وهو رسم جولة الفكر منهم مع ما تتضمنه من وخز «يفلفل» الأحاديث والمناقشات فيحميها من الملل الذي يتهدد جميع العلائق البشرية إذا استمرت على وتيرة واحدة.
تتكون الشخصية الجاذبة من عنصرين اثنين: أولهما ثابت لا يتغير وهو الطبع، والآخر يفرفر متنقلا وهو الظرف. ولئن كانت قيمة المرء الأخلاقية وكرامته وعظمته في العنصر الأول وهو القوة الأصلية الجاذبة، فإن الظرف (إذا كان طبيعيا لا تكلف فيه) ينقذ الانتباه من تعب التوتر؛ إذ يمزج الطبع الجدي العبوس بشيء خفيف رشيق وثاب يرضي دائما إذا كان خاضعا للذوق السليم.
وجميع الأقطار العربية تعترف للمصريين بالمقام الأول في عالم الظرف (كما في آفاق معنوية أخرى) ويساعدهم على التفرد به لفظهم ولهجتهم ونكتهم اللاذعة. وقل من من الأوروبيين يفهم ذلك؛ لأن فكرهم على توقده وانتباهه لا يستطيع الوصول إلى الدقة الشرقية الخفية. أيكفي التوقد والانتباه لمن يطلب التفهم؟ أليس هناك صفة أخرى تصيب جوهر المعاني والأغراض بوثبة واحدة، وهي البداهة التي كانت وستظل دائما قوة النفس الشرقية؟ وهذه الدقة المتوارية إزاء النظر الغريب أليست هي البادية في السلم الموسيقي عوارض كثيرة التجزئة غريبة الأوضاع؟ تلك العوارض أخذ بعضها نفر من كبار الموسيقيين في الغرب ونظمها بيانا فنيا جميلا، على أن الجمهور الأجنبي ما زال يحسبها خطأ وخللا موسيقيا في حالتها الشرقية الصرفة. مع أنها هي الجاعلة لموسيقانا سذاجتها وفعلها الأليم المستحب.
للسان المصري سلطان يعنو له الكلام، وللمصري سرعة خاطر مدهشة لا تكل ولا تنضب وألفاظ كالسلسبيل حلاوة. ولكن هذه الميزة تظهر على أتم ما تكون في المصري الراقي الذي يرفع المعاني المتداولة إلى أوج فكره ثم يظهرها جديدة الأنس والسلاسة تتبعثر فيها الملح الحسناء ورءوس حراب صغيرة تتهدد بالوخز كثيرا ولا تفعل إلا نادرا. •••
كل ذلك في باحثة البادية محدثة وكاتبة؛ خفة الروح ترفرف على جميع سطورها. إنها تستوقفك الوقت بعد الوقت بنكتة غير منتظمة وتهكم شائق يناسب الموضوع. كقولها في انتقاد الشراسة العابسة التي يستعملها بعض الشرقيين في منازلهم:
زرت مرة سيدة ممن ابتلين بمثل هذا الزواج القاسي وكنا نتكلم وأولادها الصغار يلعبون قريبا منا وبناتها الشابات يضحكن وإذا بهن سكتن فجأة وارتبكت أمهن وغارت أعينهن وعلاهن الاصفرار، وقامت إحداهن تهرول إلى الصغار لتسكتهم، والثانية تتسمع على السلم، والأخرى ترى ماذا يمكنها ترتيبه في حجرة والدها. تعجبت من هذه الحركة الفجائية وسألت عن الباعث لها، فأخبرتني السيدة والحزن باد عليها وتكاد لا تنطق إلا همسا: «إن البك ربما يكون قد حضر.» فقلت في نفسي إذا كان كل هذا الاضطراب وفي حضوره شك فماذا يفعل هؤلاء النسوة إذا قيل لهن: «إنه قد والله حضر»؟
1
ظرفها يبدو في الغالب تهكما سليما لا مرارة فيه ترطبه البسمة التي لا تبعد عنه كثيرا، ويعجبها أن تستعمله لإيضاح أغلاط الرجل. ولو كنت رجلا لجزلت لشراستي المزعومة وضاعفتها أحيانا لتوحي إلى الباحثة مثل هذه النكتة المليحة:
فما أقدر زوج الضرتين على التفنن! ولو أنصفوا لعينوا زوج كل اثنتين سياسيا أو ناظرا للمستعمرات! (ولكن الذي يؤسف له أنا ليس لنا مستعمرات.)
2
Bilinmeyen sayfa