فسر نسيب في قلبه إذ عرف بأن حيلته كادت تتم، وقال: لا أعني مكتوب العم منصور، بل ... - بل ماذا؟ - بل كتاب فؤاد نفسه. - كتاب فؤاد! لا علم لي به، وبأي معنى هو إذا كنت قد اطلعت عليه.
إذ ذاك ناولها الشاب من جيبه كتابا، فلم تكد تنتهي من قراءته حتى ظهرت على وجهها الجميل علائم البأس والحنق ؛ إذ نظرت خط فؤاد وقرأت كلامه، وهو الشخص الوحيد الذي ضحت لأجل سعادته ما ضحت، وهي تحسبه لذلك الوقت محبا لها، وأهمه ما يأتي: «ولم أعرف مقدار نصائح الوالدة يا سيدتي الحنونة إلا بعد أن بعدت عن البيت، وتحققت بأن أتعس الناس من لا ينظر إلى المساواة في أمر زواجه، فالآن قد ألقيت عليك اتكالي فخلصيني من تلك الفتاة بتدبيرك ورأيك.» وكانت بديعة تقرأ هذه الكلمات وكل كلمة منها تحدث في وجهها لونا مختلفا عما قبله، ونسيب ينظر إليها نظرة الفائز وهو يعلل النفس بالظفر.
وقد انشغل بأفكاره عنها فلم يكترث لها إذ كاد يغمى عليها، واتقاء لذلك اتكأت على زاوية العربة وسترت عينيها بيديها كأنها تغطيهما، حتى لا تنظر إلى صورة ذلك الحزن المخيف الذي تمثل أمامها، وقد نسيت بأن مصدره قلبها.
وكان نسيب جالسا في الجهة الثانية من العربة مقابل الفتاة، فلما انتبه لها ورآها على هذه الحالة قام من مكانه وجلس بجانبها وأراد أن يمسك يدها ليعزيها. ولما فعل أحست بديعة أن قوة جديدة قد ملأت قلبها، وبعد أن كانت قريبة من الإغماء استوت جالسة وأفلتت يدها من يد الشاب، وجوابا على كلامه «اللطيف» قالت: إنه كان بإمكانك إخفاء هذا الكتاب عني يا خواجة نسيب؛ لأنك ولا شك عرفت بأنه قد كفاني ما لاقيت، وأنا قد تركت ذلك البيت غير آسفة على ما يحل به بغيابي مما يتعلق بي.
فقال الشاب متظاهرا بالكآبة الزائدة: لقد كان أحب إلي أن أخسر حياتي يا بديعة ولا أزعجك لو لم أحسب الأمر لمصلحتك؛ لأن الحقيقة وإن جرحت فإنها تقي من جراحات كثيرة بجراحة واحدة.
وكان نسيب جالسا في تلك العربة بجانب بديعة، وهو ذو جمال بارع قل في الرجال وجوده؛ لأنه كان أكبر من فؤاد سنا وأجمل منه وجها وأذلق لسانا، لكن الفرق كان بين الاثنين في جمال القلب فقط.
ولو كانت بديعة من الفتيات اللواتي يخدعهن الجمال الجسدي ويفرحهن اللطف في أي وقت ومن أي شخص، لكان جمال نسيب ولطفه الكثير لها خلبا لبها وأنسياها حب فؤاد، ولو لوقت، ولا سيما بعد أن قرأت مكتوب خطيبها وحسبته محتقرا حبها الشريف بعد أن قرع بتذلل باب قلبها وتوسل بكل وسيلة للحصول عليه. ولكن لطف نسيب وإظهار الغيرة على سعادتها لم يزيداها إلا حزنا على حزنها؛ لأنها كانت أغزر عقلا وأشرف نفسا من أن تسلو رجلا أحبته حبا شريفا طاهرا وتستبدله بآخر لا تعرف عنه شيئا. فأين عمل بديعة هذا من أعمال بعض النساء اللواتي يبحن بأسرار رجالهن ويتكلمن عنهم وعن أعز الناس إليهن لأي كان وقت الغيظ. ومتى رجعت المياه إلى مجاريها يعرفن بأن ذلك السر المقدس - الذي كان يجب أن يكون مصونا بين الزوجين حتى عن الوالدين أنفسهم - قد أصبح معروفا من الناس، ولربما مدوسا بأقدامهم فيندمن ولات ساعة مندم، ولكنهن قد يعدن إلى الأمر نفسه متى غضبن وحقدن ولا يذكرن ما جرى في الأمس.
وشعرت بديعة كأن حربة طعنت قلبها من كلام نسيب إذ ناداها: «يا بديعة» باسمها مجردا، وكانت بديعة شديدة التأثر من أقل إهانة تلحقها؛ لأن مناداة المرأة باسمها مجردا ليست من الآداب والتهذيب، إلا إذا كان المنادي زوجها أم شقيقها أم والدها. وكل رجل ينادي امرأة باسمها مجردا ولا يكون من الثلاثة المار ذكرهم يكون إما جاهلا غبيا يستحق النبذ والاحتقار، وإما محتقرا لتلك المرأة مع أن أمه وأخته وبنته نساء، وهو يستحق الاحتقار والمقابلة بالمثل. وخطر في فكر بديعة خاطر، فقالت: لا هذا ولا ذاك ما دعاه إلى مناداتي باسمي مجردا، بل هو أمر آخر، هو لأن من كان مثله من الناس لا يحسب ما أحسبه أنا شرفا واجبة رعايته، بل يعده عارا وهو «أمر الخدمة»، فيحتقر الخدام، ولو كانوا يفوقون أسيادهم أحيانا علما وشرفا وتهذيبا وفضلا؛ لأنهم خدام ... وهل للخدام لقب؟! ولم يكن لبديعة مآرب بكل هذه الأفكار الآن، فصممت النية على مجاوبة نسيب، ولكن بحذر كلي حتى لا يصدر منها ما تندم عليه، ولا شيء ليستدعي الندم مثل الكلام الفارط متى كان منه ضرر ما.
ولما أجابته على كلامه الأخير قالت: إني أشكرك كثيرا على غيرتك، ولكن ماذا يهم فتاة مثلي قد تركت ذلك البيت على غير قصد الرجوع إليه غير الافتكار بأنها معتبرة من أصحابه كما هي تعتبرهم.
ووجد هو للحديث الذي يريده مجالا، فقال: إنني لم أعد أصدق بأن السماء خالية من النساء الجميلات كما يقولون. - ولكن ما الذي حملك على تكذيب القول؟ - هو نقاوة ضميرك وحسن ظنك اللذين ستدخلين لأجلهما السماء وتخرقين نظامها ... - إذا كان الأمر كذلك كان الله يكافئ الخير خيرا ويجازي الشرير شرا وهو فاعل، فمن صميم فؤادي أطلب أن يعكس هذين الأمرين لأكون سعيدة بتحملي كل مشقة عمن أحب. قالت بديعة هذا بقصد مجازاة الشاب على تهكمه.
Bilinmeyen sayfa