فأجاب الرئيس: «كل ما تسير على قدر جهدك يكون ملكا لك، على شرط الرجوع قبل غروب الشمس، فإذا غربت الشمس ولم ترجع تخسر جميع ما تدفعه من المال.» فقال باهوم: «ولكن كيف السبيل إلى معرفة الأرض التي أقطعها؟» فأجابه قائلا: «إن ذلك سهل ميسور؛ عليك أن تختار لنفسك بقعة من الأرض تسير منها، وعند كل ثنية من الأرض تحفر حفرة صغيرة، تجعل بجانبها كومة من التراب بفأس صغير يكون معك لهذا الغرض، وعند الانتهاء نصل نحن تلك العلامات بحراثة دائر في الأرض التي تقطعها في اليوم، ولك مطلق الحرية في أن تسير في الأرض كما تريد، على شرط الرجوع قبل غروب الشمس.»
فارتاح لذلك باهوم، وتقرر أن يبدأ في السير صباح ذلك اليوم، ثم أكملوا يومهم في الحديث والمنادمة حتى إذا أقبل الليل فرشوا له فراشا وثيرا، وتركوه في الخيمة لينام فيها ليلته، بعد أن وعده الرئيس بأن يوافيه صباحا قبل بزوغ الشمس. •••
رقد باهوم طول ليلته وهو يبني لنفسه القصور والعلالي، متقلبا على فراش الأماني والأحلام دون أن يغمض له جفن أو يكتحل بنوم، وقبيل الفجر أخذ التعب منه مأخذه وقد تغلب عليه النعاس، فأخذته سنة من النوم، ثم رأى فيما يراه النائم أن الرئيس أقبل عليه ينتظره على باب الخيمة، فخرج إليه يسأله عن جلية الأمر، فوجد أن القادم ليس الرئيس، وإنما هو الرجل التاجر الذي أرشده إلى أراضي البشكير، فتقدم منه وقد هم أن يسأله متى حضر، وإذا به يرى في وجهه صورة الرجل القروي الذي أقبل إليه في قريته الأولى من جهة الفولجا، فهم أن يصافحه ويترحب به، وإذا به يرى في وجهه صورة إبليس اللعين في شكل بشع ومنظر مريع.
فأشاح بوجهه إلى جهة أخرى، فرأى جثة إنسان ملقاة على مقربة منه، فاقترب من الجثة ليتأمل وجه صاحبها، ولكنه ما كاد يقترب منها بضع خطوات حتى ارتد مذعورا؛ لأنه رأى فيها صورة نفسه، ثم قام من نومه وهو على هذه الحالة ممتقع اللون ترتعد فرائصه فرقا، ونظر إلى باب الخيمة، فلم ير غير حمرة الشفق، فعلم أن ستر الليل أوشك أن يتمزق، فلا يمضي القليل حتى يسفر الصباح عن وجهه، فهب من فراشه وهو يقول: «ما أكثر ما يرى الإنسان في نومه! لا شك أن ما رأيته هو أضغاث أحلام، وها قد قرب الصبح، والقوم نيام بعد.» ثم ذهب مسرعا نحو خادمه الذي كان نائما في العربة، فأيقظه وأمره بالاستعداد، ثم أسرع نحو القوم يوقظهم، فصحا القوم واجتمعوا في خيمته، ولم يلبث أن وافاهم الرئيس، وكانت الشمس قد قاربت البزوغ، فأمر بإحضار طعام الإفطار، وعرض على باهوم تناول بعض الشاي، فأبى قائلا: «لم يبق متسع من الوقت، فلنبدأ بالعمل إن كنا فاعلين.» •••
عند ذلك وقف القوم استعدادا للمسير، ثم ركب بعضهم العربات، وامتطى آخرون متون الجياد، وركب باهوم عربته، وسار في طليعة القوم مع الرئيس، وبعد أن ساروا قليلا، وصلوا إلى تل صغير يشرف على سهل فسيح الأرجاء، وكانت الشمس قد بدأت في البزوغ، فوقف القوم وتقدم الرئيس قائلا وقد أشار بيده إلى السهل: «انظر، كل هذا السهل الفسيح ملك لنا، ولك أن تسير فيه أنى تشاء.» وبعد أن قال ذلك خلع قبعته ووضعها على الأرض قائلا: «فلتكن هذه القبعة علامة لمبدأ سيرك فابتدئ في السير من هنا، ثم ارجع إليها ثانية بعد أن تتم دورتك، وكل الأرض التي تمشي بها تكون ملكا لك.»
ولم يتمالك باهوم من إظهار الفرح والسرور عندما رأى ذلك السهل الفسيح وتيقن أنه خصب يصلح لزراعة كل أنواع الحبوب، ثم أسرع من وقته فوضع ما لديه من النقود - وهو الألف روبل - في قبعة الرئيس، ثم طرح رداءه الخارجي، وشمر عن أكمام قميصه؛ ليكون خفيف الحمل في السير، وتمنطق بسير من الجلد شده على وسطه، وحمل على ظهره حقيبة صغيرة فيها بعض الزاد وما يلزم لشربه ذلك اليوم، ثم أمسك بالفأس والتفت يمنة ويسرة؛ ليختار له وجهة للسير، وبعد أن وقف برهة ناجى نفسه قائلا: «كل الأرض سواء، ولكن يحسن بي أن أسير نحو الشرق.» قال ذلك وحمل فأسه على ظهره، وسار يتبع مشرق الشمس. •••
وبعد أن قطع نحو ألف ياردة وقف قليلا فحفر الأرض، ثم جعل بجانبها كومة من التراب علامة لوصوله تلك البقعة، وكان يمشي مشيته الاعتيادية لا يمهل ولا يعدو، فقطع بذلك ألف ياردة أخرى وجعل علامة أخرى، ثم مشى قليلا ونظر إلى التل حيث كان القوم، فلم يتبينهم جيدا؛ لأنه كان قد ابتعد عنهم كثيرا بمسافة لا تقل عن الثلاثة أميال - كما قدرها باهوم في نفسه، وكان الوقت ضحى، فابتدأ يشعر بحرارة الشمس، فقال في نفسه: «قد قطعت ربع ما يجب أن أقطعه في اليوم، وعلي أن أتم المربع في باقي اليوم، ولكن لا يزال أمامي متسع من الوقت.»
قال ذلك، وخلع نعليه، وربطهما في وسطه؛ ليرتاح في المشي، ثم سار في وجهته الأولى، وكان كلما سار وجد الأرض أخصب والتربة أجود، فقال في نفسه: «إنه من الحمق ترك هذه البقعة الخصبة، ما علي لو سرت ثلاثة أميال أخرى؟!»
فسار فيها وقد جدد الحرص في نفسه همته الأولى؛ حتى أخذ التعب منه مأخذه، فنظر وإذا بالشمس في كبد السماء، فعلم أن النهار قد انتصف، فوقف ريثما جعل علامة لوصوله تلك البقعة ثم جلس للغداء، فأكل بعض الزاد وشرب قليلا من الماء وانتصب واقفا وهو يقول: «يجب أن أسير؛ لأن الراحة تجلب النعاس، وإذا نمت قليلا لا آمن من الخسارة.»
فسار من وقته وقد أراد أن يعطف إلى وجهة أخرى؛ إتماما للمربع، غير أنه أبصر على مقربة منه أرضا منخفضة فقال في نفسه: «هذه الأرض تصلح لزراعة الكتان، وما كنت لأترك هذه الفرصة.» قال ذلك ومشى حولها حتى إذا ما أتم مسيره وقف عند نهايتها، وجعل علامة لوصوله تلك البقعة أيضا، ثم نظر إلى التل فرأى أن حجمه قد صغر جدا، فعلم أنه قطع كثيرا، وأنه إن لم يسرع في الرجوع خسر كل آماله، فأسرع لوقته وهو يقول: «إن الأرض التي قطعتها لا نسبة بين طولها وعرضها؛ إذ إن الطول سوف يربو كثيرا على العرض، ولكن رغم ذلك فقد أصبحت أملك قطعة فسيحة من الأرض.»
Bilinmeyen sayfa