إنه لا يريد صدى ولا جوابا وإنما يحبها وحسب.
فلم تجبه، وغيرت مجرى الحديث، وانصرف عنها بعد ساعة، وقد استقر في نفسه أن حياته ستسلك منذ ذلك اليوم طريقا جديدة.
وليس من شك في أن نفسه كانت قد تعلقت بذلك الصوت العذب ثم بصاحبته منذ وقت طويل ... وإلا فما جزعه حين اضطر إلى العودة إلى مصر؟ وما ابتهاجه بهذه الرسائل التي كانت تصل إليه؟ وما شوقه العنيف إلى العودة إلى فرنسا ليسمع فيها ذلك الصوت؟ وما خروجه عن طوره حين وجد الرسالتين اللتين كانتا تنتظرانه في نابولي؟ وما إلحاحه على صاحبه الدرعمي في أن يقرأ عليه هاتين الرسالتين مرة ومرة ومرة حتى أمله؟ ثم ما حرصه على أن يسمع هذا الصوت في باريس؟ وما نزوله في بيته ذاك الذي كان يسمع فيه هذا الصوت يتردد في كل ساعة من ساعات النهار، ويلقى فيه صاحبة الصوت حين يريد لقاءها دون أن يتكلف لذلك جهدا أو سعيا أو انتظارا؟ وما سعادته بأنه كان يقيم في هذا البيت غير بعيد من ذلك الشخص الذي كان يلقي عليه تحية الصباح، حين يخرج من غرفته ذاهبا إلى السوربون، ويلقي عليه تحية المساء حين يتقدم الليل ويأوى أهل البيت إلى مضاجعهم، ويقرأ عليه بين ذلك ما شاء الله من آيات الأدب الفرنسي؟
ولكن حبه كان يستحي حتى من نفسه فينكرها، وكان الفتى يخفي شعوره ذاك في أبعد ما يمكن أن يستقر في أعماق ضميره، ويكره أن يتحدث به إلى نفسه، وقد استيقن أنه لم يخلق لمثل هذا الشعور، وأن مثل هذا الشعور لم يخلق له ... وأين هو من الحب؟ وأين الحب منه؟
إنما كتب عليه أن يعيش كما عاش مثله الأعلى ذلك الذي وقف حياته منذ قرون طوال في دار من دور المعرة على الدرس ممعنا فيه، غير معني إلا به، محرما على نفسه ما أباح الله للناس من طيبات الحياة.
كان الفتى يطوي نفسه على شعوره ذاك يائسا منه ومن عواقبه، راضيا بما يتاح له من سماع ذلك الصوت ومن الحديث إلى صاحبته حين يتاح له الحديث إليها، واثقا بأن هذا أقصى ما يمكن أن يساق إليه من النعيم ... غير طامع في أكثر منه، وكان واجدا على الحياة والظروف؛ لأنها تحول بينه وبين أكثر منه.
ولكن العلة الطارئة التي ألمت بصاحبته، والصوت العذب الذي أدركه الضعف وشاع فيه الفتور، والإشفاق من الألم والجهد، على ما كان يكره له أن يحس الألم أو يحمل ثقل الجهد. كل ذلك ملك عليه أمره، وملأ عليه قلبه، وأنساه تحفظه وتحرجه، وأجرى على لسانه تلك الكلمة التي أنكرها. وليس غريبا بعد ذلك أنه لم يجد حزنا ولا شقاء ولم يحس لوعة ولا ألما حين بلغ مسمعه الرد على كلمته تلك موئسا مقنطا، فهو لم يكن ينتظر إلا اليأس والقنوط، قد وطن نفسه عليهما وعزى نفسه عنهما بما كان يمعن فيه من الدرس والتحصيل.
وهو قد انصرف عن صاحبته في ذلك اليوم راضيا عن نفسه ساخطا عليها. راضيا عنها؛ لأنها قالت ما لم يكن بد من أن يقال، ساخطا عليها؛ لأنها عرضته بهذه الكلمة لشر عظيم، فهي قد عرضته لإشفاق تلك الفتاة عليه ورثائها له وضيقها به. ومن يدري لعلها تريد أن تصرفه عنها صرفا، وأن تلقي بينها وبينه حجابا يقطع تلك الأسباب العذاب التي كانت تتيح لهما اللقاء والاستمتاع العقلي والشعوري بما كانا يقرأان معا من آيات الأدب الفرنسي.
ومن يدري لعل هذه الكلمة التي ألقاها في تدبر وعن غير إرادة أن ترده إلى تلك الظلمة المظلمة التي ظن أنه قد خرج منها، وأن تضطره في يوم قريب أو بعيد إلى أن يترك ذلك البيت ويلتمس له مسكنا آخر لا يسمع فيه ذلك الصوت، ولا يلقى فيه ذلك الشخص، ولا يجد فيه شعور الرضا والنعيم ... وإنما يجد فيه شعورا آخر كله سخط مر وحزن ممض وألم مفسد للحياة.
عاش صاحبنا بين هذا السخط وذلك الرضا أياما لم يكد ينتفع فيها بقراءة أو درس، ولم يكد يذوق فيها للحياة طعما.
Bilinmeyen sayfa