وهكذا عاش حمدان في جهالة الطفولة لا يدرك مقدار السعادة التي تتيحها له هذه الجهالة، وإنما يدرك قواعد اللعبة التي يمارسونها تمام الإدراك، ويتقن هذه اللعبة كل الإتقان.
وكانت هي - لمياء - تعجب بمهارته، وتنضم دائما إلى الفريق الذي يضمه، سعيدة أن تراه إلى جوارها لا تعرف سببا لهذه السعادة، سعيدا هو أن يراها إلى جواره، لا يدرك باعثا لهذه السعادة.
ومرت الأيام، وويل لحمدان في جلسته هذه حين يذكر مرور الأيام، لماذا مرت؟ ألا تعرف هذه الأيام شيئا إلا أن تمر فتجعل من العقول الجاهلة الحالمة السعيدة عقولا مبصرة واعية شقية، أما كانت تستطيع هذه الأيام أن تتوقف فلا تمر، أو تتمهل فلا تثب هكذا وثبا عنيفا يطيح بالأماني العذاب، ويقضي على الآمال الباكرة المشوقة إلى أن تصبح حقائق واقعة، مرت الأيام كالرحى الثقيلة تطحن سعادتنا الجاهلة، وأنسنا الساذج، مرت الأيام، فألقت على وجه لمياء حلاوة الشباب بعد عربدة الطفولة ولمست جسمها فإذا هي فارعة الطول هيفاء غيداء تخطر كالهواء، وتسعى كالأمل وتشرق كالشباب، ولمست الأيام عقل لمياء الطفل الجاهل فتفتح إلى أفكار الشباب، وصار يدرك سبب السعادة التي كانت تحسها، وأصبحت تخجل من هذه السعادة وتحاول ما وسعها الجهد أن تخفيها في عميق نفسها.
ومرت هذه الأيام نفسها على حمدان فعلمته أن ذلك الشعور بالسعادة إنما هو الحب الذي يتحدث عنه الشعراء ويتهامس به الشبان، علمته الأيام أيضا أنه فقير، أبوه تابع لأحد وجهاء الحي، وعلمته الأيام أن دونه ودون لمياء المستحيل؛ فهي لن تصبح له في يوم من الأيام، بل إنه لن يستطيع أن يكشف لها عن حبه مهما يعظم، عرف حمدان هذا جميعه ولكن بعد فوات الوقت، بعد أن كان الحب قد تغلغل في نفسه فهو بعض من الدماء التي تجري في عروقه، وهيهات للشاب المسكين أن يسيطر على حب هو بعض من دمائه.
وكان الشبان من أبناء الأتباع يجتمعون فيتحدثون عن رجال الصحراء والكهوف حديثا يملؤه الفخر وتحيط به هالات من التمجيد، وكان حمدان يستمع إلى هذا الحديث بأذن واعية وقلب خافق متطلع إلى المستقبل، وكانت النسوة يستمعن إلى هذا الحديث في تظاهر بالخوف لا يخلو من الإعجاب، ونظر حمدان إلى نفسه في قبيلته تلك فوجد نفسه ضائع الأصل، منهار الأمل، ووجد أترابه يتمتعون بالمستقبل المشرق، بينما هو بينهم تابع بلا أمل وتمكن اليأس من حمدان وامتلأت نفسه بالحقد على مجتمعه هذا الذي يحيا فيه؛ فهو ينظر إلى أصدقاء الملعب نظرة كلها الحسد، وينظر إلى لمياء في حسرة عنيفة، وينظر إلى مستقبله في مرارة قاتلة، ويراود ذهنه ذلك القصص عن قطاع الطرق، ومن خلال هذا الطريق المحفوف بالمخاطر يلمع لعينيه وميض أمل، وما يمنعه أن يصبح قاطع طريق؟! أهو غضب أبيه؟ وما يهمه غضب أبيه ذلك الرجل الخامل الذي لم يستطع أن يصنع لنفسه إلا هذه الحياة الحقيرة ليس فيها غير الشرف والعفة والفقر والحرمان؟ أتعوقه أمه؟ وما شأنها به وهي التي رضيت أن تشارك أباه حياته تلك المهينة؟ لا، إن شيئا من هذا لا يمكن أن يمنعه، لعلها لمياء، لا، لا تستطيع لمياء أن تمنعه فهو إن بقي إلى جوارها سيظل التابع الفقير، وستظل هي ابنة الأكرمين وسيراها يوم تتزوج ولن يستطيع حينئذ أن يمد لها يدا أو حتى نظرة، أما إذا رحل واتخذ سبيله في قطع الطرق فلعله، لعله يومئذ يستطيع أن يجمع مالا يعوضها به عن ضعة أصله، ولعله، ولعله يومئذ يستطيع أن يختطفها ويذكرها بالملعب وأيام الصبا ويناشدها ذلك الحب الطفل.
واتخذ حمدان طريقه وهجر منازله وأحلام صباه وملاعب طفولته وبدأ يمارس مهنته الجديدة في عنف لم تسمع به العرب من قبل، وما أسرع ما تكونت حوله عصابة ألقت إليه قيادها فهو يدبر للهجوم ويتزعمه. وبث لنفسه الجواسيس في الأحياء فهو على علم بكل قافلة تهم بالمسير، وهو يتخير من بين هذه القوافل أكثرها مالا فينقض عليها، ولا بد له أن يصيب من أموالها ما يريد مهما تكن هذه القافلة منيعة الحراسة كثيرة العدد.
كان حمدان جالسا على ضفاف الصحراء تمر بذهنه الأفكار عن أمسه الغابر وعن حاله هذا الذي صار إليه، وكان أفراد العصابة قد عرفوا فيه حبه لهذه الخلوة فلا يقطعونها عليه فهم جالسون أو نائمون داخل المغارة ينتظرون الجواسيس القادمين ليعرفوا منهم القوافل المعدة للسفر.
وجاء الجواسيس فتجمعت حولهم العصابة وألقى كل جاسوس بما يعرف من أنباء إلا واحدا بقي مترددا لا تبين عليه حماسة من يحمل أخبارا فسأله حمدان: هيه يا عامر مالك صامتا، ما أنباؤك؟ - ليست هناك إلا قافلة صغيرة. - قافلة من؟ - قافلة لمياء. - لمياء؟! - نعم، لمياء بنت شيخ القبيلة، تم زواجها بالأمس وهي في طريقها إلى منازل زوجها. - زوجها، أتزوجت، متى؟ ومن زوجها؟
فأجاب عامر دهشا من هذا الاهتمام المفاجئ: تزوجت بالأمس من عكرمة الحضرمي، وسترحل إليه يوم السبت القادم. - ولكنك لم تخبرني أنها خطبت قبل اليوم؟! - لقد تمت الخطبة والزواج أمس.
وأطرق حمدان مفكرا، وكاد الدمع يفضح دخيلة نفسه، ولكنه سرعان ما تمالك عن البكاء، فسأله أحد أفراد عصابته: وما شأننا نحن بهذه القافلة الضئيلة، إنها ستخرج في يوم كثير القوافل وما أظنك ستترك القوافل الغنية الوفيرة الأموال لتأخذ قافلة هذه العروس.
Bilinmeyen sayfa