الأبواب المغلقة.
وراح يحدثه عن شغفه الجديد بالثقافة وفي مقدمتها الدين فسر محمد ورفع عكازته بيمناه قائلا: طوبى لما يهبنا خصوبة الروح!
فقال رشاد: ويخطر لي أحيانا أن أكتب.
Bilinmeyen sayfa