ولما انبثق فجر النهضة الحديثة وجدت بغداد من هذين اللسانين خير أداتين لإنهاض الهمم، وشحذ العزائم، وإلهاب جذوة الحماسة في النفوس.
هذا ولا يمكن أن تنسى بغداد أولئك الأفاضل الذين رفعوا لواء الشعر على ضفاف الفرات حينا من الدهر، ثم انتقلوا به إلى ضفاف دجلة، فكان لهم فيها قدم صدق. ويأتي في الطليعة منهم الشيخ محمد رضا الشبيبي، وأخوه الشيخ محمد الباقر، والشيخ علي الشرقي، ومحمد المهدي البصير، ومحمد المهدي الجواهري. ولا يفوتنا أن نذكر بالإكبار الشيخ عبد الحسين الأزري الذي آزر النهضة الحديثة بقصائده المأثورة في مواقفه المشهورة، والأستاذ الصافي نزيل دمشق.
سانحة
وللحياة العقلية في مدينة السلام شرح يطول، وتاريخ تزدحم فيه الأبواب والفصول، وما ذكرناه إنما هو من قبيل الإلماع والإيماء، وما هو في واقع الأمر إلا بمثابة زهرات من روض أريض، وجولة قصيرة المدى في مجال طويل عريض. وفي رأينا أن التاريخ العقلي هو التاريخ الحي الخالد الذي يحمل معه الشاهد، وما سواه من التاريخ فأكثره يدور على الاعتزاز بالجيوش، وقتل النفوس، وثل العروش، والتحكم في الرقاب، ومصادرة الحريات، واجتراح الموبقات، واقتراف المخزيات، والتكالب على الحطام، والتغالب على السلطان الزائل، والجاه الزائف. أما ثمار النهى ونتاج الأفكار فإنها الوجه المشرق من التاريخ الذي ينير للإنسانية منهاجها، ويصف لها علاجها، ويسمو بها إلى مثلها العليا ومراتبها القصوى.
ذهبت فتوحات الإسكندر وذهبت معها معالمها وآثارها، وبقي منطق أرسطو حيا على الدهر، ينير العقول ويغذي النفوس، وطمست الأيام معالم مدينة السلام؛ فمحت آثار قصور المنصور والأمين والمأمون، وبقي فقه ابن ثابت وابن حنبل يقتطف منهما العباد زاد المعاد، ويعتمد عليهما الحكام في ديار الإسلام، في ضبط مقاييس الفصل بين الخصوم، وإقامة موازين العدل بين الناس. وطاحت الطوائح بتلك الثروات الطائلة، والرياش الفاخرة، والنعيم الوارف الظلال، أما الثروة العقلية فقد صارعت الأيام، وغالبت الأحداث، وناهضت الكوارث، ودافعت المصائب حتى كتب لها الظفر، وكان الغلب؛ فعاشت على الرغم من أنف الزمن تتلألأ نورا وتتيه جمالا وجلالا؛ فالكثير من آثار أولئك العلماء والأدباء والحكماء من البغداديين لا يزال زينة هذه الحياة وجمالها وزهرتها، وسيبقى خالدا على الزمن ما بقي اللسان المبين غذاء للعقول الراجحة، ودواء للأهواء الجامحة، ورواء للنفوس الظامئة، ومعراجا للعزائم الماضية والهمم العالية والأرواح الصافية.
Bilinmeyen sayfa