غير أن الحزن قطع قلبها فساء نومها، وكانت تنام إذا نامت وقلبها مسهد، وتحلم بالعذاب. وجاءها خطاب من أخيها ينعى إليها بكريه الذي استشهد في الحرب بعد أن ظن أنه مفقود، فسرعان ما سافرت إلى بني سويف للعزاء. على أنه أفرج عن محمد بعد فترة غير قصيرة فرجع ذات يوم وألقى بنفسه في حضن أمه. وتظاهر - رغم شحوبه وذبوله - بالسرور مخفيا عن أمه الأخبار المحزنة. ورجع إلى عمله بمكتب الأستاذ عبد القادر قدري مصمما على الاجتهاد، ولما سأله الأستاذ: هل شبعت من الإخوانية.
أجابه ضاحكا: العكس هو ما حصل!
فقال الأستاذ عبد القادر: افهم معنى الوفد قبل فوات الأوان، إنه ليس حزبا ولكنه قاعدة الأساس المتماسك، هو بكل إيجاز «مصر».
فتساءل محمد: هل ندور على مدى العمر حول الاستقلال والدستور؟! - جدد ما تشاء ولكن فوق القاعدة المتماسكة، وإلا وجدت نفسك في عهد ما قبل الأسر!
ولما انفرد محمد بأخته منيرة قالت له برثاء: شد ما هزلت!
فقال متجهما : لن تنزع من روحي آلام الضرب الذي انهمر على جسدي كالمطر!
وأدركت سنية ذلك بحدسها، وبتأويل أحلامها، ولكنها صممت على الصبر مع الحياة الجديدة. لفظت حامد برهان من ضميرها كما يبصق الإنسان حلوى فضح الريق فسادها، ولكنه بقي جرحا مفتوحا ينعى الحب والوفاء. وقالت إنها ستنسى تماما وتسلو، بل وتسعد، لو أمكنها ذات يوم أن تعيد إلى البيت شبابه الغض. لديها نصف معاش «الخائن» ومرتب منيرة ومحمد، ولكن الغلاء يمضي في سبيله في بطء وثبات، ثم إن لمحمد ومنيرة آمالهما الخاصة! لم يبق لها إلا الحلم؛ هو الذي يرمم ويطلي ويبيع الأثاث القديم ويشتري أثاثا جديدا، هو الذي يشذب الأعشاب، ويغذي الجذور، ويسمد الأرض، ويغرس أشجار الورد. إنها تحلم وتناجي أرواح الأولياء والجدود، وتقاوم في مجرى ذلك ذاكرتها التي تخون الإرادة فتقذف بشهاب خاطف لذكرى جميلة ما كان ينبغي أن تبرق في الأفق، وتقول لنفسها: لا تطمئني لشيء طيب.
وتغدق على منيرة تساؤلاتها القلقة، فتعلم أن بهجت سليمان توظف بشهادة زراعية متوسطة في وزارة الزراعة، وأنهما ما زالا مقيمين على العهد؛ فتغمغم لذاتها: الأمر لله!
أما محمد فهو آخذ في استرداد صحته وشق طريقه. لم تعد توجد شعب إخوانية ولكن الدين أصبح على رأس مطالعاته، واكتسب عنه رؤية جديدة مختلفة عن دين أسرته المتسم بالسماحة والبساطة. وقد استأذن أمه في زيارة أبيه عقب الإفراج عنه فأمضى ساعة طويلة معه شهدتها ميرفت هانم وآنسة ألفت. رأى ألفت لأول مرة بتمعن وعن قرب فتحرك قلبه البريء، واصطحبها معه في عباءة خياله عند انصرافه. ورآها في القطار، بل وجالسها فيه أحيانا وتبادلا الحديث. وتسلطت بعد ذلك على ذاكرته وخياله؛ فلزمته في البيت والمكتب والمحكمة، على حين وهبته - في واقع الحياة - استجابة طيبة. وخفق قلبه بسعادة الحب حتى تساءل بقلق: ولكن ماما؟!
وإذا بالحياة العامة تباغته بفرحة غير متوقعة فتستقيل الوزارة ويبشر الأفق بانتخابات حرة. صرخ محمد: اللهم لا شماتة!
Bilinmeyen sayfa