مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى اللَه على سيدنا محمد وآله وسلم.
أَما بَعد: فإن لآولى ما ابتدئ به كتاب وافتتح به خطاب، حمد الله على جزيل آلائه، وشكره لجميل بلائه، ثم الصلاة على خاتم أنبيائه وعافب رسله، صلوات الله عليهم أجمعين، وسلام عليهم في العالمين وبركاته. والحمد لله الذي هدانا للإسلام، وفضنا على جميع الأنام، وجعلنا من أمة محمد نبيه ﵊.
وبعد: فإن أولى ما عني به الطالب، ورغب فيه الراغب، وصرف إليه العاقل همه، وأكد فيه عزمه، بعد الوقوف على معاني السنن والكتاب، مطالعه فنون الآداب، وما اشتملت عليه وجوه الصواب، من أنواع الحكم التي تحيي النفس والقلب، وتشحذ الذهن واللب، وتبعث على المكارم، وتنهى عن الدنايا والمحارم، ولا شيء أنظم لشمل ذلك كله، وأجمع لفنونه، وأهدى إلى عيونه، وأعقل لشارده، وأثقف لنادره؛ من تقييد الأمثال السائرة، والأبيات النادرة، والفصول الشريفة، والأخبار الظريفة، من حكم الحكماء، وكلام البلغاء العقلاء: من أئمة السلف، وصالحي الخلف، الذين امتثلوا في أفعالهم وأقوالهم، آداب التنزيل، ومعاني سنن الرسول، ونوادر العرب وأمثالها، وأجوبتها ومقاطعها، ومباديها وفصولها، وما حووه من حكم العجم، وسائر الأمم، ففي تقييد أخبارهم، وحفظ مذاهبهم، ما يبعث على امتثال طرقهم واحتذائها، واتباع آثارهم واقتفائها.
وقد جمعت في كتابي هذا من الأمثال السائرة، والأبيات النادرة، والحكم البالغة، والحكايات الممتعة في فنون كثيرة وأنواع جمة، من معاني الدين والدنيا، ما انتهى إليه حفظي ورعايتي، وضمته روايتي وعنايتي، ليكون لمن حفظه ووعاه، وأتقنه وأحصاه زينًا في مجالسه، وأنسًا لمجالسه، وشحذًا لذهنه وهاجسه، فلا يمر به معنى في الأغلب مما يذاكر به، إلا أورد فيه بيتًا نادرًا، أو مثلًا سائرًا، أو حكاية مستطرفة، أو حكمة مستحسنة، يحسن موقع ذلك في الأسماع، ويخفف على النفس والطباع، ويكون لقارئه أنسًا في الخلاء، كما هو زين له في الملاء، وصاحبًا في الاغتراب، كما هو حلي بين الأصحاب.
وجمعت في الباب به منه المعنى وضده لمن أراد متابعة جليسه فيما يورده في مجلسه ولمن أراد معارضته بضده في ذلك المعنى بعينه، ليكون أبلغ وأشفى وأمتع.
وقد قربته، وبوبته ليسهل حفظه، وتقرب مطالعته، وافتتحت أكثر أبوابه بحديث الرسول ﷺ تبركًا بتذكاره، وتيمنًا بآثاره.
وإلى الله أبتهل في حسن العون والتأييد لما يحب، والتسديد، وهو حسبي ونعم الوكيل.
روى عن النبي ﷺ أنه قال: " ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة واحدة، يزيده الله بها هدىً، ويصرفه بها عن ردى ".
ويروى عن عيسى الخياط، عن الشعبي، قال: لو أن رجلًا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة ينتفع بها فيما يستقبل من عمره، ما رأيت أن سفره قد ضاع.
قال محمد بن سلام الجمحي، عن ابن جعدبة، قال: ما أبرم عمر بن الخطاب أمرًا قط إلا تمثل فيه ببيت شعر.
وقال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه: كفاك من علم الأدب أن تروى الشاهد والمثل.
وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدًا أروى للشعر من عروة بن الزبير. فقيل له: ما أرواك للشعر! قال: وما روايتي من رواية عائشة له، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا.
وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا أرواحه، ودعوا ظروفه.
ولقد أحسن القائل، وقيل إنه منصور الفقيه: قالوا خذ العين من كل فقلت لهم في العين فضل ولكن ناظر العين حرفان في ألف طومار مسودة وربما لم تجد في الألف حرفين وروى عن مخلد بن يزيد، عن جابر بن معدان قال: كل حكمة لم ينزل فيها كتاب، ولم يبعث بها نبي، ذخرها الله حتى تنطق بها ألسن الشعراء.
وقال رسول الله ﷺ: " إن من الشعر حكمة ".
روى ابن نعيم، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خذ الحكمة ممن سمعتها، فإن الرجل قد يتكلم بالحكمة وليس بحكيم، كما أن الرمية قد تجئ من غير رامٍ.
؟ باب أدب المجالسة وحق الجليس الصالح
1 / 1
أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف، وأحمد بن عبد الله بن عمر، وخلف بن سعيد بن أحمد، وسعيد بن سيّد، ومحمد بن عبد الله بن حكم، وأحمد بن عبد الله بن محمدّ بن عليّ، واللفظ لسعيد بن سيّد، قالوا: حدثنا محّمد بن عمر بن لبانة، وسليمان بن عبد السّلام، قالا: حدثنا محّمد بن أحمد العتيبيّ، عن أبي المصعب الزّهري، عن عبد العزيز بن أبي حازم، وحدّثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدّثنا بكر بن حماّد، قال: حدّثنا مسدّد: حدثنا أبو عوانة كلاهما عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنّ رسول الله ﷺ قال: " من قام من مجلسه، ثم رجع فهو أحقّ به " ورواه حّماد بن سلمة عن سهيل، بإسناد مثله.
وحدثنا سعيد بن نصر، وعبد الوارث بن سفيان، وأحمد بن محّمد، وأحمد بن قاسم قالوا: حدّثنا قاسم، قال: حدثنا ابن وضّاح، قال: حدّثنا محمد بن مسعود، قال: حدّثنا يحيى القطّان، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: " إذا أتى أحدم المجلس فليسلّم، وإذا قام فليسلم، فليست الأولى بأحقّ من الأخرى ".
وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال حدثنا أبو بكر محمد بن داسة قال: حدّثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي المولى عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري عن أبي سعيد الخدريّ، قال: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: " لا يقيمن أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه " قال: وكان ابن عمر إذا قام له رجلٌ من مجلسه، من غير أني يقيمه لم يجلس فيه. ومن حديث أبي بكرة عن النبيّ ﷺ: مثله.
وقال رسول الله ﷺ: " المجالس بالأمانة، وإنما يتجالس الرّجلان بأمانة الله عزّوجلّ فإذا تفرّقا فليستر كلٌّ منهما حديث صاحبه " وقال أبو البختري: كانوا يكرهون أن يقوم الرجل للرّجل من مجلسه، ولكن ليوسع له.
ومن حديث سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبيّ ﷺ، قال: " لا يوسّع في المجالس إلاّ لثلاثة:لذي علم لعلمه، ولذي سن لسنّه، أو لذي سلطان لسلطانه ".
ومن حديث جابر عن النبيّ ﷺ قال: " المجالس بالأمانة إلا ثلاثة: مجلسٌ سفك فيه دمٌ حرامٌ، ومجلسٌ استحلّ فيه فرجٌ حرام، ومجلسٌ استحلّ فيه مالٌ حرام بغير حقه ".
ومن حديث عمر بن عبد العزيز، عن محّمد بن كعب القرظّي، عن ابن عباس عن النبيّ ﷺ أنّه قال: " لكل شيءٍ شرفٌ، وإنّ شرف المجالس، ما استقبل فيه القبلة ".
وروي عن النبيّ ﷺ أنّه قال: " إذا جلس إليك رجلٌ، فلا تقومنّ حتى تستأذنه ".
وقال ﷺ: " إذا قام الرّجل من مجلسه، فهو أحق به حتّى ينصرف إليه، ما لم يودِّع جلساءه بالسَّلام ".
وقال ﷺ: " لا يفرِّق واحدٌ منكم بين اثنين متجالسين إلاَّ بإذنهما، ولكن تفسَّحوا وأوسعوا ".
وقال أنس بن مالكٍ: ما أخرج رسول الله ﷺ ركبتيه ولا قدميه بين يدي جليسٍ له قطّ، ولا تناول أحدٌ يده فتركها حتّى يكون هو الّذي يدعها.
وقال ابن شهاب: كان رجل يجالس رسول الله ﷺ، فكان لا يزال يتناول عن وجه رسول الله ﷺ الشىء، وكأنّ ذلك آذى رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ: " إذا نزع أحدكم عن أخيه شيئًا فليره إياّه ".
وحدث الحسن البصري: أنّ رجلًا تناول عن رأس عمر بن الخطّاب شيئًا فتركه مرتين، ثم تناول الثالثة، فأخذ عمر بيده، فقال: أرني ما أخذت؟ وإذا هو لم يأخذ شيئًا!! فقال: انظروا إلى هذا، قد صنع هذا ثلاث مراتٍ يريني أنّه يأخذ من رأسي شيئًا ولا يأخذه، فإذا أخذ أحدكم من رأس أخيه شيئًا فليره إيّاه.
قال الحسن: نهاهم أمير المؤمنين عن الملق.
وقال الحسن: لو أنّ إنسانًا أخذ من رأسي شيئا، قلت: صرف الله عنك السُّوء.
وكان محّمد بن سيرين: إذا أخذ أحدٌ من لحيته أو رأسه شيئًا، قال: لا عدمت نافعًا.
وروي عن عمر بن الخطّاب أنه قال: إذا أخذ أحدٌ عنك شيئًا، فقل: أخذت بيدك خيرًا.
1 / 2
وقد روي عن النبيّ ﷺ، أنه قال: لأبي أيّوب الأنصاريّ - وقد نزع عنه أذّى -: " نزع الله عنك ما تكره يا أبا أيّوب ".
قال عمر بن الخطّاب: فحسب المرء من العيّ أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه أن يجد على النّاس فيما تأتيه، وأن يظهر له من النّاس ما يخفى عليه من نفسه.
وعن عمر ﵁ قال: إن مما يصفّي وداد أخيك، أن تبدأه بالسّلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحبّ الأسماء إليه، وأن توسّع له في المجلس.
قال أيّوب الأنصاريّ: من أراد أن يكثر علمه، فليجالس غير عشيرته.
روى سفيان بن عيينة، عن مالك بن معن، قال: قال عيسى ﷺ: جالسوا من تذكركم بالله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغّبكم في الآخرة عمله.
قال المدائني: أوصى يحيى بن خالد ابنه، فقال: يا بنيّ إذا حدّثك جليسك حديثًا، فأقبل عليه وأصغ إليه، ولا تقل قد سمعته وإن كنت أحفظ له، وكأنك لم تسمعه إلاّ منه، فإنّ ذلك يكسبك المحبة والميل إليك.
وعن عبد الملك بن عمير، قال: قال سعيد بن العاص: لجليسي عليّ ثلاث خصال: إذا دنا رحّبت به، وإذا جلس وسّعت له وإذا حدث أقبلت عليه.
وذكر ابن مقسم، قال: سمعت المبرِّد يقول: الاستماع بالعين، فإذا رأيت عين من تحدّثه ناظرةً إليك فاعلم أنه يحسن الاستماع. وقد روينا هذا القول عن سهل بن عبادة.
ومن حديث جابر عن النبيّ ﵇، أنّه قال: " من كان له أخٌ في الله فأكرمه فإنما يكرم الله ".
وروينا عن ثعلب النحوي، أنّه قام لصديق قصده، وأنشده:
لئن قمت ما في ذاك منها غضاضةٌ ... عليّ وإنّي للكرام مذلّل
على أنّها منّي لغيرك هحنةً ... ولكنّها بيني وبينك تجمل
ولغيره في هذا المعنى:
إذا ما تبدّى لنا طالعًا ... حللنا الحبا وابتدرنا القياما
فلا تنكرنّ قيامي إليه ... فإنّ الكريم يجلُّ الكراما
وروينا من حديث عائشة، عن النبيّ ﷺ، أنّه قال: " أنزلوا النّاس منازلهم ". قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: إذا الرجل عند رجلٍ جالسًا، فجاءه طالب حاجةٍ، فسكت عن عونه فقد أعان عليه.
قال عمرو بن العاص: لا أملُّ جليسي ما فهم عنّي، وإنما الملال لدناءة الرّجال. قال: الشّعبيّ في قومٍ ذكرهم: ما رأيت مثلهم أشدّ تنابذًا في مجلس، ولا أحسن فهمًا من محدِّث.
روى الأصمعيّ عن العلاء بن جرير عن أبيه، قال: قال الأحنف بن قيس: لو جلس إليّ مائةٌ لأحببت أن ألتمس رضى كلّ واحدٍ منهم.
وقال عبد الله بن عبّاس: أعز الناس عليّ جليسي الذي يتخطّى النّاس إليّ، أما والله إنّ الذّباب يقع عليه فيشقّ عليّ.قال كشاجم:
؟ وجليسٍ لي أخي ثقةٍ ... كأن حديثه خبره
يسرّك حسن ظاهره ... وتحمد منه محتضره
ويستر عيب صاحبه ... ويستر أنّه ستره
وقال آخر:
جليسٌ لي له أدب ... رعاية مثله تجب
لو انتقدت خلائقه ... لبهرج عندها الذّهب
وعن ابن عبّاس، أنه قال: إنّي لأكره أن يطأ الرجل بساطي ثلاثًا فلا يرى عليه أثرى.
وعنه أيضًا ﵁، أنه سئل: من أكرم الناس عليك؟ قال: جليسي حتّى يفارقني.
قال معاوية لعرابة الأوسي: بأيّ شيءٍ استحققت أن يقول فيك الشّماّخ:
رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقاّها عرابة باليمين
فقال: عرابة: سماع هذا من غيري أولى بك وبي يا أمير المؤمنين، فقال: عزمت عليك لتخبرنّي. فقال: بإكرامي جليسي، ومحاماتي على صديقي.
فقال معاوية: لقد استحققت.
قال عليّ بن الحسين: ما جلس إليّ أحدٌ قط، إلاّ عرفت له فضله حتى يقوم. قال أبو عبادة: ما جلس رجل بين يديّ، إلا مثّل لي أني جالس بين يديه. روى عن عبد الله بن يزيد، وقد روى ذلك لأبي حازم، أنه قال: وطّن نفسك على الجليس السوء، فإنه لا يكاد يخطئك. وقد روى ذلك عن الأحنف، والله أعلم قال بعض الحكماء: رجلان ظالمان يأخذان غير حقّهما، رجلٌ وسّع له في مجلس ضيّق فتربّع وتفتح، ورجلٌ أهديت إليه نصيحةٌ فجعلها ذنبًا.
1 / 3
وقال مسعر بن كدام: رحم الله من أهدى إلىّ عيوبي في ستر بيني وبينه، فإن النصيحة في الملأ تقريع.
قال الأحنف: لأن أدعى من بعدٍ أحبّ إليّ من أن أقصى عن قرب.
وعن الأحنف أيضًا أنه قال: ما جلست مجلسًا قطّ، أخاف أن أقام منه لغيري وقال البعيث بن حريث:؟ وإنّ مكاني في النّدىّ ومجلسي له الموضع الأقصى إذا لم أقرّب
ولست وإن قرّبت يومًا ببائعٍ ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التّحبُّب
ويعتدّه قومٌ كثيرٌ تجارةً ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
جلس رجل إلى الحسن بن عليّ ﵁، فقال: جلست إلينا على حين قيام، أفتأذن؟! كان يقال: إياك وكلُّ جليسٍ لا تصيب منه خيرًا.
وعن معاذ بن جبل، أنه قال: إيّاك وكلّ جليسٍ لا يفيدك علمًا.
كان يقال: من سرّه أن يعظم حلمه، وينفعه علمه، فليقلّ من مجالسته من كان بين ظهرانيه. وقال الحسن البصريّ: انتقوا الإخوان، والأصحاب، والمجالس.
وروى هشام بن عروة،عن محّمد بن المنكدر، قال:كان يقال: خياركم ألينكم مناكب في الصلاة، وركنًا في المجالس، الموطَّئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون.
تباعد كعب الأحبار يومًا في مجلس عمر بن الخطاب، فأنكر ذلك عليه، فقال: يا أميرالمؤمنين! إنّ في حكمة لقمان ووصيته لابنه: إذا جلست إلى ذي سلطان فليكن بينك وبينه مقعد رجل، فلعلّه يأتيه من هو آثر عنده منك فينحّيك فيكون نقصًا عليك.
وكان يقال: الجليس الصّالح خيرمن الوحدة، والوحدة خيرٌ من الجليس السّوء.
وعن جعفر بن سليمان الضّبعيّ، قال: رأيت مع مالك بن دينار كلبًا، فقلت له: ما هذا؟ قال هذا خيرٌ من الجليس السوء.
قال زيادٌ: إنه ليعجبني من الرجال من إذا أتى مجلسًا أن يعرف أين يكون مجلسه، وإني لآتي المجلس، فأدع مالي مخافة أن أدفع عمّا ليس لي.
وكان الأحنف إذا أتاه رجلٌ أوسع له، فإن لم يكن له سعة أراه كأنّه يوسع له.
طرح أبو قلابة لجليس له وسادة، فردّها فقال له: أما سمعت الحديث: " لا تردن على أخيك كرامته ".
قال ابن شبرمة لابنه: يا بنيّ! إياك وطول المجالسة، فإنّ الأسد إنما يجترىء عليها من أدام النظر إليها.
وهذا عندي مأخوذٌ من قول أردشير لابنه: يابنيّ لا تمكّن الناس من نفسك فإن أجرأ النّاس على السّباع، أكثرهم لها معاينة. ومن هذا - والله أعلم - أخذ ابن المعتزّ قوله:
رأيت حياة المرء ترخص قدره ... فإن مات أغلته المنايا الطّوائح
كما يخلق الثّوب الجديد ابتذاله ... كذا تخلق المرء العيون الّلوامح
ومن سوء الأدب في المجالسة: أن تقطع على جليسك حديثه، أو تبدره إلى تمام ما ابتدأ به خبرًا كان أو شعرًا، تتمّ له البيت الذي بدأ به، وتريه أنك أحفظ منه. فهذا غايةٌ في سوء المجالسة، بل يجب أن تصغي إليه كأنك لم تسمعه قط إلاّ منه.
قيل لداود الطّائّي: لم تركت مجالسة الناس؟ قال: ما بقي إلاّ كبيرٌ يتحفّظ عليك، أوصغيرٌ لا يوقِّرك.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لا تجالس عدوّك، فإنه يحفظ عليك سقطاتك ويماريك في صوابك.
قالت الخنساء:
إنّ الجليس يقول القول تحسبه ... خيرًا وهيهات فانظر ما به التمسا
كان يقال: رأس التّواضع، الرّضا بالدُّون من المجلس. وهذا يروى عن ابن مسعود أنّه قال: إنّ من التواضع أن ترضى بالدُّون من المجلس، وأن تبدأ بالسّلام من لقيت.
قال إبراهيم النَّخعيّ إنّ الرجل ليجلس مع القوم فيتكلّم بالكلام، يريد الله به، فتصيبه الرَّحمة فتعمُّ من حوله، وإنّ الرجل يجلس مع القوم فيتكلّم بالكلام يسخط الله به، فتصيبه السَّخطة فتعمُّ من حوله.
كان رسول الله ﷺ يومًا في مجلسه، فرفع رأسه إلى السّماء ثم طأطأه ثم رفعه فسئل عن ذلك فقال: " هؤلاء قومٌ كانوا يذكرون الله فنزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة كالقبّة، فلما دنت منهم تكلّم رجلٌ منهم بباطلٍ فرفعت عنهم ثم تلا: " ويوم تقوم السّاعة يومئذٍ يخسر المبطلون ".
1 / 4
وفي حديث أبي هريرة عن النبيّ ﵇، أنه قال: " ما جلس قومٌ مجلسًا يقرءون فيه القرآن، ويذكرون السُّنن، ويتعلمون العلم ويتدارسونه بينهم، إلاّ حفّت بهم الملائكة، ونزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، فقيل له يارسول الله الرّجل يجلس إليهم وليس منهم، ولا شأنه شأنهم، أتأخذه الرحمة معهم؟ قال: نعم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ".
أنشد أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، ويقال إنها له:؟ إن صحبنا الملوك تاهوا وعقّوا واستخفّوا كبرًا بحقّ الجليس
أو صحبنا االنّجار صرنا إلى البؤ ... س وعدنا إلى عداد الفلوس
فلزمنا البيوت نستخرج العل ... م ونملا به بطون الطّروس
كان يقال: ذوو المروءة والدّين، إذا أحرزوا القوت لزموا البيوت. أنشد أبو عبد الله بن الأعرابيّ - صاحب الغريب -:؟ لنا جلساءٌ ما نملّ حديثهم ألّباء مأمونون غيبًا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... وعقلًا وتأديبًا ورأيًا مسدّدا
بلا فتنةٍ تخشى ولا سوء عشرةٍ ... ولا نتّقي منهم لسانًا ولا يدا
فإن قلت أمواتٌ فلست بكاذبٍ ... وإن قلت أحياءٌ فلست مفنّدا
ولهذا الشعر خبر لابن الأعرابي مع أحمد بن محمد بن شجاع، ذكرناه مع الأبيات في آخر كتاب " بيان العلم وفضله ". ولمحمد بن بشير في هذا المعنى من قصيد له:؟ فصرت في البيت مسرورًا تحدّثني عن علم ما غاب عنّي في الورى الكتب
فردًا تخبّرني الموتى وتنطق لي ... فليس لي في أناسٍ غيرهم أرب
لله من جلساءٍ لا جليسهم ... ولا خليطهم للسوء مرتقب
لا بادرات الأذى يخشى رفيقهم ... ولا يلاقيه منهم منطقٌ ذرب
أبقوا لنا حكمًا تبقى منافعها ... أخرى اللّيالي على الأيّام وانشعبوا
إن شئت من محكم الآثار يرفعها ... إلى النّبيّ ثقاتٌ خيرةٌ نجب
أو شئت من عربٍ علمًا بأوّلهم ... في الجاهلية تنبيني بها العرب
أو شئت من سير الأملاك من عجمٍ ... تنبي وتخبر كيف الرّأي والأدب
؟ حتى كأنّي قد شاهدت عصرهم وقد مضت دونهم من دهرنا حقب
ما مات قومٌ إذا أبقوا لنا أدبًا ... وعلم دينٍ ولا بانوا ولا ذهبوا
قال رسول الله ﷺ: " كفارة ما يكون في المجلس من الّلغط أن تقول: سبحانك الّلهمّ وبحمدك، لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك ".
وفي حديث آخر: " كفارة ما يكون في المجلس ألاّ تقوم حتّى تقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، يا ربّ تب عليّ واغفر لي، فإن كان مجلس لغوٍ كان كفّارته، وإن كان مجلس ذكرٍ كان كالطّابع عليه ".
وقال حّسان بن عطّية: ما من قوم كانوا في مجلس لغوٍ فختموه بالاستغفار إلاّ كتب لهم مجلسهم ذلك استغفارًا كله.
وروي عن جماعةٍ من أهل العلم بتأويل القرآن، في قول الله ﷿: " وسبح بحمد ربك حين تقوم "، منهم مجاهد وأبو الأحوص وعطاء ويحيى بن جعدة قالوا: حين تقوم من كل مجلس تقول فيه: سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، قالوا: ومن قالها غفر له ما كان منه في المجلس.
وقال عطاء: إن كنت أحسنت ازددت إحسانًا، وإن كان غير ذلك كان كفارة.
ومنهم من قال: تقول حين تقوم: سبحان الله وبحمده من كلّ مكانٍ ومن كلّ مجلس.
باب حمد الّلسان وفضل البيان
قال رسول الله ﷺ: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظنّ أنها تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة حتّى يلقاه ... " الحديث.
قال معاذ: قلت يا رسول الله أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: " لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله ".
وروي عن النبيّ ﷺ أنه قال: " أفضل الصدقة صدقة اللسان، تدفع بها الكريهة، وتحقن بها الدم ".
وقال ﵊: " أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند ذي سلطان جائر ".
قال أبو عنبة الخولاني ﵀: ربّ كلمةٍ خير من إعطاء المال. وقال أبان ابن سليم: كلمة حكمة لك من أخيك، خير لك من مالٍ يعطيك؟ لأنّ المال يطغيك والكلمة تهديك.
1 / 5
قالوا: خير الكلام ما دلّ على هدىً، أو نهى عن ردّى.
ذكر عند الأحنف بن قيس: الصمت والكلام، فقال قومٌ: الصمت أفضل فقال الأحنف: الكلام أفضل لأن الصمت لا يعدو صاحبه، والكلام ينتفع به من سمعه، ومذاكرة الرّجال تلقيحٌ لعقولها.
وروي عن النبيّ ﷺ أنّه قال: " رحم الله عبدًا تكلّم بخيرٍ فغنم، أو سكت فسلم ". قال سعيد بن جبير: رأيت ابن عبّاس ﵁ في الكعبة آخذًا بلسانه وهو يقول: يا لسان قل خيرًا تغنم، أو اسكت تسلم.
وقالوا السّكوت سلامة، والكلام بالخير غنيمة، ومن غنم أفضل ممن سلم.
قال أعرابيّ: من فضل الّلسان، أن الله ﷿ أنطقه بتوحيده من بين سائر الجوارح.
وقال عبد الملك بن مروان: الصمت نومٌ والنُّطق يقظة.
قال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلاّ صورة ممثَّلة، أو بهيمة مرسلة، أو ضالّةٌ مهملة.
كان يقال: الألسن خدم القرائح.
قال ربيعة الرأي: السّاكت بين النائم والأخرس.
قالو: إنما المرء بأصغريه: لسانه وقلبه.
كان يقال: اللسان ترجمان الفؤاد، واللسان حيّة الفم.
كان يقال: يجد البليغ من ألم السّكوت ما يجد العييُّ من ألم الكلام.
وقالوا: المرء مخبوءٌ تحت لسانه.
وقال حسان بن ثابت:؟ لساني وسيفي صارمان كلاهما ويبلغ ما لا يبلغ السّيف مذودي وقال جرير:
وليس لسيفي في العظام بقيَّةٌ ... ولا السّيف أشوى وقعةً من لسانيا
وقال الخليل بن أحمد:
أيّ شيءٍ من اللّباس على ذي السّرو ... أبهى من اللّسان البهيّ
قال ابن سيرين: لا شيء أزين على الرجل من الفصاحة والبيان، ولا شيء أزين على المرأة من الشحم.
قال الشاعر:؟ وكائن ترى من ساكتٍ لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التّكّلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللّحم والدّم
قال أبو العتاهية:
وللناس خوضٌ في الكلام وألسنٌ ... وأقربها من كلّ خيرٍ صدوقها
وروى ابن عمر قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله ﷺ: " إن من البيان لسحرا ". فتأولت طائفة هذا على الذم لأن السحر مذموم، وذهب الأكثر من أهل العلم، وجماعة من أهل الأدب إلى أنه على المدح لأن الله تعالى مدح البيان وأضافه إلى القرآن، وقد أوضحنا هذا في كتاب التمهيد والحمد لله.
وقد قال عمر بن عبد العزيز، ﵀، لرجل سأله حاجة فأحسن المسألة، فأعجبه قوله وقال: هذا - والله - السحر الحلال.
وقال عليّ بن العبّاس الرومي:
وحديثها السِّحر الحلال لو أنَّه ... لم يجن قتل المسلم المتحرِّز
في أبيات قد ذكرتها في موضعها من هذا الكتاب.
وقال الحسن: الرجال ثلاثةٌ، رجل بنفسه، ورجل بلسانه، ورجل بماله.
وكان يقال: في اللسان عشر خصال: أداةٌ يظهرها البيان، وشاهدٌ يخبر عن الضمير، وحاكمٌ يفصل به القضاء، وناطقٌ يردّ به الجواب، وشافعٌ تقضى به الحاجات، وواصفٌ تعرف به الأشياء، وواعظٌ ينهى به عن القبيح، ومعزٍّ تسكن به الأحزان، وملاطفٌ تذهب به الضغينة ومونقٌ يلهى الأسماع.
ونظر معاوية إلى ابن عبّاس ﵄، فأتبعه بصره ثم قال متمثلا:
إذا قال لم يترك مقالًا لقائلٍ ... مصيبٍ ولم يثن اللسان على هجر
يصرّف بالقول اللّسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر
ولحسان بن ثابت في ابن عبّاس:
إذا قال لم يترك مقالًا لقائلٍ ... بمنطلقاتٍ لا ترى بينها فصلا
شفى وكفى ما في النّفوس فلم يدع ... لذي إربةٍ في القول جدًّا ولا هزلا
في أبيات قد ذكرتها في باب ابن عباس من كتاب " الصحابة ".
كان يقال: الجمال في اللسان.
قيل للأعرابي: ما الجمال؟ قال: طول الجسم، وضخم الهامة، ورحب الشّدق، وبعد الصّوت. قال حبيب: " لسان المرء من خدم الفؤاد " وقال آخر: " والقول ينفذ ما لا ينفذ الإبر " قال امرؤ القيس: " وجرح اللّسان كجرح اليد " قال ابن أبي حازم:
أوجع من وقعة السّنان ... لذي الحجا وخزة اللّسان
باب ذمّ العيّ وحشو الكلام
قال أبو هريرة: لا خير في فضول الكلام.
وقال عطاء: كانوا يكرهون فضول الكلام.
1 / 6
وقال: بترك الفضول تكمل العقول.
وقال: فضول الكلام ما ليس في دين ولا دنيا مباحًا.
وقال: الصّمت صيانة اللّسان، وستر العيّ.
وقالوا: العيّ الناطق أعيا من العي الساكت.
وقالوا: أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، وما ظهر معناه في لفظه.
وروى عبد الله بن عمر، أنّه قيل له: لو دعوت لنا بدعواتٍ. فقال: اللهم اهدنا وعافنا وارزقنا. فقال رجلٌ لو زدتنا يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: أعوذ بالله من الإسهاب.
وقال شفيّ بن ماتع: من كثر كلامه كثرت خطاياه.
وقال عمر بن الخطاب ﵁: من كثر كلامه كثر سقطه.
قال يعقوب ﵇ لبنيه: يا بنيَّ إذا دخلتم على السلطان فأقلّوا الكلام.
قال ابن هبيرة: ما من شيء إلاّ وهو محتاجٌ إلى فضوله يومًا، إلاّ فضول الكلام.
قال الحسن: رحم الله عبدًا أوجز في كلامه، واقتصر على فصاحته، فإن الله يكره كثرة الكلام.
وكان يقال: أفضل الكلام ما قلّت ألفاظه وكثرت معانيه، أخذ هذا المعنى أحمد بن إسماعيل الكاتب فقال:
خير الكلام قليلٌ ... على كثيرٍ دليلٌ
والعيّ معنىً قصير ... يحويه لفظٌ طويل
وقال أبو العتاهية:
الصّمت أليق بالفتى ... من منطقٍِ في غير حينه
لا خير في حشو الكلا ... م إذا اهتديت إلى عيونه
وقال منصور الفقيه:
تعمّد لحذف فضول الكلام ... إذا ما نأيت وعند التّداني
ولا تكثرنّ فخير الكلام ال ... قليل الحروف الكثير المعاني
قال بعض قضاة عمر بن عبد العزيز ﵀ وقد عزله: لم عزلتني: قال: بلغني أنّ كلامك مع الخصمين أكثر من كلام الخصمين.
تكلّم ربيعة الرأي يومًا فأكثر الكلام، فأعجبته نفسه، وإلى جنبه أعرابيّ فقال له: يا أعرابي ما تعدّون البلاغة فقال: قلة الكلام. قال: ما تعدون العيّ فيكم؟ فقال: ما كنت فيه منذ اليوم.
وأنشد الخشني ﵀:؟؟؟؟ وماالعيّ إلا منطقٌ متتابعٌ سواءٌ عليه حقّ أمرٍ وباطله قالت العرب: لا يجترئ على الكلام إلا فائق أو مائق.
قال الّنمر بن تولب:
أعذني ربّ من حصرٍ وعيٍّ ... ومن نفسٍ أعالجها علاجا
ومن حاجات نفسي فاعصمنيّ ... فإن لمضمرات النَّفس حاجا
وقال آخر:
عجبت لإدلال العيّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالحقّ أعلما
وفي الصّمت سترٌ للعيّ وإنّما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلّما
قال بعض الحكماء: ليس شيء إلاّ إذا ثنيته قصر إلا الكلام، فإنك كلّما ثنيته طال.
قالوا: أعيا العيّ بلاغة بعيّ، وأقبح اللّحن لحنٌ بإعراب.
كان مالك بن أنس يعيب كثرة الكلام ويذمّه ويقول: كثرة الكلام لا توجد إلاّ في النّساء والضعفاء.
ذمّ أعرابيّ رجلًا، فقال: هو من يتامى المجالس، أعيا ما يكون عند جلسائه، أبلغ ما يكون عند نفسه.
باب في اجتناب اللّحن وتعلّم الإعراب
وذمّ الغريب في الخطاب
كتب عمر إلى أبي موسى: أما بعد، فتفقّهوا في السّنّة، وتعلَّموا العربية.
وروي عنه ﵀ أنه قال: رحم الله امرأً أصلح من لسانه.
وقال عليّ بن محّمد العلويّ:
رأيت لسان المرء رائد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون
ولا تعد إصلاح اللّسان فإنّه ... يخبّر عمّا عنده ويبيّن
ويعجبني زيّ الفتى وجماله ... فيسقط من عينيّ ساعة يلحن
كان عبد الله بن عمر يضرب ولده على اللّحن.
قال شعبة: مثل الذي يتعلم الحديث، ولا يتعلم النحو مثل البرنس لا رأس له.
قال المأمون لأحد أولاده - وقد سمع منه لحنًا -: ما على أحدكم أن يتعلم العربية فيقيم بها أوده، ويزين بها مشهده، ويفلَّ بها حجج خصمه بمسكتات حكمه، ويملك مجلس سلطانه بظاهر بيانه. أو يسرُّ أحدكم أن يكون لسانه كلسان عبده أو أمته، فلا يزال الدّهر أسير، كلمته، قاتل الله الذي يقول:
ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه ... إذا هو أبدى ما يقول من الفم
وكائن ترى من صاحبٍ لك معجبٍ ... زيادته أو نقصه في التّكلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللّحم والدَّم
وقال الخليل بن أحمد:
1 / 7
لا يكون السّرى مثل الدّنيٍّ ... لاّ ولا ذو الذّكاء مثل الغبيّ
لا يكون الألدّ ذو المقول المر ... هف عند القياس مثل العييّ
أيّ شيء من اللّباس على ذي السّ ... رو أبهى من اللّسان البهيّ
ينظم الحجة السّنيّة في السّل ... ك من القول مثل عقد الهديّ
وترى اللَّحن بالحسيب أخي الهي ... أة مثل الصّدا على المشرفيّ
فاطلب النّحو للحجاج وللشّع ... ر مقيمًا والمسند المرويّ
والخطاب البليغ عند جواب ال ... قول تزهى بمثله في النّديّ
وارفض القول من طغام جفوا عن ... هـ فقادوا بعضه للنّسيّ
قيمة المرء كلُّ ما يحسن المر ... ء قضاءً من الإمام عليِّ
قال ثعلب: سمعت محمد بن سلاَّمٍ يقول: ما أحدث الناس مروءةً أفضل من طلب النّحو.
قال عبد الله بن المبارك، اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدريّ في الوجه.
وقال عبد الملك: اللحن هجنة بالشريف.
قال ابن شبرمة: إذا سرّك أن تعظم في عين من كنت في عينه صغيرًا، ويصغر في عينك من كان فيها كبيرًا فتعلّم العربية، فإنها تجرّيك وتدنيك من السّلطان. قال الشاعر:
النّحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
والنّحو مثل الملح إن ألقيته ... في كلّ ضدٍّ من طعامك يحسن
وإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها منها مقيم الألسن
رأى أبو الأسود الدُّؤلي أعدالا للتجار مكتوبًا عليها: لأبو فلان!! فقال: سبحان الله يلحنون ويربحون.
قال رجل للحسن البصريّ: يا أبو سعيد! فقال: كسب الدّوانيق شغلك أن تقول: يا أبا سعيد.
مر خالد بن صفوانٍ بقوم من الموالي يتكلّمون في العربية، فقال: لئن تكلمتم فيها لأنتم أول من أفسدها.
وقالوا: العربية تزيد في المروءة.
وقالوا: من أحبّ أن يجد في نفسه الكبر فليتعلم النحو.
وقال أبو شمر: قارئ النحو إذا دخله الكبر استفاد السخط من الله، والمقت من الناس.
وقال الخليل يومًا: لا يصل أحد من النحو إلى ما يحتاج إليه، إلاّ بما لا يحتاج إليه، فقد صار إذًا ما لا يحتاج إليه يحتاج إليه.
وروي عنه في هذا الخبر، أنه قال: من لم يصل إلى ما يحتاج إليه إلا بما لا يحتاج إليه، فقد صار محتاجًا إلى ما لا يحتاج إليه.
وروى أن هذه القصة عرضت مع أبي الهذيل وروي أنها عرضت لأبي عبيدة مع النّظَّام، والذي تقدّم أصحُّ إن شاء الله تعالى.
وقال المأموني:
سأترك النّحو لأصحابه ... وأصرف الهمّة في الصّيد
إنّ ذوي النّحو لهم همّةٌ ... موسومةٌ بالمكر والكيد
يضرب عبد الله زيدًا وما ... يريد عبد الله من زيد
كتب غسّان بن رفيع - المعروف بدماذ - إلى أبي عثمان النحوي المازني:
تفكّرت في النّحو حتّى مللت ... وأتعبت نفسي به والبدن
فكنت بظاهره عالمًا ... وكنت بباطنه ذا فطن
خلا أنّ بابًا عليه العفا ... ء للفاء يا ليته لم يكن
وللواو بابٌ إذا جئته ... من المقت أحسبه قد لعن
إذا قلت هاتوا لماذا يقا ... ل لست بآتيك أو تأتين
أجيبوا لما قيل هذا كذا ... على النّصب؟ قالوا: بإضمار أن
وروينا عن أبي حاتم السّجستاني ﵀ قيل: إنها له. والله أعلم.
وقال آخر:؟؟ إنّما النّحو قياسٌ يتّبع وبه في كلّ علمٍ ينتفع
فإذا ما أبصر النّحو الفتى ... مرّ في المنطق مرًّا واتّسع
واتّقاه كل من جالسه ... من جليسٍ ناطقٍ أو مستمع
وإذا لم يبصر النّحو الفتى ... هاب أن ينطق جبنًا وانقمع
يقرأ القرآن لا يعرف ما ... فعل الإعراب فيه وصنع
يخفض الصّوت إذا يقرؤه ... وهو لاعلم له فيما اتّبع
والّذي يقرؤه علمًا به ... إن عراه الشّك في الحرف رجع
ناظرًا فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف الحقّ صدع
1 / 8
أهما فيه سواءٌ عندكم ... ليست السّنّة فينا كالبدع
وكذاك الجهل والعلم فخذ ... منه ما شئت وما شئت فدع
كان أبو مسلم مؤدب عبد الملك بن مروان، قد نظر في النحو، فلما أحدث الناس التصريف لم يحسنه، وهجا أصحابه فقال:
؟ قد كان أخذهم في النّحو يعجبني ... حتّى تعاطوا كلام الزّنج والرّوم
لّما سمعت كلامًا لست أعرفه ... كأنّه زجل الغربان والبوم
تركت نحوهم والله يعصمني ... من التّقحّم في تلك الجراثيم
وقال عمّار الكلبي:
ماذا لقيت من المستغربين ومن ... قياس نحوهم هذا الّذي ابتدعوا
إن قلت قافيةً بكرًا يكون لها ... معنىً يخالف ما قاسوا وما صنعوا
قالوا لحنت فهذا الحرف منخفضٌ ... وذاك نصبٌ وهذا ليس يرتفع
وحرّشوا بين عبد الله فاجتهدوا ... وبين زيدٍ وطال الضّرب والوجع
فقلت واحدةً فيها جوابهم ... وكثرة القول بالإيجاز تنقطع
ما كلّ قولي مشروحٌ لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
حتّى أعود إلى القوم الّذين غذوا ... بما غذيت به والقول يتّسع
فتعرفوا منه معنى ما أفوه به ... كأنّني وهم في قوله شرع
كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قومٍ على الإعراب قد طبعوا
وبين قومٍ رأوا أشيا معاينةً ... وبين قومٍ حكوا بعض الّذي سمعوا
إنّي ربيت بأرض لا يشبُّ بها ... نار المجوس ولا تبنى بها البيع
ولا يطا القرد والخنزير تربتها ... لكن بها الرّيم والرّئبال والضّبع
وقال أبو هفان:
إذا ما شئت أن تحظى ... وأن تلبس قوهيّا
وأن تصبح ذا مالٍ ... فكن علجًا نبيطيّا
وإن سرّك أن تشقى ... وأن تصبح مقليّا
فكن ذا نسبٍ ضخمٍ ... وكن مع ذاك نحويّا
؟ باب اختلاف عبارتهم عن البلاغة
قال المفضّل الضّبّي لأعرابي: ما البلاغة؟ قال الإيجاز في غير عجز، والإطناب في غير خطل.
وقيل للأحنف: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في استحكام الحجج، والوقوف عند ما يكتفى به.
وقال خالد بن صفوان لرجل كثر كلامه: إنّ البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفّة اللسان، ولا كثرة الهذيان. ولكنها إصابة المعنى القصد إلى الحجة.
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: لمحة دالّة.
وقيل لبشر بن مالك: ما البلاغة؟ قال: التقرّب من المعنى، والتباعد عن حشّو الكلام، ودلالةٌ بقليل على كثير.
سئل عبيد الله بن عتبة: ما البلاغة؟ فقال: القصد إلى عين الحجة بتقليل اللفظ.
وقال غيره: البلاغة معروفة الفصل من الوصل، وفرق ما بين المشترك والمفرد وفصل ما بين المقيّد والمطلق، وما يحتمل التأويل ويستغني عن الدليل.
وقيل لبعض اليونانية: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام.
وقيل لرجل من الرّوم: ما البلاغة؟ حسن الاقتصاد عند البديهة، والغزارة يوم الإطالة.
وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز مواضع الفرصة.
وسأل معاوية بن أبي سفيان صحارًا العبديّ؟ ماالبلاغة عندكم؟ قال: الإيجاز. قال: ما الإيجاز؟ قال: أن تقول فلا تخطئ وتسرع فلا تبطئ، فقال معاوية. وكذلك تقول؟ قال: أقلني يا أمير المؤمنين. أنت لا تخطئ ولا تبطئ.
وقد روي مثل هذا المعنى للحجّاج مع ابن القبعثري. فالله أعلم.
وقالوا: أبلغ النّاس أحسنهم بديهة، وأمثلهم لفظا.
قال خالد بن صفوان: خير الكلام ما ظرفت معانيه، وشرفت مبانيه والتذّت به آذان سامعيه.
؟ باب من خطب فأريج عليه
قال الحرّ بن جابر، وكان أحد حكماء العرب - فيما أوصى به ابنه: وإياك والخطب فإنّها مشوارٌ كثير العثار.
صعد عثمان بن عفّان ﵁ على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم أرتج عليه، فقال: أمّا بعد فإنّ أول كلّ مركبٍ صعب، وما كنا خطباء، وسيعلم الله، وإن امرأً ليس بينه وبين آدم أب حيٌّ لموعوظ.
1 / 9
ويروى أن عثمان بن عفّان ﵁ صعد المنبر فأرتج عليه، فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالا، وأنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال.
وروي في هذا الخبر: أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل.
وروي أنّ عثمان لمّا بويع، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم أرتج عليه، فقال: وليناكم وعدلنا فيكم، وعدلنا عليكم خيرٌ من خطبتنا فيكم، فإن أعش يأتكم الكلام على وجهه.
وروي أنّ عبد الرحمن بن جابر بن الوليد، خطب الناس على منبر حمص فأرتج عليه، فقال: يا أهل حمص! أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب مصقع، ثم نزل.
وأرتج يومًا على عبد الملك بن مروان، فقال:نحن إلى الفضل في الرأي، أحوج منا إلى الفضل في المنطق.
وأرتج على معن بن زائدة، وهو على المنبر، فضرب بيده ثم قال: فتى حرب لا فتى منابر.
صعد عبد الله بن عامر منبر البصرة، فحصر،فشقّ ذلك عليه، فقال له زياد: أيّها الأمير! إنك إن أقمت عامّة من ترى أصابهم أكثر مما أصابك.
صعد عليّ بن أرطاة المنبر، فقال: الحمد لله الذي يطعم هؤلاء ويسقيهم.
أرتج على خالد بن عبد الله القسريّ على منبر الكوفة، فقال: إن هذا الكلام يجيء أحيانًا ويعزب أحيانًا، ويسهل عند مجيئه، ويعسر عند عزوبه طلبه، وربما طلب فأبى، وكوبر فعصى، فالتأنّي لمجيئه أيسر من التعاطي لأبيّه وهو يخلج من الجريء جنانه، وينقطع من الذّرب لسانه، فلا ينظره القول إذا اتسع، ولا يكسره النطق إذا امتنع، وسأعود فأقول إن شاء الله.
خطب رجل من الأزد أقامه زيادٌ للخطبة على منبر البصرة، فلما رقى المنبر، وقال الحمد لله، أرتج عليه، فقال: قد والله هممت ألاّ أحضر اليوم، فقالت لي امرأتي: نشدتك الله إن تركت الجمعة وفضلها، فأطعتها، فوقفت هذا الموقف، فاشهدوا أنها طالق. فقالوا له: انزل قبحك الله. وأنزل إنزالا عنيفًا. وقد قيل: إن هذه القصة لوازع اليشكري، وفي ذلك قال الشاعر:
وما ضرّني ألاّ أقوم لخطبةٍ ... وما رغبتي في مثل ما قال وازع
وذكر القهرميّ عن أبيه قال: قام القلاخ بن حزن يوم عيد خطيبًا، فقال: الحمد لله الذي خلق السّموات والأرض في ستّة أشهر. فقيل له: إنّما خلقها في ستة أيام فقال: أقيلوني، فوالله لقد ظننت أنّي أقللت، وكنت أريد أن أقول في ستّ سنين.
صعد روح بن حاتم المنبر، فلما رآهم قد فتحوا أسماعهم وشقّوا أبصارهم، قال: نكّسوا رءوسكم وغضّوا أبصاركم، فإنّ أول كلّ مركب صعب، وإذا يّسر الله فتح قفل يسِّر.
خطب مصعب بن حيّان خطبة نكاحٍ فحصر، فقال لقّنوا موتاكم شهادة ألاّ إله إلا الله، فقالت أمّ الجارية: عجلّ الله موتك، ألهذا دعوناك؟! قيل لرجل من الوجوه: قم فاصعد المنبر فتكلم، فقام. فلّما صعد المنبر حصر، فقال: الحمد لله الذي يرزق هؤلاء. وبقي ساكتًا فأنزلوه وأصعدوا آخر، فلما استوى قائمًا وقابل وجوه الناس بوجهه، وقعت عينه على رجلٍ أصلع وحصر، فقال اللهم العن هذه الصّلعة.
صعد عتّاب بن زرقاء منبر أصبهان فحصر، فقال: والله لا أجمع عليكم عيّا وبخلاء ادخلوا سوق الغنم فمن أخذ شاة فهي له وثمنها عليّ. وقد روي أن هذا إنما عرض لعبد الله بن عامر على منبر البصرة، وأن عتّاب بن ورقاء هو الذي قام على المنبر فحمد الله ثم أرتج عليه، فجعل يقول: أمّا بعد أمّا بعد ...، وقبالة وجهه شيخ أصلع فقال: أما بعد يا أصلع، فوالله ما غلّطني غيرك، عليّ به، فأتي به فضربه أسواطًا.
وصعد آخر المنبر فقال: إن الله لا يرضى لعباده المعاصي، وقد أهلك أمة من الأمم بعقرهم ناقةً لا تساوي مائتين وخمسين درهما، فسمّى مقوِّم الناقة.
وهذا هو عبد الله بن أبي ثور عامل ابن الزبير على المدينة.
ذكر عمرو بن شبة، حدثنا الحسين بن عثمان عن بعض علماء المدينة، قال: ثم عزل ابن الزّبير عبيدة بن الزبير، واستعمل عبد الله بن أبي ثورٍ حليف بني عبد مناف، فلّقبه أهل المدينة مقوّم ناقة الله، وغلت الأسعار فتشاءموا به، فعزله ابن الزبير.
صعد أعرابيٌّ المنبر فقال: أقول لكم ما قال العبد الصّالح: " ما أريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد "، فقالوا له: هذا فرعون. فقال: قد والله أحسن القول.
قال بزرجهمر: هيبة الزَّلل تورث حصرًا، وهيبة العاقبة تورث جبنًا
باب حمد الصّمت وذمِّ المنطق
1 / 10
قال رسول الله ﷺ: " من صمت نجا ".
وروينا عن عقبة بن عامرٍ، أنه قال: يا رسول الله فيم النّجاة؟ فقال: " يا عقبة أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ".
وروي أنه من كلام لقمان والله أعلم.
وقال رسول الله ﷺ: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ".
وقال رسول الله ﷺ: " ويلٌ لمن يحدِّث الناس فيكذب ليضحكهم، ويلٌ له، ثم ويلٌ له ".
وعن عيسى ﵇، أنه قال: " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتفتنوا قلوبكم ".
وبلغنا أنّ داود ﵇ لقي لقمان بعد ما كبرت سنُّه، فقال: ما بقي من عقلك؟ فقال: لا أنطق فيما لا يعنيني، ولا أتكلَّف ما كفيته.
وقال ابن مسعود: أنذركم فضول الكلام.
وعن ابن مسعود وسلمان الفارسي، قالا:أكثر النّاس وقوفًا يوم القيامة أكثرهم خوضًا في الباطل.
وعن عطاء: فضول الكلام ما عدا تلاوة القرآن، والقول بالسنة عند الحاجة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن تنطق في أمر لا بدَّ لك منه في معيشتك، أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره أن يرى أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه، ثم تلا: " وإنّ عليكم لحافظين. كرامًا كاتبين " و" عن اليمين وعن الشِّمال قعيدٌ، ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد ".
وعنه ﵇ أنه قال: " البرّ ثلاثةٌ المنطق والنظر والصَّمت، فمن كان منطقه في غير ذكر فقد لغا، ومن كان نظره في غير اعتبارٍ فقد سها، ومن كان صمته في غير تفكّر فقد لها ". قال بعض الشعراء:؟ لست ممّن ليس يدري ما هوانٌ من كرامه
إنّ للنّصح وللغ ... ش على العين علامه
ليس يخفى الحبُّ والبغ ... ض وإن رمت اكتتامه
ليس في أخذك بالفض ... ل وبالحلم ندامه
وجواب الجاهل الصَّم ... ت وفي الصَّمت سلامه
وعن الأصمعيّ قال، قال أعرابيّ: السّكوت صيانةٌ لّلسان وسترٌ للعيّ.
وقال أعرابيّ في رجل رماه بالعيّ: رأيت عثرات النّاس في أرجلهم، وعثرة فلان بين فكَّيه.
قال رسول الله ﷺ: " إن الرَّجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة ".
وروي عن النبيّ ﷺ أنه قال: " إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال ".
وذكر الأصمعيّ قال، قال أعرابيٌ: الكلمة أسيرةٌ في وثاق الرَّجل، فإذا تكلّم بها كان أسيرًا في وثاقها.
قيل لبكر بن عبد الله المزنيّ: إنك تطيل الصمت؟ فقال: إن لساني سبعٌ، إن تركته أكلني.
وأنشد الخشنيّ:؟ لسان الفتى سبعٌ عليه مراقبٌ فإنّ لم يزع من غربه فهو آكله وقال الراجز:؟
القول لا تملكه إذا نما ... كالسَّهم لا يرجعه رامٍ رما
وقال آخر:
فداويته بالحلم والمرء قادرٌ ... على سهمه ما دام في كفِّه الَّسهم
قال هبيرة بن أبي وهب:
وإنَّ مقال المرء في غير كنهه ... لكالَّنبل تهوى ليس فيها نصالها
قال أبو العتاهية:؟ من لزم الصَّمت نجا من قال بالخير غنم اجتمع أربعة حكماء، فقال أحدهم: أنا على ردِّ ما لم أقل، أقدر مني على ردّ ما قلت، وقال الآخر: لأن أندم على ما لم أقل، أحبّ إليّ من أن أندم على ما قلت، وقال الثالث: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، فإذا لم أتكلم بها ملكتها، وقال الرابع: عجبت ممن يتكلم بالكلمة، إن ذكرت عنه ضرته، وإن لم تذكر عنه لم تنفعه.
قال طرفة بن العبد:
؟ وإنّ لسان المرء ما لم تكن له ... حصاةٌ على عوراته لدليل
وقال منصور الفقيه:
عليك السُّكوت فإن لم يكن ... من القول بدٌّ فقل أحسنه
فرَّبتما فارقت بالّذي ... تقول أماكنها الألسنة
وقال آخر:
؟ أيُّها المرء لا تقولنّ قولًا ... لست تدري ماذا يجيئك منه
واخزن القول، إنّ الصَّمت حكما ... وإذا أنت قلت قولًا فزنه
وإذا النَّاس أكثروا في حديثٍ ... ليس ممّا يزينهم فاله عنه
وقال أحيحة بن الجلاح:؟ الصَّمت أكرم بالفتى ما لم يكن عيٌّ يشينه
1 / 11
والقول ذو خطلٍ إذا ... ما لم يكن لبٌّ يعينه
قال ابن مقسم، سمعت جحظة يقول: سمعت المأمون يقول: السخافة كثرة الكلام، وصحبة الأنذال.
أنشد ابن المبارك أخًا له كان يصحبه:
واغتنم ركعتين زلفى إلى الل ... هـ إذا كنت فارغًا مستريحا
وإذا ما هممت بالمنطق البا ... طل فاجعل مكانه تسبيحا
إنّ بعض السكوت خيرٌ من النط ... ق وإن كنت بالكلام فصيحا
وقال أبو العتاهية:
؟ ألا إنّ بعد الذخر ذخرًا تنيله ... وشرُّ كلام القائلين فضوله
عليك بما يعنيك من كلّ ما ترى ... وبالصَّمت إلاّ عن جميلٍ تقوله
وله:
وحسبك مَّمن إن نوى الخير قاله ... وإن قال خيرًا لم يكذِّبه فعله
كان يقال: العافية عشرة أجزاء، تسعةٌ منها في الصمت، وجزء في الهرب من النّاس.
كان يقال: من طوَّل صمته، اجتلب من الهيبة ما ينفعه، ومن الوحشة مالا يضرّه. وقال رسول الله ﷺ: " إن من شرار النَّاس الذين يكرمون اتّقاء ألسنتهم ".
وقال الشاعر:
صمتُّ على أشياء لو شئت قلتها ... ولو قلتها لم أبق للصُّلح موضعا
وقال منصور الفقيه:
خرسٌ إذا سألوا وإن ... قالوا: عييٌّ أو جبان
فالعيّ ليس بقاتل ... ولربّما قتل اللّسان
كان يقال: اخزن لسانك كما تخزن مالك.
قال امرؤ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيءٍ سواه بخزَّان
وقال آخر:؟ لعمرك إنّ صمتك ألف عامٍ لأصلح من كلامك بالفضول
فأمسك أو ترى للقول وجهًا ... يبين صوابه لذوي العقول
روينا أن أبا بكر الصديق ﵁، أخذ يومًا بطرف لسانه وقال: ها إنّ ذا أوردني الموارد.
وقال ابن مسعود ﵀: إن كان الشُّؤم ففي اللّسان، ووالله ما على وجه الأرض شيءٌ أحقّ بطول سجن من اللسان.
أخذه الشاعر فقال:
؟ وما شيءٌ إذا فكَّرت فيه ... أحقّ بطول سجنٍ من لسان
كان يقال اللّسان سبع عقور.
قال الشاعر:
؟ رأيت اللسان على أهله ... إذا ساسه الجهل ليثًا مغيرا
قال رسول الله ﷺ: " وهل يكبّ النّاس في النّار على وجوههم إلاّ حصائد ألسنتهم ".
قال الله ﷿: " ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيبٌ عتيدٌ "، وقال: " وإنّ عليكم لحافظين كرامًا كاتبين، يعلمون ما تفعلون ".
وروي عن النبيّ ﷺ أنّه قال: " إن الله عند لسان كلّ قائل، فلينظر كلُّ امرئ ما يقول ".
قال عمَّار الكلبي:؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وقل الحقّ وإلاّ فاصمتن إنَّه من لزم الصَّمت سلم
إنّ طول الصّمت زينٌ للفتى ... من مقالٍ فيه عيٌ وبكم
قال النبي ﷺ: " رحم الله امرءًا أمسك فضل لسانه، وبذل فضل ماله، وعلم أن كلامه محصيٌ عليه ".
قال الأصبحيُّ: من كثر كلامه كثرت خطاياه.
وقال أبو الدَّرداء: من فقه الرَّجل قلَّة كلامه فيما لا يعنيه.
وقال مالك بن دينار: لو كانت الصُّحف من عندنا، لأقللنا الكلام.
قال الشاعر:
؟ في نبوة الدَّهر لي عذرٌ فلا تلم ... من أقعدته صروف الدّهر لم يقم
حصرٌ يقصّر بي عن كلِّ مرتبةٍ ... وما تقصّر عن نيلٍ لها هممي
إن عابني عائبٌ بالصمت قلت له ... حبس الفتى نطقه خيرٌ من النَّدم
وقال معقر بن حمارٍ البارقي:؟؟ الشِّعر لبّ المرء يعرضه والقول مثل مواقع النَّبل وقال آخر:
والقول ينفذ مالا تنفذ الإبر
لما خرج يونس ﵇ من بطن الحوت، أطال الصمت، فقيل له: ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيَّرني في بطن الحوت.
قال عمر بن عبد العزيز: المحظوظ التَّقّي يلجم لسانه، أخذه الحسن بن هانئ فقال:
إنَّما العاقل من أل ... جم فاه بلجام
مت بداء الصَّمت خيرٌ ... لك من داء الكلام
سئل عمر بن عبد العزيز ﵀ عن قتلة عثمان، فقال: تلك دماء كفّ الله عنها يدي، فأنا أكره أن أغمس فيها لساني.
1 / 12
وقال يزيد بن أبي خبيب المتكلم ينتظر اللعنة، والمتصنَّت ينتظر الرحمة. ويقال: شر ما طبع الله عليه المرء، خلق دنيّ، ولسان بذيّ. وقالوا البذاء من النفاق.
وقال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: لا خير في كثرة الكلام، واعتبر ذلك بالنساء والصبيان. إنما هم أبدًا يتكلمون، لا يصمتون.
وقال الحسن لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلَّم فكَّر، فإن كان له قال، وإن كان عليه سكت، وقلب الجاهل من وراء لسانه.
قال نصر بن أحمد:
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل ... وكلّ امرئ ما بين فكَّيه مقتل
وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه ... إذا لم يكن قفلٌ على فيه مقفل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره ... فذاك لسانٌ بالبلاء موكّل
إذا شئت أن تحيا سعيدًا مسلَّمًا ... فدبّر وميّز ما تقول وتفعل
قال صالح بن جناح:
أقلل كلامك واستعذ من شرّه ... إنّ البلاء ببعضه مقرون
واحفظ لسانك واحتفظ من غيّه ... حتّى يكون كأنَّه مسجون
وكِّل فؤادك باللِّسان وقل له ... إنّ الكلام عليكما موزون
فزناه وليك محكمًا في قلّةٍ ... إنّ البلاغة في القليل تكون
قال الّلاحقي:
اخفض الصَّوت إن نطقت بليلٍ ... والتفت بالنَّهار قبل الكلام
قال آخر:
أرى الصَّمت خيرًا من كلامٍ بمأثمٍ ... فكن صامتًا تسلم وإن قلت فاعدل
ولا تك في حقّ الإخاء مفرّطًا ... وإن أنت أبغضت البغيض فأجمل
ولا تعجلن يومًا بشرٍّ تريده ... وإذ ما هممت الدَّهر بالخير فاعجل
ألا إنّ تقوى الله خير مغبّةٍ ... وأفضل زاد الظَّاعن المتحّمل
وقال آخر:
عوّد لسانك قول الصِّدق تحظ به ... إنّ الِّلسان لما عوّدت معتاد
وقال الحكماء: إذا تمَّ العقل نقص الكلام، فضل العقل على المنطق حكمة، وفضل المنطق على العقل هجنة.
وقال عمرو بن العاص: زلّة الرجل عظم يجبر، وزلّة اللسان لا تبقي ولا تذر وقال أعرابي:
عثرات الِّلسان لا تستقال ... وبأيدي الرِّجال تجزي الرِّجال
فاجعل العقل للِّسان عقالًا ... فشراد اللِّسان داءٌ عضال
إنَّ ذمَّ اللِّسان مبقٍ على العر ... ض وبالقول تستبان الفعال
وقال غيره:
يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه ... وليس يموت الرَّجل من عثرة الرِّجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه ... وعثرته بالرِّجل تبرا على مهل
وقال منصور الفقيه:
واخرس إذا خفيت أمو ... ر الحقّ عنك عن الإجابة
فأقلّ ما يجزي الفتى ... بسكوته عزّ المهابة
وقال محمود الوراق:
ولفظك حين تلفظ في جميعٍ ... ولا تكذب مقدّمةٌ لفعلك
فزنه إن أردت القول وزنًا ... وإلاَّ هدّ من أركان نبلك
وقال آخر:؟
ومن لاَّ يملك الشَّفتين يسخو ... بسوء الَّلفظ من قيلٍ وقال
كان يونس بن عبد الأعلى ينشد هذه الأبيات:
قد أفلح السَّاكت الصَّموت ... كلام واعي الكلام قوت
ما كلّ قولٍ له جوابٌ ... جواب ما تكره السكوت
ياعجبًا لامرئ ظلومٍ ... مستيقنٍ أنّه يموت
؟ بابٌ من مزدوَّج الكلام
الزوجة أحد الكاسبين، وقيل إصلاح المال أحد الكاسبين.
قلة العيال أحد اليسارين.
القلم أحد الِّلسانين.
الشيب أحد العسرين.
اليأس أحد النّجحين. ويقال: تعجيل اليأس أحد الظَّفرين.
حسن التَّقدير أحد الكسبين.
الَّلبن أحد الجبنين.
كثرة العيال أحد الفقرين.
المال أحد الجاهين.
الدُّعاء للسَّائل أحد العطاءين، وقيل: الرّد على السائل بالدّعاء إحدى الصَّدقتين.
العجيزة أحد الوجهين. وقيل: الشِّعر أحد الوجهين.
الشَّحم إحدى الحسنيين.
البياض أحد الجمالين. المرق أحد اللّحمين.
ملك العجين أحد الرَّيعين. قال عمر بن الخطاب: املكوا العجين إنه أحد الرَّيعين.
المبلِّغ أحد الشَّاتمين.
السامع للغيبة أحد المغتابين.
1 / 13
الرَّاوية للهجاء أحد الهجَّائين.
فصلٌ منه قال رسول الله ﷺ لرجل أوصاه: " حافظ على العصرين ".
والعصران: الصبح والظهر.
قال رسول الله ﷺ: " من صلى البردين دخل الجنة ".
البردان: الغداة والعشي.
وقال بعضهم: الأبردان: الغداة والعشيّ.
الأيهمان: السّيل والحريق.
الأحمران: الذَّهب والزَّعفران.
الأسودان: التَّمر والماء.
الأطيبان: الأكل والجماع.
الأجوفان:الفم والفرج.
الأصغران: القلب واللسان.
الأكبران: الهمَّة واللُّب.
الأصمعان: الفهم الذكي والرأي الحازم.
الجديدان: اللَّيل والنَّهار وكذلك الملوان، وكذلك العصران، قال حميد ابن ثور الهلالي:
ولن يلبث العصران يومًا وليلةً ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمَّما
وقال أبو بكر بن دريد:
إنَّ الجديدين إذا ما استوليا ... على جديدٍ أدنياه للبلى
وقال سليمان بن بطّال:
وتقلُّب الملوين بينهما الرَّدى ... إن لم يكن هذا يجيء به فذا
العمران: أبو بكر وعمر ﵄ هذا قول الأكثر.
كما قالوا: المكَّتان: مكَّة والمدينة.
والقمران:الشمس والقمر.
قال الفرزدق:
أخذنا بآفاق السَّماء عليكما ... لنا قمراها والنُّجوم الطَّوالع
لم يختلفوا أنه أراد الشمس والقمر.
وقال أبوعبيدة في قول قيس بن زهير.
جزاني الزَّهدمان جزاء سوءٍ ... وكنت المزء يجزي بالكرامة
أراد زهدمًا وأخاه قيسًا ابني محمد بن وهب من بني عبس بن بغيض، وقال أبو عبيدة: الزهدمان: زهدمٌ وكردم.
قال أبو عمر: الحجة في هذا قول الله ﷿: " ولأبويه "، فالأبوان الأب والأم.
وقد قال قتادة: العمران: عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز. والأول أشهر وأكثر.
باب من الأجوبة المسكتة وحسن البديهة
لما أمر رسول الله ﷺ يوم بدر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط، فقال له: من للصِّبية يا محمد؟ قال: النَّار.
قال الأعمش: احذروا الجواب، فإن عمرو بن العاص قال لعديّ بن حاتم: متى فقئت عينك يا أبا طريف؟ قال: يوم طعنت في استك وأنت مولّ يوم صفين.
شهد أعرابّي بشهادة عند معاوية على شيء، فقال: كذبت. فقال: الكاذب والله مزمل في ثيابك. فتبسم معاوية وقال: هذا جزاء من عجل.
أنشد ابن الرِّقاع قصيدة يذكر فيه الخمر، فقال له معاوية: أما إني قد ارتبت فيك في جودة وصف الشراب، فقال: وأنا قد ارتبت بك في معرفته.
قال تميم بن نصر بن سيَّار لأعرابي: هل أصابتك تخمة قط؟ قال: أما من طعامك وشرابك فلا. قال عبد الملك بن مروان لبثينة: ما رجا منك جميل؟ قالت: ما رجت منك الأمَّة حين ملكتك أمرها.
قيل لبعضهم: صحبت الأمير فلانا إلى اليمن، فما ولاّك؟ قال: قفاه.
قيل لأعرابي: صف لنا النخلة. فقال: صعبة المرتقى، بعيدة المهوى، مهولة المجتنى، رهيبة الِّسلاح، شديدة المؤونة، قليلة المعونة، خشنة الملمس، ضئيلة الظل.
دخل معن بن زائدة على المنصور، فأسرع المشي وقارب الخطر، فقال له المنصور: كبرت سنُّك يا معن؟ قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين. قال: وإنك مع ذلك لجلد. قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. قال: وإن فيك لبقية. قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
دخل عديّ بن حاتم على معاوية، وعنده عبد الله بن عمرو، فقال له عبد الله: يا عديّ متى ذهبت عينك؟ قال: يوم مثل أبوك هاربًا، وضرب على قفاه موليًا، وأنا يومئذ على الحق، وأنت وأبوك على الباطل.
قال المهديّ لجرير بن زيد: يا جرير إني لأعدُّك لأمر. قال جرير: إن الله قد أعدَّ لك منّي قلبًا معقودًا بنصيحتك ويدًا مبسوطة بطاعتك، وسيفًا مشحوذًا على عدوك، إذا ما شئت.
قالت جارية ابن السَّمَّاك له: ما أحسن كلامك إلا أنك تردده. قال: أردده حتى يفهمه من لم يكن فهمه. قالت: فإلى أن يفهمه من لم يكن فهمه يمله من فهمه.
قال الحسن لابن سيرين: تعبر الرؤيا كأنك من آل يعقوب. فقال ابن سيرين: وأنت تفسر القرآن كأنك شهدت التنزيل.
قال رجل لعمر بن الخطاب:أهلكنا النوم: فقال: بل أهلكتم اليقظة.
مرت أمة بسعيد بن المسيب وقد أقيم ليضرب، فقالت: يا شيخ! لقد أقمت مقام الخزي. فقال: بل من مقام الخزي فررت.
1 / 14
قال رجلٌ لعمرو بن العاص لأتفرغَنَّ لك. فقال: حينئذ تقع في الشغل.
لقي الحسن الفرزدق في حين خروجه إلى العراق، فسأله عن الناس، فقال: القلوب معك، والسيوف عليك، والنصر من الله.
قال رجل عند الحسن: أهلك الله الفخار. قال:إذا استوحش في الطريق. قيل للأصمعي: لماذا لا تقول الشعر؟ قال: الذي أريده لا يواتيني، والذي يواتيني لا أريده، أنا كالمسنّ أشحذ ولا أقطع.
قيل لابن المقفع: مالك لا تقول الشعر؟ فقال: الذي يواتيني لا أريده، والذي أريده لا يواتيني. قال: ابن مناذر:
لا تقل شعرًا ولا تهمم به ... وإذا ما قلت شعرًا فأجد
قال عبد الله بن مروان لثابت بن عبد الله بن هلال: إنك أشبه الناس بإبليس.
قال: وما تنكر أن يكون سيد الإنس يشبه سيد الجن.
قيل لأعرابية من بني عامر: لقد أحسنت العزاء على ابنك. قالت: إن فقده أيأسني من المصائب بعده. ونعى إلى أعرابية ابن لها، فقالت: لقد نعيتموه كريم الجدّين، ضحوكًا إذا أقبل كسوبًا إذا أدبر، يأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد.
قال الأحوص للفرزدق: متى عهدك بالزنا؟ قال: مذ ماتت العجوز أمك.
قال أبو الزناد لابن شبرمة في مناظرته له: من عندنا خرج العلم. فقال ابن شبرمة: ثم لم يعد إليكم.
قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم! قال: لكنه في نسائكم يا بني عبد شمس أبين.
قال زهير:
" ومن لا يكرَّم نفسه لا يكرَّم " ... "..ومن لا يتّق الشَّتم يشتم "
قال معاوية لابن عباس: أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.
قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: أين ترى عمك أبا لهب؟ قال: في النار، مفترشًا عمتك حماَّلة الحطب. وكانت أم جميل امرأة أبي لهب بنت حرب بن أمية ابن عبد شمس.
قال الرشيد لشريك القاضي: يا شريك! آية في الكتاب ليس لك ولا لقومك فيها شيء. قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال قوله تعالى: " وإنَّه لذكرٌ لك ولقومك "، فقال آية أخرى ليس لي ولا لقومي فيها شيء. قال: وما هي؟ قال: " وكذَّب به قومك وهو الحقُّ ".
قال الرشيد لأبي الحارث جمَّيرا: أيسرك أن تخرا الغالية؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: ولم؟ والناس يتمنونها قال: أخاف أن يختم أمير المؤمنين على سراويلي فلا يفتحها.
قال معاوية بكلام عرّض فيه بعبد الله بن الزبير، فقال: يا أمير المؤمنين لا يكن حقنا منك أن تمسك يدك مغلولة إلى عنقك، وتعمل لسانك في قومك.
وروى أن أبا بكر بن عياش كان أبرص، وكان رجل من قريش يشرب الخمر، فقال له أبو بكر: قيل لنا إن نبيا من الأنبياء بعث بحلّ الخمر. فقال: لا أومن به حتى يبرئ الأبرص.
قدم الوليد بن عقبة الكوفة في زمن معاوية، فأتاه أهل الكوفة يسلمون عليه، وقالوا: ما رأينا بعدك مثلك. فقال خيرًا أم شرًا؟ قالوا: لم نر بعدك إلا شرًا منك. قال: لكني والله ما رأيت بعدكم شرا منكم، والله يا أهل الكوفة، إن حبكم لصلف، وإن بغضكم لتلف.
قال المنذر بن الجارود لعمرو بن العاص: أي رجل أنت لو كانت أمك من عز قريش؟ قال عمرو: أحمد الله إليك، لقد عرضت قبائل العرب على نفسي أتمنى من أيهم تكون أمّي في طول ليلتين، فما خطرت عبد القيس على بالي.
جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص، وهو على المنبر عن أمه، فسأله. فقال: هي سلمى بنت حرملة، تلقب النابغة، من بني عنزة، ثم أحد بنى جلاَّن، أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت وأنجبت. فإن كان لك جعل فخذه.
فاخر رجل من ولد أبي البختريَّ بن هشام رجلا من ولد الزبير، فقال: أنا ابن عقير الملائكة. قال ابن الزبير: فنعم العاقر وبئس المعقور، فقال: أنا ابن شداد البطحاء. قال: شدها أبوك بسلحه، وشدها أبي برمحه.
جلس معاوية يأخذ البيعة على أهل العراق بالبيعة له والبراءة من على، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! إنا نبايع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم، فنظر معاوية إلى المغيرة بن شعبة، فقال: رجل، فاستوص به خيرًا.
1 / 15
ظفر الحجاج بأصحاب ابن الأشعث، فجلس يضرب أعناقهم، فأتي في آخرهم برجل من تميم، فقال له ياحجاج! لئن كنا أسأنا في الدنيا، فما أحسنت في العقوبة. فقال الحجاج: أفّ لهذه الجيف، ما كان فيهم من يحسن هذا؟ وأمر بتخلية سبيل من بقي.
قال عمر بن عبد العزيز لسالم بن عبد الله بن عمر: أساءتك ولايتنا أم سرتك؟ قال: ساءتني لك وسرتني للمسلمين.
عاتب أعرابي أباه فقال: إن عظيم حقك علي، لا يذهب صغير حقي عليك، والذي تمتُّ به إليّ أمت بمثله إليك، ولست أزعم أنّا سواء، ولكن لا يحل لك الاعتداء.
لما مات الحسن أرادوا أن يدفنوه في بيت رسول الله ﷺ، فأبت ذلك عائشة وركبت بغلة وجمعت الناس، فقال لها ابن عباس: كأنك أردت أن يقال: يوم البغلة كما قيل يوم الجمل؟! قالت: رحمك الله، ذاك يوم نسي. قال: لا يوم أذكر منه على الدهر.
قيل لمعاوية بن سفيان، يوم صفين: إنك تقدم حتى نقول: إنك تقبل، وإنك أشجع الناس، وتتأخر حتى نقول:إنك تفر، وإنك أجبن الناس. قال: أتقدم إذا كان التقدم غنما، وأتأخر إذا كان التأخرعزما.
سأل ابن الزُّبير معاوية حاجة فلم يقضها، فاستعان عليه بمولاة له، فقضى حاجته، فقال له رجل: استعنت بامرأة! فقال: إذا أعيت الأمور من أعاليها طلبناها من أسافلها.
اشتكىعبد الله بن صفوان ضرسه، فأتاه رجل يعوده، وقال: ما بك؟ قال: وجع الضرس. فقال: أما علمت ما يقول إبليس؟ قال: لا. قال: يقول: دواؤه الكسر. قال:إنما يطيع إبليس أولياؤه. مرض رجل من الأعراب فعاده جاره فقال: ما تجد؟ قال: أشكو دمَّلًا آلمني وزكامًا أضرَّ بي. فقال:أبشر فإنه بلغنا أن إبليس لا يحسد شيء من الأمراض ما يحسد على هاتين العلتين لما فيهما من الأجر والمنفعة، فأنشأ الأعرابي يقول:
أيحسدني إبليس دائين أصبحا ... بجسمي جميعًا دمَّلًا وزكامًا
فليتهما كانا به وأزيده ... رخاوة فحلٍ ما يطيق قياما
قال أبو جعفر المنصور لأبي جعونة العامريّ من أهل الشام: ألا تحمدون الله بأنا قد ولينا عليكم ورفع عنكم الطاعون؟! قال: لم يكن ليجمعكم الله علينا والطاعون.
قيل لبعضهم: أراك تكره الغزو، وما يكرهه إلا جبان أو متهم؟ فقال: والله إني لأكره أن يأتيني الموت على فراشي، فكيف أسافر إليه مسافة بعيدة.
عرض بعض القواد أصحابه، فمر به رجل معه سيف رديء، فقال له: ويحك ما هذا السيف؟! أما علمت أن الرجل بسيفه؟ فقال أصلحك الله أيها الأمير، إنها مأمورة. قال هذا مما يقطع شيئًا.
قيل لابن سيرين: من أكل سبع رطبات على الريق سبَّحت في بطنه، فقال ابن سيرين: لئن كان هذا هكذا فينبغي للوزينج إذا أكل أن يصلي الوتر والتراويح.
قيل لابن السَّمَّاك في زمن يزيد بن معاوية: كيف تركت الناس؟ قال: مظلوم لا ينتصف وظالم لا ينتهي.
قال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين قالوا: " ربنا باعد بين أسفارنا " أما كان جمع الشمل خيرًا لهم؟ فقال اليماني: قومك أحمق منهم، حين قالوا: " الَّلهمَّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السَّماء، أوائتنا بعذابٍ إليم "، أفلا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه.
قال رجل للرقاشي: ما يجب على المؤمن في حق الله؟ قال: التعظيم له والشكر لنعمه، قال: فما يجب عليه في حق السلطان؟ قال: الطاعة والنصيحة. قال: فما يجب عليه في حق نفسه؟ قال: الاجتهاد في العبادة، واجتناب الذنوب. قال: فما يجب عليه في حق العامة؟ قال: كف الأذى وحسن المعاشرة. قال: فما يجب عليه في حق الخليط؟ قال: الوفاء بالمودة وحسن المعونة.
قال بعض الجلّة لأعرابي من بني تميم يمازحه: يا أعرابيّ! من الذي يقول:
تميمٌ ببطن اللُّؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلّت
فقال: لا أعرفه. ولكن أعرف الذي يقول:
أعضّ الله من يهجو تميمًا ... ومن يروي لها أبدًا هجاءا
ببطن عجوزةٍ وبإست أخرى ... وأدخل رأسه من حيث جاءا
دخل طفيليٌّ دار قوم بغير إذن، فاشتدّ عليه صاحب الدار في القول، فأغلظ له الطفيلي في الجواب، وقال له: والله لئن قمت إليك لأدخلنك من حيث خرجت. فقال صاحب المنزل: أمّا أنا فأخرجك من حيث دخلت، وأخذ بيده فأخرجه.
1 / 16
قال الفرزدق لكثير - وقد أنشد: ما أشبه شعرك بشعري! أفكانت أمك أتت البصرة؟ فقال: لا ولكن أبي أتاها، ونزل في بني دارم.
قال المثّقب العبديّ:
وكلمة حاسدٍ من غير جرمٍ ... سمعت فقلت مرّي فانفذيني
وعابوها عليَّ ولم تعبني ... ولم يعرق لها يومًا جبيني
وما من شيمتي شتم ابن عميِّ ... ولا أنا مخلفٌ من يرتجيني
وذو الوجهين يلقاني طليقًا ... وليس إذا تغّيب يأتليني
بصرت بعيبه فكففت عنه ... محافظةً على حسبي وديني
قال رجلٌ من بني عجل لأبي الرَّوحاء الشاعر، بهمذان: ممن الرجل؟ قال: من العجم. قال العجلي: إنما الشعر للعرب، والمحال أن يقول الشعر رجل من العجم حتى ينزو على أمه رجل من العرب. فقال أبو الروحاء: فكل من لم يقل الشعر من العرب، فقد نزا على أمه رجل من العجم على هذا القياس.
قال مسكين الدارمي:؟ وإذا الفاحش لاقى فاحشًا فبهذا وافق الشَّنّ الطبق
إنما الفحش ومن يعتاده ... كغراب البين ما شاء نعق
أو حمار السُّوء إن أمسكته ... رمح الناس وإن جاع نهق
أو غلام السُّوء إن جوّعته ... سرق الجار وإن يشبع فسق
قال رجل لشريح القاضي: لشد ما ارتفعت فقال له شريح: هل ضرك ذلك؟ إنك لتبصر نعمة الله على غيرك وتعمى عنها في نفسك.
قيل لمزيد - وهو يحمل شيئًا تحت إبطه -: يا مزيد! ما هذا الذي تحت حضنك؟ قال: يا أحمق! ولم خبأته؟ قال الفرزدق للحسن: يا أبا سعيد إني قد هجوت إبليس، أفتسمع؟ فقال له الحسن: اسكت، فإنك على لسانه تنطق.
قيل لأعرابي: أتهمز الفارة؟ قال: إنما يهمزها السنور. قال حمزة الكسائي: أتهمز الذيب؟ قال: لو همزته أكلني.
سأل رجل من الشعراء رجلا من المتكلمين بين يدي المأمون، فقال: ما سنك؟ قال: عظم. قال: لم أرد هذا، ولكن كم تعدَّ؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأزيد. قال: لم أرد هذا، ولكن كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لأهلكني. فضحك المأمون. فقيل له: كيف السؤال عن هذا؟ فقال: أن تقول؟ كم مضى من عمرك.
لقي رجل رجلًا راكبًا، فقال له: أين تنزل فقال له: حيث أضع رجلي.
وهب المفضل الضبي لبعض جيرانه أضحية، فلقيه بعد النحر، فقال: كيف وجدت أضحيتك؟ فقال: ما وجدت لها دمًا، أراد قول الشاعر:؟ ولو ذبح الضّبِّي بالسيف لم تجد من اللؤم للضَّبِّيِّ لحمًا ولا دما اجتمع ناس من الشعراء على باب عدي بن الرِّقاع الشاعر، فخرجت بنت له، فقالت: ما تريدون، قالوا: نريد أباك لنخزيه ونفضحه. فقالت:
تجمّعتم من كلِّ أوبٍ وبلدةٍ ... على واحدٍ لا زلتم قرن واحد
تفاخر أهل الكوفة وأهل البصرة، فقال ابن شبرمة - وكان كوفيًا -: لنا أحلام ملوك المدائن، وسخاء أهل السواد، وظرف أهل الحيرة، ولكم سفه السند، وبخل الخزر، وحمق أهل غسان. قال الربيع الحاجب لشريك القاضي بحضرة المهدي: بلغني أنك اختنت أمير المؤمنين. فقال شريك: لا تقل ذلك. لو كنت اختنته لكان قد أتاك نصيبك.
قال مؤدب يزيد بن عبد الملك يومًا له: لحنت. فقال: الجواد يعثر. قال المؤدب: إي والله، ويضرب حتى يستقيم. فقال: نعم، وربما كسر أنف سائسه.
وقف أعرابي على قوم فقال: رحم الله من لم تمج أذنه كلامي، وقدم لنفسه معاذه من سوء مقامي، فإن البلاد مجدبة، والحال مسغبة، والحياء زاجر يمنع من كلامكم، والفقر يدعو إلى إخباركم، والدعاء أحد الصدقتين، فرحم الله امرءًا أمر بخير. فقيل له: من أنت؟ فقال: اللهم اغفر، سوء الاكتساب يمنعني من الانتساب.
سمع إياس بن معاوية ﵀ يهوديا يقول: ما أحمق المسلمين! يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون. فقال له إياس بن معاوية: أو كل ما تأكله تحدثه؟ قال: لا. لأن الله يجعل أكثره غذاء. قال: فلم تنكر أن يجعل الله جميع ما يأكله أهل الجنة غذاء.
1 / 17
جمع المأمون بين العتَّابي وبين أبي قرَّة النصراني، فقال لهما: تناظرا وأوجزا. فقال العتابي لأبي قرة: أسألك أم تسألني؟ فقال: سلني. قال: ما تقول في المسيح؟ قال: أقول إنه من الله ﷿. فقال العتابي: إن " من " تجيء على أربعة أوجه: فالبعض من الكل على سبيل التجزؤ، والولد من الوالد على سبيل التناسل، والخل من الحلو على سبيل الاستحالة، والخلق من الخالق على سبيل الصنعة، فهل عندك خامسة قال: لا، ولكني لو قلت واحدة من هذه ما كنت تقول؟ فقال العتابي: إن قلت: إنه كالبعض من الكل جزّأته، والباري لا يتجزأ، وإن قلت: إنه كالولد من الوالد أوجبت ثانيا من الأولاد وثالثا ورابعًا إلى مالا نهاية، وهذا لا يجوز على الباري ﷿، وإن قلت على سبيل الاستحالة، أوجبت فسادًا، والباري لا يستحيل ولا ينتقل من حال إلى حال، وإن قلت: إنه كالخلق من الخالق، كان قولا حقا، وهو الحق الذي لا شك فيه. وصف إبراهيم النظام لأبي عبيدة معمر بن المثنى باليقظة وسرعة الجواب، فمر به يومًا ومعه قارورة زجاج، فأراد أن يختبره، فقال: يا أبا إسحاق! ما عيب هذه؟ فقال سريعة الانكسار، بطيئة الانجبار. فأعجب ذلك أبا عبيدة.
دخل المعتصم على خاقان عائدًا فقال للفتح بن خاقان: أيُّما أحسن، دار أمير المؤمنين أم دار أبيك؟ فقال: ما دام أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن.
سمع سوارٌ القاضي الحجّاج بن أرطاة يقول: أهلكني حب الشرف، فقال: اتق الله تشرف.
قال مالك بن أنس: قدم على عمر بن عبد العزيز فتيان، فقالا: إن أبانا توفي فترك مالا عند عمنا حميد، فأمر عمر بإحضاره، فلما دخل عليه، قال له عمر: يا حميد أنت القائل:
حميد الّذي أمجٌ داره ... أخو الخمر ذو الشَّيبة الأصلع
أتاني المشيب على شربها ... وكان كريمًا فما ينزع
فقال: نعم. قال: أما إذ أقررت، فأني سأجلدك؟ قال ولم؟ قال: لأنك أقررت بشرب الخمر، وزعمت أنك تنزع عنها. فقال: هيهات، أين تذهب بك؟ ألم تسمع قول الله يقول: " والشُّعراء يتَّبعهم الغاوون، ألم تر أنَّهم في كلِّ وادٍ يهيمون وأنَّهم يقولون مالا يفعلون "؟ قال عمر: أولى لك يا حميد، لقد أفلت. ثم قال: ويحك ياحميد، كان أبوك صالحًا، وأنت رجل سوء. قال: أصلحك الله، وأنت رجل صالح، وكان أبوك رجل سوء، وما كلُّ الناس يشبه أباه، فقال: إذن هؤلاء يزعمون أن أباهم توفي، وترك عندك مالًا. قال: صدقوا، وأنا أحضره الآن. فأحضره بخواتيم أبيهم، ثم قال: إن هؤلاء توفي أبوهم منذ كذا وكذا، وأنا أنفق عليهم من مالي وهذا مالهم. فقال عمر: ما أحدٌ أحقّ أن يكون عنده منك. قال: ما كان ليعود إليّ وقد خرج من عندي.
دخل الأحنف بن قيس التميمي على معاوية بن أبي سفيان يومًا، فقال: يا أحنف ما الشيء الملَّفف في البجاد؟ يعرض له بقول الشاعر:
إذا ما مات ميتٌ من تميمٍ ... فسرّك أن يعيش فجيء بزاد
بخبزٍ أو بتمرٍ أو بسمنٍ ... أو الشيء الملَّفف في البجاد
تراه يطوف في الآفاق حرصًا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
والشيء الملفف في البجاد: وطب اللبن. فعلم الأحنف ما أراد معاوية بتعريضه، فقال: الشيء الملفف في البجاد هو السخينة يا أمير المؤمنين. وذلك أن قريشًا كانت تعّير بأكل السخينة. وهي حساء من دقيق كانوا يصنعونها عند المسغبة وغلاء السعر.
باب الأدب
قال رسول الله ﷺ: " ما منح والدٌ ولده خيرًا من أدب حسن " وفي رواية أخرى عنه ﵇ أنه قال: " ما نحل والدٌ ولده خيرًا من أدب حسن ".
قال سليمان بن داوود: من أراد أن يغيظ عدوَّه، فلا يرفع العصا عن ولده.
وقال محمد بن سيرين: كانوا يقولون: أكرم ولدك وأحسن أدبه.
كان يقال: من أدّب ولده أرغم أنف عدوه.
قال الحسن: التعلّم في الصغر كالنقش على الحجر.
قال الشاعر:
خير ما ورَّث الرّجال بنيهم ... أدبٌ صالحٌ وحسن الثّناء
هو خيرٌ من الدَّنانير والأو ... راق في يوم شدَّةٍ أو رخاء
تلك تفنى والدِّين والأدب الصَّ ... الح لا تفنيان حتَّى البقاء
إن تأدَّبت يا بنيّ صغيرًا ... كنت يومًا تعدّ في الكبراء
1 / 18
وإذا ما أضعت نفسك ألفي ... ت كبيرًا في زمرة الغوغاء
ليس عطف القضيب إن كان رط ... بًا وإذا كان يابسًا بسواء
قال لقمان: ضرب الوالد للولد كالّسماد للزرع.
قال بعض الحكماء: لا أدب إلاّ بعقل، ولا عقل إلا بأدب.
كان يقال: التجربة علم، والأدب عون، وتركه مضرّة بالعقل.
كان يقال: العون لمن لا عون له الأدب.
قال الأحنف: الأدب نور العقل، كما أنّ النار في الظلمة نورالبصر.
قال الأصمعيّ: ما مطيةٌ أبلغ دركًا وهي وادعة من الأدب.
قال بزرجمهر: أرفع منازل الشَّرف لأهله العلم والأدب.
وقيل: من قعد به حسبه نهض به أدبه.
وقال ابن أبي دؤاد لرجل تخطّى أعناق الرّجال إليه: إنّ الأدب المترادف خير من النَّسب المتلاحف.
كان يقال: الأدب من الآباء، والصّلاح من الله.
كان يقال: من أدّب ابنه صغيرًا قرّت به عينه كبيرًا.
وقال الحجاج لابن القرِّيَّة: ما الأدب؟ قال: تجرُّع الغصّة حتى تمكن الفرصة.
ووصف أعرابيٌّ الأدب في مجلس معمر بن سليمان، فقال: الأدب أدب الدّين، وهو داعيةٌ إلى التوفيق، وسببٌ إلى السعادة وزادٌ من التقوى، وهو أن تعلم شرائع الإسلام، وأداء الفرائض، وأن تأخذ لنفسك بحظّها من النافلة، وتزيد ذلك بصحّة النية، وإخلاص النفس، وحبّ الخير، منافسًا فيه، مبغضًا للشرّ نازعًا عنه، ويكون طلبك للخير، رغبةً في ثوابه، ومجانبتك للّشِّر رهبةٌ من عقابه، فتفوز بالثواب، وتسلم من العقاب، ذلك إذا اعتزلت ركوب الموبقات، وآثرت الحسنات المنجيات.
وقال أعرابيٌ: الأديب من اعتصم بعزّ الأدب من ذلّة الجهل، ولم يتورط في هفوة، وكان أدبه زلفى إلى الحظوة في دنياه وأخراه.
قال منصور الفقيه:
ليس الأديب أخا الرِّوا ... ية للنّوادر والغريب
ولشعر شيخ المحدثين ... أبي نواسٍ أو حبيب
بل ذو التَّفضل والمرو ... ءة والعفاف هو الأديب
كان يقال: من لم يصلح على أدب الله لم يصلح على اختياره لنفسه.
الحطيئة:
إذا نكبات الدَّهر لم تعظ الفتى ... عن الجهل يومًا لم تعظه أنامله
ومن لم يؤدّبه أبوه وأمّه ... تؤدِّبه روعات الرَّدى وزلازله
فدع عنك ما لا تستطيع ولا تطع ... هواك ولا يذهب بحقّك باطله
وقال آخر:
من لم يؤدِّبه والداه ... أدَّبه الَّليل والنَّهار
وقال محمد بن جعفر: الأدب رياسة، والحزم كياسة، والغضب نار، والصَّخب عارٌ.
قال ابن القرِّيَّة: تأدبوا فإن كنتم ملوكًا سدتم، وإن كنتم أوساطًا رفعتم، وإن كنتم فقراء استغنيتم.
قال شبيب بن شبية: اطلبوا الأدب فإنّه عونٌ على المروءة، وزيادةٌ في العقل، وصاحبٌ في الغربة، وحليةٌ في المجالس.
قال عليُّ بن أبي طالب ﵁ في قول الله ﷿: " يا أيُّها الَّذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا "، قال: أدّبوهم وعلّموهم.
قال الشاعر:
يقوِّم من ميل الغلام المؤدِّب ... ولا ينفع التّأديب والرَّأس أشيب
وقال آخر:
إنّ الحداثة لا تقص ... ر بالفتى المرزوق ذهنا
لكن تزكِّى عقله ... فيفوق أكبر منه سنًَّا
وقال آخر:
رأيت الفهم لم يكن انتهابا ... ولم يقسم على مرِّ السِّنين
ولوأنَّ السِّنين تقاسمته ... حوى الآباء أنصبة البنين
قال مصعب بن عبد الله الزُّبيري: قال لي رجل من أهل الأدب فارسيّ النسب: إن ثلاثة ضروب من الرجال لم يستوحشوا في غربة، ولم يقصروا عن مكرمة: الشجاع حيث كان، فبالناس حاجة إلى شجاعته وبأسه، والعالم فبالناس حاجة إلىعلمه، والحلواللسان فإنه ينال ما يريد بحلاوة لسانه ولين كلامه، فإن لم تعط رباطة الجأش، وجرأة الصدر، فلا يفوتنك العلم وقراءة الكتب، فإن بها أدبًا وعلمًا قد قيَّدته لك العلماء قبلك، تزداد بها في أدبك وعلمك.
قال سابق البربريّ:
قد ينفع الأدب الأحداث في مهلٍ ... وليس ينفع بعد الكبرة الأدب
إنَّ الغصون إذا قوَّمتها اعتدلت ... ولن تلين إذا قوّمتها الخشب
قيل لعيسى ﵇: من أدَّبك؟ قال: ما أدَّبني أحدٌ، رأيت جهل الجاهل فاجتنبته.
1 / 19
قال بعض الحكماء: أفضل ما يورِّث الآباء الأبناء: الثناء الحسن، والأدب النافع، والإخوان الصالحون، وأنشدوا:؟
ويعدم عاقلٌ أدبًا فيجفو ... وتنسبه إلى غلظ الطِّباع
ومنزلة التَّأدب من أديبٍ ... بمنزلة السِّلاح من الشُّجاع
قال عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بنيّ لوعداكم ما أنتم فيه ما كنتم تعوّلون عليه؟ فقال الوليد: أما أنا ففارس حرب، وقال سليمان: أما أنا فكاتب سلطان، وقال ليزيد: فأنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين!؟ ما تركاغاية لمختار. فقال عبد الملك: فأين أنتم يا بنيّ من التجارة التي هي أصلكم ونسبتكم؟ فقالوا: تلك صناعة لا يفارقها ذل الرغبة والرهبة، ولا ينجوصاحبها من الدخول في جملة الدّهماء والرعية، قال: فعليكم إذًا بطلب الأدب، فإن كنتم ملوكًا سدتم، وإن كنتم أوساطًا رأستم، وإن أعوزتكم المعيشة عشتم.
باب ترويح القلوب وتنبيهها
قال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله ﷺ يتخوَّلنا بالموعظة مخافة السّآمة علينا.
وكان عليُّ بن أبي طالب يقول: إنّ هذه القلوب تملّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة.
وقال عليٌّ ﵁: نبّه بالتفكّر قلبك، وجاف عن النوم جنبك، واتق الله ربّك.
قال أبو الدّرداء: إني لأستجمُّ قلبي بشيءٍ من اللهو، ليكون أقوى لي على الحقّ.
قال عبد الله بن مسعود: أريحوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمى.
وقال أيضًا: إنّ للقلوب شهوةً وإقبالا، وفترة وإدبارًا، فخذوها عند شهواتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها.
كان يقال: الملالة تفسخ المودّة، وتولّد البغضة، وتنغّص اللّذة.
قال أرسطو طاليس: ينبغي للرّجل أن يعطي نفسه لذّتها في النهار ليكون ذلك عونًا لها على سائر يومه.
في صحف إبراهيم ﵇: وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعةٌ يناجي فيها ربّه، وساعةٌ يحاسب فيها نفسه، وساعةٌ يخلّي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحلّ ويجمل، فإنّ هذه الساعة عونٌ له على سائر السّاعات.
قال عمر بن عبد العزيز: تحدثوا بكتاب الله تعالى، وتجالسوا عليه، وإذا مللتم فحديثٌ من أحاديث الرّجال حسنٌ جميل.
وقال بعض الحكماء من السَّلف: القلوب تحتاج إلى قوتها من الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الغذاء.
دخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه، وهو في نوم الضّحى، فقال: يا أبت إنّك لنائم، وإنّ أصحاب الحوائج لراكدون ببابك فقال: يا بنيَّ إن نفسي مطيّتي، وإن حملت عليها فوق الجهد قطعتها.
قال الحسن البصريُّ ﵁: حادثوا هذه القلوب، فإنّها سريعة الدُّثور، وأفزعواهذه النفوس فإنها طلعة، وإن لم تفعلوا هوت بكم إلى شرّ غاية.
وقال غيره من العلماء: حادثوا هذه القلوب فإنّها تصدأ كما يصدأ الحديد، وقد روي عن النبيّ ﷺ، أنه قال: " إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد ". قالوا: فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: " تلاوة القرآن ".
كان يقال: الفكرة مرآة المؤمن، تريه حسنه من قبيحه.
كان يقال: التفكر نورٌ، والغفلة ظلمة.
باب قولهم في وصف العيش
وما تتمنَّاه الَّنفس
قال رسول الله ﷺ: " من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافىً في جسمه، معه قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدنيا ".
كان عمر بن الخطاب يعجبه قول عبدة بن الطبيب:
المرء ساعٍ لأمرٍ ليس يدركه ... والعيش شحٌ وإشفاقٌ وتأميل
قال أبو يعلى: حدثنا الأصمعي، قال: حدثنا محمد بن حرب الزِّيادي، قال: حدثني أبي قال: قال زيادٌ لجلسائه: من أغبط الناس عيشًا؟ قالوا: الأمير وجلساؤه. فقال:ما صنعتم شيئًا، إنّ لأعواد المنابر هيبة، وإنّ لفرع لجام البريد لفزعة، ولكن أغبط النّاس عندي: رجل له دارٌ لا يجري عليه كراؤها، وله زوجة صالحة، قد رضيته ورضيها فهما راضيان بعيشهما، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإنّه إن عرفنا وعرفناه أتعبنا ليله ونهاره، وأفسدنا دينه ودنياه.
قال عمر: لما فتح الله على رسوله بني النضير وغيرهما، كان يتخذ منها لنفسه وعياله قوت سنة، ثم يجعل الباقي في الكراع والسّلاح في سبيل الله.
وقال سليمان: إذا أحرزت النفس قوتها اطمأنت.
قال رسول الله ﷺ: " إذا تمنّى أحدكم فليكثر، فإنّما يسأل ربّه ".
1 / 20