Akdeniz: Bir Denizin Yazgısı
البحر المتوسط: مصاير بحر
Türler
ويشبه نهر البو بالنيل على مقياس صغير من حيث قوته المولدة، فهو قد أوجد أرض الخليج الكبيرة ونصر على الشاطئ الغريني الذي كونه البحر، وساحل مثل هذا يدعوه علماء الأرض ب «الشاطئ الغريني البحري الذي يعين مجراه قوى البحر الشاطئية بأقواس مستوية»، وقد جد الأهلون في قهر هذا النهر الظافر فأنشئوا أسدادا وحواجز متزايدة معارضين بها تلك القوى الطاغية، وهم ما انفكوا، منذ أوائل القرون الوسطى، يقيمون هذه الحواجز المتباعدة في مجرى النهر الفوقاني على مسافة 250 ميلا، ومما زاد الطين والتراب اللذين حولا إلى البحر على تلك الصورة ما كان من كثرة إزالة الغابات.
وإذا ما قيست الخرائط القديمة بالخرائط الجديدة دهش الإنسان من اتساع مدى عمل أجيال بأجمعها نيلا لأرضين صغيرة، مع أن هنالك من الأرضين الكبيرة الصالحة للزراعة ما ترك بورا، ويشعر الرجل العاقل هنا بمثل ما ينطبع في ذهنه عندما يقرأ في البلاغات الحربية استماتة جيوش بأسرها للاستيلاء على قلعة بدلا من حصرها ومجاوزتها. أجل، إن الأحوال هي التي تحمل الإنسان على بذل جهده في كلتا الحالين ، غير أن للكرامة عملا في كلا الأمرين، والواقع أنه يرغب في استخلاص الحق من العدو جيشا كان أو بحرا. والواقع أن المشاعر التي تساور القائد الذي يقرر الاستيلاء على مكان حصين هي كالتي تساور المهندس الذي يقدم على إنشاء أسداد بعد أسداد، ويفضل مجتمع الأجداد، الذين عاشوا في هذه الجزر وجذفوا واصطادوا في هذه القنوات، أن يقتحم الطبيعة في محله على الاغتراب.
ولعمل الإنسان تقريبا مدينة دلتا نهر البو الذي ينقسم إلى سبعة فروع في نهاية الأمر فيؤلف مروحة يزيد طولها على ثلاثين ميلا، ومع ذلك يظل هذا العمل ناقصا لعدم ثبات مجرى الفروع السبعة ولتقلب سرعة الكتل الطينية، وترانا تجاه حال نادرة؛ وذلك لاستطاعتنا أن نتعقب على الخرائط والوثائق ظهور إحدى الدلتات منذ سنة 1200 فنحسب المدى الذي حالت به قوة البحر الصائلة دون تدرج هذه الدلتا نحو التقدم بزلق جانبي.
وما كان من كمال جمال وجهد بشري في تاريخ البندقية عين بكيان هذه الدلتا، وما كان من سرعة زوال الإمارات ودويلات المدن المجاورة حدث بفعل موقعها، وقد قامت مدن جديدة باتجاه البحر مع زوال مدن وشعوب قارية مقدارا فمقدارا، كأفول الطبقات في تاريخ الأمم العظيمة الاجتماعي، وكانت تقوم على هذا الشاطئ مدينة ستينا الغنية قبل العهد الروماني، كما كانت تقوم في زمن يسوع مدينة أدرية التي غدت اليوم فاقدة القيمة بعد ازدهار كبير، وعلى أبنائها الذين يسمعون هدير الأمواج بفعل الزوابع من مسافة خمسة عشر ميلا أن يذكروا، مع سخرية، أن مدينتهم الصغيرة هي التي أعطت ذلك البحر العنيف اسمها.
وقد اختار البندقيون أسوأ موقع بين جميع مناقع ذلك الشاطئ لإقامة مدينتهم، ولم يكن لدى المستعمرين هنالك مراع، ولا مروج، ولا ماء صالح للشرب غير ماء المطر، ولا طعام غير السمك، وكانت مصاب الأنهار المجاورة تجعل الجزر المنخفضة عرضة لخطر كبير بنسبة عدم انتظام جريانها، ولا ريب في أن الذي تحول إلى «القناة الكبرى» كان نهرا يصب في البحر بالقرب من ميستر، ولا ريب في أن القناة الحاضرة الواقعة أمام جيودكا كانت نهر البرنتا، وقد كانت الجزر الخارجية المهجورة مستورة بأعشاب طويلة وعامرة بالطرائد وبالذئاب أيضا.
ويظهر أن صيادين كانوا يقيمون بتلك البقاع البحرية منذ القديم، فنسجت أغرب الافتراضات حول أصلهم، فيرى إسترابون أن أهل تلك الناحية الأولين جاءوا من بريتانية، ويزعم روماني آخر أنهم أتوا من البلاد البلطية، ويؤيد معظم العلماء دوحة بافلاغوني، ويعتقد آخرون أنهم وردوا من إيليرية، ومهما يكن من أمر فإنهم حضروا قبل القرن السابع؛ أي قبل لاجئي أكيلة الهاربين من الهياطلة والقوط واللنبار، ويلوح أن البناء بالآجر المصنوعة من طين تلك المنطقة قد بدئ به في ذلك العصر حين إقامة أول كنيسة، ويظن أنه كان للقسان تأثير كبير في ذلك.
وهنالك نشأ مجتمع حر على شاكلته تحت سلطان الكنيسة فدام ألف عام، وما كان من عزلة تلك الجزائر التي يجعل الماء من المتعذر كل استيلاء عليها بأسلحة ذلك الزمن الابتدائية، وما كان من فقر السكان ومن حياتهم القاسية المنعزلة ومن عطلهم من التقاليد، أمور أعانت على نمو روح الاستقلال عند أولئك الصيادين بما يستحيل وجوده في المجتمعات الإيطالية القارية المعرضة لهجوم الجيران ومغازي أخلاط البرابرة دوما، ومن الطبيعي أن يصبح مثل هؤلاء الجزريون من الزهاد والطلقاء والحرصاء. ومن المحتمل أن كانت البندقية دولة العالم الوحيدة التي لم تحاول إنتاج أبطال، وبما أن البندقية مؤلفة من جزائر، ولم تكن مملكة جزرية مشابهة للأرخبيل الإيجي، فقد كانت، كدولة، تقضي حياة برمائية، أي كانت نصف بحرية ونصف برية، وهكذا كان لها بمزاجها الفاتر وقاية من المخاطر التي حالت في القارة دون ارتقاء البلدان الصغيرة الأكثر حدة.
وإذ وجد تجار البندقية المقتصدون في البحر ما يشغلهم فإنهم لم يبدوا مبذرين في غير أمور الأسطول وفي غير أمور المباني التي تبهر المسافرين من الأجانب، وبينما كانت مراكبهم ال 3000 مجهزة ببحرية نموذجية أعدت وفق نظام متأصل كان من السهل قهر جنودهم المرتزقة في البر. وكانت البندقية تعيش مثل منقع حي ... وهي قد انطلقت من جزيرة لتمتد نحو سواحل بعيدة، وهي قد تشبه بإنكلترة المستعمرة أكثر مما بأثينة وقرطاجة، وكما أن الشعب الإنكليزي التاجر أنجب بشعراء ومفكرين، أنجب الشعب البندقي المقدام التاجر الجزري بمصورين ومثالين ممتازين بقيت آثارهم بعد دور ازدهار البندقية.
وقد اضطرت البندقية، كالإنكليز والفنيقيين، إلى اكتساب سلطان بحري عن تقدير لموقعها وعن خوف من القراصين، وقد حمل ضيق الجزيرة أهلها البندقيين على التوسع صوب البحر، وقد حول أول نجاح كبير أصابوه هذه الضرورة إلى حميا وحفزهم إلى محالفة أي كان وإلى معاهدة أي عدو للدين والحضارة ما وجدت مستودعاتهم ملجأ في الشواطئ البعيدة، وهم لم يسيروا قدما عن حب لنفائس الأمور كالفنيقيين، ولا عن انجذاب إلى الشرق، ولا عن رغبة في السيطرة العالمية، وكلا الشعبين كان مقداما جسورا فأنتج تجارا وساسة وبلغ أوج درجات الازدهار في ظل حكومة من الأعيان خضع لها مختارا، والأغارقة وحدهم هم الذين سبقوهما في هذا المضمار، ولكن ما فطر عليه الأغارقة من عبقرية تفوق عبقرية البندقيين والإنكليز بلغ من السمو ما ظل معه شعورهم التجاري ممتازا.
3
Bilinmeyen sayfa