الفصل الخامس
صعود أول درجة من سلم الحب
وكانت بديعة تحب المطالعة كثيرا؛ لأنها تربت تربية حقيقة وكان لها من نفسها مساعد على طلب كل كمال بدون نظر إلى المقام والإمكان، وكانت تشتغل كل أشغالها الكثيرة، ومع ذلك تجد لنفسها فرصة من يومها تطالع بها كتبا أدبية وتاريخية وتهذيبية، وكان لها نصيب كبير من الاستعارة، فالكتاب الذي تعجز عن شرائه تستعيره من سيدتها وسيدها أو من الجيران الذين لا يضنون عليها به؛ نظرا لاعتنائها بالكتب، وإرجاعها إلى أصحابها نظيفة كما أخذتها منهم.
وكانت تحافظ على قول الحكيم العربي بأنها متى طالعت كتابا تطالعه بتدقيق، حتى إذا أرجعته تكون قد وعت معناه بفكرها، فيصبح وجوده وعدمه على حد سواء عندها، ولم تكن تطالع سوى الكتب التي تعرفها مفيدة مغذية للعقل والقلب بغذاء التهذيب والفضيلة لا تلك المزيلة لهما؛ لأنها كانت فتاة تعرف نصائح الأم وتجد في طلب تلك النصائح من كل سيدة فاضلة، ففي أحد أيام ذلك الأسبوع ذهبت إلى جارة فاضلة لها لتستعير كتابا، فقالت لها السيدة إنه أدبي؛ لأنها هي قرأته قبل أن تسمح لأولادها بقراءته كما تفعل بكل كتاب، حتى لا يعلق بقلوب الفتيات الطاهرات أثر لا تعود قادرة على إزالته من كتاب ضار يقرؤه أولادها بدون علمها.
وكانت تلك الرواية مؤثرة للغاية، فجلست بديعة في غرفتها تقرؤها بتمعن، ولم يكن عليها شغل في البيت في ذلك النهار؛ لأنها كانت قد قضت شغل الصباح، وكان سيداها ونسيب قد ذهبوا للنزهة وفؤاد ذهب لزيارة أحد أصدقائه خارج المدينة. وفيما هي مخصصة كل أفكارها لقراءة تلك الرواية سمعت وقع أقدام قرب الباب، ثم طرق باب غرفتها، وكان الطارق فؤاد؛ لأنه رجع في وقت لم يكن أحد يستنظره به، وسر برجوعه إذ رأى الجميع في الخارج وبديعة وحدها في البيت، وإذ رأى الفرصة مناسبة لبث أفكاره لها، وكان يقدم قدما ويؤخر أخرى بقصد الذهاب إلى غرفتها؛ لأنه لم يكن له معرفة كافية تكفل له هذه الدالة من قبل، ومن جهة أخرى كان يخاف أن تعد بديعة عمله وقاحة واحتقارا، وبعد أن افتكر في الأمر برهة غلب دافع الشوق في قلبه على دافع الخجل، فمشى نحو غرفتها بقدم مرتجفة، ولما أتت لتفتح الباب اضطربت اضطرابا لم يخف على الشاب، وقالت له بصوت متهدج: سيدي! ... إننا لم نكن نفتكر برجوعك هذا الغريب، وهذا ما حمل سيدتي والدتك وسيدي والدك والخواجة نسيب على الذهاب إلى الحرج وتمضية بقية النهار هناك. فابتسم فؤاد ونظر إليها بلطف قائلا: إنني أنا نفسي لم أحسب بأن رجوعي يكون بهذا المقدار قريبا، ولكنني لم أجد صديقي في البيت، ففضلت الرجوع على انتظاره.
فقالت بديعة ببساطة: لم يمض على خروج أهل البيت أكثر من نصف ساعة، فإن تبعتهم تقدر على اللحاق بهم.
فنظر إليها فؤاد نظرة ملؤها معان وقال بصوت منخفض: هل من ضرر في بقائي في البيت؟ - كلا يا سيدي. - إذن لماذا تفضلين أن تريني معهم على أن تريني معك؟
فلم تجب بديعة على هذا الكلام، ولكنها أحنت رأسها خجلا. أما هو فلحظ خجلها وأعجبه أدبها. فقال: أود أن تسمحي لي بالبقاء هنا؛ لأني أفضله على كل شيء آخر.
فأجابته متظاهرة بجهل معناه تماما، وقالت: إن البيت بيتك يا سيدي ، وأنت مخير في البقاء وعدمه، ومن أنا حتى تطلب السماح مني؟!
فقال فؤاد مكررا: إني أعني أن ... أن تسمحي لي بالبقاء هنا في هذه الغرفة.
Bilinmeyen sayfa