مرت أربع سنوات على فؤاد وهو في عمله ينتقل من أقصى البلاد إلى أقصاها، لا يكاد يستقر في بلد إلا قليلا.
وكان عمله يشغله في ليله وفي نهاره، وهو كلما عاد من تحقيق مأساة تستقبله أخرى حتى أوشك أن يضيق بنفسه ويسيء ظنه بالحياة، إذ كان لا يطلع منها إلا على القسوة والعنف والوحشية، كانت الحياة تطالعه ساخرة كما تطالع الغابة الصياد الذي يجوس خلالها، فهناك رأى القاتل الفاتك يهوي على فريسته يطلب حياته صريحا ساخرا كما يطلب الوحش فريسته في غير رحمة، فإذا تغلغل إلى قلبه ليسبره ويعرف ما بعثه على جريمته انقلب عنه حائرا لا يدري ما الذي ذهب بإنسانيته، وهناك رأى الضعيف الذي لا سند له يقف وحيدا في عالم موحش يلقاه فردا، وهناك رأى نزغات النفوس من جشع وأنانية، وشهوة بهيمية وغطرسة، ومن ذلة وانحطاط وبله يختلط بعضها ببعض فينشأ منها ما يكاد يكون عفنا تنفر النفوس من تأمله، ومع ذلك فإن الحياة تمضي في سبيلها كأن هذا من بعض طبعها، أليس هذا التيار القوي يشبه النهر القديم الذي كان يقف في صباه إلى جانبه فيرى عليه العود الضئيل يندفع إلى قدره المحتوم قسرا؟
وكانت الحرب الكبرى التي أظلت العالم من قبل أعواما ما تزال تنشر على الأرض شؤمها وعنفها وقسوتها، وانطلقت في ميادين القتال كل الوحشية التي تنطوي في ذلك القلب العجيب الإنساني الذي يجمع بين الأضداد.
واشتغلت الأفكار كلها بما قد يكون بين صباح ومساء أو بين مساء وصباح، كانت الجيوش المنتصرة تطوي أرض الأمم الهزيمة ثم تحتفل بنصرها على أشلاء الضحايا، وعندئذ تعلو أصوات المنتصرين باتهام الذين غلبوا على أمرهم ثم يحكمون عليهم بما تقضي به عدالتهم، وما تلك العدالة إلا أن الحق للقوة. كان العالم كله يضطرب كأنه في بحر هائج في ليلة عاصفة موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض.
وكان إقليم البحيرة الذي نقل إليه فؤاد يضطرب في فزع من الحوادث الدامية التي تمزقه ، فما كان يمر يوم بغير سرقة بإكراه أو تقليع مزروعات أو قتل شنيع أو تصادم بين أهل القرى، كأن جو العالم المتفاني قد أسرى عدواه إلى كل النفوس، فكان فؤاد يدعى إلى التحقيق في الصباح وفي المساء وفي وسط الليل أو قبيل الفجر حتى لم تدع له الأعمال متنفسا ولا مراحا، ومع ذلك فقد كان على عادته لا يرضى بأن يمر بتلك الكوارث متخففا ما استطاع من عنائها، بل كان يزيد نفسه عناء بالتغلغل في حناياها، فكان أحيانا يقف مشدودا بين عاملين: أحدهما يجذبه والآخر يدفعه، يرى واجبه يقضي عليه أن يطالب بالعقوبة وقلبه يكاد يحمله على الدفاع والرحمة، فإذا اشتد النزاع بينهما أغمض عينيه؛ لكي يحمل عقله الحائر قسرا على أداء واجبه، فإذا ما كبح خلجات نفسه، وأطاع الواجب الذي جعله أمانة في عنقه؛ ارتد يجادل قلبه حتى يبلغ منه العذاب ما يكاد يحمله على هجر منصبه، وكان أحيانا يلجأ إلى من هم أكبر منه سنا وقدرا لعله يجد عندهم ما عجز عن الاجتهاد فيه، فإذا هو حيال قوم يسخرون من ضعفه، فكان يحس قيوده ولا يقدر على الانفكاك منها، ويتلفت حوله فلا يرى دونه من يأسى له.
وكثيرا ما تمنى لو أسرع الحظ إلى نجدته فأصبح قاضيا، فإن خطب القضاء أهون عليه، إذ يستطيع أن يمزج في حكمه بين العدل والرحمة، وأما رجل النيابة فإن واجبه يحتم عليه أن يرفع سيف القانون مصلتا، ويا لها من كلمة إذ كان يقولها! لقد كان في كثير من المواقف يود لو قدم إلى القضاء الفتى الطاغية الذي سلب ماله بدلا من اللص المسكين الذي سرق ذلك المال.
وكان كثيرا ما يهرب من عذاب نفسه بأن يعود بالخيال إلى ذكريات النجيلة وأيامها الوديعة التي كان يقضيها هناك، وإلى الكوم الأحمر وإلى الحقول الشعثاء، وإلى الجسور السمراء ذات الجوانب العالية المضطربة، وإلى شجرتي الجميز فوق الساقية وإلى جوانب الترع تظللها أشجار الحور والأكوام التي تتهدل فوقها أعواد الطرفاء.
وهفت نفسه إلى قضاء يوم هناك تنزيها لقلبه المكدود، فلا شك أن قوية وزوجته تعويضة كانا ما يزالان في خيمتهما ينعمان بحياتهما الساذجة بعيدين عن قسوة الحياة، وهناك بغير شك رحومة المرح يستمع إليه وهو يتحدث عن أخبار عالمه.
واشترى بعض الهدايا، وركب سيارة حملته نحو القرية، فما هي إلا ساعة قصيرة حتى كان عند بقية الكوم القديم.
وكان الإقليم قد تغير فلم يبق من الكوم إلا طلل من طلل، فقد هده الفلاحون بما أخذوا من ترابه، فلم يتركوا منه إلا جانبا يحيط به من أطرافه إطار محمر اللون، أهذه الحرب قد أصابت الكوم فيما أصابت؟ ولم تكن البركة الخضراء هناك بما عليها من أوز عائم، وما حولها من دجاج تنبش الأكوام باحثة عن طعام، وتلفت حوله فيما بعد وما قرب فلم يجد أثرا ينم عن قوية.
Bilinmeyen sayfa