حقا إننا لم نفزع من هذه الشدائد ولم تزدنا إلا يقينا بما وطنا عليه النفس منذ البداية، من أن المطلب العظيم يتطلب الجهد العظيم، ولو أننا استغربنا هذه الآلام المجددة لكان مثلنا مثل الجندي الذي يدخل الميدان وهو باسم، حتى إذا رأى بريق السيوف وسمع دوي المدافع، انقلب على عقبيه وهو يقول: لقد كنت أحسب الحرب لعبة جميلة، وكنت أظن النصر نتيجة لخطوة أو خطوتين في الميدان!
كان هذا مثلنا لو أننا حسبنا العمل للاستقلال لا يزيد عن عرض القضية هنا أو السمو بها إلى المفاوضة في وزارة الخارجية البريطانية، حتى إذا عبس الخصم بعد أن ابتسم، وخشن بعد أن لان، ضاقت علينا الأرض بما رحبت وظننا أن باب الجهاد أغلق، ثم نكصنا على الأعقاب.
أجل لقد كان من البلية أن يكتب في السياسة من يحاج خصومه بقوله: بيننا وبينكم شهر أكتوبر، فيا عجبا! أكان الاستقلال قطعة من القماش وصى بها ذلك الكاتب تاجرا من تجار لندن، فهي آتية في أول سفينة تقلع من هناك؟
والآن بعد أن تبين الرشد من الغي لا نجد بدا من النصح لقصار النظر، وضعاف العزائم، بأن يخلوا الطريق للسابقين الأولين من أساطين الوطنية وأبطال الجهاد؛ فإن الأمة لا تحتمل أكثر مما احتملت من «العمليات الجراحية» التي تولاها المبتدئون في علم التشريح.
إن الوطن في مجموعه كالجسم، فكما لا يستطيع امرؤ أن يصبر على من يحاول قطع رأسه أو بتر رجله، فكذلك لا تستطيع الوطنية المصرية أن تستسلم لمن يحاول التفريط في السودان أو قناة السويس. فليت شعري أي غاشية تلك التي قضت بأن ينسى السودان في المفاوضة الأولى والمفاوضة الثانية؟ وأي بلاء ذلك الذي طم حتى ساغ أن تصبح الأرض المصرية وكأنها ضيعة لبعض الناس يتصرف فيها متى شاء وكيف شاء؟
ألا فليعلم كل مشتغل بالقضية المصرية أنه لا يكتب لنفسه ولا لنظرائه، بل هناك شبان وأحداث ينطبع في نفوسهم ما يقرءون، فما أفظع الجرم الذي يجترمه الكتاب المولعون بنشر الدعوة إلى الرضى بالواقع، والقناعة بما يتناثر من موائد الاحتلال، إنهم يفسدون في كل يوم آلافا من النفوس التي كانت تصبح نفوس أبطال لو سلمت من وساوس الداعين للخذلان، ويدخلون اليأس في قلوب كانت لولاهم حافلة بالأماني والآمال. وعذر هؤلاء في أنفسهم أنهم يريدون أن يعيشوا وأن يظهروا. فيا للفضيحة، ألأجل أن تظهر جماعة بمظهر القوة والجاه مثلا تبدد الملايين من سكان وادي النيل بفضل التغرير والتضليل؟!
لقد جربنا هذه الأمة فوجدناها أسلس الأمم قيادا إذا وثقت بالقواد، ولم ننس تلك الأيام التي هدى الله فيها بعض النفوس، فانحازت إلى الداعين إلى مقاطعة ملنر من القائلين بدولية القضية المصرية، وكانت نتيجة تلك الدعوة أن خفت صوت الرضائيين ومن تسميهم السياسة اليوم بالمعتدلين، وظهرت الوطنية جليلة مهيبة وقفت بجانبها الجرائد الإنجليزية المحلية، تطيل الأنين والعويل.
ثم قدم ملنر وهو مستخف بالليل لم يبشر بقدومه البرق، ولم يعلن لمجيئه استقبال، وتجنب السائحون الإنجليز زيارة الأحياء الوطنية، لئلا يظن أنهم من حاشية اللورد ملنر فترتفع إليهم الأبصار الشواخص، ثم مكث اللورد بيننا أياما ظن فيها أن مصر بمائها وهوائها وسمائها وأرضها، ليست إلا مصرعا للظلم والاستبداد، وقد فزع إلى النيل يغدو فيه ويروح ليذهب عن نفسه اليأس والقنوط، فلم يكن النيل أرأف به ولا أرحم، فانقلب إلى أهله وهو حزين.
تلك أيام خلت، سنعيدها جذعة إذا استطعنا أن نقي شجرة الوطنية تلك الهمزات القديمة التي نخشى إن تكررت اليوم أن تحلحل الجذع، فإذا هو طريح، ونحن الذين كنا شجى في حلق الاستعمار حتى لم يزدرد ماء النيل، وهو سائغ الشراب؛ سنظل على ما عهد فينا من وطنية تضرب بها الأمثال حتى نلف في أكفاننا أطهارا أبرياء، لم يسمع منا الغاصب كلمة لينة، ولم يظفر منا بالتنازل عن شيء من الحق كثير أو قليل، وإذا وجد من الناس من يظن أن المجد كل المجد في أن يوقع على وثيقة يجري ذكرها في الأندية السياسية هنا أو هناك، فيحسب من رجال التاريخ وهو لو يعلم عبد ذليل؛ فإننا نؤمن من أعماق القلوب بأننا ما خلقنا لنشقى في سبيل السعادة القومية، ونزيد إيمانا بوجودنا الصحيح كلما أحاقت بنا الرزايا في هذا السبيل، وستظل قلوبنا كالزهر يبتسم كلما بكت من فوقه السماء، ولن يكون اغتباطنا بالبلايا قاصرا على البلايا التي يصبها علينا المستعمرون، بل ستظل قلوبنا مفتوحة لمثل ما تحملناه أيام المعارضة في مشروع ملنر من التهم المختلفة التي رمانا بها فريق من الذين انخدعوا بالوعود الكواذب، وسنقول وقتئذ ما قاله خاتم الأنبياء: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.»
أين صفو الشباب؟
Bilinmeyen sayfa