وهذا أخو الصبي يدعوه بهذه الجملة التي ما زال يدعوه بها أعواما وأعواما: «يا الله يا مولانا!» فينهض الصبي متثاقلا فيمضي مع أخيه متعثرا حتى يبلغ الأزهر، فيجلسه أخوه في مكانه من حلقة النحو، ويمضي هو إلى درس الشيخ الصالحي في زاوية العميان.
وقد سمع الصبي درس النحو ففهمه في غير جهد، وطال عليه إلحاح الشيخ في الإعادة والتفسير، ثم انقضى الدرس وتفرق الطلاب، وظل الصبي في مكانه حتى يعود أخوه فيجذبه في غير كلام وفي غير رفق، ويمضي به حتى يخرجه من الأزهر وحتى يقطع به الطريق التي قطعها به في الصباح والضحى، وحتى يلقيه في مكانه من الغرفة على ذلك البساط القديم قد بسط على حصير بال عتيق، ومنذ ذلك الوقت يتهيأ الصبي لاستقبال حظه من العذاب.
الفصل الخامس
وكانت الوحدة المتصلة مصدر ذلك العذاب؛ فقد كان الصبي يستقر في مجلسه من الغرفة قبيل العصر بقليل، ثم ينصرف عنه أخوه فيذهب إلى غرفة أخرى من غرفات «الربع» عند أحد أصحابه.
وكان مجلس الجماعة لا يستقر في غرفة بعينها من غرفاتهم، وإنما هو عند أحدهم إذا أصبحوا، وعند ثان منهم إذا أمسوا، وعند ثالث منهم إذا تقدم الليل، وكان أخو الصبي يتركه في غرفته بعد درس الظهر ويذهب إلى حيث يلقى أصحابه في إحدى الغرفات، فينفقون وقتا طويلا أو قصيرا في شيء من الراحة والدعابة والتندر بالشيوخ والطلاب، وكانت أصواتهم ترتفع وضحكاتهم تدوي في «الربع» تدوية فتبلغ الصبي وهو جاثم في مكانه، فتبتسم لها شفتاه ويحزن لها قلبه؛ لأنه لا يسمع كما كان يسمع في الضحى ما أثارها من فكاهة أو نادرة، ولأنه لا يستطيع كما كان يستطيع في الضحى أن يشارك صامتا بابتسامة نحيلة ضيقة في هذا الضحك الغليظ العريض.
وكان الصبي يعلم أن القوم سيجتمعون حول شاي العصر إذا أرضوا حاجتهم إلى الراحة وإلى التندر بالشيوخ والزملاء، وسيستأنفون حول هذا الشاي حديثا هادئا منتظما، ثم يستعيدون ما يرون أن يستعيدوه من درس الظهر مجادلين مناظرين، ثم يعيدون درس المساء الذي يلقيه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في كتاب «دلائل الإعجاز» في بعض أيام الأسبوع، وفي تفسير القرآن الكريم في بعضها الآخر. وسيتحدثون أثناء إعدادهم لهذا الدرس عن الأستاذ الإمام، وسيستعيدون ما كانوا يسمعون من نوادره وما كانوا يحفظون من رأيه في الشيوخ ومن رأي الشيوخ فيه، وما كانوا يحفظون من أجوبته التي كان يلقيها لبعض السائلين له والمعترضين عليه فيفحمهم ويضحك منهم زملاءهم الطلاب.
وكان الصبي لهذا كله محبا وبه كلفا وإليه مشوقا متحرقا. وربما أحس الصبي في دخيلة نفسة الحاجة إلى كوب من أكواب الشاي تلك التي تدار هناك، فقد كان هو أيضا قد كلف بالشاي وشعر بالحاجة إلى أن يشربه مصبحا وممسيا، وإلى أن يستكمل منه النصاب. ولكنه حرم هذا كله؛ فهولاء القوم يتندرون ويتناظرون ويدرسون ويشربون الشاي غير بعيد، وهو لا يستطيع أن يشارك في شيء من هذا، ولا يستطيع أن يطلب إلى أخيه الإذن له بأن يحضر مجلس هؤلاء الشباب، ويستمتع بما فيه من لذة العقل والجسم معا .
لا يستطيع أن يطلب ذلك؛ فأبغض شيء إليه أن يطلب إلى أحد شيئا، ولو قد طلب ذلك إلى أخيه لرده عنه ردا رفيقا أو عنيفا، ولكنه مؤلم له، مؤذ لنفسه على كل حال، فالخير في أن يملك على نفسه أمرها، ويكتم حاجة عقله إلى العلم، وحاجة أذنه إلى الحديث، وحاجة جسمه إلى الشاي، ويظل قابعا في مجلسه مطرقا مغرقا في تفكيره. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد ترك أخوه باب الغرفة مفتوحا إلى أقصى غايته، وهذه أصوات القوم تبلغه، وهذه ضحكاتهم تصل إليه، وهذه دقات مصمتة تنتهي إليه فتؤذنه بأن صاحب الشاي يحطم الخشب ليوقد النار. وكل هذه الأصوات التي تنتهي إليه تثير في نفسه من الرغبة والرهبة، ومن الأمل واليأس، ما يعنيه ويضنيه، ويملأ قلبه بؤسا وحزنا، ويزيد في بؤسه وحزنه أنه لا يستطيع حتى أن يتحرك من مجلسه، وأن يخطو هذه الخطوات القليلة التي تمكنه من أن يبلغ باب الغرفة ويقف أمامه حيث يكون أدنى إلى هذه الأصوات، وأجدر أن يسمع ما تحمله مما يتحدث به القوم، لقد كان ذلك خليقا أن يسره ويسليه، ولكنه لا يستطيع أن ينتقل من مكانه، لا لأنه يجهل الطريق إلى الباب، فقد كان حفظ هذه الطريق، وكان يستطيع أن يقطعها متمهلا مستأنيا، ولكن لأنه كان يستحيي أن يفاجئه أحد المارة فيراه وهو يسعى متمهلا مضطرب الخطى. وكان يشفق أن يفاجئه أخوه الذي كان يلم بالغرفة من حين إلى حين؛ ليأخذ كتبا أو أداة، أو لونا من ألوان الطعام التي كانت تدخر ليتبلغ بها أثناء الشاي في غير أوقات الإفطار أو العشاء.
وكان كل شيء أهون على الصبي من أن يفجأه أخوه وهو يسعى مضطربا حائرا فيسأله: ما خطبك؟ وإلى أين تريد؟ فكان إذن يرى الخير في أن يبقى في مكانه ويؤثر العافية، ويردد في نفسه تلك الحسرات اللاذعة التي كان يجدها، وحسرات أخرى لم تكن أقل منها لذعا وإيلاما؛ حسرات الحنين إلى منزله ذلك، في قريته تلك من قرى الريف، هنالك حين كان يعود من الكتاب وقد أرضى حاجته إلى اللعب، فيتبلغ بكسرة من الخبز المجفف، مازحا مع أخواته قاصا على أمه ما أحب أن يقص عليها من أنباء يومه في الكتاب. فإذا بلغ من ذلك ما أراد خرج من الدار فأغلق الباب وراءه، ثم مضى حتى يبلغ جدران البيت الذي كان يقوم أمامه فلزمه ماضيا نحو الجنوب، حتى إذا بلغ مكانا بعينه انحرف إلى يمين، ثم مضى أمامه خطوات حتى ينتهي إلى حانوت الشيخ محمد عبد الواحد وأخيه الشاب الحاج محمود، فجلس هناك متحدثا متندرا مستمعا لما كان يقوله المشترون من الرجال، والمشتريات من النساء من هذه الأحاديث الريفية الساذجة التي تمتع باختلافها وطرافتها وسذاجتها أيضا.
وربما قل الطارئون على الحانوت من المشترين والمشتريات، فخلا للصبي أحد صاحبي الحانوت، وجعل يتحدث إليه أو يقرأ له في كتاب من الكتب. وربما عدل الصبي عن السعي إلى الحانوت وخرج من داره فجلس على المصطبة الملاصقة لها مطرقا يسمع حديث أبيه الشيخ مع أصحابه في مجلسهم ذاك الذي كانوا يعقدونه منذ تصلى العصر إلى أن يدعوهم مؤذن المغرب إلى العشاء.
Bilinmeyen sayfa