وهو يمضي مع صاحبه في هذه الطريق الضيقة المظلمة الملتوية، يصعد قليلا لينحدر قليلا، ويمضي أمامه ليعطف عن يمينه، ثم يمضي أمامه ليعطف عن شماله، وهذه الأصوات المنكرة المختلفة تدعوه مرة وتشيعه مرة أخرى وتؤذيه دائما، حتى يشعر بعد حين بأن قلبه قد هدأ، وبأن صدره قد اتسع، وبأن طريق التنفس قد استقامت له، فيبعث من جوفه نفسا طويلا كأنه يحمل كل ما استقر في نفس الصبي من ألوان الذعر والألم والحزن.
ثم يتنفس حرا طليقا كأنما يستنشق الحياة في هذا الهواء الطلق الذي أخذ يغمره منذ خرج من «حارة الوطاويط»، ومضى أمامه في تلك الطريق المنحدرة التي لا تعتدل لقدميه، ولكن ما هي إلا لحظات قصيرة، حتى تعتدل الطريق وتستوي الأرض لقدميه؛ فهو يسعى معتدلا مطمئنا ، قد تهيأت نفسه لشيء من الفرح والمرح تحمله إليه هذه الأصوات الغريبة المختلطة التي يسمعها حين يسعى في ذلك الشارع الهادئ الحلو، وعن شماله مسجد سيدنا الحسين، وعن يمينه هذه الحوانيت الصغيرة التي طالما وقف عند بعضها حين تقدمت به الأيام فذاق من طيباتها ما شاء الله له أن يذوق.
ذاق التين المرطب وشرب نقيعه في أثناء الصيف، وذاق البسبوسة واستمتع بما تبعثه من الحرارة في الأجواف أثناء الشتاء. وربما وقف عند بعض الباعة من السوريين فذاق ألوانا من الطعام؛ منها الحار ومنها البارد، ومنها الحلو ومنها الملح، كان يجد في ذوقها لذة لا تقدر، ولو قدمت إليه الآن لأشفق أن تحمل إليه العلة أو تغرى به الموت.
وكان يمضي في طريقه هذه حتى يبلغ مكانا تختلط فيه الأصوات وترتفع، ويشعر بأن الطريق قد افترقت فيه؛ فهو يستطيع أن يمضي أمامه، وأن يمضي عن يمين، وأن يمضي عن شمال، وأن يعود أدراجه.
وكان صاحبه يقول له: هذه هي المفارق الأربعة، إن مضيت عن يمينك فإلى السكة الجديدة ثم الموسكي ثم العتبة الخضراء، وإن مضيت عن شمالك فهي الدراسة، ولكننا سنمضي أمامنا فنسلك شارع الحلوجي، وهو شارع العلم والجد والعمل، ضيق تكاد تبلغ جانبيه إذا مددت يديك عن يمين وشمال، ولكنك تمضي بين حوانيت صغيرة تباع فيها الكتب جديدها وقديمها، جيدها ورديئها، مطبوعها ومخطوطها، وكم كانت للصبي في ذلك الشارع الضيق وقفات خصبة ممتعة لم ينسها قط حين تقدمت به الأيام واختلفت عليه أطوار الحياة، ولكنه عجل فيجب أن يبلغ صاحبه الأزهر قبل أن يبتدئ الدرس. وها هو ذا قد بلغ «باب المزينين»، فخلع نعليه وخالف بينهما وأخذهما في يده ومضى مع صاحبه، فلما تقدم قليلا تخطى عتبة قليلة الارتفاع، ثم انفرج له صحن الأزهر هادئا مطمئنا يترقرق فيه نسيم بارد هو نسيم الصباح، وهو الآن في الطور الثالث من أطوار حياته الأولى.
الفصل الثالث
وكان هذا الطور أحب أطوار حياته تلك إليه وآثرها عنده، كان أحب إليه من طوره ذاك في غرفته التي كان يشعر فيها بالغربة شعورا قاسيا؛ لأنه لا يعرفها ولا يعرف مما اشتملته من الأثاث والمتاع إلا أقله وأدناه إليه؛ فهو لا يعيش فيها كما كان يعيش في بيته الريفي وفي غرفاته وحجراته تلك التي لم يكن يجهل منها ومما احتوت عليه شيئا، وإنما كان يعيش فيها غريبا عن الناس وغريبا عن الأشياء؛ وضيقا حتى بذلك الهواء الثقيل الذي كان يتنفسه فلا يجد فيه راحة ولا حياة؛ وإنما كان يجد فيه ألما وثقلا.
وكان أحب إليه من طوره الثاني في طريقه تلك بين البيت والأزهر؛ فقد كان في ذلك الطور مشردا مفرق النفس مضطرب الخطى ممتلئ القلب بهذه الحيرة المضلة الباهظة التي تفسد على المرء أمره وتجعله يتقدم أمامه لا على غير هدى في طريقه المادية وحدها - فقد كان ذلك محتوما عليه - بل على غير هدى في طريقه المعنوية أيضا؛ فقد كان مصروفا عن نفسه بما يرتفع حوله من الأصوات وما يضطرب حوله من الحركات، وقد كان مستخذيا في نفسه من اضطراب خطاه وعجزه من أن يلائم بين مشيته الضالة الحائرة الهادئة ومشية صاحبه المهتدية العازمة العنيفة.
فأما في طوره الثالث هذا فقد كان يجد راحة وأمنا وطمأنينة واستقرارا. كان هذا النسيم الذي يترقرق في صحن الأزهر حين تصلي الفجر يتلقى وجهه بالتحية فيملأ قلبه أمنا وأملا، وما كان يشبه وقع هذا النسيم على جبهته التي كانت تندى بالعرق من سرعة ما سعى، إلا بتلك القبلات التي كانت أمه تضعها على جبهته بين حين وحين في أثناء إقامته في الريف حين يقرئها آيات من القرآن أو يمتعها بقصة مما قرأ في الكتب أثناء عبثه في الكتاب، أو حين كان يخرج ضعيفا شاحبا من خلوته تلك التي كان يتوسل فيها إلى الله بعدية يس ليقضي هذه الحاجة أو تلك من حاجات الأسرة.
كانت تلك القبلات تنعش قلبه وتشيع في نفسه أمنا وأملا وحنانا، وكان ذلك النسيم الذي كان يتلقاه في صحن الأزهر يشيع في نفسه هذا كله ويرده إلى الراحة بعد التعب، وإلى الهدوء بعد الاضطراب، وإلى الابتسام بعد العبوس. ومع ذلك فلم يكن يعلم من أمر الأزهر شيئا، ولم يكن يعرف مما يحتويه الأزهر شيئا، وإنما كان يكفيه أن تمس قدميه الحافيتين أرض هذا الصحن، وأن يمس وجهه نسيم هذا الصحن، وأن يحس الأزهر من حوله نائما يريد أن يستيقظ، وهادئا يريد أن ينشط ليعود إلى نفسه أو لتعود إليه نفسه، وإذا هو يشعر أنه في وطنه وبين أهله، لا يحس غربة ولا يجد ألما، وإنما هي نفسه تتفتح من جميع أنحائها، وقلبه يتشوق من جميع أقطاره ليتلقى ... ليتلقى ماذا؟ ليتلقى شيئا لم يكن يعرفه، ولكنه كان يحبه ويدفع إليه دفعا، طالما سمع اسمه وأراد أن يعرف ما وراء هذا الاسم، وهو العلم.
Bilinmeyen sayfa