ولكنه على كل حال قد اتخذ أكثر خصال الأساتذة؛ فهو لا يشارك أصدقاءه الشباب في درس ولا يقرأ معهم كتابا، وإنما يلقاهم بين حين وحين مترفعا عليهم شيئا، مترفقا بهم قليلا، يشهد طعامهم وشايهم ويدعوهم إلى طعامه وشايه. ويتحدث إليهم في صوت هادئ ممتلئ وبحروف مضخمة مفخمة، ولكنه لا يتحدث إليهم في العلم وإنما يتحدث إليهم عن العلماء يعيب أكثرهم ويمدح أقلهم، يغلو في العيب ويقتصد في الثناء. ويتحدث إليهم عن المال وعن تدبيره، وعن مكانته بين أهل القرية وصيته بين أهل المركز وارتفاع شأنه بين أهل الأقاليم. وعن إخوته الذين يشرفون على الحرث والزرع، وأخيه النابه النجيب الذي عظم نصيبه من الذكاء وقل نصيبه من مواتاة الحظ، فلم يفتح الله عليه بنيل الشهادة الابتدائية على تقدم سنه حتى كاد يبلغ العشرين؛ لا لأنه كان مقصرا أو غبيا، بل لأن الحظ كان يمانعه ويعاكسه، وقد قررت الأسرة أن تغالب الحظ، وصمم الشيخ على أن يغلب الحظ على أخيه، ويثب بهذا الفتى من الخمول إلى نباهة الذكر وارتفاع الشأن، فأزمع أن يدخله المدرسة الحربية ويجعل منه ضابطا باسلا تزدان كتفه لا بالنجمة بل بالنجمتين، بل بالنجوم.
ولكن الحظ كان أقوى من الشيخ ومن أسرته، فرد الفتى عن المدرسة؛ لأن هيأته لم تعجب الممتحنين، والشيخ ساخط على الحظ مصمم على مغالبته، يتحدث بهذا كله حديثا متقطعا متصلا، تقطعه قرقرة الشيشة التي كان صاحب القهوة يحملها إليه وجه النهار وآخره وحين يتقدم الليل، والتي كان ربما أعدها لنفسه أو أعدها له خادمه الصغير، والتي كانت تبهر هؤلاء الطلاب وتثير في نفوسهم شيئا من الإعجاب بثرائه يمازج ازدراءهم لجهله وتندرهم بغبائه.
وما ينسى الصبي أن هذا الشيخ الغني أراد ذات يوم أن يتخفف من بعض أثاثه ويشتري خيرا منه وأرقى، فعرض قديمه على هؤلاء الطلاب، فكلهم نكل عن الشراء إلا أخا الصبي، فإنه اشترى منه دولابا يأتلف من قطعتين تقوم إحداهما على الأخرى، فأما القطعة السفلى: فقد كان لها بابان مصمتان، وقد خصص أعلاها لثياب الشيخ الفتى وخصص أسفلها لكتبه التي لم تجلد، والتي لا يحسن أن ترى، وخصص جزء منه لما كان الشيخ يحرص على ادخاره لنفسه من طيب الطعام. وكان في أعلى هذه القطعة السفلى درجان خصصهما الشيخ الفتى لأوراقه المنتثرة ولنقوده حين كانت تصل إليه أول الشهر؛ فكان يضعها في أحد هذين الدرجين ويأخذ منها بمقدار بين يوم ويوم، وقد حفظ مفتاحيهما في جيبه. وأما القطعة العليا: فكان لها بابان زجاجيان وقد خصصت للكتب المجلدة التي يبعث منظرها في النفوس بهجة ورضا.
وقد غالى الشيخ بدولابه هذا وساوم في ثمنه حتى تجاوز به الجنيه؛ لأنه كان من خشب البندق، واشتراه الشيخ الفتى على ذلك، ومن المحقق أن شراءه قد جر على الشيخ الفتى وعلى أخيه أعباء ثقالا، فلم يكن بد من دفع هذا الثمن أقساطا، ومن أن تقتطع هذه الأقساط من وظيفة الشهر الضئيلة التي كانت تأتي من القرية، ثم لم يكن بد من أن تشترى الكتب ومن أن تجلد وترص لتبدو أعقابها مزدانة باسم الشيخ الفتى من وراء الزجاج. وكان هذا كله يقتطع من وظيفة الشهر ويضطر الطالبين إلى أن يقترا على أنفسهما في الرزق. ثم عجزت وظيفة الشهر عن أن تنهض بهذه الأعباء، فبدأت الاستدانة، وقل ما كان يودع في الدرج من نقود، وكثر الإلحاح على الشيخ الوالد في أن يزيد الوظيفة أو يضيف إليها شيئا بين حين وحين.
ولكن شراء هذا الدولاب قد رفه على الصبي وأثار في نفسه كثيرا من الفرح والبهجة؛ فقد كان للشيخ الفتى صندوق طويل عميق عرفه الصبي في أثناء طفولته حين كانت أمه تحفظ فيه ثيابها ونفائس هذه الثياب خاصة، وكان لهذا الصندوق غطاء مجوف قليلا يرفع فيتكشف عن عمق، كان الصبي يراه عظيما، ويتكشف عن درجين خفيين كانت أمه تحفظ فيهما حليها حين كان لها حلي، ثم افتقد الصبي هذا الصندوق في مكانه من الدار ذات يوم فلم يجده، وكان كثيرا ما يلعب عنده مع أخواته، وكان كثيرا ما يجلس عليه متربعا وتجلس أخواته بين يديه على الأرض متربعات وهو يقص عليهن أحاديثه ويسمع منهن أحاديثهن.
افتقد الصبي هذا الصندوق ذات يوم فلم يجده؛ لأنه حمل إلى النيل حيث أودع سفينة ذاهبة إلى القاهرة، وهناك تلقاه الفتى الشيخ فحفظ فيه ثيابه وكتبه التي لم يكن يجد لها مستودعا. وقد حزن الصبي على هذا الصندوق حزنا شديدا، واضطر إلى أن يجلس مكانه متربعا على الأرض ليتحدث إلى أخواته ويسمع منهن.
فلما انتقل الصبي إلى القاهرة كان شديد الشوق إلى أن يمس الصندوق ويجلس عليه ويمسح بيده الصغيرة خشبه الأملس، ولكن الصندوق كان بعيدا من مجلسه، قد وضع في زاوية من زوايا الغرفة، فلم يكن ذهاب الصبي إليه سهلا ولا ميسورا. فلما اشترى الدولاب وانتقلت إليه ثياب الشيخ الفتى وكتبه، سقط أمر الصندوق، فانتقل من مكانه في الغرفة إلى مكان مهمل في الدهليز يكون عن شمال الصبي إذا دخل، وقيل للصبي: ضع في هذا الصندوق ثيابك وما قد يكون لك من كتب إن اشتريت كتبا.
ومنذ ذلك الوقت هجر الصبي مجلسه ذاك من الغرفة أثناء النهار واستحيا أن يجلس على الصندوق فيضحك منه من يراه، ولكنه جلس إلى جانبه مما يلي عتبة الغرفة مسندا ظهره إلى الحائط معتمدا بيده على الصندوق، متحينا فرصة إن أتيحت له لينهض فيجلس على الصندوق ويداعبه، وقد يرفع غطاءه ويضع يده في هذا الدرج ثم في ذاك، ولكنه لم يكن يجد فيهما شيئا. وربما انحنى على ثيابه القليلة التي كانت ملقاة في أعماق هذا الصندوق يقلبها مستمتعا بذلك، كأنه يملك شيئا ويتخذ له حرزا لا يشاركه فيه غيره، ولكن الأيام قد مضت وتبعتها الأيام وامتلأ هذا الصندوق كتبا.
وشخص آخر كان يقيم في الربع نازحا عنه غريبا بين أهله وإن وصلت القرابة بينه وبين بعض هؤلاء الطلاب، ووصل الود الخالص بينه وبينهم جميعا. كان قصير النظر، لا يكاد يبصر إلا عن قرب شديد، وكان طويل الجسم، طويل الإقامة على طلب العلم في الأزهر، طويل السكنى في هذا الربع، قد جد في طلب العلم ما استطاع، وجد العلم في الهرب منه ما استطاع، فلم يكن غريبا بين الطلاب وحدهم وإنما كان غريبا بين الكتب التي كانت تملأ غرفته أيضا، شهد الدروس وسمع من الشيوخ، فلما استيأس من هذا كله قبع في غرفته لا يكاد يتنقل منها إلا إلى هذه الغرفة أو تلك من غرفات الربع ليتحدث إلى هذا الصديق أو ذاك. وقد كان أصدقاؤه منصرفين إلى علمهم ودرسهم فانقطع حتى عن زيارتهم، ولكنه كان طيب القلب، سمح النفس، عذب الحديث، شديد الوفاء، سريعا إلى معونة أصدقائه، منتظرا بهم إن تعسر الأداء.
فكانوا هم يذكرونه لأنهم كانوا يحبونه، وكانوا هم يزورونه لأنهم كانوا يستمتعون بحديثه ويجدون اللذة في محضره. ولم تطاوعه نفسه على فراق القاهرة ولا على ترك الربع، على أنه كان مستيئسا من العلم والدرجة، فأقام حيث كان يدبر أمره أو يدبر له أمره وهو مقيم في القاهرة، لا هو بالطالب ولا هو بالفلاح ولكنه شيء بين ذلك. وما أكثر ما كان يزوره أقاربه وأهل قريته فيحملون إليه من طيبات الريف ما يسرع فيدعو أصدقاءه إلى المشاركة فيه، أو يسرع فيحمله إليهم في غرفاتهم. وقد أقام هؤلاء الطلاب ما أقاموا في الربع لا يذكرون هذا الصديق إلا محبين له مثنين عليه، ثم تفرقوا وأخذ كل منهم طريقه، وانقطعت عنهم أخباره، ولكنهم ظلوا لا يذكرونه إلا أثنوا عليه.
Bilinmeyen sayfa