وضاق الفتى بذلك أشد الضيق، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئا، ثم تفرق الطلاب وهم الفتى أن ينصرف، ولكن يدا توضع على كتفه وصوتا يطلب منه الانتظار، وإذا هو الأستاذ قد استوقف الفتى، حتى إذا خلا إليه قال له: ليس لك أرب في حضور هذه الدروس، ولكني أرى فيك حرصا على تعلم هذه اللغة وأحب أن أعينك على ما تريد، فالقني إن شئت في قهوة كوبري قصر النيل نتحدث في هذا الموضوع.
وضرب له موعدا لهذا اللقاء، ولم يكادا يلتقيان حتى تعارفا، وإذا بينهما صلة قديمة، فقد كان أبو هذا الأستاذ قاضيا شرعيا في المدينة التي نشأ فيها الفتى، وعليه قرأ الفتى ألفية ابن مالك، كان يختلف إليه في المحكمة ضحى كل يوم، ويقرأ عليه بابا من أبواب الألفية، وقد اتصلت المودة بين الأستاذ الكهل وتلميذه الفتى. ولكن دروس هذا الأستاذ لم تغن عن التلميذ شيئا، فقد كان يحب كتابا وشعراء من الفرنسيين، فإذا خلا إلى الفتى قرأ عليه من آثار هؤلاء الكتاب والشعراء وترجم له بعض ما يقرأ، فيزيد شوق الفتى إلى العلم بلغة هؤلاء الكتاب والشعراء لروعة ما كان ينقل إليه من آثارهم، وقد سمع الفتى من أستاذه أسماء كانت تسحره وتبهره وتملك عليه أمره كله، سمع اسم لامارتين وألفريد دي موسيه وألفريد دي فيني وشاتوبريان؛ فكان موقع هذه الأسماء غريبا، وكان ما ينقل إليه من كلامهم أشد غرابة من أسمائهم يبعد الفتى عن الأدب العربي وعن الشعر القديم خاصة، ويدفعه إلى عالم آخر مجهول لا يحقق الفتى منه شيئا، ولكنه يهيم بالاضطراب فيه كل الهيام، وقد اضطر آخر الأمر إلى أن يبحث عن معلم يلقنه أوليات هذه اللغة تلقينا منظما منتجا، وما زال يبحث عنه حتى دل عليه.
فأقبل على دروسه كل يوم من الساعة الثانية إلى منتصف الخامسة، واستبقى مع ذلك مودة أستاذه ذاك، فكان يلقى أستاذه النظامي كل يوم في موعده المحدد، فيتعلم منه الأوليات، ويلقى أستاذه الآخر مرتين في الأسبوع إذا أقبل الليل ليسمع منه نثرا وشعرا ينقل إليه بعض معانيهما.
وكان الأستاذ النظامي رجلا غريب الأطوار حقا، كان شيخا قد نيف على السبعين وقد حطمته السنون، وكان ألبانيا، وكان قذرا تنبو عنه العيون، وكان معدما لا يجد ما يقوته، وكان يصيب غداءه مع الفتى كل يوم ثم لا يأخذ منه أجرا لدروسه. وكان سريع التعب لا يكاد يتحدث إلى الفتى دقائق حتى يدركه الإعياء فيغفى لحظة ثم يفيق ليأخذ فيما كان فيه، ثم يعود إلى الإغفاء، ثم يعود بعد ذلك إلى الإفاقة.
وكذلك كان الفتى يختطف دروسه اختطافا بين يقظة الأستاذ ونومه، وربما أحس الأستاذ شدة الحر إذا أقبل الصيف وأراد أن يتبرد، فوقف الدرس، وذهب إلى الحمام، فصب على نفسه من ماء الدش ما شاء الله أن يصب، ثم عاد إلى تلميذه وقد أحدث شيئا من نشاط، ولكنه لا يكاد يمضي في درسه حتى تأخذه سنته تلك، فيضطر التلميذ إلى الانتظار به حتى يفيق.
على أن هذا الأستاذ لم يلبث أن ضاق به أخو الفتى أشد الضيق؛ كان يأتى إذا دنت الساعة الثانية وينصرف إذا انتصفت الساعة الخامسة، ويترك في البيت من قذارته آثارا غلاظا، بعضها حي يؤذي، وبعضها ميت يمض، حتى شكا الخادم وضاق أخو الفتى بما كان يرى، وبما كان يسمع، وصرف الأستاذ صرفا رقيقا.
والتمس صاحبنا لنفسه أستاذا آخر، وجعل ينتقل بين معلم ومعلم، ويجد في هذا التنقل مشقة أي مشقة، ومتاعا أي متاع. تأتى المشقة من أجر الدروس الذي لم يكن له بد من أن يؤديه إلى معلميه، ويأتى المتاع من اختلاف هؤلاء المعلمين، وتباين أطوارهم وخصائصهم حين كانوا يتحدثون إليه، ويلقون علمهم عليه، حتى لقي الفتى ذات يوم في الجامعة فتى كان قد ظفر بالشهادة الثانوية وتعلم في مدرسة الفرير، فكان متقنا للفرنسية. ولم يكد يتحدث إليه حتى ذكر صباه كله، فقد كان هذا الفتى ابن ملاحظ الطريق الزراعية في مدينته، وكان يختلف مع أخته إلى الكتاب الذي حفظ الفتى فيه القرآن. فقد لقي الفتى إذن رفيق صباه، ويسر له تعلم اللغة الفرنسية في غير مشقة ولا عناء، وأي شيء أيسر من أن يتعلم الفرنسية لا يدفع على تعلمها أجرا وإنما يعلم رفيقه بعض قواعد النحو والصرف!
وبفضل هذا الرفيق محمود سليمان رحمه الله خطا الفتى في درس الفرنسية خطوات بعيدة، علمه رفيقه كما تعلم هو في المدرسة. قرأ معه الكتب الأولى، وما زال يتدرج به من كتاب إلى كتاب حتى رأى نفسه ذات يوم يقرأ مع رفيقه قصة كانديد لفولتير، يتعثر في فهمها تعثرا شديدا متصلا، ولكنه يفهم منها شيئا، ورأى الفتى نفسه يختلف إلى دروس الأدب الفرنسي فتفوته أشياء ويصيب أشياء، والأستاذ يعطف عليه ويرفق به، ورفيقه يعينه على فهم ما يفوته؛ وإذا هو يتقدم في الدرس تقدما حسنا، ويشعر أن أمر اللغة الفرنسية قد أصبح يسيرا، فليس له بد من أن يحسنها، وهو قادر على أن يحسنها إن مضت أموره على ما يحب.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجامعة بالقياس إليه وسيلة بعد أن كانت غاية، فقد ألقى الشيخ عبد العزيز جاويش في روعه فكرة السفر إلى أوروبا، وإلى فرنسا خاصة، فما له لا يفكر في هذا السفر؟ وما يمنعه أن يبتغي إليه الوسيلة؟ والغريب أن هذه الفكرة مازجت نفسه، وأصبحت جزءا من حياته، وجعل ينظر إليها لا على أنها حلم يداعبه نائما أو يقظان، بل على أنها حقيقة يجب أن تكون. وأغرب من هذا أن الفتى جعل يتحدث بسفره إلى أوروبا كما يتحدث الإنسان عن أمر قد صحت عزيمته عليه، وقد تهيأت له أسبابه. وكان يتحدث إلى إخوته وإلى أخواته إذا أقبل الصيف بسفره إلى أوروبا قريبا، وكان يغيظ أخواته بأنه سيقيم في أوروبا أعواما، ثم يعود منها وقد اختار لنفسه زوجا فرنسية متعلمة مثقفة تحيا حياة راقية ممتازة، ليست جاهلة مثلهن، ولا غافلة مثلهن، ولا غارقة في الحياة الخشنة الغليظة مثلهن، وكان أخواته يتضاحكن حين يسمعن منه هذا الحديث وربما أضحكن به أم الفتى وأباه.
وكان الفتى يقول لهن: «اضحكن اليوم فسترين غدا!»
Bilinmeyen sayfa