لم يكن في عيني باحثة البادية ما يدل على أنهما اعتادتا النظر إلى داخل الوجدان، حيث وراء الجراح والدماء والآمال المهشمة يلمع بصيص النور الذي لا يخبو، وهو السعادة الحقيقية الوحيدة، لأنه من الروح، وللروح، وفي مأمن من كل شاردة وعادية. إن الباحثة لم تكن على شيء من الروحانية، وكانت تقدر الظواهر وتتكئ عليها في أشياء كثيرة، حتى في تدينها. وعلى رغم ذلك فإن إدراك «اللانهاية في الفضاء» كان يتألق أحيانا في عينيها الباسمتين الكئيبتين، في تينك العينين القاتمتين لونا ومعنى؛ لأن الاحتياج العنيف المندمج في مطاوي النفس البشرية، ذاك الاحتياج الدائم إلى قوت أثيري، ليس ليقوم مقامه ما تقدمه الأرض من غذاء وعزاء. وأكثر الذين لا تسمح لهم شواغلهم بالشعور بذلك الاحتياج يطلقون عليه اسم «الخيال» وهو في الواقع خيال بالنسبة إليهم. ولكنه بالنسبة إلى الآخرين حقيقة ثمينة قد ائتمن عليها أصفى جواهر الإنسان. •••
كلنا معجب بفصاحة القرآن ونعزو إليه فصاحة العربية عند المسلمين، واستقامة لفظهم وجمال منطوقهم، وفخامة أسلوبهم الكتابي، لأنهم يستظهرون آية صغارا ويستشهدون بها كبارا. إلا أن فصاحة الكتاب الحكيم وجماله قد عودا القوم الكسل الفكري. فصاروا إذا ما أرادوا الإفصاح عن رأي أو نظرة أهملوا إجهاد القوى المولدة مطمئنين إلى ضرب آية قرآنية - أو حكمة شعرية - مثلا، تاركين قرائحهم في حالة الجمود مستكنات، وعليها خيوط العنكبوت تخيم آمنات. بيد أن هذا الانتقاد الذي يصح على الأكثرية لا ينطبق على أقلية لبيبة إن هي استعملت الآية القرآنية عند الحاجة فإن لها أسلوبها الخاص. وقد تنسج عبارتها على وزن القرآن بنزعة فطرية، واضعة ألفاظه لمعنى شخصي وبشكل جديد يسترق السمع ويستأسر المخيلة قبل أن يبلغ أفق الإدراك. وعند الباحثة مثل ذلك أحيانا، كهذه الجمل ذات التفصيل القرآني والموسيقى القرآنية:
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فكيف ورجالنا على هذا الاستبداد يأملون صلاح الأمة وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور؟ أما والله لو أرانا رجالنا عناية واحتراما لكنا لهم كما يحبون. فما نحن إلا مرآة تنعكس علينا صورهم ولنا قلوب تشعر كما يشعرون، فإذا أرادوا من إصلاحنا فليصلحوا من أنفسهم وإلا فلينظروا ماذا هم فاعلون.
10
أظنني قلت قبل اليوم إن أحد أجزاء شخصيتها لا ينفصل عن الأجزاء الأخرى ولا تعمل إحدى قواها إلا بمعاونة جميع القوى؛ لذلك ترى المصرية ممتزجة دائما بالكاتبة، وتتكلم الناقدة والمصلحة بلسان المسلمة والمصرية، كأنما هي لا تستطيع تجريد نفسها من نفسها. وترتسم المرأة في كل كلمة تخطها الكاتبة وما هي إلا امرأة في البدء، وامرأة بالتالي، وامرأة دائما. فإذا ذكرت إحدى مزايا النساء ترنح القلم ثملا بين أناملها وهو يقول:
البشاشة مفتاح ما أغلق من السعادة، ومعوان على قضاء الأشغال يصل نورها إلى قلب صاحبها فيفعمه غبطة. وكذلك (إني أحذف بسرور هذه الكذلك الزائدة هنا) يلقي شعاعه الكهربائي على من حوله فتنتعش به أرواحهم. وهي جميلة في الكهل كما تجمل في الطفل، إلا أنها أبهى وأشد تأثيرا في المرأة، تلك التي تسيطر على القلوب ولا تدري.
11 ... أو تدري. وهذا لا يقلل من جمال البشاشة.
ولو جاز لي تحديد هذا الأسلوب الكتابي لقلت إن له من المزاج العصبي الصفراوي الحرارة التي تكون حينا حدة وحينا نعومة، ومن الإسلام التنميق والبلاغة، وهو بالجملة مصري أسمر «نغش» جذاب. •••
ولا يسوغ لي أن أختم هذا الفصل دون التنويه بأمر آخر اشتهرت به دون غيرها بين المسلمات، وهو الخطابة. ولكن كيف أتكلم عن أمر أجهله، وكيف أحكم على خطيب لم أكن يوما بين المستمعين إليه؟ غاية ما أعلم أنها كانت جامعة لصفات لا بد من توفرها لكل مقدم على ارتقاء المنابر: أولها وأهمها السمباثيا
Sympathy
Bilinmeyen sayfa