يظهر لي أن الارتقاء في الإنسان تابع على الخصوص لجهازه العصبي فأكثر الناس استعدادا للرقي هم العصبيون الذين تبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغا عظيما وتهتز أعصابهم المتوترة بملامسة الحوادث فيظهر أثرها فيهم بكثرة وشدة، أولئك هم السعداء التعساء الذين يتمتعون ويتألمون. أولئك هم السابقون في ميدان الحياة، تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم يتنافسون فيما بينهم بمصادمة كل صعوبة. من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم وتوحي إليه أسرارها فيصير شاعرا بليغا أو وليا طاهرا أو فيلسوفا حكيما أو نبيا كريما.
8
أو قاسما أمينا ...
لأني أظن على ما أرى من كتاباته وصورته الموضوعة في صدر «كلمات»، إنه إن لم يكن مزاجه عصبيا بحتا ففيه شيء كثير من المزاج العصبي.
كل هذه العناصر النفسية تجمعت فكان أغلبها عنصر القضاء. هو يلاحظ الأشياء ويراقب الحوادث مدققا ممحصا ويحكم بفطرته لها أو عليها، وجاءت ممارسة القانون فزادت تلك الملكة ظهورا. هو قاض في جميع كتاباته يجلس على منصة العدل غير ملتفت كالخطيب، إلى أنه أعلى مكانا من الجالسين وأنه يجب أن يرفع صوته ليسمع السامعون، بل يجلس جلوسا طبيعيا لأن تلك المنصة مكانه، ويتكلم بلهجة بسيطة. يرى الأشياء حوله فيدونها ويقول: «أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس.»ليشتهروا بين الناس
9
ويسمع الأقوال فيسجلها، وهو الخبير بما فيها من رسم نفسية جمهور كبير من الناس، وبما تقيده على قائلها من ونى فكري واستسلام ذليل: «سئل ح. بك: ما رأيك في كتاب تحرير المرأة؟ فأجاب: رديء ! - هل قرأته؟ - لا. - أما يجب أن تطلع عليه قبل أن تحكم برداءته؟ - ما قرأت ولا أقرأ كتابا يخالف رأيي.»
10
وإذا اهتم بموضوع ما أجرى فيه تحقيقا يتناول جميع فروعه العمرانية والسيكولوجية والعلمية والوراثية والعائلية والوسطية، فيجاهر بما يراه حقا وقد لا يفهمه الآخرون، ولا يخشى لوما بتسمية العيوب والأمراض بأسمائها. يجاهر غير منتبه للصواعق المنقضة عليه ممن لا يحسنون إلا مضغ كلمات تلقنوها يوما فتجمدت معانيها في أفكارهم وفاخروا باحتكار الحقيقة. إنه يبصر اللفائف البالية الفاسدة على قروح قديمة فيمد إليها يده الجريئة، وبينا العليل يغلظ القول محتجا باسم الدين والأمة والشرف والعائلة ينزع هو تلك الأربطة هادئ الجأش، ويحلل الجراثيم الخبيثة الراكدة عليها فيحصيها واحدا فواحدا. إن نظرة المحب تلمع في عين هذا الآسي. ولا يروعه ضجيج الساخطين، بل يصمت عالما بأن التمدد أول أدوار الشفاء، وإذا تكلم قال بسذاجة:
نحن نعلم أن رجلا يعيش في عالم الخيال يكتب في مكتبه على ورقة أن ليس على النساء إلا أن يقرن في بيوتهن خاليات البال تحت كفالة وحماية الرجال. نفهم ذلك على الورق؛ لأن الورق يحتمل كل شيء.
Bilinmeyen sayfa