ورث كو سلا أربعمائة روبية بموجب وصية فلوري، فأنشأ مع أسرته مقهى في البازار. لكن المقهى خسر، وهو ما لم يكن منه مفر مع مشاجرات المرأتين طوال الوقت بداخله، فاضطر كو سلا وبا بي إلى العودة إلى الخدمة. كان كو سلا خادما بارعا. إلى جانب المهارات المفيدة من جلب المومسات، والتعامل مع المرابين، وحمل السيد إلى فراشه حين يثمل، وإعداد شراب منشط معروف باسم محار البراري في الصباح التالي، كان يستطيع الخياطة والرتق وإعادة ملء الخراطيش، ورعاية الفرس، وكي البذل، وتزيين مائدة الطعام بأشكال متداخلة خلابة من أوراق الأشجار المقصوصة وحبوب الأرز المصبوغة. كان يستحق خمسين روبية شهريا. لكنه هو وبا بي كانا قد استسلما لحياة الخمول أثناء خدمة فلوري، وهكذا طردا من وظيفة تلو الأخرى. وقد مر عليهما عام صعب عانيا فيه الفقر، وأصيب با شين الصغير بالسعال، حتى مات به أخيرا ذات ليلة كان الحر فيها خانقا. يعمل كو سلا الآن خادما ثانويا لدى تاجر أرز في رانجون لديه زوجة مصابة بالعصاب تتذمر بلا انقطاع، وصار با بي سقاء في نفس المنزل مقابل ست عشرة روبية في الشهر. أما ما هلا ماي فأصبحت في بيت دعارة في ماندالاي. كاد يزول عنها حسنها، وكان زبائنها يدفعون لها أربع آنات فقط وأحيانا يركلونها ويضربونها. وكانت تتندم على الأوقات الطيبة حين كان فلوري على قيد الحياة، ربما بمرارة أكثر من أي من الآخرين، حيث لم تتحل بالحكمة لادخار أي من النقود التي كانت تنتزعها منه.
حقق يو بو كين كل أحلامه ما عدا واحدا. بعد إلحاق العار بالطبيب، لم يكن ثمة مفر من انتخاب يو بو كين لعضوية النادي، وقد انتخب، رغم احتجاجات صارمة من إليس. وفي نهاية المطاف أضحى الأوروبيون سعداء بعض الشيء أنهم انتخبوه؛ فقد كان إضافة للنادي يسعهم احتمالها. فلم يكن يأتي كثيرا، وكان مداهنا في سلوكه، ويدعوهم إلى الشراب على حسابه بلا حدود، وتطور سريعا إلى لاعب بريدج بارع. بعد بضعة أشهر نقل من كياوكتادا ورقي. وظل يشغل منصب نائب المفوض، عاما كاملا، قبل تقاعده، وخلال هذا العام جنى عشرين ألف روبية من الرشاوى. وبعد تقاعده بشهر، دعي إلى حفل رسمي في رانجون، لتسلم الوسام الذي منحته له الحكومة الهندية.
وقد كان مشهدا مذهلا، ذلك الحفل. فوق المنصة علقت الأعلام والزهور، وجلس الحاكم، يرتدي معطفا طويلا رسميا، على شيء شبيه بالعرش، وراءه مجموعة من الضباط المعاونين والسكرتارية. وفي أنحاء القاعة وقف حرس الحاكم من جنود الخيالة الهنود الملتحين، بقاماتهم الطويلة، مثل تماثيل شمع لامعة، في أياديهم رماح ذات رايات. وبالخارج كان ثمة فرقة موسيقية تصخب بالموسيقى من حين إلى آخر. تألقت الشرفة بالبلوزات البيضاء للسيدات البورميات وأوشحتهن الوردية، وفي قلب القاعة كان مائة رجل أو يزيد في انتظار استلام أوسمتهم. كان هناك مسئولون بورميون في أزر لامعة من ماندالاي، وهنود بعمامات من قماش منسوج من الذهب، وضباط بريطانيون بكامل زيهم الرسمي تقعقع أغمدة سيوفهم، وعمد قرى شيوخ عقدت شعورهم الرمادية خلف رءوسهم وتدلت سيوفهم بمقابضها الفضية من أكتفاهم. راح أحد السكرتارية يقرأ بصوت جهوري واضح قائمة الجوائز، التي تراوحت من وسام الإمبراطورية الهندية برتبة زميل إلى شهادات شرف داخل صناديق فضية منقوشة. ما لبث أن جاء دور يو بو كين حيث تلا السكرتير المكتوب في القائمة قائلا: «إلى يو بو كين، مساعد نائب مفوض، متقاعد، جزاء على خدمته الممتدة والمخلصة ولا سيما تعاونه في الوقت المناسب في سحق تمرد شديد الخطورة في منطقة كياوكتادا ... إلخ.»
هنا أنهض يو بو كين على قدميه اثنان من الأتباع اللذين وضعا هناك لذلك الغرض، ثم سار متمايلا إلى المنصة، وانحنى بقدر ما أتاحت له بطنه، وتقلد الوسام حسب الأصول وهنئ، فيما أخذت ما كين ومؤيدون آخرون يصفقون بحماس ويرفرفون بأوشحتهم من الشرفة.
كان يو بو كين قد جنى كل ما قد يجنيه رجل فان، وحان الوقت الآن للتأهب للعالم الآخر، بعبارة مختصرة، الشروع في بناء معابد. لكن للأسف، كانت هذه هي النقطة التي أخفقت فيها خططه. بعد احتفال الحاكم بثلاثة أيام فقط، قبل وضع ولو لبنة واحدة في تلك المعابد المكفرة عن الذنوب، أصابت يو بو كين سكتة دماغية وقضى نحبه دون أن ينبس بكلمة مرة أخرى. فلا يوجد رادع للقدر. انفطر قلب ما كين للكارثة. فحتى إذا بنت المعابد بنفسها، لن تفيد يو بو كين بشيء؛ إذ لا يكسب المرء الحسنات إلا بأعماله. إنها تتألم بالغ الألم حين يرد على بالها أين أصبح يو بو كين حتما الآن؛ يهيم في جحيم مريع مجهول تحت الأرض، حيث الظلام والأفاعي والجن. حتى إذا كان قد نجا من الاحتمال الأسوأ، فقد تحقق خوفه الآخر، وعاد إلى الأرض في جسد فأر أو ضفدعة. ربما يلتهمه الآن ثعبان في هذه اللحظة نفسها.
أما إليزابيث، فقد آل بها الحال مآلا أفضل مما كانت تتوقع. بعد وفاة فلوري تخلت السيدة لاكرستين عن كل تظاهر في الحال، وقالت صراحة إنه لا يوجد رجال في هذا المكان الكريه وإن الأمل الوحيد هو الذهاب إلى رانجون أو مايمو والبقاء هناك عدة أشهر. لكنها لا تستطيع مطلقا أن ترسل إليزابيث إلى رانجون أو مايمو بمفردها، وذهابها معها يعني الحكم على السيد لاكرستين بالموت بالهذيان الارتعاشي. مرت شهور، وبلغت الأمطار الذروة، وكانت إليزابيث قد عقدت العزم للتو على العودة إلى الوطن بعد كل ما كان، بلا نقود وبلا زوج، حين تقدم السيد ماكجريجور للزواج منها. كانت الفكرة في رأسه منذ وقت طويل؛ لكنه بالطبع كان في انتظار مرور فترة كافية على وفاة فلوري.
وقد وافقت إليزابيث عليه مسرورة. كان عجوزا بعض الشيء، لكن مندوب المفوض ليس بالمنصب الذي يستهان به، لا شك أنه كان زوجا أفضل بكثير من فلوري. وهما الآن يعيشان في سعادة كبيرة. طالما كان السيد ماكجريجور رجلا سمحا، لكنه صار أكثر إنسانية ولطفا منذ زواجه. كما انخفض دوي صوته، وتوقف عن ممارسة تمارينه الصباحية. وزادت إليزابيث نضجا بسرعة مدهشة، وبرزت صرامة ما طالما اتسم بها أسلوبها. إذ يعيش خدمها في رعب منها، ولو أنها لا تتحدث البورمية. وقد أصبح لديها معرفة شاملة بالقائمة المدنية، فصارت تقيم حفلات عشاء صغيرة ممتعة، مدركة كيف تضع زوجات المسئولين التابعين في أماكنهن. إنها باختصار تملأ بمنتهى النجاح الموقع الذي خلقتها لأجله الطبيعة منذ البداية، موقع زوجة مسئول بريطاني في الهند.
Bilinmeyen sayfa