Bakaiyat
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Türler
يشير الطبيب إلى السرير الأبيض الصغير في جانب الغرفة، يصفق بيديه، فتمرق من باب داخلي ممرضة صغيرة الوجه، ضيقة العينين، سريعة الخطى، تتقدم نحوك وترجوك أن تخلع القميص. عندما تلاحظ ارتعاش ذراعيك تمد يدها وتساعدك. تنظر إلى وجهها الصغير، وتطيل النظر، تتمدد على الفراش، وتتدلى قدماك من الطرف الآخر، وتحدق في السقف. تقرأ في طبقات الطلاء المتآكل صورا وتهاويل ونقوشا: وجوه مغمضة الأعين، جدران بيوت تتصدع، بوق ينفخ فيه طفل على هيئة ملاك مكسور الجناحين، سفن تذهب ولا تعود، شطوط لن ترسو فيها أبدا. يقترب الطبيب ويمد يده ليرفع القميص الداخلي إلى أعلى. يدق بأصابعه على الصدر والرئتين. يسرق النظر إلى عينيك وملامحك ويحاول أن يوقف المرارة التي تسيل منهما. يضع السماعة على أذنه، ويدق من جديد على الرئة اليسرى. ينفتح فمه ويغمض عينيه لحظة. يعاود تحريك السماعة من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى. تنغرز السكين عميقا في الجرح، وتنفلت الآهة التي حبستها طويلا. ويرف جناح الطير، وتتسع عيونه. نظرتك لا تخطئ الخطوط والتعاريج المنعقدة على جبهة الطبيب، لا تخطئ سيهزم بصره، وتربد ملامحه الدقيقة السمراء. تهم بسؤال ثم تسكت. تزم شفتيك كما زم شفتيه. يسألك بعد تردد، والسماعة لا زالت تفحص وتهمس له بالنبأ المكتوم: هل شكوت قبل هذا من القلب ؟ يتحرك الوخز في الموضع القريب من السماعة، تثبت عليه نظرتك الحادة المستسلمة: أبدا. أبدا لم أشك منه. يأتيك صوته الممدود في حنان مبالغ فيه: وما الذي كنت تشكو منه. تمط شفتيك وتقول وأنت تبحث في تاريخ جسدك: المتاعب العادية. يحاول الطبيب أن يغتصب ضحكة لا تلبث أن تتهاوى ثقيلة على فمه: متاعب المثقفين؟ تفكرون أكثر من اللازم. تحاول أيضا أن تجاريه، فتقع الضحكة مكسورة النفس والجناح على الملاءة البيضاء الناصعة: كما تعرف؛ القولون العصبي. آلام الأسنان ... يقاطعك الطبيب وهو يرفع سماعته ويتركها تتدلى على صدره: والتدخين. تسرع وتقول: طبعا طبعا. يسألك بأدب جم: تكثر منه؟ ترد باقتضاب، وتتمنى لو تشعل واحدة: للأسف.
يتجه إلى مكتبه، ويضع السماعة في حقيبته، تطلب منك الممرضة أن تنهض وتساعدك على ارتداء القميص الصيفي الأبيض. يتناهى إليك صوته من بعيد، بعيد، خير إن شاء الله. استرح قليلا. يأمر الممرضة بصوت أقرب إلى الصراخ: لماذا تتعبينه بالوقوف؟ استرح يا أستاذ، ولا تنهض من مكانك. سأعود حالا. يتوالى الوخز وتؤلمك الشوكة. تتابع نظرتك الممرضة التي انشغلت عنك بأدوات وعلب وزجاجات على المكتب، وظهرها النحيل يتدحرج مع كل كلمة: كورامين. ثم وهي تستدير نحوك باسمة: لن تشعر بأي ألم؟ تسحب عينيك إلى داخلك. تتصاعد خطى اليوم المرهق وتذكاراته إلى أطرافك كالرصاص الصدئ الثقيل. يتصاعد معها الندم على الساعات الضائعة واللحظات المقتولة. تتجول في مبنى التليفزيون، والذي قضيت فيه ساعات. دائما وأبدا نفس المصيدة. تستدرج إليها، وتشارك في مأدبة الثرثرة وتأكل لحما عافته نفسك منذ زمان. هناك تحدثت عن الغربة «إننا الأغراب في الفقر الكبير». غربة المثقف في أوروبا. زهرة العمر وقنديل أم هاشم. وأديب الخارج من جوف الهرم وأنفاس الموت الأبدي ليصدم بهواء الحرية، ويحترق بشمس الجنس المسعورة. «القطيع غاب راعيه، وطالت رحلته. وهو في بيداء لا ظل بها.» وحوار ممطوط يتهدج فيه صوتك، تتحشرج أنفاسك وهي تحاول أن تنفذ في غابات الشوك المغروزة في صدرك، وضحكات لم تستمتع بها، وثناء تتأفف منه، وبطولات حققها أبطال موهوبون، وما أغناك عنها. وتنادم غربتك وتسقيها وتنادمك. وتقول لنفسك وسط الأضواء على مرأى من فرسان العصر: «أسعى وراء الشمس، والشمس في ظهري.» ويختلس الحلم نظراته إلى شمس أخرى ومدن أخرى، إلى حياة التفرغ تحت شمس كمبريدج الشتوية،
7
إلى العودة لمشاهد عنترة
8
الذي لم يتم ويحتاج لجو آخر وهواء آخر وفرسان غير الفرسان، إلى مشارف الخمسين،
9
التي تنتظر أن تكملها بذكريات وذكريات من زمن الجراد والاكتئاب والضحكات المغتصبة، وجيل الموتى قبل الموت، إلى وجوه تتذوق طعم البسمة، وعيون تحلم، وتعمل لمدن المستقبل، إلى أجساد خلقت للحب، وعرفت سر المعجزة، لكن جاء الغيلان. تنتبه إلى ظل الممرضة التي تقف أمام سريرك والحقنة في يدها. تبتسم وتقول: أقل من ألم الشعراء. لن تحس بشيء. تمد ذراعك الأيسر، فتقول: أقل من ألم الأيمن. تمر بقطعة قطن في يدها اليمنى على العرق المنتفض: عرق لا يتعب. يدعو للشك. تضحك الممرضة، وهي تغرز الإبرة بتؤدة وبراءة: سمعت عن رجل يقول: أنا أشك، فأنا إذن موجود. ومنذ ذلك اليوم، وأنا أشك كل من يرقد على هذا السرير. توشك أن تنفجر الضحكة، فيتهدج صوتك ويشتد سعالك. تنزعج الممرضة. تطمئنها بعد أن تلتقط أنفاسك، وتقول بعد قليل: لو شككت ديكارت لأصبح رجلا عاقلا. تسأل الممرضة: من تدرك غلطتك؟ وتعتذر: حكيم الله يرحمه! تتجه الممرضة إلى المكتب، وتضع الحقنة في طبق كبير من الصاج لا زال البخار يتصاعد منه. تستأذن وتنصرف من الباب الداخلي. تتذكر أنك كتمت سؤالا كان يلح عليك. تسري غيمة التسليم في عينيك، وتثني ذراعيك على صدرك، وتشبك كفيك على موضع القلب. تغمض عينيك وتترك الذكريات والمرئيات وأبيات الشعر تتزاحم عليك كالفراشات السوداء، تحاول أن تطردها عبثا، فيجذبها الحريق المتوهج في صدرك «وضع النطع على السكة والغيلان جاءوا». تزاحم حولك «كهان الأروقة الكذبة، اصطفوا حولك كالدببة. تلاغوا بالكلمات الرواغة كذباب الحانات. لما سكروا سكر الضفدع بالطين. انطلقوا في نبرات مكتظة». وتسلوا بترامي الفقاعات القذرة والألفاظ الفظة، لاكوا لحم الكلمات المطعون، ونهشوا لحمي، باعوا أنفسهم للأصنام الكذبة، واتهموني أني بعت لهم نفسي. آه ماذا أجدت كلماتي حتى تقتلني الكلمات؟ ماذا أجدت رحلة عمري في أعماق البحر؟ أخرجت لآلئ أهديها للفقراء البسطاء، طيبة بيضاء ولامعة وبلون القلب، جاء الغيلان العشرة والغيلان الألف، غاصوا في مستنقع ألفاظ وشعارات عفنة، رجموني بالألفاظ، وطعنوا قلبي بسيوف الكلمات النتنة - «عجزت عن عوني معرفتي، لم تنفعني فلسفتي» كسرت راياتي، وتهاويت إلى القاع أمام الزوجة والأطفال وحيدا عريانا. ماذا أفعل؟ ماذا يبقى لي من تعبي الخاسر؟ هل يسلم حتى الشعر؟ ينتفض الطير الأسود، وينادي الجرح على السكين. تتسلل الممرضة على أطراف قدميها وتقترب من السرير وتنظر إليك. تسأل هامسة: هل نمت؟ تفتح عينيك وتهم بالنهوض، فتشير إليك ألا تتحرك. تعقد وتزم شفتيك وتهز رأسك، وأنت تقول: «تصارعت والهول وجها لوجه، ولكنني ما عرفت الفرار.»
4
لا بد أنك نمت قليلا بعد خروج الممرضة. فها أنت ذا تفتح عينيك، تفركهما، تحس أنهما محمرتان كعادتهما عندما تؤلمانك. ولا بد أنك حلمت بأنك سفينة يهدهدها الموج، وتشتد عليها الريح، فتغرق ويغطيها الماء، هل رأيت أيضا الفئران تهرب منها؟ وهل شعرت بمحنة الربان الذي يكون - هو والفنان - آخر من يغادر السفينة الغارقة؟ لا بد أنك كنت تنتفض غضبا، وتدق أجراس الخطر، وتتحدى الموج الذي يرتطم على جسدك، وينثر رذاذه الملحي البارد على ملابسك، ويزمجر سخطا؛ لأنك لا تخضع لمشيئته. فها هو صدرك يرتجف، والموجة إثر الموجة تتصاعد في داخلك، وتضغط على رقبتك، وتريد لو تظفر من عينيك وأذنيك، وجسدك كله يستحم في مائها وملحها. تفتح عينيك على الجدران البيضاء الخرساء، تتحسس حديد السرير البارد، تطل من النافذة على كتل الليل المتراصة كجبال سوداء، تهمس في سرك: «الله لا يحرمني الليل ولا مرارته.» تتمنى لو يسعف مولاك الشعر، فتمسك باللحظة، وتكبلها في قيد الوقت، كي تتأملها في خلوة، أو تسمعها في صمت. لكن الشعر يفر ويوغل في الوحشة، فتلجأ إلى خزانة ذاكرتك التي لا تحفظ منه كثيرا . وتحاول أن تسند ظهرك على الأعمدة الخلفية، أو تعدل من وضع المخدات تحت رأسك، فيقعدك العجز، ويشتد لهاثك، وتضطرب الموجة في صدرك، وتفور وتحرك شفتيك التي لم يبلغها القيد، ولم تثقلها الأصفاد، وتوشك أن تبكي على الجسد المهزوم، لولا أنك تنكر هذا الضعف على نفسك: «لكنني مجرب قعيد، على رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة، أكسبني التعتيم والجهامة، حين سقطت فوقه في مطلع الصبا.» تحاول أن تتقلب على جنبك؛ لتضغط الشوكة التي عادت تؤلمك، وتحاول أن تثني الذراع، وتجس بيدك سطح الموجة التي ترتفع، وتلطم حاجز الضلوع، لكنك تفاجأ بأن الذراع لا تستجيب لإرادتك، وأن العزم لا يصل إلى الأطراف. رباه! أهو الشلل؟ هل تتحقق نبوءة شعري أم نبوءة قدري؟ هل أقضي ما بقي من العمر قعيدا يجتر تجاربه المرة؟ تلقي بصرك للسقف والحائط وزجاجات الدواء والحقن المرصوصة على المكتب، تصدم أنفك رائحة آسنة صماء لا تعرف كيف تسميها. هل شل الخاطر أيضا؟ تتطلع من جديد عبر النافذة التي لا ترى منها نجما ولا سماء ولا قمرا. ماذا كنت أريد من الدنيا؟ كنت أريد أن ألبس هذا الكون الأعمى ثوب المعنى، وأنغم هذا الزمن الموحش موسيقى. كنت أريد أن أجعل من نثر الأيام المتشابه شعرا يبقى، أن يحلو الإنسان بعين الله ويكبر حرا، يزهو بالتاج على رأسه، بالصدق النابع من نفسه. أردت أن أرى النظام في الفوضى، وأن أرى الجمال في النظام. وكنت نادر الكلام، وتطيل النظر وراء النافذة لعلك تبصر خيطا مختبئا خلف حجاب الغيم، لكنك تحمد نعمة ربك إذ أعطاك الليل، الليل الغارق في بحر حداد في بحر سواد في بحر الصمت الموت، ينتفض صدرك عندما تتردد الكلمة الأخيرة بصوت يفاجئك. يفتح الباب وأنت تردد بينك وبين نفسك بينما تسحب نظراتك من الليل والنافذة والنجوم التي لم ترها والخيط الذي لم تهتد إليه «تعالى الله، هذا الكون موبوء ولا برء. تعالى الله، هذا الكون لا يصلحه شيء، فأين الموت؟ أين الموت؟ أين الموت؟»
Bilinmeyen sayfa