وأول من لقيه من أهل العزبة رحومة البدوي المرح الكسول.
كان رحومة أو «عبد الرحيم» شيخا في السبعين، ولكنه أعجوبة في الشيوخ، كان يسير عاري الصدر حتى في أشد الأيام بردا، ولا يلبس إلا ثوبا من القطن الخفيف الأزرق يشتريه في كل عيد فلا يخلعه إلا في العيد الذي يليه، فإذا اشتد البرد في ليالي الشتاء التحف بحريم من الصوف يتخذه في الليل غطاء ثم ينحيه عنه إذا حميت شمس النهار، فهو يجعله زينته إذا استقبل زائرا وبساطه إذا أكرم ضيفا، ومظلته إذا آذاه حر الشمس، وكان يسير مستقيم الظهر ويحب أن يجرش الفول بأسنانه البيضاء، فإذا رأى زكيبة منه أسرع إليها ليصيب منها قبضة يجرشها فولة بعد أخرى، وقد تزوج من نساء عدة من فقيرات الأعراب، ولكنه لم يعقب منهن ذرية سوى تعويضة، وكانت فتاة في السابعة عشرة إذ ذاك.
ولكنه كان كسولا، فأحب شيء عنده أن يستلقي في ظل النخيل ظهرا أو يعرج على حلقة من الناس يشارك في حديثها، وكان مرحا ظريف المجلس فما يكاد يمر بجمع حتى يدعوه ليستمعوا إلى آخر أخباره، وكان يترك حقله لامرأته وابنته؛ ولهذا كان لا يكاد يجد الكفاف من العيش، فإذا تذمرت امرأته فقذفته بما شاءت من قول ضحك ساخرا وانصرف عنها بكلمة لاذعة، ولكن ابنته كانت تحبه، فإذا سمعت أمها تعنفه وقفت لها تدافع عنه في حماسة وترد عليها تعنيفها.
وكان رحومة مع فقره متكبرا يكاد يكون غطرسا في بعض الأحيان، كان لا ينسى أنه حر بدوي من أحرار بدو لا ينبغي لهم إلا أن يكونوا حيث خلقهم الله، وكان يرى المال عرضا لا قيمة له في قيم الرجال، فقد يكون غني اليوم فقيرا في الغد، وقد يكون الفقير من بعد غنيا، ولكن المرء نفسه يبقى كما خلقه الله.
والناس عنده صنفان: فمنهم البدوي ومنهم غير البدوي، وما كان ينسى أن يشكر الله إذ خلقه بدويا.
ولما رآه فؤاد داخلا ناداه من أقصى (المنظرة): أين أنت يا رحومة؟
فصاح بصوته القوي: مرحبا!
وأسرع في مشيته ليلقاه مادا يده مصافحا، وكانت تحية حارة من مصافحة مكررة على طريقة الأعراب: إيش حالك؟ إيش لونك؟ وسأله فؤاد عن أخباره فجعل يقص عليه من الأنباء ما ادخره في عامه، وقص عليه نبأ سجن «سلومة».
كان فؤاد يعرف عبد السلام أو «سلومة» كما يسميه أهل ذلك الريف على طريقة الأعراب، كان الناس يسمونه الصقر أحيانا أو الذئب أحيانا، ففيه شبه لا شك فيه من الصقر والذئب معا، كان فارسا في حلبات «البرجاس» في موالد الأولياء، وكان مبارزا ماهرا بالعصى، إذا نازل أقرانه هزم أمهرهم واحدا بعد واحد، وكان يستطيع أن يضع الرصاصة حيث شاء من الهدف الذي يرمي إليه.
وكان شابا نحيفا يضع على رأسه عمامة صغيرة فوق «لبدة» ويلف أعلى جسمه بشملة بيضاء من صوف، وكان في أول أمره في عزبة الأفندي، ثم اتصل به أحد أعيان الريف المجاور واسمه إبراهيم ميسور فحبب إليه أن يكون عنده، وكان ذلك الرجل يستكثر من مثله ليكونوا له أتباعا، فانتقل سلومة إليه مع أمه وأخيه، ومع ذلك كان بين حين وآخر يزور الأفندي محافظة على مودته القديمة، ولكنه لم يبق على عهده الأول، فكان إذا سار أمام البيوت يخطر معجبا، ويتخذ في ملبسه زينة المترفين، فما لبث أن رأى من الأفندي انقباضا عنه فصار لا يزوره إلا لماما، وما مضى عليه إلا أعوام يسيرة في عزبة ميسور حتى تبدل تبدلا عجيبا، فقد ضرى في زهوه حتى صار فاتكا، يسطو بمن يخاشنه، لا تأخذه بأحد رحمة ولا تدفعه عنه رهبة، ثم تمادى في فتكه حتى كان الناس كلما اجتمعوا جعلوا حديثهم همسا عن آخر ما جناه.
Bilinmeyen sayfa