شيئا فشيئا، وما هي إلا أن أجهشت بالبكاء وانكببت على أبيك لثما وتقبيلا، وأقبلت أمك فانتزعتك من بين ذراعيه، وما زالت بك حتى هدأ روعك، وفهمت أمك وفهم أبوك وفهمت أنا أيضا أنك إنما بكيت؛ لأنك رأيت أوديب الملك كأبيك مكفوفا لا يبصر ولا يستطيع أن يهتدي وحده، فبكيت لأبيك كما بكيت «لأوديب».
نعم! وإني لأعرف أن فيك عبث الأطفال وميلهم إلى اللهو والضحك وشيئا من قسوتهم، وإني لأخشى يا ابنتي إن حدثتك بما كان عليه أبوك في بعض أطوار صباه أن تضحكي منه قاسية لاهية، وما أحب أن يضحك طفل من أبيه، وما أحب أن يلهو به أو يقسو عليه، ومع ذلك فقد عرفت أباك في طور من أطوار حياته أستطيع أن أحدثك به دون أن أثير في نفسك حزنا، ودون أن أغريك بالضحك أو اللهو.
عرفته في الثالثة عشرة من عمره حين أرسل إلى القاهرة ليختلف إلى دروس العلم في الأزهر، إن كان في ذلك الوقت لصبي جد وعمل،
3
كان نحيفا شاحب اللون مهمل الزي أقرب إلى الفقر منه إلى الغنى، تقتحمه
4
العين اقتحاما في عباءته القذرة وطاقيته التي استحال بياضها إلى سواد قاتم، وفي هذا القميص الذي يبين من تحت عباءته وقد اتخذ ألوانا مختلفة من كثرة ما سقط عليه من الطعام، ومن نعليه الباليتين المرقعتين، تقتحمه العين في هذا كله، ولكنها تبتسم له حين تراه على ما هو عليه من حال رثة
5
وبصر مكفوف، واضح الجبين مبتسم الثغر مسرعا مع قائده إلى الأزهر، لا تختلف خطاه ولا يتردد في مشيته، ولا تظهر على وجهه هذه الظلمة التي تغشى
6
Bilinmeyen sayfa