لي وله في درجات الآخرة
قرأ القاضي هذه الأبيات بصوت يحطمه البكاء حطما، ثم قال للصبي: من تواضع لله رفعه، أتفهم هذه الأبيات؟ قال الصبي: لا. قال القاضي: إن المؤلف رحمه الله تعالى، عندما بدأ في نظم ألفيته اغتر وأخذه الكبر فقال: «فائقة ألفية ابن معطي»، فلما كان الليل رأى فيما يرى النائم أن ابن معط قد أقبل يعاتبه عتابا شديدا، فلما أفاق من نومه أصلح من هذا الغرور وقال: «وهو بسبق حائز تفضيلا.»
وكم كان الشيخ مبتهجا فرحا حين عاد إليه الصبي عصر ذلك اليوم؛ فقص عليه ما سمع من القاضي، وقرأ عليه الأبيات الأولى من الألفية! فكان يقطع هذه الأبيات بهذه الكلمة التي يعبر بها الناس عن الاستحسان: «الله! الله!»
على أن لكل شيء حدا، فقد مضى صاحبنا في حفظ الألفية فرحا مبتهجا حتى انتهى إلى باب المبتدأ، ثم فترت همته، وكان أبوه يسأله عصر كل يوم: هل ذهبت إلى المحكمة؟ فيجيب: نعم. - فكم حفظت؟ فيقرأ له ما حفظ.
ولكن الأمر ثقل عليه منذ باب المبتدأ، فأخذ يحفظ ويذهب إلى المحكمة متثاقلا متباطئا، حتى وصل إلى باب المفعول المطلق، ثم لم يستطع أن يتقدم خطوة قصيرة ولا طويلة، ولبث يذهب إلى المحكمة في كل يوم، ويقرأ على القاضي فصلا من فصول الألفية، حتى إذا عاد إلى الكتاب ألقى الألفية في ناحية، وانصرف إلى عبثه ولعبه، وإلى قراءة القصص والأحاديث.
فإذا كان العصر وسأله أبوه: هل ذهبت إلى المحكمة؟
أجاب: نعم. - وكم حفظت من بيت؟
أجاب: عشرين. - من أي باب؟ - من باب الإضافة، أو من باب النعت، أو من باب جمع التكسير.
فإذا قال له: اقرأ علي ما حفظت، قرأ عليه عشرين بيتا من المائتين الأوليين، مرة من المعرب والمبني، وأخرى من النكرة والمعرفة، وثالثة من المبتدأ والخبر، والشيخ لا يفهم شيئا، ولا يلاحظ أن ابنه يخدعه؛ وإنما يكتفي بأن يسمع كلاما منظوما، وهو مطمئن إلى القاضي. ومن غريب الأمر أن الشيخ لم يفكر مرة واحدة في أن يفتح الألفية ، ويقابل على الصبي وهو يقرأ، ولو قد فعل يوما من الأيام، لكانت للصبي قصة كقصته مع سورة الشعراء، أو سبأ، أو فاطر.
على أن الصبي تعرض لهذا الخطر مرة، ولولا أن أمه شفعت فيه لكان له مع أبيه موقف مشهود.
Bilinmeyen sayfa