ويرى الفتى نفسه ذات يوم من شهر سبتمبر يسعى مع رفيقه الدرعمي إلى السفينة، وكلاهما محزون كاسف البال، كأنه لا يسعى للعودة إلى الوطن، وإنما يساق إلى الموت.
الفصل الثاني عشر
الصوت العذب
وكانت أيام السفينة الستة طوالا ثقالا قد ألقى عليها الحزن غشاء شاحبا بغيضا. فلم يجد الصاحبان فيها للذة السفر وراحته طعما، وإنما كان الهم يصبحهما ويمسيهما، وكانت خيبة الأمل حديثهما في النهار حين يلتقيان، وحديث نفسيهما في الليل حين يفترقان. وما لهما لا يشقيان بهذه العودة المفاجئة، وأحدهما قد أنفق في باريس أعواما طوالا ثم لم يحقق من آماله شيئا، وإنما هم ولم يفعل، فتعلم الفرنسية واختلف إلى الدروس، وأخذ يتهيأ لإعداد رسالته التي ينال بها درجة الدكتوراه، وإذا الحرب ترده عن ذلك ردا، فإذا عاد إلى فرنسا واستأنف ما كان فيه من استعداد للرسالة والامتحان ردته الأزمة المالية التي أدركت الجامعة إلى وطنه خائبا فارغ اليدين لم يصنع شيئا ولم يظفر بشيء.
ولو قد التمس لنفسه عملا حين تخرج في دار العلوم ولم يتكلف ما تكلف من السفر والغربة، لكان فى ذلك الوقت معلما فى هذه المدرسة أو تلك من مدارس الدولة، ولكنه يرى نفسه ضائعا لا يكاد يدنو من الغاية حتى يصد عنها صدا، تصده الحرب مرة، وتصده الأزمة المالية مرة أخرى، وهو يعود إلى مصر ليعيش فيها فارغا لا يدري ماذا يعمل، ولا يعرف كيف يكسب القوت؟
وأما الآخر فقد جد وكد واحتمل المشقة والعناء، وداعب الأحلام والآمال، حتى إذا أشرف على البعثة ولم يكن يقدر أنه سيشرف عليها رده عنها إعلان الحرب، فعاش أشهرا عيالا على أبيه وأخيه وذاق مرارة الحياة التي لا تغني عنه وعن غيره شيئا، ثم أتيحت له البعثة فأقبل على عمله مغتبطا سعيدا يكاد يخرجه النشاط من إهابه. وقد حاول من أمور الدرس ما أتيح له فيه كثير من التوفيق، حتى ظن أنه بالغ ما يريد، ثم عرض له في أثناء إقامته في فرنسا ما أحيا في نفسه آمالا لم تكن تخطر له ببال؛ فهو قد عرف أنه يستطيع أن يكون كغيره من الناس، بل خيرا من كثير من الناس، يحيا حياة فيها رضا وغبطة، وفيها نعمة وبهجة، وفيها سكون إلى هذه الرحمة التي كان قد استيأس منها والتي كان أبو العلاء قد ألقى في روعه أنه لن يذوقها ما عاش، وإذا الأيام تدنيه منها أو تدنيها منه.
وإنه لفي حياته تلك الراضية الناعمة على ما كان فيها من خشونة وعسر، وإذا الجامعة تدعوه إلى مصر ليعود إليها كما خرج منها، كأنه لم يداعب الأمل إلا ليتجرع مرارة اليأس كأبغض ما تكون مذاقا.
وهو قد عرف التبطل والفراغ في أشهره تلك التي قضاها في مصر، بعد أن أعلنت الحرب، وهو يعود ليلقى التبطل والفراغ مرة أخرى في مصر.
أف لهما من رفيقين بغيضين! ولقد كان يقطع الأمد بين مونبلييه ومارسيليا أثناء ليلته تلك الثقيلة وليس في نفسه إلا شيء واحد، هو هذا الصوت العذب الذي طالما قرأ عليه آيات الأدب الفرنسي، وهو الآن يناجيه في حزن أليم ... وإذن فلن نلتقي بعد أن ينقضي الصيف!
وقد صحبه هذا الصوت أيام السفينة يناجيه مناجاة اليأس مرة، ومناجاة الأمل مرة أخرى، يشفق عليه من الأحداث، ويمنيه الانتصار والخروج منها. ويتحدث إليه بأنها الغمرات ثم ينجلين، وبأن لكل أزمة غاية، وبعد كل حرج فرجا، وهو مضطرب بين هذه الابتسامات المضيئة الخاطفة التي لا تكاد تعرض له حتى تنصرف عنه، وهذا الحزن الجاثم المقيم الذي لا يفارقه إلا ريثما يعود إليه!
Bilinmeyen sayfa