وكانت بديعة لا تنكر هذا الميل عليهم، إلا أنها تضحك في سرها من إهمال التثقيف الأول غير مظهرة شيئا. وهذا ما كان يحولها عن مصادقة ومعاشرة أكثر النساء الشابات، ويوجه كل أفكارها إلى معاشرة الكهلات والشيخات من السيدات بعد أن رأت بأنها تستفيد من نصائحهن واختبارهن ما لا تقدر عليه من معاشرة بعض لداتها، وقد صرفهن حب اللهو والأزياء عن اكتساب كل شيء حسن والالتفات إلى كل واجب شريف.
وكانت قاعدة بديعة الرئيسية في الحياة عمل الخير وحب القريب والغريب؛ لأن هذه المبادئ الشريفة كانت غريزية في قلبها، فكانت تأتيها بكل سهولة وبدون عناء. ولم تنس قط صديقيها المحبوبين أديبا وجميلة؛ لأن ذكر حبهما الماضي لها وسعادتهما الحاضرة كانا يساعدانها على السعادة والسرور، كما أن ذكر لوسيا التعيسة كان يلبد سماء أفكارها بغيوم الهموم؛ لأنها كانت تشفق ولا تحقد.
وكانت رسائلها إلى أديب وجميلة متواصلة، وفي كل كتاب يرد منهما تقرأ هذه الكلمات من جميلة:
إنني مديونة لك بالحياة؛ لأنك خلصتني من الغرق نفسا وجسدا، ومديونة لك بما أعرفه من الواجبات النسائية؛ لأنني لا أرى كمالا وفضلا وسعادة للمرأة بدونها، ومديونة لك بالحياة السعيدة والحب الصحيح؛ لأنك علمتني كيف يجب أن أعيش وكيف أعامل الناس، فاتبعت نصائحك وعرفت أكثر أسرار الحياة، فعشت براحة، وراحتي الآن مزدوجة بوجود والدي معي.
ثم تختم كتابها بهذه الكلمة:
وأظن أديبا الذي هو واقف على يدي وأنا أكتب إليك الآن يشركني بما مر، فكيف تظنين أنت؟
الفصل السادس والأربعون
كتاب لوسيا
وعاشت بديعة ثلاث سنوات تحت سماء السعادة الصافية، ولم يكدر صفاء هذه المعيشة شيء إلا ما كانت تراه في كل يوم من تعاسة بعض الناس وفقرهم، ولكنها كانت ترى بهذا سعادة أيضا؛ لأنه كان يذكرها بواجبها نحو أولئك المساكين الذين لهم حق شرعي من الله في مال الأغنياء الذين يكونون مذنبين نحوه تعالى ما لم يشاركوا الفقراء المستحقين ببعضه. فكانت لا تنسى عمل الإحسان اليومي، كما أنها لا تنسى واجبها نحو زوجها وولديها مريم ويوسف، ووالدتها وأصدقائها الكثيرين.
وفي ذات يوم دخل فؤاد غرفتها، فبغت من مشاهدتها تبكي. فاقترب منها ليعلم السبب، فوجد بيدها رسالة قد فرغت من قراءتها وهي تبللها بدموعها، فحزن، وبعد أن مسح تلك الدموع سألها عن سبب بكائها، فناولته تلك الرسالة التي قرأ بها ما يأتي:
Bilinmeyen sayfa