ولبثت الفتاتان بانتظار لوسيا إلى قرب نصف الليل، فلما لم تأت ذهبتا إلى فراشهما ونامتا، وكان ثاني يوم الأحد يوما جميلا من أيام الصيف، فأحست بديعة بثقل وطأة الهموم عليها وأرادت أن تختلي بنفسها لتناجيها، وإذ علمت بأن هذا لا يتأتى لها بين الجماهير التي تجتمع في ذلك البيت نهار الأحد؛ لبست ثيابها النظيفة البسيطة وذهبت إلى حديقة البلدة لتريح أفكارها وتناجي نفسها.
لما صعدت بديعة إلى مركبة الترامواي لم تر شابا غريبا اشترى جوازا وصعد إلى المركبة الثانية التي كانت معلقة بمركبتها.
ولما وصلت إلى تلك الحديقة الجميلة انفردت عن جماهير المتنزهين وذهبت إلى مكان بجانب حوض الماء، وجلست على مقعد بجانب جذع شجرة من السنديان، وللحال تبادر إلى ذهنها ذكر تلك الحديقة التي كلمها فيها فؤاد بأمر الحب لأول مرة، وجر عليها هذا ذكر مصائبها الماضية والحاضرة كلها، فجلست تفتكر، ولما تمادت بالأفكار أحست بانقباض في النفس وضعف في العزيمة، وكانت تتوصل إلى الندم على ما فعلت وكيف أنها تركت الوطن بدون أن تشاهد فؤادا، ولما وصلت إلى هذا الحد رجع إليها رشادها وقالت لنفسها: يا له من ضعف معيب! إنني قد فعلت ما فعلت قياما بواجب الشرف، فما لي أخون هذا الواجب بالأسف الذي يوليني ضعفا، وأنا في بلاد غريبة تحتاج فيها المرأة إلى القوة النفسية لتحارب التجارب أكثر من احتياجها إلى كل شيء سواها.
وبينما هي جالسة وقلبها ينتعش وينقبض لهذه الأفكار لم تسمع وقع أقدام من ورائها، ولم تنظر إلى شخص كان ينسل ما بين تلك الأشجار بقدومه إليها. لكنها لم تلبث أن استفاقت من سبات أفكارها، ونظرت مبهوتة إلى ذلك الشخص الواقف أمامها، ولولا تعقلها ومعرفتها بأنها تعرض بنفسها لانتقاد الناس لصرخت بأعلى صوتها عند رؤيته. أما هو فنظر إليها مبتسما وقال: صباح الخير.
فأجابت بديعة قائلة: هل أنا في يقظة أم في حلم يا خواجة نسيب؟
قال الشاب: في يقظة؛ لأن لحاق محب هائم بك ليس من المعجزات، وهجره بلادا هجرها كل سرور لمهاجرتها ليس إلا أمرا طبيعيا بسيطا.
فاحمر وجه بديعة من كلامه، ليس خجلا أم حياء كما يقولون، بل حنقا وغيظا من قحته التي لم يدفعه إليها عهد سابق منها، ولكنها تجلدت وقالت بهدوء: ومتى قدمت هذه البلاد؟
قال كاذبا: من ثلاثة أسابيع. ولم يقل لها بأنه كان مسافرا معها وأن تأخره في نيويورك كان لغاية خبيثة منه.
فقالت له وهي مطرقة إلى الأرض بصوت المضطرب الخجل الذي يريد أن يقول مضطرا كلاما يخجل من قوله: إذن لم يمض على مفارقتك الوطن وقت طويل ... فكيف هو وكيف من فيه؟
فسر نسيب لهذا السؤال الذي جاء مطابقا لجوابه، وقال: إنه زاهر بهم ... وهم فيه بخير وهناء وسعادة ...
Bilinmeyen sayfa