قال فلوري، فيما أجلسه الطبيب في الوقت ذاته على مقعد طويل، وأخرج له مسند الساقين حتى يتمكن من الاستلقاء، ووضع السجائر والجعة في متناوله: «حسنا يا دكتور، كيف الحال؟ كيف صارت الإمبراطورية البريطانية؟ مريضة بالشلل كالعادة؟» «نعم، حالتها متدهورة للغاية، متدهورة للغاية يا سيد فلوري! أصابتها مضاعفات خطيرة. تسمم الدم والتهاب الصفاق وشلل في العقد العصبية. أخشى أنه ينبغي علينا استدعاء المتخصصين. وا أسفاه!»
كان الرجلان اعتادا المزاح بالتظاهر بأن الإمبراطورية البريطانية مريضة عجوز لدى الطبيب. وما زال الطبيب على استمتاعه بالمزحة منذ عامين دون أن يتسرب إليه الملل منها.
قال فلوري مستلقيا على المقعد الطويل: «يا لها من متعة أن أكون هنا بعد ذلك النادي اللعين، أيها الطبيب. حين آتي إلى منزلك أشعر كأنني قسيس منشق عن الكنيسة يتسلل إلى البلدة عائدا إلى منزله بعاهرة. يا لها من إجازة رائعة منهم جميعا ...» قال هذا مشيرا بكعبه في اتجاه النادي: «من رفاقي الأحباء بناة الإمبراطورية. الهيبة البريطانية وعبء الرجل الأبيض، السيد الأبيض الذي لا يخشى شيئا ويسمو فوق الشبهات. يا لها من راحة أن أبتعد عن ذلك العفن قليلا من الوقت!» «مهلا، مهلا يا صديقي، أرجوك! هذا فظيع! لا يمكن أن تقول تلك الأشياء عن السادة الإنجليز المحترمين!» «إنك لا تضطر إلى الإنصات إلى أولئك الرجال المحترمين وهم يتكلمون يا دكتور. لقد صبرت بقدر ما استطعت هذا الصباح. إليس وقوله «زنجي قذر»، ونكات ويستفيلد، وماكجريجور وعباراته اللاتينية وبرجاء إعطاء حامله خمس عشرة جلدة. لكن حين بلغوا قصة الهافيلدار العجوز؛ الهافيلدار العجوز الطيب الذي قال إنه إذا تركت بريطانيا الهند لن يتبقى هناك روبية أو عذراء بين ... كما تعلم؛ حسنا، لم أستطع الصبر أكثر من ذلك. لقد حان الوقت لوضع الهافيلدار العجوز في قائمة المتقاعدين. إنه ما فتئ يقول الشيء نفسه منذ اليوبيل الذهبي لاعتلاء الملكة فيكتوريا العرش عام 1887.»
ازداد غضب الطبيب، كدأبه حين ينتقد فلوري أعضاء النادي. كان واقفا مستندا بلباسه الأبيض المنتفخ إلى درابزين الشرفة، مستخدما الإشارات والإيماءات أحيانا. وكان عند بحثه عن كلمة يضم إبهامه وسبابته السوداوين، كأنه يلتقط فكرة طارت في الهواء.
قال الطبيب: «لكن حقا، حقا يجب ألا تتحدث هكذا يا سيد فلوري! لماذا تديم إهانة السادة البيض، كما تدعوهم؟ إنهم ملح الأرض. فلتنظر إلى الأشياء العظيمة التي فعلوها. فلتنظر إلى الحكام العظام الذين جعلوا الهند البريطانية ما صارت إليه. فلتنظر كلايف ووارين هيستينجز ودالهاوزي وكيرزن. كانوا رجالا - سأقتبس من أديبكم الخالد شكسبير - من أفضل الرجال من جميع الوجوه، وهيهات أن نرى لهم مثيلا مرة أخرى!» «حسنا، هل تود أن ترى مثيلا لهم مرة أخرى؟ أنا لا.» «وانظر كم هو نبيل السيد الإنجليزي! ووفاء بعضهم العظيم لبعض! روح المدرسة الحكومية! وحتى الذين سلوكهم مؤسف منهم - إذ أتفق معك أن من الرجال الإنجليز من هم متغطرسون - يتمتعون بالخصال الممتازة التي نفتقر إليها نحن الشرقيين؛ فخلف مظهرهم الصارم، قلوب من ذهب.» «هلا قلنا إنه ذهب قشرة؟ يوجد نوع من المودة الزائفة بين الإنجليز وهذا البلد . فهي عادة أن نتنادم على الشراب معا ونتشارك الطعام ونتظاهر بأننا أصدقاء، مع أن كلا منا يكره الآخر كراهية السم. نسمي هذا تآزرا. إنه ضرورة سياسية. لا شك أن الشراب هو ما يجعل الوضع مستمرا. ولولاه لجن جنوننا وقتل كل منا الآخر في ظرف أسبوع. هناك موضوع من أجل كتاب المقالات مستنفري الهمم الذين تهواهم يا دكتور: الشراب باعتباره ملاط الإمبراطورية.»
هز الطبيب رأسه وقال: «لا أعلم حقا ما الذي جعلك بهذا التهكم يا سيد فلوري؟ إنه شيء غير لائق على الإطلاق! أن تتفوه أنت - السيد الإنجليزي ذو الملكات والشخصية الرفيعة - بهذه الآراء التحريضية اللائقة بجريدة «بورميز باتريوت»!»
قال فلوري: «تحريضية؟ لست محرضا. فلا أريد أن يطردنا البورميون من هذا البلد. حاشا لله! فإنني هنا لأكسب المال، مثلي كمثل أي شخص آخر. كل ما أعترض عليه هو خدعة عبء الرجل الأبيض الوضيعة. التظاهر بأنه سيد شريف. إنه شيء مضجر جدا. حتى أولئك الحمقى الملعونون الذين في النادي كانت صحبتهم ستصير أفضل لو لم نكن جميعا نعيش كذبة طوال الوقت.» «لكن ما هي الكذبة التي تعيشونها يا صديقي العزيز؟» «بالتأكيد كذبة أننا هنا لننهض بأشقائنا السود المساكين وليس حتى نسرقهم. أعتقد أنها كذبة فطرية تماما، لكنها تفسدنا، تفسدنا بطرق لا يمكنك تخيلها. إذ يعذبنا شعور دائم بأننا كاذبون ومخادعون ويدفعنا لتبرير أفعالنا ليلا ونهارا. وهو المسئول عن نصف تصرفاتنا الحيوانية مع أهل البلد. نحن الإنجليز المقيمين في الهند من الممكن احتمالنا فقط إن اعترفنا بأننا لصوص وواصلنا السرقة من دون أي خداع.»
ضم الطبيب سبابته وإبهامه بسرور بالغ، متهللا من سخريته، وقال: «حجتك ضعيفة يا صديقي العزيز، ويبدو أنها ضعيفة لأنكم لستم لصوصا.» «حسنا أيها الطبيب العزيز!»
استوى فلوري في جلسته على المقعد الطويل، بسبب طفحه الحراري الذي كان قد وخزه للتو في ظهره مثل آلاف الإبر من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن مناقشته المفضلة مع الطبيب أوشكت أن تبدأ. كانت هذه المناقشة، ذات الطبيعة السياسية نوعا ما، تجري كلما التقى الاثنان، وتعكس فيها الأدوار؛ إذ يصير الرجل الإنجليزي معاديا للإنجليز بشدة والهندي مخلصا لهم بتعصب. كان الدكتور فيراسوامي يكن إعجابا متقدا للإنجليز لم يوهنه ألف إهانة من رجال إنجليز. كان يؤكد بحماس قاطع أنه بصفته هنديا، ينتمي إلى عرق دنيء ومنحط. وكانت ثقته في العدالة البريطانية بالغة لدرجة أنه حتى حين يضطر للإشراف على عقوبة الجلد أو الشنق في السجن، كان يعود إلى منزله وقد استحال وجهه الأسود رماديا فيسكن أوجاعه بالويسكي، دون أن يفتر حماسه. وكانت آراء فلوري التحريضية تصدمه، لكنها كانت تمنحه كذلك نوعا من قشعريرة السعادة، كالتي تنتاب شخصا مؤمنا ورعا عند سماع الصلاة الربانية تردد بالعكس.
قال فلوري: «عزيزي الدكتور، كيف لك أن تتخيل أننا موجودون في هذا البلد لأي سبب آخر غير السرقة؟ الأمر غاية في البساطة. المسئولون يقيدون المواطن البورمي بينما يفتش رجال الأعمال جيوبه. هل تعتقد مثلا أن شركتي أو شركات الأخشاب الأخرى، أو شركات النفط، أو المنقبين عن المعادن وأصحاب المزارع والتجار كانوا سيستطيعون أن يحصلوا على عقود الأخشاب لو لم يكن البلد تحت سيطرة البريطانيين؟ كيف كانت رابطة تجار الأرز ستستمر في استغلال الفلاح التعيس الحظ لو لم تكن الحكومة تساندها؟ الإمبراطورية البريطانية هي مجرد وسيلة لمنح احتكارات تجارية للإنجليز - أو بالأحرى عصابات اليهود والأسكتلنديين.» «إنه لمن المؤسف أن أسمعك تتحدث هكذا يا صديقي. مؤسف حقا. تقول إنك هنا من أجل التجارة؟ إنك كذلك بالطبع. فهل يستطيع البورميون أن يتاجروا لأنفسهم؟ هل يستطيعون صنع آلات وسفن وسكك حديدية وطرق؟ إنهم بلا حيلة من دونكم. ماذا كان سيحدث لغابات بورما لو لم يكن الإنجليز هنا؟ كانت ستباع في الحال لليابان، التي كانت ستتلفها وتدمرها. إنها تتحسن حقا في أياديكم بدلا من ذلك. وفي نفس الوقت الذي ينمي فيه رجال أعمالكم مواردنا، يتولى المسئولون لديكم مهمة جعلنا متحضرين، ناهضين بنا لمستواكم، من أجل الصالح العام فحسب. إنه سجل رائع من التضحية بالذات.» «هراء يا عزيزي الطبيب. لكن أقر أننا نعلم الشباب احتساء الويسكي ولعب كرة القدم، فقط لا غير. انظر إلى مدارسنا، إنها مصانع لتخريج الكتبة الحقراء. لم نعلم الهنود ولو حرفة يدوية واحدة مفيدة قط. فإننا لا نجرؤ على هذا؛ خوفا من المنافسة في الصناعة. بل إننا قضينا على صناعات عديدة. فأين أقمشة الموسلين الهندي الآن؟ قرب الأربعينيات كانوا يبنون في الهند سفنا بحرية ويعملون عليها أيضا. أما الآن فلا تستطيع بناء قارب صيد صالح للإبحار هنا. كان الهنود في القرن الثامن عشر يسبكون أسلحة على المستوى الأوروبي بكل المقاييس. أما الآن وقد لبثنا مائة وخمسين عاما في الهند، لم يعد بإمكانك صنع ولو ظرف خرطوش من النحاس في القارة بأكملها. الأعراق الشرقية الوحيدة على الإطلاق التي تطورت سريعا هي الأعراق المستقلة. لن أذكر مثال اليابان، لكن انظر إلى حالة سيام ...»
Bilinmeyen sayfa