قالت: كلا؛ لأن الذي يطلب شهادة حسنة من شخص قبيح الأعمال يكون كمن يطلب شهادة إسكاف في فن الطب إذ أنى للإنسان أن يعرف ما يجهله؟
قال: إذن أنت تطلبين شهادة العقلاء الذين «يشهدون بما يعرفون» ويعتبر الناس شهادتهم، وهي لك فما ينقصك يا ترى؟
وكأن مكتوب فؤاد وكلام أديب قد ساعدا على تقوية بديعة، فأخذت تطرد عنها جيوش أفكارها بالتمادي، ولهذه علاقة كبيرة بالمرض؛ لأن الهم نصف المرض. فلما هدأ اضطراب فكرها قليلا تقدمت نحو الصحة وأخذت باسترجاع بعض قواها.
ولما عادت قوتها إليها عادت هي إلى شغلها رغما عن توسلات أديب إليها بالاستراحة وذلك لسببين؛ الأول: لأنها كانت باحتياج كلي إلى العمل لتسلية أفكارها؛ إذ لا يوجد ما يذهب الهموم مثله. والثاني: لأنها أبت لعزة نفسها أن تكون تنفق من مال أديب.
ومن الشغل والمشي واستنشاق الهواء النقي يوميا، عاد لون بديعة إلى وجهها الشاحب وسرى دم النشاط في جسمها الناحل.
وعرفت بديعة واجب نفسها فتشددت، ثم ذكرت بأنها هي تسلي الناس، فمن العار إذن أن تقول ما لا تفعل، فعزمت على أن تمرن النفس على عمل كل ما تود إلى الناس عمله لتقوم الأفعال مقام الأقوال، وذلك خير وأبقى.
الفصل التاسع والعشرون
قول بديعة عن النساء وحبهن لبعضهن
وفي أحد الأيام رجعت من البيع قبل جميلة، فجلست وحدها تفتكر، ولما قاست مصيبتها بمصيبة جميلة وجدت بأن هذه أسعد منها. ذلك لأنها هي لم تعرف بزمانها موئلا تذهب إليه إبان المصائب والعذابات، وهذا لا يكون على غير ركبتي الأم، ولم تتدرع بدرع تتقي بها رميات النوائب وتهجمات الأشرار؛ لأنها لم تناد بكلمة «أبي» بحياتها، فأخذت في البكاء والشهيق وقد نسيت كل همومها الحديثة عن هذا العالم الماضي وهو حاضر دائما. وفي ذاك الوقت وصلت جميلة فلما وجدتها بهذه الحالة هلع فؤادها وقبلتها قائلة: تعزي يا بديعة يا عزيزتي، فإن الفجر ينبثق دائما بعد الظلمة، ولا بد لظلمة حياتك من فجر يضيئها؛ إذ لا ظلام بغير سواد ولا نور بغير ظلام.
فابتسمت بديعة عن عجز وقالت لرفيقتها: سبحان الله يا جميلة! كيف أنك تكافئينني الآن بذات الشيء الذي باديتك به، أجل يا حبيبة قلبي، إنه لا بد للإنسان من مرأى النور والظلام في حياته، ولكن ألا تعرفين بأنه يوجد أقطار في العالم لا تشرق فيها الشمس إلا أياما قليلة في السنة؟ هكذا أنا يا عزيزتي فإن شمس حياتي نادرة البزوغ، وإذا بزغت فمن تحت غيوم متلبدة تجعل نورها ضئيلا، وعلى كل حال فإن كلامي هو عن الماضي والحاضر، وأما المستقبل فتعليل وأمل، ومن كانت مثلي حصلت على صديقين عزيزين هما أنت وأديب لا يجب أن تشتكي من دنياها أبدا، وهل تكون الدنيا باردة قاسية متى وجدت فيها حرارة كحرارة حبكما وإخلاصكما لي؟ كلا.
Bilinmeyen sayfa