قال نسيب: بعد ذهابك إلى المدرسة كان شغل بديعة الوحيد طرح الشباك لي؛ لأنها فتاة لا تحب لأجل الحب نفسه فإنها كانت تريد أن تكون محبوبة من كل رجل، وبهذا كان افتخارها وسعادتها؛ لأنها امرأة. ولما رمت شباكها لأول مرة لم تكتف بذلك العصفور، ولم تلك الشباك، بل أبقتها مرمية وزادت من الحب حتى وقع هذا العصفور الثاني، وإنك لا تلومني يا فؤاد؛ لأنني رجل وأحب الجمال والحب جنون. وبعد أن صار هذا وظننت أنها تحبني طلبت منها الاقتران فلم ترض وطلبت مني أن أسافر معها ففعلت، ولما أتينا إلى هذه البلاد أحبت شابا غيري، وهي تعده بالاقتران الآن، ولا أعلم ما يكون نصيبه معها.
وكان فؤاد يسمع هذا الكلام وهو يرتجف كورقة الشجر في الهواء، ولكنه تجلد وقال: وأين هي الآن؟
قال: هي الآن في مدينة سنسيناتي. وبعد أن صدق فؤاد كلام نسيب مر بخاطره كلام والده فشعر بشيء من الراحة، ومد يده إلى جيبه فأخذ كتاب بديعة وناوله لنسيب قائلا: هل تصدق بأن اليد التي سطرت هذا الكتاب تخضب عمدا بدم قلبين نقيين ...؟
ولما انتهى نسيب من قراءة الكتاب اصفر لون وجهه؛ لأن الرذيلة تخاف الفضيلة في كل وقت، ولكنه ضحك ضحكة عالية اقشعر منها جسم فؤاد وقال: أظنك نسيت قول القائل بأن مكر النساء ودموعهن سلاحان لا يحاربان ...
قال فؤاد: لم أنس هذا، ولكن في كتاب بديعة ما يدعو إلى الريب.
عند ذلك أخرج نسيب من جيبه رزمة من الرسائل وناولها لفؤاد قائلا: اقرأ هذا ولا تعد ترتاب فيما بعد بمكر النساء.
وكان أول كتاب فتحه فؤاد بخط بديعة إلى نسيب وفيه هذه الجملة التي لم يقرأ سواها ورمى التحرير وهي:
ولا حق لك بمعاتبتي لأنني لم أحب سواك أبدا الحب الذي أحببتك حتى استهنت بكل شيء في سبيله ...
وكان فؤاد بعد أن رمى الكتاب يرتجف ويقول: إنني لا أقدر على التصديق بأن اليد التي سطرت هذا الكتاب قد سطرت ذاك، وأكاد أكذب نظري وعقلي وفكري.
فقال نسيب: لله در ذلك الحكيم العربي إذ قال: «رأيت أفعى تسقى سما» إذ رأى امرأة تتعلم، فالمرأة أفعى يا عزيزي وسمها يتضاعف بالعلم؛ لأنها بهذا تفتكر بفكرين وتشتغل بيدين وتكون أقوى على الشر وهي مسلحة مما هي عليه بدون سلاح.
Bilinmeyen sayfa