وقبل الفتى هذه الشروط كلها، فخطب وأجاد، ولكنه لم يقل شيئا، ورضي الأستاذ كل الرضا، وقال للفتى: لا يكافئ هذه الخطبة الرائعة إلا ديك رومي، ولكنك لن تأكله وحدك، وإنما يشاركك فيه زملاؤك جميعا، فإذا كان يوم الجمعة فأنتم تعرفون أين أقيم!
ولم يكن الأساتذة المصريون وحدهم هم الذين يملأون الجامعة فكاهة ودعابة، ويتعرضون لعبث الطلاب وجراءتهم الماجنة، وإنما كان الأساتذة الأجانب مصدرا من مصادر الفكاهة وموضوعا من موضوعات العبث. كانت لهجتهم العربية تملأ أفواه الطلاب بالضحك، وكان منهم الذين يلوون ألسنتهم بالعربية يقلدون هذا الأستاذ أو ذاك من أساتذتهم الإيطاليين أو الألمانيين. ولم ينس الفتى يوما قرر فيه الطلاب أن يضربوا عن درس الأستاذ نالينو الإيطالي؛ لأن إيطاليا أعلنت الحرب على تركيا، وأرسلت سفنها غازية لطرابلس، فأزمع الطلاب أن يجتمعوا في غرفة الدرس، حتى إذا أقبل الأستاذ وارتقى إلى مجلسه خرجوا من الغرفة وتركوه فيها وحيدا. وقد أتم الطلبة ما قرروا، فتركوا الأستاذ وحيدا في غرفة الدرس، ووقفوا أمام الغرفة ينتظرون ما يكون من أمره؛ ولبث الأستاذ في الغرفة دقائق ثم خرج، فأقبل على تلاميذه وقال لهم في لهجة عربية صحيحة فصيحة يلتوي بها لسانه بعض الشيء: مثلكم مثل الرجل الذي أراد أن يغيظ امرأته فخصى نفسه!
وكان السهم صائبا، وكان أثره لاذعا ممضا، ومنذ ذلك اليوم لم يفكر طلاب الجامعة في الإضراب، ومنذ ذلك اليوم استقر في نفس الفتى بغض شديد لإضراب الطلاب عن الدروس مهما تكن الظروف.
وكانت دروس الآداب الإنجليزية والفرنسية تلقى في الجماعة ويشهدها الذين يحسنون هاتين اللغتين من الطلاب، ويتجنبها الفتى لأنه لم يكن يعرف لغة أجنبية. ولكن الجامعة نظمت ذات يوم، وفرضت فيها الامتحانات، وفرض فيها العلم بلغة أجنبية من هاتين اللغتين. وأقبل الفتى ذات يوم مع زميله المرصفي - وللمرصفي حديث طويل سيأتي في إبانه - فاتفقا على أن يسمعا درس الأدب الفرنسي، ليعرفا كيف تكون هذه اللغة، فدخلا غرفة الدرس ولبثا فيها ساعة كاملة لم يفهما فيها حرفا مما سمعا، ولم يميزا منه إلا لفظا واحدا هو لافونتين الذي كان يتردد كثيرا جدا على لسان الأستاذ.
ثم انصرفا بعد ذلك ولم يحفظا من أمر هذه الساعة إلا أنهما سمياها سجن لافونتين. وقد كان لهذه الساعة مع ذلك في حياتهما أثر أي أثر؛ فأما المرصفي فعدل عن الجامعة، وأعرض عنها وعن دروسها وامتحاناتها، واتخذها مكانا يلقى فيه الصديق، ويتفكه فيه بالعبث من بعض الأساتذة.
وأما الفتى فأزمع أن يتعلم الفرنسية حتى لا يعود إلى سجن لافونتين، وكانت له في تعلم هذه اللغة خطوب أي خطوب.
الفصل السابع
كيف تعلمت الفرنسية!
كان أول عهد الفتى بدرس اللغة الفرنسية أن حدثه بعض صديقه من الأزهريين بأن مدرسة مسائية أنشئت في مكان قريب من الأزهر، تدرس فيها هذه اللغة لمن يريد أن يتعلمها من المجاورين.
وكان للشيخ عبد العزيز جاويش رحمه الله يد في إنشاء هذه المدرسة لم يحققها الفتى تحقيقا واضحا، ولكنه ذهب إلى المدرسة فيمن ذهب إليها من الطلاب، وسمع الدرس الأول من دروسها، ألقاه كهل مصري كان يحسن أن يلوي لسانه في النطق بالحروف، وكان الفتى يبهره هذا النطق، ولكنه لم يفهم من هذا الدرس شيئا، فقد كان الأستاذ يرسم الحروف على اللوحة وينطق بها، ويأخذ الطلاب بأن ينطقوا بهذه الحروف كما سمعوها منه، وبأن ينظروا إليها مرسومة، وينقلوها فيما أمامهم من الأوراق، وظل الفتى واجما لا يرى الحروف ولا يرسمها، ولم يسأله الأستاذ أن ينطق بها، وإنما كان يسأل من عن يمينه ومن عن شماله، ويمر به هو بدون أن يلوي عليه.
Bilinmeyen sayfa