وجرح هذا الكلام قلب بديعة؛ لأنه بحق فتاة أحبتها كثيرا ولم تزل تحبها بالرغم من أعمالها، ولما خرجت من ذلك البيت قالت ربة المنزل: إن هذه الفتاة الأديبة تستحق كل اعتبار وثناء من الأمهات الفاضلات؛ لأنها بأعمالها تكون مثلا صالحا لبناتهن يؤثر في عقولهن أكثر مما تؤثر تربية الأم ذاتها أحيانا؛ لأن الفتيات شديدات الرغبة بالاقتداء بأترابهن.
وفي عصاري ذلك النهار تركت بديعة نيويورك، ولما صعدت إلى الباخرة نظرت إلى وجه السماء، فرأته مكفهرا مكمدا وهو مثقل بالغيوم، كما أن قلبها مثقل بالهموم، فتنهدت وقالت: إن الفلك مهموم الآن، ولا أدري أمن همي مشتق همه أم من هم نفسه.
الفصل التاسع والثلاثون
اللقاء السعيد وإفشاء السر
لا غرو إذا تعجبت بديعة من مرأى ذلك البناء الفخيم الذي كانت عتيدة أن تدعوه «بيتها» لأنها لم تسكن في بيت «لها» من حين أفاقت لنفسها، فقالت في سرها: إذا كانت هذه مجازاة الله للصالحين الصابرين على الأرض، فكيف هي في السماء يا ترى حيث الجمال والبهجة أتم وأكمل؟!
هذا كان سؤال بديعة لنفسها إذ دخلت تلك الدار معتمدة على ذراع ميخائيل، فوجدت في صدرها تلك السيدة التي كانت تزورها في المدرسة بثوبها الأسود، وهي كما كانت منذ خمس سنوات، كأن الهموم أتتها دفعة واحدة فأوقفتها عند حد الكبر، وكانت الآن واقفة بانتظار ابنتها ودموعها متساقطة كالوبل، وهي فاتحة ذراعيها تترحب بدخول بديعة إلى بيتها وقلبها معا.
لم تنظر بديعة بدهشة إلى تلك الدار حين وصولها إليها، بل ظهرت عليها علائم عدم الاكتراث؛ لثلاثة أمور الأول: لأنها كانت رأت مثلها من قبل؛ وإذ عرفت بوجودها في الدنيا قل اعتبارها لها، وإن تكن تلك التي رأتها لم تكن ملكها. والثاني: لأنها كانت تنظر إلى قلب الدار لا إلى جسمها، إلى داخلها لا إلى خارجها؛ حيث رأت «بناء» أفخر وأجمل وأكمل عندها من ذلك البناء الحجري، بناء جسم والدتها. والثالث: لأن رزانة بديعة كانت عجيبة، واندهاشها من الأشياء كان نادرا، ولكن إذا رأت ما يدهشها لا تكترث له، وهي بذلك على حد ما قيل:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتحقر في عين العظيم العظائم
ولا حاجة إلى وصف الفرح الذي استولى على ذينك القلبين الحزينين من اللقاء بعد ذاك الفراق؛ لأن كل والدة وابنة من القارئات تعرف وتشعر بهذا، فتكفينا مؤنة الوصف له. وغاية ما نقول أن فرحهما كان مزدوجا؛ لأنه أتى بعد عذابات أليمة وفراق طويل، وكل شيء بعد الشقاء واليأس والعناء حلو لذيذ.
Bilinmeyen sayfa