وعلى كل حال فقد انتقم الصبي لنفسه، وخرج من عزلته وشغل الناس في القرية والمدينة بالحديث عنه والتفكير فيه، وتغير مكانه في الأسرة، مكانه المعنوي إن صح هذا التعبير؛ فلم يهمله أبوه، ولم تعرض عنه أمه وإخوته، ولم تقم الصلة بينهم وبينه على الرحمة والإشفاق، بل على شيء أكثر وآثر عند الصبي من الرحمة والإشفاق.
وانقطع ذلك النذير الذي سمعه الصبي في أول الإجازة بأنه قد يبقى في القرية ويقطع عن الأزهر فقيها يقرأ القرآن في المآتم والبيوت، وآية ذلك أنه أصبح ذات يوم فنهض مع الفجر ونهضت الأسرة كلها مع الفجر أيضا، ورأى الصبي نفسه بين ذراعي أمه وهي تقبله وتذرف دموعا صامتة. ثم رأى الصبي نفسه في المحطة مع صاحبه وأبوه يجلسه في القطار رفيقا به، ثم يعطيه يده ليقبلها، ثم ينصرف عنه وهو يسأل الله أن يفتح عليه.
ورأى الصبي نفسه يعبث مع صاحبه أثناء السفر، ثم رأى الصبي نفسه ينزل من القطار في محطة القاهرة، وإذا أخوه يتلقاه مبتسما له. ثم يدعو حمالا ليحمل ما كان معه من متاع قليل وزاد كثير، فإذا تجاوز باب المحطة دعا عربة من عربات النقل فحمل عليها الزاد وصاحب أخيه، ثم عربة أخرى من عربات الركوب، فأجلس فيها أخاه رفيقا به، وجلس عن يمينه وأعطى السائق عنوان «الربع».
الفصل السابع عشر
وأقبل صاحبنا على دروسه في الأزهر وغير الأزهر من المساجد، فأمعن في الفقه والنحو والمنطق، وأخذ يحسن «الفنقلة» التي كان يتنافس فيها البارعون من طلاب العلم في الأزهر على المنهج القديم، ويسخر منها المسرفون في التجديد، ولا يعرض عنها المجددون المعتدلون. وإذا هو يدرس «شرح الطائي على الكنز» مصبحا، و«الأزهرية» مع الظهر، وشرح السيد الجرجاني على إيساغوجي ممسيا.
وكان يحضر الدرس الأول في الأزهر، والدرس الثاني في مسجد محمد بك أبي الذهب، والدرس الثالث في مسجد الشيح العدوي على أستاذ من سلالة الشيخ العدوي نفسه. وربما ألم بدرس من دروس الضحى كان يقرأ فيه كتاب «قطر الندى» لابن هشام؛ تعجلا للتعمق في النحو والفراغ من كتب المبتدئين والوصول إلى «شرح ابن عقيل على الألفية»، ولكنه لم يكن يواظب على هذا الدرس؛ كان يستجهل الشيخ، ويرى في «فنقلة» الشيخ عبد المجيد الشاذلي حول «الأزهرية» و«حاشية العطار» ما يكفيه ويرضيه.
وقد بقيت في نفسه آثار لا تمحى من درس الأزهرية هذا؛ ففيه تعلم «الفنقلة» حقا، وكان أول ذلك هذا الكلام الكثير والجدال العقيم حول قول المؤلف: «وعلامة الفعل قد»؛ فقد أتقن صاحبنا ما أثير حول هذه الجملة البريئة من الاعتراضات والأجوبة، وأتعب شيخه حوارا وجدالا حتى سكت الشيخ فجأة أثناء هذا الحوار، ثم قال في صوت حلو لم ينسه صاحبنا قط، ولم يذكره قط إلا ضحك منه ورق له: «الله حكم بيني وبينك يوم القيامة.» قال ذلك في صوت يملؤه السأم والضجر، ويملؤه العطف والحنان أيضا؛ وآية ذلك أنه بعد أن أتم الدرس وأقبل الصبي ليلثم يده كما كان الطلاب يفعلون، وضع يده على كتف الصبي، وقال له في هدوء وحب: «شد حيلك الله يفتح عليك.»
وعاد الصبي مبتهجا بهذه الكلمات والدعوات، فأنبأ بها أخاه وانتظر به أخوه موعد الشاي. فلما اجتمع القوم إلى شايهم قال للصبي مداعبا: قرر لنا «وعلامة الفعل قد.» فامتنع الصبي حياء أول الأمر، ولكن الجماعة ألحت عليه، فأقبل يقرر ما سمع وما وعى وما قال، والجماعة صامتة تسمع له، حتى إذا فرغ نهض إليه ذلك الكهل الذي كان ينتظر الدرجة فقبل جبهته وهو يقول: «حصنتك بالحي القيوم الذي لا ينام.»
وأما الجماعة فأغرقت في الضحك، وأما الصبي فأغرق في الرضا عن نفسه، وبدأ منذ ذلك الوقت يعتقد أنه أصبح طالبا بارعا نجيبا.
وقوى هذا الرأي في نفسه أن زملاءه في درس النحو التفتوا إليه وجعلوا يستوقفونه بعد الدرس، أو يدنون منه قبل الدرس، فيسألونه ويتحدثون إليه، ثم يعرضون عليه أن يعدوا معه الدرس قبل الظهر. وقد أغراه هذا العرض فترك درس «القطر»، وجعل يطالع مع زملائه هؤلاء يقرءون له ويأخذون في التفسير، وجعل هو يسبقهم إلى هذا التفسير ويستبد به من دونهم، فلا يقاومونه وإنما يسمعون منه ويصغون إليه. وجعل ذلك يزيده غرورا إلى غرور، ويخيل إليه أنه قد بدأ يصبح أستاذا.
Bilinmeyen sayfa