- أ -
مقدمة المشرف على مشروع «آثار الإمام ابن قيم الجوزيَّة وما لحقها من أعمال»
فضيلة الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء، ورئيس مجمع الفقه الإسلامي بجدة
الحمد لله على ما أولانا ووفقنا وهدانا إلى الاستنجاد بعدد من المحققين لِوَصْل جُهود المصلحين في إخراج «آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال». وقد تم بحمد الله تعالي طباعة جملة منها مع مقدمة لها في أحد عشر مجلدا، ويتبعها آثار أخرى إن شاء الله تعالي (^١).
والآن نبدأ على هذا المنوال - مستعينين بالله عز شأنه - بأثر من وجهٍ آخر من آثار هذا العالم المجدد في مدرسته التجديدية الإصلاحية، وهو «آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال». فإن هذا الإمام الحافظ أبا عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الزُّرعي ثم الدمشقي، المولود سنة ٦٩١ والمتوفى سنة ٧٥١ ﵀ تعالي - هو من أخص تلاميذ شيخ الإسلام به، بل هو أخصهم به، وأسبقهم مرتبة في نشر علمه وفضله، ومن أكثرهم تآليف، أسبغ اللهُ عليه فيها من النضارة وجمال العبارة ما بهر عقول العلماء.
_________
(^١) منها: «تنبيه الرجل العاقل ...» في مجلدين، وترجمة شيخ الإسلام لابن عبد الهادي المطبوع باسم «العقود الدرية»، والمجموعة السادسة وما بعدها من جامع المسائل»، وغيرها.
التقديم / 1
- ب -
ولأن دأبه فيها: استقصاء أصول المسائل وآثارها، وإجراء مطية فكره في أنجادها وأغوارها، وإبراز مقاصد الشريعة وحِكَمها وأسرارها = صارَ لها من القبول والانتشار ما لا يبلغه الوصف؛ حتى اشتهر وعُرف بمؤلفاته، ولحِقَه الوصفُ بها على نَصِيبَة قبره. فإني لما دخلت دمشق الشام عام ١٤١٢ زُرت مقبرة الباب الصغير بالجابية، ووجدت قبره - رحمه الله تعالى - على يسار الداخل، مکتوبا على نَصِيبَة قبره - على عادة عامة أهل الشام المنكرة شرعا - ما نصُّه: «هذا قبر الإمام الحافظ صاحب التصانيف المفيدة ابن قيم الجوزية المتوفي سنة ٧٥١ رحمه الله تعالى».
وقد تنافس في نسخها واقتنائها أهلُ العلم من شتى المذاهب، وانتشرت مخطوطات الكثير منها في مكتبات العالمين على الرغم من عدوان المعتدين، وكانت محل الرضا والقبول والتسليم من المنصفين، وما هو بالمعصوم.
وبعد ظهور المطابع في العالم الإسلامي تزاحم المصلحون على طباعتها ونشرها، وكان السابقون في ذلك أهل الحديث في شبه القارة الهندية منذ عام ١٢٩٨ مثل «زاد المعاد» و«إعلام الموقعين» و«النونية». وغيرها، وعنها صدرت بعض الطبعات المصرية القديمة مثل: البولاقية، والأميرية، والسلفية. . .؛ ولهذا لم يَرِد ذِكْرٌ للمخطوط فيها.
ثم تتابع طبع ما شاء الله من آثار هذا الإمام في الشرق الإسلامي، وفي عصرنا توارد الطابعون، لكن شابَ هذه الأعمال ما انتشر في سوق
التقديم / 2
- جـ -
الكُتْبيين مما امتدت إليه أيدي بعض المرتزقة باسم التحقيق حينًا، والاختصار حينا آخر، واستلال بحث من أيٍّ منها وإيهام القارئين بأنه تأليف مستقل لابن القيم، وعامة هؤلاء من أصحاب الصنائع والحِرَف الذين لا عهد لهم بتلقي العلم الشرعي عن أهله، وإنما قعدت بهم حظوظهم، وضاقت بهم سُبل المعاش، ولو شئنا لسميناهم بذنوبهم، ولكن نصرف النظر حينًا عسى أن يكون لهم توبة من هذه الحوبة.
ومن العناء أن العلم الشرعي مستباح الحِمى فتسوروه، وعرفوا مطلب السوق الرائجة فأخذوا في العمل على طبعها ونشرها في واحد من هذه الطرق وغيرها بما نشير إلى بعض منه في الآتي:
١ - سرقة ما ناله قلم التحقيق، ولهم في ذلك عدة طرق منها:
أ- تجريده من الحواشي.
ب - التحوير فيها.
ج - القدح بالطبعة السابقة بتلمس الأخطاء فيها وأن طبعته هذه قابلها على نسخة كذا التي وجدها حين زار المحل الفلاني، فمدّ يده إلى رَفٍّ فإذا بمخطوطة نفيسة، فعاد بها غنيمة باردة، وهكذا من الكرامات؟!.
د - أنه بعد أن أمضى مدة غير قصيرة في التحقيق وأتمه اطلع عليه
محققا مطبوعا، أو في رفوف الرسائل الجامعية، ثم يأخذ في ثلبها.
ه- وإن حَسُنَت من بعضهم الحال - وما هو بالحسن - اتخذ فريقَ عمل من المُمْلِقِين - (وَرْشَة) كما يقوله بعضُ مَنْ كَرِهَ حالَهم -. ولهذا تراه في العام الواحد يخرج ما لم يخرجه عميد المحققين مدة
التقديم / 3
- د -
حياته في التحقيق: عبد السلام هارون ﵀
وهذه وأضعافها داء قديم للمتأكِّلين، ومن نظر في كتاب «نموذج من الأعمال الخيرية» للشيخ محمد منير آغا الدمشقي ﵀ تعالي - رأى أضعاف ذلك.
٢ - الاختصار، الغرض الذي يقصد منه حذف ما يخالف مشربه
الفاسد.
٣ - تنتيف الكتاب الواحد إلى عدة كتب موهمًا أنه تأليف مستقل
دون الإشارة على الغلاف بما يفيد الاستلال.
٤ - التعليق على الكتاب بما ينقض مقصده في مهمات مسائله.
هذه بعض أفاعيل العابثين بكتب هذا الإمام؛ ولمرارة هذا العملِ، وقذف المطابع به في المكتبات التجارية، وخطره على العِلم والعَالمين ألَّفْتُ رسالة باسم «الرِّقابة على التراث» عسى أن تحمل الفاعلين على توبة نصوح، وتحمل المصلحين على إجراء ضمانات الحماية التراث.
ونحن نرجو أن يكون العمل في هذا المشروع المبارك - إن شاء الله تعالى - على الأُسس التي رُسِمَت له، والامتيازات التي تحلى بها؛ من توفير أفضل النسخ الخطية من مكتبات العالم، والسير على طريقة سوية مقتصدة في التعليق والتحقيق، وخدمة كل كتاب بمقدمة موعبة، وفهارس مفصَّلة كاشفة، وذلك كله بواسطة عددٍ من طلبة العلم المحققين، بعد إخضاع العمل للمراجعة والتحكيم = فنحن نرجو أن يكون في ذلك كله إخراجٌ لمؤلفات هذا الإمام الحافظ القدوة بما يليق
التقديم / 4
- هـ -
بها، وحصانة تحول دون هذه الغثائيات. وأن تكون طبعاته أساسًا لما يَرِدُ من ملاحظات لتصَحَّح في طبعة لاحقة بإذن الله تعالي.
وفي خاتمة هذا التقديم أشير إلى الأمور الآتية:
الأول: في الجلسة الختامية للدورة الحادية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في البحرين عام ١٤٢٠ تم إعلان تبنِّي «المَجْمع» لطبع ونشر کتب ابن القيم - رحمه الله تعالى - لما فيها من فقه الدليل وصفاء التوحيد، وهذه من أهداف «المجمع» التي أُسِّسَ من أجلها.
الثاني: من حسنات الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي موافقته على تمويل هذا المشروع بواسطة مؤسَّسته الخيرية. أجزل الله له الأجرَ والثوابَ.
الثالث: جري عمل ثَبَتٌ بمخطوطات ومطبوعات مؤلفات ابن القيم (^١) - رحمه الله تعالى - فلم يحصل فيها حتى التاريخ إضافة للمطبوع (^٢)، وإنما حصل بعض النسخ الصحاح التي فيها زيادة على المطبوع، وأنَّ بعض الكتب التي كان يشار إليها بأنها من تأليفه مثل «طب القلوب» الذي ذكره أحمد عبيد - رحمه الله تعالى - في مقدمة «روضة المحبين» نقلا عن معلوف، تبين بعد إحضار مصورته عن نسخة برلين أنه فصل من «زاد المعاد»، وكتاب «سر الصلاة» فصل من «زاد المعاد» و«مسألة السماع»، وكتاب «معاني الأدوات والحروف»
_________
(^١) وستكون ضمن «المداخل إلى آثار الإمام ابن القيم وما لحقها من أعمال».
(^٢) إلا رسالة «رفع اليدين في الصلاة»، وقطعة من رسالة «حكم صوم يوم الغيم.
التقديم / 5
- و-
الموجود في بعض المكتبات العراقية ليس له. . .
الرابع: يوجد عدد من مؤلفات ابن القيم حقق في رسائل جامعية، منها ما طبع ومنها ما لم يطبع، وهذه نكتفي بضم ما يصلح منها إلى المشروع باسم محققيها بعد التنسيق معهم.
الخامس: سبق أن أَلَّفْتُ كتابا باسم: «ابن قيم الجوزية/ حياته، آثاره، موارده» وقد اقتضى النظر تأخير ضمه إلى المشروع مطبوعًا؛ للإضافة والتصحيح.
السادس: جُمِعَت ترجمةُ ابن القيم من كتب التراجم العامة على نحو ما تمَّ في كتاب «الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون»، وسيكون ضمن مقدمة المشروع المطوّلة: «المداخل إلى آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال». .
السابع: ابن القيم - رحمه الله تعالى - ليس له مؤلَّف على طريقة الماتنين في التأليف؛ ولهذا لم أقف على أيِّ شرح لأيٍّ من كتبه، وإنما تناولها العلماء بواحد من الأعمال الآتية:
١ - الاختصار: مثل «مختصر الصواعق المرسلة» للموصلي. ومختصرات لزاد المعاد»، ومختصر کتاب «الروح» للبقاعي باسم «سر الروح»، ومختصر «مدارج السالكين»، ومختصرات لـ «بدائع الفوائد» لغير واحد، ذُكِرَت في مقدمة التحقيق. وغيرها.
٢ - النظم: وقفت على نظم واحد لـ «زاد المعاد» لأحد علماء
اليمن. وسَيُذكر ذلك بالتفصيل في «المداخل ..» المشار إليها آنفًا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم
التقديم / 6
مقدمة المحقِّق
الحمد لله واهب الحمد ومُسْديه، وصلاةً وسلامًا على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد؛ فإن أغراض التأليف وألوانه لا تقف عند حدّ (^١)، وهمم العلماء في ذلك لا تنقطع إلا بانقطاع العلم؛ وذلك لكثرة المطالب الباعثة عليه، وسعة المباغي الداعية إليه.
ومن جملة تلك المطالب التي ألِفَ العلماءُ الكتابةَ فيها: تقييدُ بها يمرُّ بهم من الفوائد، والشوارد، والبدائع؛ من نصٍّ عزيز، أو نقلٍ غريب، أو استدلالٍ محرَّر، أو ترتيبٍ مُبتكر، أو استنباطٍ دقيق، أو إشارةٍ لطيفة = يُقيِّدون تلك الفوائد وقتَ ارتياضهم في خزائن العلم ودواوين الإسلام، أو مما سمعوه من أفواه الشيوخ أو عند مناظرة الأقران، أو بما تُمليه خواطرهم وينقدح في الأذهان.
يجمعون تلك المقيَّدات في دواوين، لهم في تسميتها مسالك، فتُسَمَّى بـ "الفوائد" أو "التذكرة" أو "الزنبيل" أو "الكنَّاش" أو "المخلاة"
_________
(^١) نعم، وإن حصرها بعض العلماء في أربعة أغراض كابن فارس في "الصاحبي" وأرسطو كما في "كشف الظنون"، أو بثمانية كما ذكر ابن حزم في "نقط العروس" ونقله عنه صاحب "الكشف" وأبو الطيب ابن الشركي في "إضاءة الراموس" وغيرهم، إلا أن هذا الحصر الجُمْلي يدخل تحته من التفاصيل والفروع ما لا يُحْصَى، والناظر في مدوّنات أسماء الكتب كـ "الكشف" ونظائره يعلم هذا حق العلم.
المقدمة / 5
أو "الفنون" أو "السفينة" أو "الكشكول" (^١) وغيرها.
وهم في تلك الضمائم والمقيَّدات يتفاوتون في جَوْدة الاختيار، وطرافة الترتيب، وعُمْق الفكرة = تفاوتَ علومهم وقرائحهم، وفهومهم ومشاربهم، فاختيار المرء -كما قيل وما أصدق ما قيل! - قطعةٌ من عقله، ويدلُّ على المرء حسنُ اختياره ونقله.
إلا أن تلك الكتب تجمعها -في الجملة- أمور مشتركة؛ كغلبة النقل، وعزة الفوائد، وعدم الترتيب، وتنوُّع المعارف.
ومن أحسن الكتب المؤلَّفة في هذا المضمار كتاب "بدائع الفوائد" (^٢) للإمام العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيِّم الجوزية، المتوفى: سنة (٧٥١) رحمة الله عليه. وهو كتابٌ مشحونٌ بالفوائد النادرة، والقواعد الضابطة، والتحقيقات المحرَّرة،: والنقول العزيزة، والنِّكات الطريفة المُعْجبَة؛ في التفسير، والحديث، والأصلين، والفقه، وعلوم العربية. إضافة إلى أنواع من المعارف؛ من المناظرات، والفروق، والمواعظ والرِّقاق وغيرها، مقًلِّدًا أعناق هذه المعارف سِمطًا من لآلئ تعليقاته المبتكرة.
_________
(^١) انظر "معجم الموضوعات المطروقة": (٢/ ٩٤٨ - ٩٤٩). وفي ضبط (الكناش).
انظر "تاج العروس": (٩/ ١٨٨ - ١٨٩)، و"قصد السبيل": (٢/ ٤٠٤)، و"كناشة النوادر": (ص/٩ - ١١).
(^٢) وقد رأيت الشيخ الفقيه محمد العثيمين ﵀ قد قال: "وأحسن ما رأيتُ في مثل هذا -أي: في تقييد الفوائد المهمة والشوارد العلمية- كتاب "بدائع الفوائد" للعلامة ابن القيم، ففيه [من] بدائع العلوم مالا تكاد تجده في كتاب آخر، فهو جامع في كل فن، كلما طرأ على باله مسألة أو سمع فائدة قيَّد ذلك، ولهذا تجد فيه من علم الحقائد والفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة .. " اهـ من كتاب "العلم": (ص/ ٢٣١).
المقدمة / 6
ومع ما وصفنا من كثرة فوائد الكتاب، إلا أنه لم يَنَل من الشهرة والذُّيُوع -في عصرنا هذا على الأقل (^١) - ما نالَ صنوه "الفوائد"! وهل يكون "الفوائد" إلا قطرةً في بحرٍ لُجِّيٍّ من فوائد "البدائع"؟! وسبب ذلك -عندي- أن فوائد الكتاب عالية الرتبة، تَوَلَّجَ المؤلفُ فيها إلى دقائق الفنون، خاصة العربية، وهذه الدقائق والمباحث لا يفهمها المبتدئ والمقلِّد، كما يقول المؤلِّف في كتابه هذا (٣/ ٨٨٩). فبقي الكتاب لا يستفيد منه إلا الخاصةُ وخاصتُهم.
وقد اتَّجَه العزمُ إلى تحقيق هذا الكتاب من بضع سنوات خلت، إلا أن العمل فيه كان متقطِّعًا، إلى أن صمدت له أخيرًا ليكون باكورة هذا المشروع المبارك -إن شاء الله تعالى- "آثار الإمام الحافظ ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال" تحتَ رعايةِ ونظر شيخنا العلامة أبي عبد الله بكر بن عبد الله أبو زيد، ناشرِ علومِ الإمام ابن القيم وفقهِهِ وتراثِهِ -أحسنَ الله إليه وبارك في عمره-.
وقد مهَّدْت بين يدي الكتاب بمباحث متعددة هي:
* اسم الكتاب.
* تاريخ تأليفه.
* إثبات نسبته للمؤلف.
* التعريف بالكتاب، فيه:.
أهميته، وميزاته، ومنزلته بين كتب المصنِّف.
_________
(^١) ومن الغرائب أن نسخ "البدائع" كثيرة جدًّا، أما كتاب "الفوائد" فلم نعثر له إلا على نسخة فريدة -هي التي طبع عنها الكتاب أول ما طبع- فهل كان "البدائع" أكثر شهرة وتداولًا من "الفوائد"؟!.
المقدمة / 7
• العلوم التي حواها، ومُجْمَل ترتيبه.
• علاقته بكتاب "الفوائد".
• سماتُ الكتاب ومعالم منهجه.
* إفادة العلماء منه ونقولهم عنه، وثناؤهم عليه.
* موارده فيه.
* بَيْن ابن القيم في (البدائع) والسُّهيلي في (النتائج).
* مختصراته والمباحث المستلَّة منه.
* طبعاته.
* نسخه الخطيَّة.
* منهج العمل فيه.
* نماذج من النسخ الخطيَّة.
وأنا أرجو -بعملي هذا- أن أكون قد أسهَمْتُ في توسيع دائرة الإفادة من الكتاب، بما أقمتُ من نصِّه؛ وبما أظهرتُ من مكنونات علومه وفوائده؛ وبما كشفتُ من خبايا زواياه؛ وبما قدَّمْتُ بين يدي الكتاب من مباحث بسطتُ القولَ فيها بما يُلاقىِ مكانةَ الكتاب ومكانةَ مؤلِّفِه، مع اعترافي قبل: ذلك وبعده بالعجز والتقصير، والله المستعان.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد.
وكتب
علي بن محمد العمران
٩/ ربيع الأول/ ١٤٢٤
في مكة المكرمة حرسها الله تعالى
المقدمة / 8
* اسم الكتاب
لا يختلف الذين ذكروا هذا الكتاب أن اسمه: "بدائع الفوائد"، سواء الذين ترجموا للمؤلف؛ كالصفدي في "أعيان العصر": (٤/ ٣٧٠)، و"الوافي بالوفيات": (٢/ ٢٧١)، وتلميذه ابن رجب في "الذيل على طبقات الحنابلة": (٢/ ٤٥٠)، والحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة": (٣/ ٤٠٢)، والسيوطي في "بغية الوعاة": (١/ ٦٣) وغيرهم.
= وسواء الذين نقلوا عن الكتاب واقتبسوا منه؛ كابن مفلح في "الفروع" والمرداوي في "الإنصاف"، والمناوي في "الفيض"، والشوكاني والقِنّوجي وغيرهم (كما سيأتي مشروحًا).
ثم وجدنا هذا الاسم "بدائع الفوائد" هو الثابت على النُّسَخ الخطية التي وقفنا عليها، أو الموصوفة في الفهارس.
فثبت أن هذا هو اسمه.
ولا يُعَكِّر على ذلك ما وقع في "كشف الظنون" -وتابعه عليه صاحبُ "هدية العارفين"- من الاختلاف.
فقد وقع فيهما على وجهين:
١ - وقع باسم (بدائع الفرائد) -بالراء- (الكشف: ١/ ٢٣٠، وهدية العارفين: ٦/ ١٥٨).
وهذا لا يعدو أن يكون أحد التحريفات الكثيرة في الكتابين.
٢ - ووقع -أيضًا- باسم (بديع الفوائد) (في الكشف: ١/ ٢٣٥ وحده).
المقدمة / 9
وكان يمكن أن نعتبر هذا الوجه في التسمية أحد التحريفات، لكن يُعَكّر عليه أن الحاج خليفة قد ساقه بين كتبٍ كلُّها تُسمَّى بـ "بديع كذا وكذا. .
"، فلعلَّه وقف على نسخة بهذا الاسم وهو احتمال ضعيف، أو تصَحَّف عليه الاسم، أو غير ذلك.
ويبقى أن بعض العلماء قد يختصر اسمه عند النقل منه، فيسمِّيه "البدائع" كما وقع لجماعةٍ منهم.
ومما يُلاحظ هنا أن المصنِّف ﵀ لم يُسَمِّ كتابَه في أوله ولا في أثنائه، ولا في كتبه الأُخرى، ولا نقل عه أحدٌ أنه سمَّاه بهذا الاسم، ومن عادة ابن القيم الاعتناءُ بتسمية كتبه، واختيار العناوين المناسبة المسجوعة لها، فمن أين جِيء بهذا الاسم؟.
يُمكن القول: إن المؤلف إما أن يكون قد سمَّاه بذلك في صفحة العنوان من النسخة التي بخطه، فنُقِلت التسمية من هناك، كما نراه فى النسخ الفرعية التي وقفنا عليها أو وُصِفت. وهذا الموضع -أعني صفحة العنوان- من أَلْيَق المواضع بتسمية الكتاب ومعرفة عنوانه. فكم هي تلك الكتب التي إنَّما عُرِفت أسماؤها من صفحات عنواناتها، ولا أثر لتسميه الكتاب في مقدمته! -وهذا هو الأرجح-.
وإما أن يكون -الاسم- مأخوذًا من تسمية من بعده من التلاميذ أو النُّسَّاخ، مستلْهِمِين ذلك من عَنْوَنة المؤلف لكثير من فوائد الكتاب بقوله: "فائدة بديعة" (تبدأ هذه العنونة من: ١/ ١٦٠ فما بعدها).
ومع أن هذه العنونة ليست هي الغالبة، بل الغالب هو قوله "فائدة" فقط، إلا أن المؤلف رأى تخصيص هذا الكتاب بهذا الاسم (لفائدة بديعة) = ليَمِيْز بينه وبين كتابه الآخر "الفوائد"، ولعلّه من
المقدمة / 10
أجل ذلك تعمَّد هناك ألا يعنون بـ"فائدة بديعة" -مع اشتراكهما في بعض الفوائد- ليَسْلم لهذا الأخير اختصاصُه بهذه الفوائد البدائع، والله أعلم.
* * *
المقدمة / 11
* تاريخ تأليفه
لما كانت طبيعة الكتاب وموضوعه جمع الفوائد والشوارد والنِّكات وما شابهها، مما يُوْقَف على أكثره بالمطالعة، أو ينقدح بعد التأمل والتفكّر في الذهن = فإن تحديد وقت لبدء تأليف الكتاب ونهايته يُعد أمرًا عسيرًا ما لم يصرِّح به جامعه، أو تدلُّ عليه إشاراته وإيماءاته في تضاعيف كلامه وشأنُ هذه الكتب أن تُجْمع مع طول الأيام.
إذا تقرر ذلك، فلا بأس إذًا من تلمُّس إشارات في ثنايا الكتاب: ترشد إلى تاريخ تأليف الكتاب جملةً، أو تاريخ كتابة تلك الفائدة -التي وُجدت فيها تلك الإشارة- على الأقل، إذ قد يكون بين كل فائدة وأخرى زمنٌ ليس بالقليل، لما وصفناه سابقًا.
فمن تلك الإشارات: إحالاته على كتبه الأخرى لاستيفاء مبحث أو نحوه، فهذا دليل في الغالب -وإن كان يحتمل غير ذلك- على أن كتابنا أُلِّف بعد ذلك الكتاب المحال إليه.
وقد أحال ابن القيم على عددٍ من كتبه (انظر فهرس الكتب) كـ "التحفة المكية"، و"جِلاء الأفهام"، وكتبٍ أخرى لا نعرف عنها إلا أسمها، أما "الجِلاء" فَلم نعرف تاريخ تأليفه. وكتبه الأخرى لم نقف عليها.
لكن الإشارة التي نستفيد منها هي إحالته على كتاب "تهذيب سنن أبي داود"، فقد ذكره في: (٢/ ٦٦٨)، وقال: "وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا في كتاب "تهذيب السنن" اهـ وهذا
المقدمة / 12
الموضع موجود فيه: (٨/ ٧٥ - ٧٧).
وقد وقع في آخر "تهذيب السنن" التنضيص على سنة تأليفه وأنها سنة (٧٣٢) بمكة المكرمة -حرسها الله-.
وعلى هذا فكتاب (بدائع الفوائد) قد أُلِّف بعد سنة (٧٣٢).
ومما يؤيّد هذا -أيضًا-: كثرة نقل المؤلف عن شيخ الإسلام ابن تيميّة ﵀، وذكره لاختياراته، وجوابه على سؤالاته، وذكر بعض أحواله -مع الدعاء له بالرحمة- وذلك وإن لم يكن صريحًا في النقل عنه بعد وفاته (أي بعد سنة ٧٢٨)؛ إذ يحتمل أن يكون الدعاء له من النُّساخ = فإنه قد ذكر في موضعٍ ما يقطعُ بأن تاريخ كتابة تلك الفائدة -على الأقل- إنما كان بعد وفاة شيخ الإسلام، ففي: (٣/ ١١١٣) ذكر ابن القيم محاورة بينه وبين شيخه، ثم ذكر إيرادًا وقال عقبه: "ولم أسأله عن ذلك، وكان يمنع ذلك، ويختار ... " اهـ. فلو كان حيًّا لسأله.
وهذا ظاهر فيما أشرنا إليه. والله أعلم.
* * *
المقدمة / 13
* إثباتُ نسبة الكتاب إلى مؤلٌفه
دلائل صحة نسبة كتاب "بدائع الفوائد" إلى مؤلِّفه كثيرة، نذكُرُ هنا أهمها:
١ - ذَكَر عامَّةُ من ترجم للمؤلف أن له كتابًا بهذا الاسم، ووصفه بعضُهم بما يُطابق محتواه، من كونه كثير الفوائد، فيه كثير من المسائل النحوية (^١)، وأنه كالتذكرة له (^٢).
٢ - جاءت نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه في جميع النسخ الخطية التي وقفنا عليها أو وُصِفت في الفهارس.
٣ - إحالات المؤلف على كتبه (انظر فهارس الكتب)، فقد أحال على "تهذيب سنن أبي داود" ووجدنا النقل فيه (انظر ما تقدم ص/١٢)، وأحال على "جلاء الأفهام" في موضعين: (٢/ ٦٨٥ و٦٨٨).
٤ - نقول العلماء عن الكتاب باسمه الخاص، مع وجود تلك النقول في أماكنها في الكتاب، من مثل ابن مفلح في "الفروع"، والمرداوي في "الإنصاف"، والسيوطى في "الإتقان"، والزركشي في "البرهان"، والشوكاني في "النيل" وغيرهم (كما سيأتيِ مفضَّلًا في بابه).
٥ - كثرة نقول المؤلِّف عن شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، فقد نقل عنه في أكثر من أربعين موضعًا (انظر فهرس الأعلام) على
_________
(^١) انظر: "بغية الوعاة": (١/ ٦٣) للسيوطي.
(^٢) انظر: "نظم الدرر": (١/ ٧٣) للبقاعي.
المقدمة / 14
طريقته المعهودة في النقل عنه؛ كقوله: "قال شيخ الإسلام. . . "، أو "سمعت شيخ الإسلام. . . "، أو "وأختار شيخنا"، و"قال لي" ونحوها.
٦ - كثيرًا ما نجد توافقًا بين مباحث الكتاب ومباحث ابن القيم في كتبه الأخرى، سواء في التقرير أو النقول أو الاختيارات، وذلك بالتوافق التام حينًا، وبالمعنى حينًا آخر، وبالاختصار تارةٌ، والتوسع والبسط تارةً أخرى، كما بيّنا بعضه في حواشي الكتاب.
٧ - طريقة المؤلف وأسلوبه المعروف ظاهر في الكتاب، لا يخفى على من أَلِفَ أُسلوبَه واعتادَ طريقته.
وهذه الدلائل كافية لإثبات نِسبة الكتاب إلى مُؤلِّفه.
* * *
المقدمة / 15
* التعريف بالكتاب
وفيه مباحث:
• الأول: أهميَّته، وميزاته، ومنزلته بين كتب المصنِّف.
تتجلى أهمية الكتاب في نقاط عدة، نذكر هنا أهمها، وسيأتي ذكر بعضها عَرضًا في مباحث المقدمة، تظهر بالتأمل.
١) أنه أكبر آثار المصنِّف -وُجِد- فيما يتعلَّقُ بالعربية وعلومها.
ومباحثها، نعم للمؤلف عدة كتب في علوم العربية، مثل "معاني: الأدوات والحروف"، و"مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين" وغيرها، وله مباحث متفرقة في ثنايا كتبه، لكن كتبه المفردة لم يصلنا منها شيء، ومباحثه المضمَّنة قليلة مقارنة بمسائل هذا الكتاب. ونظرة إلى "فهرس مسائل النحو والصرف والبلاغة" تُفصح عما وصفناه.
٢) كما تظهر أهميته في أن المؤلف ﵀ لم يكن فيما يورده من مباحث العربية ناقلًا فحسب، بل كان ناقلًا ناقدًا. ولم يكن يستكثر من مشهور مسائل الفن، بل يغوص في أعماقه ويستجلي أسراره، ويُنقِّب عن كنوزه ومكنوناته، فأتى فيه بكل عجيبة مستحسنة، وكل بديعة مُستملحة. وما فتئ المؤلف يستحسن هذه المباحث ويُشيد بها، ويبين عِزَّتها، ولطفها، ودقتها. ولنضرب أمثلة:
قال في موضع: "فتأمل هذا النحو ما ألطفه وأغربه وأعزه في
المقدمة / 16
الكتب والألسنة" (^١).
وقال في موضع آخر: "فليُنزِّه الفَطِنُ بصيرته في هذه الرياضِ المونقة المعْجِبة، التي ترقص القلوب لها فرحًا، ويغتذي بها عن الطعام والشرابَ" (^٢).
وقال أيضًا: "فهدا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يُدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها" (^٣).
وقال في موضع: "ولا تستطل هذا الفصل، فإنه يحقق لك فصولًا لا تكاد تسمعها في خلال المذاكرات، ويُحصِّل لك قواعد وأصولًا لا تجدها في عامة المصنّفات" (^٤).
وقال في مواضع عدة: إن هذا من لطيف العربية ودقيقها (^٥).
وقال في مواضع: إن هذا البحث من فقه النحو (^٦).
وفي موضع: من بديع النحو (^٧).
(٣) اشتماله على تفسير كثير من الآيات الكريمة (وقد صنعنا لها فهرسًا خاصًا) وهو في تفسيره لتلك الآيات يغوص إلى ما تضمنه القرآن من الأسرار والحكم والعجائب والإعجاز.
_________
(^١) (١/ ١٩٧).
(^٢) (١/ ٢٠٨).
(^٣) (١/ ٢٤٦).
(^٤) (١/ ٢٦٨)، ومثله: (٢/ ٥٤٠، ٦١٠، ٤/ ١٦٠٣).
(^٥) (١/ ٣٣٣)، ومثله: (١/ ٣٥٥، ٢/ ٦٠٧).
(^٦) (١/ ٣٥٥) و(١/ ٣٥٨).
(^٧) (١/ ٣٢٧).
المقدمة / 17
والمؤلف يلفت نظر القارئ في أحيانٍ كثيرة إلى تلك المباحث، فتراه يقول في موضع: "واعرف قدر القرآن وما تضمنه من الأسرار وكنوز العلم والمعارف التي عجزت عقول الخلائق عن إحصاء عُشر معشارها" (^١).
وقال في موضع آخر: "فتأمل هذا الشرّ العجيب ولا يَنْبُ عنه فهمك، فإنه من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتابه" (^٢).
كما أنه قد فسَّر سورًا بكاملها بما لم يُسْبَق إليه، مثل سورة الكافرون: (١/ ٢٣٤ - ٢٤٩)، والمعوِّذتين: (٢/ ٦٩٩ - ٨٢٥)، كما فسّر آيات تفسيرًا واسعًا يصلح أن يكون جزءًا مفردًا مثل قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)﴾: (٢/ ٤٠٦ - ٤٥٣) فذكر فيها عشرين مسألة. وقوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ... إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)﴾ [الأعراف: ٥٥]: (٣/ ٨٣٥ - ٨٨٩).
ومما تغرَّد به هذا الكتاب: "جزء في تفسير آيات من القرآن" عن الإمام أحمد رواية المرُّوْذي، نقله المصنف من خط القاضي أبي يعلى: (٣/ ١٠١٥ - ١٠٣٤) (^٣).
(٤) ومن ميزات هذا الكتاب التي لا توجد مجتمعة في غيره، تلك التأصيلات والتحريرات والقواعد في مسائل الأسماء والصفات: (١/ ٢٨٠ - ٣٠٠) مما جعلها عمدة لكل كاتب في هذه المسائل ممن
_________
(^١) (٢/ ٦٥٤).
(^٢) (٢/ ٦٩٤).
(^٣) كما بث المؤلف كثيرًا من القواعد فى التفسير وعلوم القرآن (صنعنا لها فهرسًا)، وأفردْتُ قواعده التفسيرية في بحث لي مستقلّ.
المقدمة / 18