وهناك منصب كبير له شأنه العظيم في سياسة الدولة وعظمتها؛ ذلك هو قيادة الجيش، وكان هذا المنصب يعتبر في الذروة من مهام الخلافة، وكان الخليفة هو القائد الأعظم للجيش، وهو الذي يصرف أموره وينظم شئونه، وكان إليه أمر عقد الألوية، وتعيين القواد، وتوزيع الجيوش على الثغور والأطراف. وفي الأطراف منصب مهم هو منصب صاحب البريد، ومهمته نقل كل ما يحدث من الأحداث، وما يشيع من الأخبار، وما يقوم به الولاة من الأعمال، وما يصدر من القضايا عن القضاة، وما يحصل من الجبايات وبيان الأسعار، إلى غير ذلك.
وكان المنصور حريصا على اختيار عماله من قدراء الرجال وأهل الكفايات منهم؛ فقد روى المؤرخون أن ابنه المهدي طلب إليه أن يعهد ببعض الولايات إلى رجل من الأشياع، ذكر أنه أخلص الخدمة للبيت العباسي، فسأله أبوه عن الصفات الإدارية التي يتحلى بها هذا الرجل، فقال: ليس له من الصفات إلا إخلاصه لبيتنا، فقال المنصور: يا بني يمكننا أن نقابل إخلاصه لنا بإغداق النعمة عليه من مالنا الخاص، ولا يجوز لنا أن نركبه على أكتاف الرعية.
وقد توفي المنصور محرما في طريق الحج ليلة السبت 6 من ذي الحجة سنة 158ه، ودفن بثنية المعلاة على مقربة من مكة، وبايع الناس في مكة ثم في بغداد محمدا المهدي، فسار بالناس سيرة حسنة. وقد ترك له أبوه في الخزائن أموالا طائلة مكنته من التوسع في العمران والتبسط في العطاء، فمالت إليه القلوب وأكبرته النفوس. ومن أهم الحوادث التي وقعت في زمانه في بغداد الفتك بالزنادقة وأهل الأهواء، وقد ذهب في غمار هذه الفتنة الكثيرون من الأبرياء؛ ذلك لأنها تهمة غامضة المعالم مبهمة الأطراف.
وتوفي المهدي ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم سنة 169ه، في قرية يقال لها الروذ من أعمال ماسبذان، وبويع ابنه موسى الهادي، وكان إذ ذاك في جرجان، ولم تطل مدة خلافته فتوفي في الرابع عشر من ربيع الأول سنة 170ه، وبويع الرشيد وكان عمره عند البيعة خمسا وعشرين سنة، وكان عظيم القدر، مهيب الجانب، قد حنكته التجارب؛ لأنه قاد الجيوش إلى بلاد الروم أكثر من مرة، وتولى الكثير من مهام الدولة في حياة أبيه.
نكبة البرامكة
ومن أهم الأحداث التي شهدتها بغداد في عهده نكبته للبرامكة، فإنه أقدم على ذلك عندما أوجس منهم خيفة على سلطانه، وتطاولا على نفوذه، وميلا خفيا إلى مناوئيه من العلويين. وقد أفاض المؤرخون باختراع الأسباب التي لا تخرج عن حدود الظنون، ومن أعرق تلك التقولات في الوهم حكاية اتصال العباسة بنت المهدي بجعفر بن يحيي اتصالا سريا، وهي حكاية رواها محمد بن جرير الطبري عن زاهر بن حرب، وتناقلها المؤرخون فزادوا عليها ونقصوا منها، وقد تولى ابن خلدون تفنيد هذه الحكاية في صدر مقدمته بما لا مزيد عليه.
وعلى الجملة، فإن عهد الرشيد يعتبر في الذروة من عهود بني العباس، وقد وصلت بغداد في هذا العهد إلى قمة مجدها ومنتهى فخارها، وامتدت الأبنية في الجانبين امتدادا عظيما، حتى صارت بغداد كأنها مدن متلاصقة تبلغ الأربعين، وبلغ سكانها نحوا من مليوني نسمة، ودرت عليها الخيرات من جميع الأقاليم الإسلامية، ونمت فيها الثروة نماء لا مزيد عليه، وغصت خزائن الدولة بالذهب والفضة التي كانت تنصب فيها من الأقاليم فائضة عن حاجها.
وتوفي الرشيد ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة 193 في طوس ودفن هناك، فبويع الأمين في طوس أولا وفي بغداد ثانيا، عندما وصل خبر وفاة الرشيد إليها، وهو عباسي الأبوين، أبوه الرشيد وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور، ولم يتفق ذلك لغيره من خلفاء بني هاشم إلا لعلي بن أبي طالب ولابنه الحسن رضي الله عنهما.
وما كاد يتولى الأمين الخلافة حتى التف حول عبد الله المأمون - وهو وال على خراسان وسائر أقاليم المشرق - طائفة من رجالات الفرس ووعدوه بنقل الخلافة إليه، وكان على رأس هذه الطائفة الفضل بن سهل، فأخذوا يدبرون الأمر سرا، ويدسون الدسائس ويحوكون الشباك في جو من الكتمان شديد، وكان مقصدهم الحقيقي نقل الدولة إلى العلويين، ثم جعلها في آخر الأمر فارسية الصبغة عاصمتها مرو في خراسان. وشعر الأمين وهو في بغداد بدبيب هذه الدسائس وتأكد لديه أمرها، فأخذ كل واحد من الأخوين يعد العدة للفتك بأخيه، واتسعت مسافة الخلاف بينهما، فجهز المأمون جيشا لجبا بقيادة طاهر بن الحسين، ثم عززه بجيش آخر بقيادة هرثمة بن أعين، وحصلت اضطرابات وفتن في عساكر الأمين لم يحصل مثلها في عساكر المأمون، وأحاط جيش طاهر أخيرا بالجانب الغربي من بغداد، وجيش هرثمة بالجانب الشرقي؛ فوقعت بغداد في الحصار وقاست من جرائه أهوالا يطول وصفها، فقد نصبت عليها المجانيق، فكثر فيها التهديم والتحريق وسفك الدماء، وعض الجوع أهلها بأنيابه، وطال عمر الحصار، ولم يبق في قوس الصبر منزع؛ فجمع الأمين مستشاريه، فأشار عليه بعضهم أن يتصل بهرثمة ويطلب منه الأمان لنفسه، وكان يأمن جانبه أكثر مما يأمن جانب طاهر، فكتب إلى هرثمة بذلك فأجابه بالإيجاب. ولما علم طاهر بذلك أبى إلا أن يكون خروجه إليه؛ فعزم الأمين على الخروج إلى هرثمة بنفسه سرا، ولما علم طاهر بذلك أحاط قصر الأمين بكمين، فلما خرج الأمين وركب الحراقة للذهاب إلى هرثمة وسارت به قليلا خرج ذلك الكمين وأخذ يرشق تلك الحراقة بالسهام والحجارة؛ فانقلبت. وحاول الأمين الرجوع إلى الجانب الغربي عوما، فتلقاه أصحاب طاهر فأسروه، ثم قتلوه بأمر من طاهر، وكان ذلك ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة 198، وكانت مدة الحصار نحوا من ثمانية عشر شهرا.
بويع المأمون على أثر قتل أخيه ولكنه لم يبرح خراسان، وبقيت بغداد تئن تحت كابوس الحكم العسكري، على ما بها من أوصاب الحصار وآثار الحجارة والنار. والذي يظهر للناقد البصير أن بطانة المأمون من الفرس كانت تحاول في طي الكتمان أن تنقل عاصمة الخلافة إلى خراسان؛ ليتم لهم في ذلك التغلب على شئون الدولة. وأول تدبير قام به الفضل بن سهل أن حصل من المأمون على عهد بتولية أخيه الحسن العراق والحجاز واليمن، ووجه طاهرا إلى الرقة لمحاربة أحد الخوارج هناك، وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، وأمر هرثمة بالعودة إلى خراسان. وشاع في بغداد أن الفضل بن سهل قد استبد بالأمر وأخذ يبرم الأمور على هواه بعد أن أنزل المأمون قصرا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده فأصبح فيه كالحبيس؛ فاستفزت هذه الشائعة نخوة بني هاشم وأكابر الناس في العراق وأنفوا من ذلك واستخفوا بالحسن بن سهل؛ فاضطرب حبل الأمن ودب دبيب الفتن هنا وهناك، وبرز الكثير من الشطار وأهل الدعارة وعاثوا في بغداد فسادا، وليس لدى السلطان قوة تقدر على توطيد الأمن وإعادة الطمأنينة إلى النفوس. رأى الناس شدة هذا البلاء واستشراء هذا الداء؛ فاجتمع وجوه بغداد وصلحاؤها فقرروا أن يتولى أهل كل محلة توطيد الأمن فيها والضرب على أيدي سفهائها وشطارها، كل ذلك والمأمون في قبضة الفضل بن سهل بخراسان لا يصل إليه من أمر بغداد صغيرة ولا كبيرة. ثم إن الفضل بن سهل ومن لف لفه طلبوا إلى المأمون أن ينقل البيعة إلى العلويين، فاختاروا لولاية عهده عليا الرضا بن موسى الكاظم، وأمر باستعمال اللون الأخضر شعارا لدولته بدل اللون الأسود، الذي هو شعار الهاشميين إلى عهده؛ فأرجف أعداء المأمون بأن اللون الأخضر يرمز إلى لون النار، وإنما اختاره الفضل بن سهل؛ تقربا إلى المجوسية التي كان يدين بها من قبل وهو حديث عهد بالإسلام. بلغ خبر ذلك أهل بغداد؛ فغضب بعضهم ورضي آخرون، واشتد الأمر على رجالات الأسرة العباسية، فاجتمعوا وقر رأيهم على خلع المأمون ومبايعة عمه إبراهيم بن المهدي، وكان ذلك غرة المحرم سنة 202ه.
Bilinmeyen sayfa