كان في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمره، وحدثته نفسه بأن ليس له من الزواج بد، فلما كلم أسرته في ذلك سخرت منه وهزئت به، وقال له أبوه في دعة ورضا: ما زال بينك وبين الزواج وقت طويل وعمل ثقيل.
ولكن الفتى صمم على الزواج، وأزمع أن يكره أهله على أن يزوجوه، وكان له ما أراد؛ لأنه اصطنع الجنون إذا دخل داره، فكان عاقلا بين رفاقه في الأزهر والجامعة، وكان مجنونا إذا أغلق الباب من دونه في منزله ذاك عند سيدنا الحسين، كان لا يكاد يدخل الدار حتى يؤذن أهله بمقدمه رافعا صوته ما استطاع بهذه الكلمة التي كانت تخيفهم كل الخوف: «جنان»، ثم يأخذ في تحطيم ما يستطيع تحطيمه، وفي إفساد نظام الدار حتى يضطر أهله إلى اصطناع شيء من القوة لرده إلى بعض الهدوء، وما زال يعقل بين رفاقه ويجن بين أهله حتى أصبح زوجا، وحتى رزق الولد، قبل أن يبلغ العشرين.
وأقبل ذات يوم على رفاقه متحديا أيهم يستطيع أن يؤرخ له بالشعر مولد الصبية التي ولدت له صباح ذلك اليوم، فلما لم يجد عند رفاقه شيئا أنشدهم شعره الذي ختمه بتاريخ مولد تلك الصبية، ثم دعاهم إلى غداء أعده لهم، فأطمعهم في نفسه منذ ذلك اليوم، وكانوا كلما أرادوا أن يدعوهم إلى غداء أو عشاء تملقوه بالشعر، يجدون قليلا ويعبثون في أكثر الأحيان، ويستجيب لهم هو دائما.
وأقبل ذات يوم لا يملك نفسه من الإغراق في الضحك حتى ظن به أصحابه الجنون، وحدثهم بعد أن أفاق بأن الذين رأوه بين داره وبين الأزهر ظنوا به الجنون أيضا. وكان مصدر إغراقه في الضحك أن اجتمعت له طائفة حسنة من الجنيهات، فاشترى لنفسه خاتما له فص من ألماس نفيس، ورأى أبوه هذا الخاتم، فلما سأله عن ثمنه أنبأه بأنه اشتراه بأربعين جنيها، فقال الشيخ ساخرا: لقد فسد الزمان! ما رأيت قبل اليوم قط فتى يحمل في أصبعه أربعين إردبا من القمح.
وجعل الفتى يتصور هذا المقدار الضخم من القمح وقد كدس بعضه على بعض، وأقبل هو فحمله بأصبع واحدة، وكانت هذه الصورة هي التي أغرته بالضحك، ودفعته إليه حتى عرضته لتهمة الجنون.
لقي هذا الصديق صاحبه الفتى ذات مساء في قهوة الكلوب المصري. وكان الفتى ذاهلا يفكر في رسالته كيف يقدمها إلى الجامعة وليس عنده منها إلا النسخة التي أملاها، وهو لا يعرف كيف يكتب النسخ الأربع الأخرى. فلما عرف صديقه منه ذلك قال له متضاحكا: «هون عليك ... فلن تنقضي أيام حتى تقدم رسالتك إلى الجامعة.» ثم أصبح فاشترى أداة من أدوات الطبع على البلوظة، واستأجر ناسخا كتب الرسالة بالحبر الذي يلائم تلك الأداة، وأعد من الرسالة نسخا قدمت إلى الجامعة، وأصبح الفتى أول طالب مصري يرشح نفسه في الجامعة المصرية للظفر بدرجة الدكتوراه.
وأقبلت بشائر الصيف، وحدد اليوم الذي تناقش فيه رسالة الفتى. وأقبل الفتية الأزهريون في مساء ذلك اليوم على الجامعة يحيطون بصديقهم مشجعين له، يحيون في نفسه الأمل ويزينون في قلبه المستقبل الذي ينتظره، إلا ذاك الصديق الذي طبع له الرسالة؛ فقد كان يتحدث إليه حديث المنذر المحذر، لا حديث المشجع المؤمل، ينذره بقسوة الممتحنين، ويحذره من أن يكون له في الجامعة يوم كيومه في الأزهر، ويؤكد له أنه ليس مستعدا لأن يقدم له بعد رسوبه في الامتحان الثاني صينية المكارونة تلك التي قدمها إليه بعد رسوبه في الأزهر.
ولكن الفتى لم يرسب في هذه المرة، وإنما ثبت لأساتذته الذين جادلوه وألحوا عليه في الجدال ، وظفر منهم بعد لأي بدرجة الدكتوراه.
وسجلت الجامعة هذا الامتحان ونجاح الفتى فيه بهذا المحضر:
في الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء خامس مايو سنة 1914 اجتمعت بدار الجامعة لجنة امتحان العالمية المؤلفة من الأستاذ محمد الخضري رئيسا، والأستاذين محمد المهدي ومحمود فهمي المدرسين بالجامعة، والأستاذين إسماعيل رأفت بك وعلام سلامة المندوبين من نظارة المعارف العمومية أعضاء لامتحان ... الطالب بالجامعة المصرية، وكان اجتماعها بهيئة علنية.
Bilinmeyen sayfa