مرا بجدار الجبانة الأبيض اللامع وجاءا إلى بوابة منزل آل لاكرستين، الذي نمت حوله أشجار بوانسيانا عجوزة، ومجموعة من نباتات الخطمي بلغ طولها ثماني أقدام، بزهور حمراء مستديرة مثل فتيات بوجوه متوردة. خلع فلوري قبعته وهوى على وجهه. «حسنا، لقد عدنا قبل أن يبلغ الحر أشده. يؤسفني أن رحلتنا إلى البازار لم تكن موفقة بالمرة.» «لا مطلقا! لقد استمتعت بها، استمتعت حقا.» «كلا، لا أعلم، دائما ما يقع شيء سيئ على ما يبدو. آه، صحيح! لا تنسي أننا ذاهبان للرماية بعد غد. أرجو أن يمر ذلك اليوم على هواك.» «نعم وسوف يعيرني عمي سلاحه. يا لها من متعة بالغة! سيكون عليك أن تعلمني كل ما يتعلق بالرماية. إنني أتطلع بشدة إلى الأمر.» «وأنا كذلك. إنه وقت سيئ للرماية، لكننا سنبذل قصارى جهدنا. أما الآن فإلى اللقاء.» «إلى اللقاء يا سيد فلوري.»
كانت ما زالت تناديه سيد فلوري مع أنه كان يناديها إليزابيث. افترقا وذهب كل في سبيله، يفكر في رحلة الرماية، التي شعر كلاهما أنها ستضع الأمور في نصابها بينهما.
الفصل الثاني عشر
في الحر الرطب الباعث على النوم في حجرة المعيشة شبه المعتمة بتأثير الستائر الخرزية، راح يو بو كين يسير على مهل في أنحائها، مزهوا بنفسه. وكان بين الفينة والفينة يمد يده تحت قميصه التحتاني ويحك صدره المتعرق الضخم مثل صدر امرأة سمينة. كانت ما كين جالسة على حصيرتها، تدخن سيجارا أبيض رفيعا. من خلال باب مخدع النوم المفتوح يمكن رؤية حافة فراش يو بو كين المربع الضخم، بأعمدته من خشب التيك المنقوش، الشبيه بمنصة النعش، والذي ارتكب فيه العديد والعديد من حوادث الاغتصاب.
كانت ما كين تسمع لأول مرة عن «الأمر الآخر» الخفي في هجوم يو بو كين على الدكتور فيراسوامي. بقدر ما كان يزدري مستوى ذكائها، كان يو بو كين يطلع ما كين على أسراره عاجلا أو آجلا. كانت الشخص الوحيد الذي لا يخشاه في دائرته المقربة، لذلك كان يلاقي متعة في إبهارها. «حسنا يا كين كين، رأيت كيف جرى الأمر برمته كيفما خططت له! أرسلت بالفعل ثمانية عشر خطابا مجهول المصدر، وكل واحد فيها تحفة . كنت سأعيد عليك أجزاء منها لو كنت تستطيعين تفهمها.» «لكن لنفترض أن الأوروبيين لم يلقوا بالا لخطاباتك المجهولة المصدر؟ فما العمل حينئذ؟» «لم يلقوا بالا؟ لا أخشى ذلك! أعتقد أنني أفهم العقلية الأوروبية. ودعيني أعرفك يا كين كين بأنه إذا كان ثمة شيء واحد أستطيع فعله؛ فهو كتابة خطاب مجهول المصدر.»
كان هذا صحيحا. فقد كانت خطابات يو بو كين قد أحدثت تأثيرها بالفعل، وخاصة على هدفها الرئيسي، السيد ماكجريجور.
قبل هذا بيومين فقط، كان السيد ماكجريجور يقضي أمسية شديدة الاضطراب وهو يحاول أن يقرر ما إذا كان الدكتور فيراسوامي مذنبا بعدم الولاء للحكومة أم لا. بالطبع لم تكن المسألة أي فعل سافر ينم على عدم الولاء؛ كان ذلك بعيدا كل البعد. إنما كان السؤال: هل الدكتور من نوع الرجال الذي قد يتبنى آراء تحريضية؟ حيث إنه في الهند لا تحاسب على ما تفعله، وإنما على من تكون. تستطيع أقل شبهة تمس ولاء أي مسئول في الشرق أن تدمره. وكان السيد ماكجريجور ذا طبيعة نزيهة جدا تمنعه من إدانة حتى رجل شرقي دون تمحيص. وهكذا ظل حتى منتصف الليل يتفكر محتارا في كومة كبيرة من الأوراق السرية، منها الخطابات الخمسة المجهولة المصدر التي كان قد تلقاها، بجانب الخطابين الآخرين اللذين أرسلهما إليه ويستفيلد، مشبوكين معا بشوكة صبار.
لم تكن الخطابات فحسب. فقد ظلت الشائعات عن الطبيب تتدفق من كل حدب وصوب. أدرك يو بو كين تماما أن اتهام الطبيب بالخيانة لم يكن وحده كافيا؛ كان من الضروري الطعن في سمعته من كل ناحية ممكنة. لم يتهم الطبيب بإثارة الفتنة فحسب، بل وكذلك الابتزاز، والاغتصاب، والتعذيب، وإجراء عمليات غير مشروعة، وإجراء عمليات وهو في حالة سكر شديد، والقتل بالسم، والقتل بسحر المحاكاة [السحر القائم على إلحاق الأذى بالأشخاص عن طريق إيذاء صورهم]، وأكل لحم البقر، وبيع شهادات وفاة لقتلة، وارتداء حذائه في حرم المعبد، ومراودة الصبي عازف الطبل في الشرطة العسكرية عن نفسه. كان يخيل للمرء عند سماع ما كان يقال عن الطبيب أنه عبارة عن مكيافيلي وسويني تود والماركيز دو ساد مجتمعين. لم يكترث السيد ماكجريجور كثيرا في البداية؛ إذ كان معتادا جدا على هذا النوع من الأشياء. إلا أن يو بو كين كان قد حقق إنجازا عبقريا حتى بالنسبة إليه بالخطابات المجهولة المصدر الأخيرة.
كانت الخطابات تخص هروب نجا شوي أو، المجرم، من سجن كياوكتادا. كان نجا شوي أو في منتصف عقوبة سبع سنوات استحقها عن جدارة، وقد ظل يخطط لهروبه من قبله بعدة أشهر، وللبدء في الأمر رشا أصدقاؤه خارج السجن أحد السجانين الهنود. تسلم السجان المائة روبية مقدما، وقدم على إجازة لزيارة قريب له على فراش الموت، وأمضى عدة أيام حافلة في بيوت دعارة ماندالاي. مضى الوقت، وتأجل يوم الهروب عدة مرات؛ فقد ظل حنين السجان لبيوت الدعارة يزداد أكثر فأكثر في الوقت ذاته. وأخيرا قرر أن يضيف لمكافأته مكافأة أخرى بأن وشى بالخطة ليو بو كين، لكن يو بو كين رأى فرصته كالعادة. فأمر السجان بأن يلزم الصمت مهددا إياه بعقوبات صارمة، ثم أرسل خطابا آخر مجهول المصدر إلى السيد ماكجريجور، في نفس ليلة الهروب، بعد أن كان قد فات الأوان لفعل أي شيء، محذرا إياه من محاولة هروب. وغني عن القول أن الخطاب أضاف أن الدكتور فيراسوامي، مشرف السجن، كان قد تلقى رشوة للتواطؤ على الأمر.
في الصباح ساد هرج ومرج وتدافع السجانون ورجال الشرطة في أرجاء السجن؛ إذ كان نجا شوي أو قد هرب. (كان النهر قد حمله لمسافة طويلة، داخل زورق وفره يو بو كين.) في هذه المرة بوغت السيد ماكجريجور. أيا يكن من كتب الخطاب فلا بد أنه كان مطلعا على الخطة، وربما كان يقول الحقيقة بشأن تواطؤ الطبيب. كانت المسألة خطيرة جدا. فإن مشرف السجن الذي يقبل رشاوى للسماح بهروب سجين هو قادر على أي شيء. ومن ثم - ربما لم يكن التسلسل المنطقي واضحا تماما، لكنه كان واضحا كفاية لماكجريجور - ومن ثم صارت تهمة إثارة الفتنة، التهمة الرئيسية الموجهة للطبيب، أكثر قابلية للتصديق بكثير.
Bilinmeyen sayfa