فأجابتها بديعة: إن الموت عند فتاة عذراء طاهرة نظيرك خير لها ألف مرة من أطماع رجل لئيم ساقط فيها واحتقاره لشرفها، فلو كنت أنا مكانك لكنت تناولت حذاء وضربت به ذلك الرجل وشتمته على مسمع من الناس حتى يعرف بأن للنساء قوة للمحاماة عن شرفهن، وحتى يرتدع عن معاملتك ومعاملة فتاة غيرك بمثل هذا فيما بعد.
فقالت تلك الفتاة المسكينة وهي تبكي تأثرا وخجلا: شكرا لك على نصيحتك يا أختي، وسأعمل بنصيحتك فيما بعد.
ولما رجعت بديعة مسرورة من قبول الفتاة لنصيحتها، قالت لها لوسيا: وهل هذا سببه ضعفنا كما قلت أو وقاحة هؤلاء النوتية القليلي الشرف.
قالت: إن هذا سببه ضعفنا وجهلنا وحبنا للمال الذي نطلبه بإغضاء الطرف عن أي الطرق يأتي منها. فإني سمعت بأذني والدة تقول لابنتها نهار أمس: «لا بأس إذا كلمك ذلك البحري وضحك معك؛ فإن مالنا قليل ونحن نحتاج إلى طعام.» وهكذا يا أختي يقول بعض الرجال لنسائهم كلاما يحرق شفتي لفظه، ولكنني مضطرة إلى قوله لأبين لك إلى أي درجة يصل الطمع بصاحبه ... آه يا أختي، إن بعض الناس يحسبون أن كل القصد من المهاجرة هو الكسب والكسب وحده، وبأي طريقة أتى لا يهمهم فيبتدئون بالتساهل وعدم الاكتراث من «ظهر الوابور»، فما بعد إنما نشكر الله أن هذا البعض قليل جدا ولكن ضرره كثير؛ لأنه يحقرنا في عيون الأجانب، ولأنه يكون مثلا قبيحا للمغفلين والجهلاء منا من نساء ورجال، ولأنه يجعل من يجهل أحوال المهاجرة أن يسبها ويذمها وهو لا يعرف عنها سوى أعمال هذا البعض. كما أنه يدعو الناس الذين نخالطهم إلى ذمنا وسبنا متى رأوا هذه الأعمال من بعضنا ولم يروا سواها. وكل قبح منته إليه ... إنني لا أعرف بعد شيئا عن أحوال أمريكا، ولكنني سمعت عنها كثيرا من بني وطني بأنها معدن الشرور ومعمل الرذائل وقلة الأدب. ولكنني لا أصدق هذا وأقول بأن نفس كل إنسان معمل أخلاقه.
الفصل الحادي عشر
ابتداء مهمة بديعة التي وقفت حياتها لأجلها وهي عمل الخير
واستفاقت بديعة من نومها في ثاني يوم قبل لوسيا، فلم تشأ أن توقظها فتركتها نائمة، وصعدت إلى «ظهر الباخرة» وجلست هناك تنظر إلى ذلك البحر الواسع وصفائه ورونقه، وتود لو كان بحر أفكارها هادئا مثله إذ ذاك.
وفيما هي تنظر إليه، وتتذكر قصتها من الأول إلى الآخر، وتحسبها لغرابتها بأنها حلم لا يقظة، وفيما هي هكذا طرق أذنها صوت وقع أقدام بعيدة عنها، فنظرت لترى من ذا الذي يمشي، وإذا بفتاة تمشي الهويناء على ظهر تلك الباخرة، وهي تنظر يمينا وشمالا لترى إذا كانت منظورة، ولحسن حظها لم تر بديعة وهي جالسة تراقبها. ولما وصلت إلى طرف الباخرة تناولت من صدرها شيئا يشبه الصورة وتأملت فيه مليا وهي تذرف الدموع الغزيرة، ثم أرجعته لمكانه فوق قلبها ورسمت على وجهها إشارة الصليب، وصلت ودموعها تنهمل من عينيها بغزارة. وكانت بديعة لحظت من الفتاة بأنها تنوي إتيان أمر ما فلبثت تلاحظها إلى حين انتهائها من صلاتها، وإذ ذاك قامت من مكانها وأسرعت نحوها وأمسكتها بذراعيها وأرجعتها إلى الوراء؛ ذلك لأن الفتاة رامت أن تلقي بنفسها في البحر.
وكانت لما اقتربت منها قد سمعتها تقول: ما أرهب الموت، وما أمر الحياة! إنني قبل أن أقدمت عليه ظننته من أسهل الأمور التي يأتيها الإنسان تخلصا من عذابات الأرض. ولكنني لما عزمت عليه حقيقة وجدته من أصعب تلك الأمور، فكيف أعمل؟ فهل أرجع للبيت لأراه سعيدا معها وأنا أتقلى على مقالي الغيرة؟ أو أسافر إلى أمريكا ولا مال معي يوصلني؟ أو أموت غير مأسوف علي ولا معروف أين هو قبري؟ نعم، نعم، أموت لأن الموت ختم من ذهب على العذابات الأرضية. فارحمني يا إلهي يا من سددت بوجهي كل منافذ السعادة في الحياة ولم تفتح سوى باب الأبدية، ارحمني على هذا الموت الذي يقولون بأن من يموته يخسر الدنييين معا، ارحمني وساعدني واغفر لمن كان سبب موتي، وهب والدي التعيسين سلوى بعد موتي.
ولما انتهت من هذا الكلام وهمت بإلقاء نفسها لم تقدر؛ لأن يدا بديعة القويتين أرجعتاها إلى الوراء كما تقدم، وصوتها العذب ناداها قائلا: كلا، إنك لا تموتين هذه الميتة التي هي ميتة المجانين، ومن تكلم كلامك لا يكون مجنونا.
Bilinmeyen sayfa