وهذا أستاذ ألماني، هو الأستاذ ليتمان، قد أقبل يتحدث إلى الطلاب عن اللغات السامية والمقارنة بينها وبين اللغة العربية، ثم يأخذ في تعليمهم بعض هذه اللغات. وإذا الفتى يخرج من حياته الأولى خروجا يوشك أن يكون تاما لولا أنه يعيش بين زملائه من الأزهريين والدرعميين وطلاب مدرسة القضاء وجه النهار وشطرا من الليل.
ولكن عقله قد نأى عن بيئته هذه نأيا تاما، واتصل بأساتذته أولئك اتصالا متينا، فكلهم قد عرفه، وكلهم قد آثره بالحب والرفق والعطف، وكلهم قد أدناه من نفسه، ودعاه إلى أن يزوره في فندقه، وأحب أن يقول له ويسمع منه. ولم ينس الفتى موعدا ضربه لأستاذه سنتلانا ذات صباح، ليحضر معه درسا من دروس الأزهر، وقد أقبل الأستاذ إلى حيث كان ينتظره تلميذه أمام الرواق العباسي، وذهب مع الفتى إلى درس الشيخ الأكبر الشيخ سليم البشرى رحمه الله، وكان يلقي درسه في التفسير مع الصباح بالرواق العباسي، وجلس الأستاذ والتلميذ بين الطلاب، وأخذ الشيخ يفسر آية كريمة من سورة الأنعام هي قول الله عز وجل:
ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون .
وفسر الشيخ رحمه الله فأحسن التفسير، وخاض في حديث الجبر والاختيار، وجعل يرد على الجبريين ويدفع مقالتهم، ويأخذ الفتى في حوار الشيخ على عادة الأزهريين، فيسمع الشيخ له ويرد عليه ردا لا يقنعه، ويأبى الفتى إلا اللجاج، فينهره الشيخ بهذه الكلمات: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن! الله أكبر على العلم والإيمان، حضرتك مسلم؟
ويهم الفتى أن يجيب، ولكن الشيخ ينهره في سخرية غاضبة قائلا: اسكت يا شيخ جاتك الكلاب خلينا نقرأ.
ثم يمضي في حديثه غير حافل بالفتى، ولكن الفتى يهم أن يتكلم، وإذا أستاذه الإيطالي يمس كتفه مسا متصلا، وهو يقول له هامسا بعربيته التونسية العذبة: اسكت، اسكت، ليضربك!
يميل بالضاد إلى الظاء، ويرى الفتى نفسه مغرقا في ضحك خفي، لا يدري أكان مصدره سخرية الشيخ منه أم رفق الأستاذ الإيطالي به وإشفاقه عليه؟!
فإذا انتهى الدرس ذهب الفتى بأستاذه الإيطالى إلى إدارة الأزهر، واستأذن له على الشيخ الأكبر، فأذن له، وتلقاه حفيا به متلطفا له في الحديث، ثم ينظر إلى الفتى فيسأله في رفق: أأنت الذي كان يجادل في الدرس؟
قال الفتى: نعم.
قال الشيخ متضاحكا: ما شاء الله! ما شاء الله! فتح الله عليك وأشقاك بتلاميذك كما يشقى بك أساتذتك!
Bilinmeyen sayfa