الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
أيام في بورما
أيام في بورما
تأليف
جورج أورويل
ترجمة
دينا عادل غراب
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
الفصل الأول
كان يو بو كين، قاضي مركز كياوكتادا، في بورما العليا، جالسا في شرفته. لم تكن الساعة قد تعدت الثامنة والنصف، لكنه كان شهر أبريل، وكان الهواء مكتوما منذرا بساعات طويلة من الجو الخانق إبان الظهيرة. بين الفينة والأخرى كانت تهب نسمات رقيقة، بدت باردة خلافا للجو، فتهز زهور الأوركيد المروية حديثا التي تدلت من الإفريز. يبدو للرائي من وراء الأوركيد جذع نخلة مغبر ومقوس، ثم السماء اللازوردية المنيرة. وفي الأفق، على مستوى شديد الارتفاع حتى ليصيب الرائي الدوار عند النظر إليها، دارت بضعة نسور دون أن يهتز لها جناح.
راح يو بو كين يحدق في ضوء الشمس الشديد، من دون أن يطرف له جفن، كأنه تمثال ضخم من البورسلين. كان رجلا في الخمسين من عمره، سمينا للغاية حتى إنه لم ينهض من كرسيه دون مساعدة منذ سنوات، لكنه بدا متناسق القوام وحسن الهيئة في جسامته؛ فالبورميون لا يترهلون وينتفخون مثل الرجال البيض، وإنما يسمنون بتناسب، مثل الفاكهة حين تنضج. وكان وجهه عريضا وأصفر وخاليا تماما من التجاعيد، وكانت عيناه عسليتين. أما قدماه الغليظتان ذاتا القوسين المرتفعين والأصابع المتساوية الطول فكانتا حافيتين، وكذلك كان رأسه الحليق حاسرا، وقد ارتدى أحد تلك الأزر الآراكانية الزاهية ذات المربعات الخضراء والأرجوانية التي يرتديها البورميون في المناسبات غير الرسمية. كان يمضغ نبات التانبول من عبوة مدهونة بالورنيش على المنضدة بينما يتأمل حياته الماضية.
كانت حياة ناجحة متألقة. تعود أقدم ذكريات يو بو كين إلى الثمانينيات حين كان طفلا بكرش بارز عاريا واقفا يشاهد القوات البريطانية وهي تزحف إلى ماندالاي منتصرة. تذكر ما اكتنفه من رعب من تلك الصفوف من الرجال الضخام المتغذين على لحوم الأبقار، بوجوههم الحمراء وستراتهم الحمراء؛ والبنادق الطويلة فوق مناكبهم، والوقع الثقيل المتواتر لأحذيتهم ذات الرقاب العالية. كان قد أطلق ساقيه للريح بعد مشاهدتهم بضع دقائق، فقد أدرك بمخيلته الطفولية أن شعبه ليس كفئا لتلك السلالة من العمالقة. وهكذا سيطر عليه منذ طفولته طموح الانضمام إلى صف البريطانيين وأن يصير كائنا متطفلا عليهم.
في سن السابعة عشرة حاول الالتحاق بوظيفة حكومية، لكنه فشل في الحصول عليها، لكونه فقيرا وبلا صديق، وظل يعمل ثلاث سنوات في المتاهة النتنة لبازارات ماندالاي، كاتبا لتجار الأرز وسارقا أحيانا. وهو في العشرين جعلته ضربة حظ في عملية ابتزاز يمتلك أربعمائة روبية، فذهب في الحال إلى رانجون وسلك طريقه إلى وظيفة كاتب في الحكومة بالرشوة. وكانت الوظيفة مجزية رغم أن مرتبها كان زهيدا؛ في ذلك الوقت كانت دائرة الكتبة تكسب دخلا ثابتا عن طريق الاختلاس من مخازن الحكومة، وقد ألف بو كين تلقائيا هذا الأمر (كان حينذاك بو كين فحسب؛ إذ جاء لقب التعظيم، يو، بعد ذلك بسنوات). بيد أن موهبته كانت أكبر من أن يقضي حياته كاتبا، يسرق بائسا الآنات والبيسات. وذات يوم اكتشف أن الحكومة لديها قصور في صغار الموظفين، ولذلك ستجري بعض التعيينات من الكتبة. كان الخبر سيذاع بعد أسبوع، لكن من صفات بو كين المميزة أن المعلومات تصل إليه قبل أي شخص آخر بأسبوع. وفي الحال رأى فرصته وبلغ عن كل المتواطئين معه قبل أن يتنبهوا. أرسل أغلبهم إلى السجن، وجعل بو كين موظفا مساعدا لشئون البلدة مكافأة على أمانته، واستمر ترقيه منذ ذلك الحين. وهو الآن في السادسة والخمسين، قاضي مركز، ومن المحتمل أن يرقى أكثر من ذلك ويصير نائب المفوض بالوكالة، فيصير ندا لرجال الإنجليز بل قد يصيرون دونه.
وكانت أساليبه في عمله قاضيا بسيطة. فلم يكن يبيع الحكم في قضية ولو لأعلى الرشاوى؛ لأنه كان يعلم أن القاضي الذي يصدر أحكاما خاطئة يقبض عليه عاجلا أو آجلا. فكان يتبع أسلوبا آمنا كثيرا، بأن يأخذ رشاوى من الطرفين، ثم يصدر حكمه بناء على أسس قانونية صارمة. وقد أكسبه هذا صيتا محمودا بكونه نزيها. وإلى جانب أرباحه من المتقاضين، فرض يو بو كين جزية مستمرة، فيما يشبه نظام ضرائب خاصا، على كل القرى الخاضعة لسلطته. وحين كانت أي قرية تتخلف عن الوفاء بجزيتها كان يو بو كين يتخذ إجراءات تأديبية؛ بأن تهاجم عصابات من المجرمين القرية، ويلقى القبض على زعماء القرية بتهم باطلة، وهكذا دواليك؛ فكان سريعا ما يسدد المبلغ. كما أنه كان يتقاسم مكاسب السرقات الكبرى التي تقع في منطقته. وكان أغلب هذه الأشياء معروفا للجميع ما عدا رؤساء يو بو كين (إذ لا يوجد بين المسئولين البريطانيين من يصدق أي شيء ضد رجاله على الإطلاق) لكن دائما ما كانت المحاولات لفضحه تبوء بالفشل؛ فقد كان أنصاره، الذين ظلوا أوفياء لحصتهم في الغنيمة، كثيرين جدا. حين كان يوجه أي اتهام إلى يو بو كين، ما كان عليه سوى دحضه بصفوف من الشهود الزور، متبعا ذلك باتهامات مضادة تخلفه في وضع أقوى من ذي قبل. وعلى ذلك كاد أن يكون حصينا؛ لأنه كان شديد الدقة في حكمه على الرجال، فلا يخطئ في اختيار أدواته، وكذلك لأنه كان شديد الانهماك في الحيل فلا يفوته شيء قط إهمالا أو جهلا. كان من الممكن القول بيقين شبه تام بأنه لن يكشف أبدا، وأنه سيمضي من نجاح إلى نجاح ، وأنه سوف يموت أخيرا ملؤه الشرف، بثروة تقدر بمئات آلاف الروبيات.
وحتى بعد وفاته سيظل فلاحه متصلا. تفيد العقيدة البوذية بأن أولئك الذي ارتكبوا إثما في حياتهم ستحل روحهم في البعث التالي في جسد فأر أو ضفدع أو حيوان وضيع آخر. وكان يو بو كين بوذيا صالحا وانتوى أن يتلافى هذا الخطر. فكان سيكرس سنواته الأخيرة لأعمال الخير التي ستحشد له حسنات كافية لترجح كفتها على باقي حياته. ربما ستأخذ أعماله الطيبة صورة بناء معابد بوذية؛ أربعة، خمسة، ستة معابد - سيخبره الكهنة بالعدد - بمنحوتات حجرية ومظلات مطلية بالذهب وأجراس ترن مع الريح، وفي كل رنة صلاة. وبهذا سوف يعود إلى الأرض في هيئة ذكر من البشر - فالنساء في نفس المستوى تقريبا مع الفئران والضفادع - أو في أفضل الظروف في هيئة حيوان مبجل كالفيل مثلا.
تدفقت كل هذه الأفكار سريعا في ذهن يو بو كين وبالصور في أغلب الأحيان. كان عقله ذكيا لكن بدائيا تماما، فلم يعمل إلا من أجل غاية محددة؛ أما التأمل المحض فكان أمره عسيرا عليه. كان في ذلك الوقت قد وصل إلى النقطة التي كانت أفكاره متجهة إليها. وضع يديه الصغيرتين بعض الشيء المثلثتي الشكل على ذراعي مقعده، واستدار إلى الخلف قليلا ونادى بصوت به أزيز: «با تايك! يا با تايك!»
ظهر با تايك، خادم يو بو كين، من خلال ستار الخرز الخاص بالشرفة، وكان رجلا ضئيل الحجم مجدورا ترتسم على وجهه أمارات الجبن وشيء من الجوع. لم يكن يو بو كين يدفع له أجرا، فقد كان لصا مدانا يمكنه بكلمة منه أن يرسله إلى السجن. تقدم با تايك وهو يضم يديه جاثيا على ركبتيه، وقد هبط بشدة حتى إنه أعطى الانطباع بأنه كان راجعا إلى الوراء.
قال با تايك: «سيدي المعظم.» «هل هناك أحد منتظر ليقابلني يا با تايك؟»
عد با تايك الزوار على أصابعه قائلا: «هناك زعيم قرية تيبينجي الذي جاء بهدايا يا سيادة القاضي؛ واثنان من القرويين لديهما قضية اعتداء ستحكم فيها سيادتك، وقد جاءا بهدايا أيضا؛ وكو با سين، رئيس الكتبة في مكتب نائب المفوض يود أن يرى سيادتك؛ وهناك علي شاه، رجل الشرطة، ورجل عصابة لا أعرف اسمه. أعتقد أنهما تعاركا بشأن بعض الأساور الذهبية التي سرقاها؛ وهناك أيضا فتاة من القرية معها طفل.»
سأله يو بو كين: «ماذا تريد؟» «تقول إن الطفل ابنك يا سيدي المعظم.» «حسنا، وكم أحضر زعيم القرية؟»
اعتقد با تايك أنها عشر روبيات وسلة مانجو فقط.
قال يو بو كين: «أخبر الزعيم أن المبلغ لا بد أن يكون عشرين روبية، وأن المشاكل ستلحق به وبقريته إن لم يصبح المال هنا غدا. سوف أرى الباقين في الحال. أخبر كو با سين بأن يأتي لي هنا.»
ظهر كو با سين في غضون لحظة. كان رجلا منتصب القامة، ضيق المنكبين، طويلا جدا بالنسبة إلى شخص بورمي، ذا وجه ناعم بشكل غريب يذكرك بالمهلبية بالقهوة. كان يو بو كين يجده أداة مفيدة، فقد كان يفتقر إلى الخيال ويعمل بجد، مما جعله كاتبا ممتازا، وكان السيد ماكجريجور، نائب المفوض يعهد إليه بأغلب أسراره الرسمية. كانت أفكار يو بو كين قد جعلته رائق المزاج فحيا با سين بضحكة وأشار إلى صندوق التانبول. «حسنا يا كو با سين، كيف صار موضوعنا؟ أرجو أن يكون، كما قد يقول عزيزنا السيد ماكجريجور - تحول يو بو كين إلى اللغة الإنجليزية - «في تقدم ملموس»؟»
لم يبتسم با سين على المزحة الصغيرة. لكنه أجاب وقد جلس متسمرا منتصبا على المقعد الشاغر، قائلا: «ممتاز يا سيدي. لقد وصلت نسختنا من الجريدة هذا الصباح. تفضل بالنظر.»
ثم أخرج نسخة من جريدة ثنائية اللغة تسمى «بورميز باتريوت»، عبارة عن جريدة رديئة وضيعة من ثماني صفحات، طبعت طباعة سيئة على ورق في رداءة الورق النشاف، واحتوى جزء منها على أخبار مسروقة من جريدة «رانجون جازيت»، وجزء آخر على بطولات قومية تافهة. وفي الصفحة الأخيرة انحرفت حروف الطباعة تاركة الصفحة بالكامل في سواد الفحم، كأنه حداد على ضآلة توزيع الجريدة. لكن المقال الذي فتح يو بو كين صفحته كانت طباعته مختلفة بعض الشيء عن الباقي. وقد جاء فيه التالي:
في هذه الأوقات السعيدة، التي ترتقي فيها الحضارة الغربية العظيمة بنا نحن السود المساكين، بأفضالها المتعددة من سينما ورشاشات ومرض الزهري ... إلخ، ما الموضوع الذي قد يكون أكثر إلهاما من الحياة الخاصة لأولياء نعمتنا الأوروبيين؟ لذلك نعتقد أنه قد يكون مما يثير اهتمام قرائنا أن يعرفوا شيئا عن الأحداث الواقعة في منطقة كياوكتادا في شمال البلاد، ولا سيما عن السيد ماكجريجور، نائب المفوض المبجل للمنطقة المذكورة.
السيد ماكجريجور من نوعية السادة الإنجليز كبار السن الطيبين، الذين لدينا أمثلة عديدة جدا منهم أمام أعيننا، في هذه الأيام السعيدة. إنه «رجل عائلة» كما يقول أبناء عمومتنا الإنجليز. السيد ماكجريجور رجل عائلة بحق، حتى إنه لديه ثلاثة أطفال بالفعل في منطقة كياوكتادا، التي لبث فيها عاما واحدا، وترك ستة أبناء صغار في آخر منطقة زارها، شويميو. قد يكون السهو هو ما جعل السيد ماكجريجور يترك هؤلاء الرضع الصغار دون أي إعالة، وأمهاتهم يواجهن الجوع ... إلخ.
كان هناك عمود آخر احتوى على أمور مشابهة، وكان رغم تفاهته أعلى كثيرا من مستوى بقية الصحيفة. قرأ يو بو كين المقال باهتمام لآخره، حاملا إياه على بعد ذراع - إذ كان بعيد النظر - فيما فغر شفتيه مفكرا، ليكشف عن عدد كبير من الأسنان الصغيرة السليمة المصطبغة بحمرة الدم من عصارة نبات التانبول.
ثم قال أخيرا: «سيحصل المحرر على ستة أشهر سجن على هذا.» «إنه لا يمانع؛ إذ يقول إن دائنيه لا يتركونه وشأنه إلا وهو في السجن.» «تقول إن الكاتب المتدرب الصغير لديك، هلا بي، كتب هذا المقال بمفرده؟ ذلك الفتى ذكي جدا، فتى واعد جدا! لا تقل ثانية إن هذه المدارس الثانوية الحكومية مضيعة للوقت. سيحصل هلا بي على وظيفة الكاتب لا شك.» «هل تعتقد إذن يا سيدي أن ذلك المقال سيكون كافيا؟»
لم يحر يو بي كين جوابا في الحال، وإنما بدأ يتردد صوته وهو ينفخ ويجاهد؛ إذ كان يحاول النهوض عن كرسيه. وكان با تايك يعرف هذا الصوت، فظهر من خلف ستار الخرز، ووضع هو وبا سين يدا أسفل كل من إبطي يو با كين وأنهضاه. وقف يو بو كين لحظة ليوازن ثقل بطنه فوق ساقيه، في حركة شبيهة بحمال السمك وهو يضبط حمله. ثم أشار إلى با تايك لينصرف.
ثم قال مجيبا سؤال با سين: «ليس كافيا، ليس كافيا على الإطلاق. ما زال هناك الكثير لنفعله. لكن هذه هي البداية المناسبة. أصغ.»
ذهب إلى السور ليبصق مضغة قرمزية من التانبول، ثم شرع يذرع الشرفة بخطوات قصيرة، واضعا يديه خلف ظهره، بينما جعله الاحتكاك بين فخذيه الهائلين يتمايل قليلا. وكان يتحدث أثناء سيره بالرطانة الركيكة للمكاتب الحكومية؛ مزيج من الأفعال البورمية والعبارات الإنجليزية المبهمة قائلا: «فلنتناول هذه المسألة من البداية. سوف نشن هجوما منظما على الدكتور فيراسوامي، الجراح المدني ومأمور السجن. سوف نشهر به، وندمر سمعته ونقضي عليه إلى الأبد في النهاية. ستكون هذه العملية دقيقة بعض الشيء.» «أجل يا سيدي.» «لن يكون هناك خطر، لكن لا بد أن نعمل بتأن. فلسنا بصدد كاتب بائس أو رجل شرطة. إننا بصدد مسئول كبير، وحين يكون المسئول كبيرا، حتى إن كان هنديا، يختلف الأمر عما إذا كان كاتبا. كيف السبيل للقضاء على كاتب؟ الأمر سهل؛ اتهام، عشرون شاهدا، ورفت ثم سجن. لكن لن يجدي ذلك في هذه الحالة. لذلك سيكون سبيلي الرفق، ثم الرفق، ثم الرفق. من دون فضيحة، والأهم من ذلك، من دون تحقيق رسمي. يجب عدم توجيه اتهامات يمكن الرد عليها، لكن لا بد أن أرسخ في ذهن كل أوروبي في كياوكتادا أن الدكتور شخص رذيل. فبماذا أتهمه؟ لن تفي الرشاوى بالغرض؛ فالأطباء لا يحصلون على رشاوى مطلقا. ماذا إذن؟»
قال با سين: «ربما بإمكاننا الترتيب لوقوع تمرد في السجن. فيلقى باللوم على الدكتور بصفته المأمور.» «لا، هذا أمر خطير جدا. لا أريد أن يطلق حراس السجن النار من بنادقهم في كل اتجاه. كما أنه أمر مكلف. من الجلي إذن أن الاتهام يجب أن يكون عدم الولاء ... الوطنية، الترويج للشغب. لا بد أن نقنع الأوروبيين أن الدكتور مؤمن بأفكار معادية لبريطانيا ولا يحمل لها الولاء. هذا أسوأ كثيرا من الرشاوى؛ فهم يعلمون أن المسئولين المحليين يتقاضون الرشاوى. لكن لندعهم يشكون في ولائه ولو للحظة واحدة، وسوف يهلك.»
قال با سين معترضا: «سيكون هذا شيئا من الصعب إثباته؛ فالدكتور مخلص جدا للأوروبيين، ويثور غضبه عند التفوه بأي شيء ضدهم. سوف يعلمون الحقيقة، ألا تعتقد ذلك؟»
قال يو بو كين باطمئنان: «هراء، هراء. لا يوجد أوروبي يكترث البتة للأدلة. ما دام للرجل وجه أسود، يكون الشك دليلا. ستصنع بعض الخطابات المجهولة المصدر العجائب. إنها مسألة مثابرة فحسب؛ توجيه الاتهام، والاستمرار في ذلك؛ ذلك هو السبيل مع الأوروبيين. خطاب مجهول المصدر تلو الآخر، إلى كل أوروبي تباعا. وحين تثور شكوكهم تماما ...» أخرج يو بو كين ذراعه القصيرة من وراء ظهره وطرقع بالإبهام والوسطى. وأردف قائلا: «سنبدأ بهذا المقال في ال «بورميز باتريوت». سيستشيط الأوروبيون غضبا حين يرونه. حسنا، والخطوة التالية ستكون إقناعهم أن الطبيب هو من كتبه.» «سيكون هذا عسيرا وهو لديه أصدقاء بين الأوروبيين، وكلهم يذهبون إليه حين يمرضون. لقد عالج السيد ماكجريجور من الانتفاخ هذا الشتاء. أعتقد أنهم يعتبرونه طبيبا ماهرا جدا.» «كم أنت قاصر عن فهم العقلية الأوروبية يا كو با سين! إذا كان الأوروبيون يذهبون إلى فيراسوامي فإنما هذا لأنه لا يوجد أي طبيب آخر في كياوكتادا. لا يوجد أوروبي لديه ذرة من ثقة في شخص أسود الوجه. حسبنا إرسال عدد كاف من الخطابات المجهولة المصدر. قريبا سأعمل على الأمر حتى لا يتبقى له أصدقاء.»
قال با سين: «لدينا السيد فلوري، تاجر الأخشاب.» (كان ينطق الاسم «السيد بورلي».) «إنه صديق حميم للطبيب. أراه يذهب إلى منزله كل صباح حين يكون في كياوكتادا، حتى إنه دعاه مرتين إلى العشاء.» «ها قد أصبت الآن. ما دام فلوري صديقا للطبيب من الممكن أن نتأذى؛ فلا يمكنك إيذاء شخص هندي لديه صديق أوروبي . فهذا يعطيه ... ما تلك الكلمة التي لديهم ولع شديد بها؟ ... وجاهة. لكن سيتخلى فلوري عن صديقه سريعا جدا حين تبدأ المتاعب؛ فهؤلاء الناس لا يكنون مشاعر الوفاء لأهل البلد. كما تصادف أنني أعلم عن فلوري أنه جبان، وأستطيع أن أتعامل معه. أما أنت يا كو با سين فدورك أن تراقب خطوات السيد ماكجريجور. هل كتب خطابات مؤخرا إلى المفوض؛ أقصد سرا؟» «لقد كتب خطابا منذ يومين، لكن حين فتحناه على البخار وجدناه غير ذي أهمية.» «حسنا، سنعطيه شيئا ليكتب عنه. وبمجرد أن تساوره الشكوك في الطبيب، سيحين الوقت لتلك المسألة الأخرى التي حدثتك عنها. وبهذا سوف ... ماذا يقول السيد ماكجريجور؟ نعم، «نصيب طائرين بحجر واحد.» بل سربا كاملا من الطيور. ها ها!»
كانت ضحكة يو بو كين عبارة عن صوت بقبقة مقزز يتصاعد من أعماق معدته، كأنه يتأهب للسعال؛ إلا أنها كانت مرحة، بل وطفولية. لم ينبس بالمزيد عن «المسألة الأخرى»، التي كانت شديدة السرية لمناقشتها في الشرفة. حين رأى با سين أن اللقاء قد بلغ نهايته، هب واقفا وانحنى فصار مثل مسطرة قابلة للطي.
وقال: «هل هناك شيء آخر تود أن أفعله يا سيادة القاضي؟» «احرص على أن يحصل السيد ماكجريجور على نسخته من «بورميز باتريوت». ومن الأفضل أن تخبر هلا بي بأن يقول إن لديه نوبة دوسنتاريا ويبتعد عن المكتب. فسوف أحتاج إليه في كتابة الخطابات مغفلة التوقيع. هذا كل المطلوب الآن.» «هل أذهب إذن يا سيدي؟»
قال يو با كين بشيء من شرود الذهن: «في رعاية الرب.» وفي الحال صاح مرة أخرى مناديا با تايك، فهو لا يضيع لحظة من اليوم. لذلك لم يمض وقتا طويلا في محادثة الزوار الآخرين وصرف فتاة القرية دون أن يجازيها، بعد أن تملى في وجهها وقال إنه لم يتعرف عليها. بعد ذلك حان وقت الإفطار. بدأ يشعر بقرصات الجوع العنيفة، التي كانت تهاجمه في هذه الساعة بالضبط كل صباح، وهي تعذب معدته، فصرخ في استعجال: «با تايك! يا با تايك! كين كين! الإفطار! أسرعا، إنني أتضور جوعا.»
كان في غرفة المعيشة وراء الستار مائدة سبق تجهيزها بوعاء أرز ضخم وعشرة صحون تحتوي على أكلات الكاري والقريدس المجفف وشرائح المانجو الأخضر. تهادى يو بو كين إلى المائدة وجلس وهو يخور وفي الحال انهمك في الطعام. وقفت خلفه ما كين، زوجته، لتقوم على خدمته. كانت امرأة نحيلة القوام، في الخامسة والأربعين من العمر، ذات وجه سمح، بني فاتح، شبيه بوجه القردة. لم يلق يو بو كين لها بالا وهو يأكل. فقد كان وعاء الأرز ملاصقا لأنفه وهو يحشر الطعام في فمه بأصابع سريعة متسخة بالدهن، وأنفاس متلاحقة. كانت كل وجباته سريعة وضخمة وبانفعال؛ لم تكن وجبات بقدر ما كانت طقوسا للانغماس والانهماك في أطباق الكاري والأرز. وحين فرغ من الطعام رجع بظهره، وتجشأ عدة مرات، وطلب من ما كين أن تأتي له بسيجار بورمي أخضر. فهو لم يدخن التبغ الإنجليزي قط، وكان يقول إنه بلا مذاق.
بعد قليل، ارتدى يو بو كين ملابس العمل بمساعدة با تايك، ووقف برهة يتطلع إلى نفسه بإعجاب في المرآة الطويلة في حجرة المعيشة، التي كانت جدرانها خشبية، وبها عمودان، لا يزال جليا أنهما جذعا شجرتي ساج، يحملان السقف. كانت حجرة معتمة وغير منظمة على غرار كل الحجرات البورمية، مع أن يو بو كين كان قد فرشها على «الطراز الإنجليكي» بخوان مكسو بقشرة خشبية ومقاعد، وبعض المطبوعات الحجرية للعائلة المالكة ومطفأة حريق، وفرشت أرضيتها بحصائر خيزران، ملطخة بالكثير من الجير وعصارة التانبول.
اتخذت ما كين مجلسها على إحدى الحصائر في الركن، تخيط بلوزة من الزي البورمي التقليدي، فيما استدار يو بو كين على مهل أمام المرآة، ليلقي نظرة على مظهره من الخلف. كان يرتدي عصابة رأس من الحرير بلون وردي فاتح، وقميصا من الموسلين المنشى، وإزارا من حرير ماندالاي، بلون برتقالي وردي رائع، موشى بلون أصفر. بذل جهدا ليدير رأسه ويتطلع، مسرورا، إلى الإزار الذي ضاق عن مؤخرته الضخمة ولمع. كان فخورا ببدانته؛ لأنه رأى في اللحم المكتنز رمزا لعظمته. هو الذي كان في الماضي مجهولا وجائعا صار الآن بدينا وثريا ومهيب الجانب. كان بدنه منتفخا بجثث أعدائه؛ وهي الفكرة التي أوحت إليه بشيء شديد القرب من الشعر.
قال يو بو كين: «إزاري الجديد كان رخيص الثمن باثنين وعشرين روبية ... ها ... يا كين كين؟»
أحنت ما كين رأسها فوق ما تخيطه. كانت امرأة بسيطة وتقليدية، لم تتعلم من العادات الأوروبية أكثر مما تعلمه يو بو كين؛ فلم تكن ترتاح للجلوس على الكراسي، وتذهب كل صباح إلى البازار حاملة سلة فوق رأسها، مثل نساء القرية، وفي المساء ترى جاثية في الحديقة، تصلي إلى برج المعبد الذي كان يتوج البلدة. وقد ظلت المؤتمنة على مؤامرات يو بو كين لما يربو على عشرين عاما.
قالت ما كين: «لقد ارتكبت الكثير جدا من الإثم في حياتك يا كو بو كين.»
لوح يو بو كين بيده وقال: «وما الضرر؟ ستشفع لي المعابد التي سأبنيها عن كل شيء. ما زال أمامي متسع من الوقت.»
أحنت ما كين رأسها على الخياطة مرة أخرى، بأسلوب متمنع كانت تأتيه عند استنكار شيء يفعله يو بو كين.
وقالت: «لكن ما الحاجة إلى كل هذه المكائد والمؤامرات يا كو بو كين؟ لقد سمعتك وأنت تتحدث مع كو با سين في الشرفة. إنك تدبر الشر للدكتور فيراسوامي. لماذا تريد الإيذاء بذلك الطبيب الهندي؟ إنه رجل صالح.» «ما أدراك بأمور العمل يا امرأة؟ إن الطبيب يعترض طريقي؛ فهو يرفض الرشاوى في المقام الأول، مما يجعل الأمر صعبا على بقيتنا. بجانب ذلك ... حسنا، ثمة أمر آخر لن يسعك فهمه أبدا.» «لقد صرت ثريا وذا نفوذ يا كو بو كين، فماذا استفدت من ذلك؟ لقد كنا أكثر سعادة ونحن فقراء. أتذكر جيدا حين كنت مجرد موظف في شئون البلدة، حين امتلكنا منزلا لأول مرة. كم كنا فرحين بأثاثنا الخيزران الجديد، وبقلمك الحبر ذي الغطاء الذهبي! وكم داخلنا الفخر حين زار منزلنا ضابط الشرطة الإنجليزي الشاب وجلس على أفضل كرسي واحتسى زجاجة جعة! ليست السعادة في المال. ماذا عساك تريد بالمزيد من المال؟» «هذا هراء، هراء يا امرأة! انتبهي للطهي والحياكة واتركي أمور العمل لأولئك الذين يفهمونها.» «حسنا، لست على علم بشيء. إنني زوجتك وطالما أطعتك. لكن على الأقل لم يفت الأوان لتكسب ثوابا. حاول أن تكسب ثوابا أكثر يا كو بو كين! هلا اشتريت مثلا بعض السمك الحي ثم أطلقته في النهر؟ فمن الممكن كسب ثواب كبير بتلك الطريقة. حين جاءني الكهنة هذا الصباح من أجل الأرز أخبروني أن هناك كاهنين جديدين في الدير، وأنهما جائعان. هلا أعطيتهما شيئا يا كو بو كين؟ فإنني لم أعطهما شيئا حتى تكسب أنت الثواب على ذلك.»
تحول يو بو كين عن النافذة. كان الرجاء قد مسه قليلا. وهو لم يكن يفوت فرصة لكسب الثواب، ما دام يمكنه ذلك دون متاعب. كان يرى أن حسناته المتراكمة بمثابة وديعة في مصرف، تزداد باستمرار. فقد كان في كل سمكة يطلق سراحها في النهر، وكل هدية لأحد الكهنة، خطوة تقربه للنرفانا. وكان له في هذا الاعتقاد طمأنينة. هكذا أمر بضرورة إرسال سلة المانجو، التي أحضرها زعيم القرية، إلى الدير.
وفي الحال غادر المنزل وسار على الطريق، يتبعه با تايك حاملا ملف أوراق. كان يمشي على مهل، مستقيم القامة بشدة للحفاظ على توازن معدته الضخمة، حاملا مظلة صفراء من الحرير فوق رأسه. كان إزاره الأصفر يلمع في أشعة الشمس كأنه حلوى برالين مصنوعة من حرير. كان في طريقه إلى المحكمة للحكم في قضايا اليوم.
الفصل الثاني
في نفس الوقت الذي بدأ فيه يو بو كين أعماله الصباحية، كان «السيد بورلي»، تاجر الأخشاب وصديق الدكتور فيراسوامي، يغادر منزله متجها إلى النادي.
كان فلوري في الخامسة والثلاثين تقريبا، متوسط الطول، غير سيئ البنيان. كان ذا شعر جاف حالك السواد منحسر أسفل رأسه، وشارب أسود حليق، وبشرة شاحبة في الأصل وقد لوحتها الشمس. ولم يبد أكبر من سنه لأنه لم يزدد بدانة ولا غدا أصلع، لكن كان وجهه كالحا مع أنه مسفوع، بوجنتين مهزولتين ، وعينين غائرتين تلوح فيهما نظرة ذابلة. بدا واضحا أنه لم يحلق هذا الصباح. كان يرتدي ملابسه المعهودة، قميصه الأبيض، وسرواله القصير الكاكي، وشرابه، لكنه بدلا من القبعة الصغيرة الشبيهة بالخوذة ارتدى قبعة عريضة الإطار مهترئة، مائلة على إحدى عينيه. وكان يحمل عصا خيزران بحزام رفيع للمعصم، فيما سارت خلفه متمهلة كلبة صيد سوداء تدعى فلو.
بيد أن كل هذه الأشياء كانت ملاحظات ثانوية. فأول ما يلفت النظر في فلوري هو وحمة بشعة، ممتدة على شكل هلال على وجنته اليسرى، من عينه حتى زاوية فمه. وعند رؤية وجهه من الجانب الأيسر كان يبدو مضروبا وكئيبا، كأن الوحمة عبارة عن كدمة؛ إذ كانت زرقاء داكنة. وكان هو مدركا تماما بشاعتها، حتى إنه كان طول الوقت يواريها بحركاته حين لا يكون بمفرده؛ إذ كان يتحايل دائما لإخفاء وحمته عن الأنظار.
كان منزل فلوري في أعلى الميدان، قريبا من حدود الغابة. كان الميدان ينحدر من البوابة بشدة، مقفرا وكاكي اللون، وقد تناثرت فيه ستة أكواخ بيضاء بياضا مبهرا، راحت تهتز وترتعد كلها من لفح الهواء. في منتصف التل قامت جبانة إنجليزية أحاط بها جدار أبيض، وعلى مقربة منها كنيسة صغيرة ذات سطح صفيح. وقام وراء ذلك النادي الأوروبي، البناء الخشبي البالي ذو الدور الواحد، الذي كان المركز الحقيقي للبلدة. فالنادي الأوروبي في أي بلدة في الهند هو القلعة الروحية، المقر الحقيقي للسلطة البريطانية، النرفانا التي يصبو إليها المسئولون والمليونيرات المحليون دون طائل. لكن بلغت هذه القيمة الضعف في هذه الحالة؛ إذ كان مما يتباهى به نادي كياوكتادا في فخر، أنه يكاد يكون الوحيد بين نوادي بورما، الذي لم يقبل قط في عضويته أي شرقي. وفيما وراء النادي تدفق نهر الإيراوادي الضخم وقد لمعت مياهه التي سقط عليها شعاع الشمس مثل الألماس؛ ووراء النهر امتدت مساحات شاسعة من حقول الأرز، وانتهت في الأفق بسلسلة من التلال المسودة.
وقعت البلدة الأصلية، والمحاكم والسجن، إلى اليمين، وقد توارى أغلبها وراء الأيك الأخضر لأشجار التين المجوسي، فيما ارتفع برج المعبد فوق الأشجار مثل رمح رفيع برأس ذهبي. كانت كياوكتادا إلى حد ما من بلدات بورما العليا التقليدية، التي لم تتغير كثيرا منذ أيام ماركو بولو حتى عام 1910، وربما كانت ستلبث قرنا آخر في العصور الوسطى لو لم تثبت أنها موقع مناسب لمحطة نهاية خط سكة حديد. في عام 1910، جعلتها الحكومة مقرا للمنطقة ومركزا للتقدم؛ وهو ما يمكن تفسيره بمجموعة من المحاكم، بجيشها من المترافعين البدناء لكن شرهين، ومستشفى، ومدرسة وأحد تلك السجون الهائلة الراسخة التي بناها الإنجليز في كل موضع بين جبل طارق وهونج كونج. وصل عدد سكانها إلى أربعة آلاف تقريبا، من بينهم بضع مئات من الهنود، وبضع عشرات من الصينيين، وسبعة أوروبيين. كان هناك أيضا أوروبيان آسيويان يدعيان السيد فرانسيس والسيد صامويل، ابنا مبشر معمداني أمريكي ومبشر روماني كاثوليكي على التوالي. لم يكن في البلدة عجائب من أي نوع، باستثناء راهب هندي عاش عشرين عاما على شجرة قرب أحد البازارات، يرفع طعامه في سلة كل صباح.
تثاءب فلوري أثناء خروجه من البوابة، وكان قد شرب في الليلة السابقة حتى صار شبه ثمل، ولذا جعله وهج الشمس يشعر بتوعك. قال لنفسه وهو ينظر أسفل التل: «يا لها من حفرة لعينة!» ولما لم يكن قربه أحد سوى الكلب، راح يغني بصوت عال: «لعينة، لعينة، لعينة، كم أنت لعينة!» على لحن «مقدس، مقدس، مقدس، كم أنت مقدس.» أثناء سيره هابطا الطريق الأحمر الحار، وهو يحطم الحشائش الجافة بعصاه. كانت الساعة التاسعة تقريبا والشمس تزداد لهيبا مع كل دقيقة. كان القيظ يهبط على الرأس، بخفق مستمر متواتر مثل ضربات بوسادة ضخمة. توقف فلوري عند بوابة النادي، متحيرا أيدخل أم يمضي في طريقه ويلاقي الدكتور فيراسوامي. ثم تذكر أنه كان «يوم البريد الإنجليزي» وأن الجرائد ستكون قد وصلت، فدخل، مارا بشبكة ملعب التنس الكبيرة، التي غطاها نبات متسلق بزهور بنفسجية تشبه النجوم.
وعلى جانبي الممشى انتشرت صفوف من الزهور الإنجليزية - الفلوكس والعائق والخطمي والبتونيا - التي لم تقض عليها الشمس بعد بأحجام ضخمة ووفرة. كانت زهور البتونيا ضخمة، تكاد تعادل حجم الأشجار. ولم يكن هناك حديقة، وإنما جنبة من الأشجار والشجيرات المحلية - مثل أشجار البوانسيانا الملكية مثل مظلات هائلة بزهور في حمرة الدم، والياسمين الهندي ذات الزهور القشدية اللون، والجهنمية الأرجوانية، والخطمي القرمزي، والورد الصيني الوردي وأشجار كروتون خضراء ضاربة للأصفر، وأشجار التمر هندي بأوراقها الشبيهة بالريش. كان التضارب بين الألوان مؤذيا للعين في وهج الشمس. في هذه الغابة من الزهور، راح يتحرك بستاني شبه عار، بيده مرشة مياه، فبدا مثل طائر كبير يمتص الرحيق.
على سلم النادي، وقف رجل إنجليزي واضعا يديه في جيبي سرواله القصير، كان ذا شعر أشقر رملي وشارب شائك، وعينين رماديتين باهتتين شديدتي التنائي، وربلتين نحيلتين نحولا غير عادي. كان هذا هو السيد ويستفيلد، مفوض شرطة المنطقة، الذي بدا عليه ضجر شديد وهو يتأرجح على عقبيه إلى الأمام والخلف ويزم شفته العليا حتى وخز شاربه أنفه. وقد حيا فلوري بإيماءة خفيفة من رأسه. كان أسلوبه في الحديث مقتضبا وعسكريا، يغفل أي كلمة يمكن إغفالها. وكان كل ما يتفوه به تقريبا يقصد أن يكون مزحة، بيد أن نبرة صوته كانت رتيبة وحزينة. «مرحبا يا عزيزي فلوري. إنه صباح لعين فظيع، أليس كذلك؟»
قال فلوري وقد استدار بجسمه قليلا لكي يخفي وحمته عن ويستفيلد: «أعتقد أننا لا بد أن نتوقع هذا في هذا الوقت من العام.» «صحيح، سحقا. أمامنا بضعة أشهر من هذا الجو. في العام الماضي لم تسقط قطرة مطر واحدة حتى شهر يونيو. انظر إلى تلك السماء اللعينة، ليس فيها من سحابة. مثل واحدة من تلك القدور الضخمة اللعينة المطلية بالمينا الزرقاء. يا إلهي! بم تضحي لتكون في بيكاديلي الآن، هه؟» «هل وصلت الجرائد الإنجليزية؟» «نعم، مجلة «بانش» الأثيرة، و«بينكان» و«في باريزيان». إن المرء ليشعر بحنين إلى الوطن عند قراءتها، صحيح؟ هيا ندخل لنحتسي شرابا قبل أن ينفد الثلج كله. فقد استهلك لاكرستين العجوز كميات كبيرة منه، وبدأ يثمل بالفعل.»
دخل الاثنان، وويستفيلد يقول بصوته الكئيب: «تفضل أنت أولا.» كان النادي من الداخل مكانا جدرانه من خشب الساج تفوح منه رائحة نفط خام، لا يزيد عن أربع حجرات فقط، احتوت واحدة منها على «مكتبة» مهجورة بها خمسمائة رواية تسلل إليها العفن، وضمت حجرة أخرى طاولة بلياردو قديمة وبالية، بيد أنها كانت نادرا ما تستخدم؛ إذ كانت أسراب الخنافس الطائرة تطن حول المصابيح وتتناثر على المفرش غالبية العام. كان هناك أيضا حجرة للعب الأوراق و«قاعة جلوس» تطل على النهر، فوق شرفة واسعة؛ لكن جميع الشرفات كانت في هذا الوقت مغطاة بأستار من الخيزران الأخضر في هذا الوقت من اليوم. كانت قاعة الجلوس حجرة لا تبعث على الراحة، على أرضيتها حصير من ليف جوز الهند، وذات كراس وطاولات من الخوص تناثرت عليها صحف مصورة لامعة. كان بها على سبيل الزينة عدد من صور «الجرو بونزو» وجماجم متربة لغزال السامبار. وكانت مروحة سقف، وهي تخفق متراخية، تذر الغبار في الهواء الفاتر.
كان في الحجرة ثلاثة رجال. أسفل المروحة تمدد على الطاولة رجل في الأربعين، متورد الوجه، حسن المظهر، منتفخ قليلا، واضعا رأسه بين كفيه، وهو يتأوه من الألم. كان هذا السيد لاكرستين، المدير المحلي لشركة أخشاب، وكان قد أسرف في الشراب الليلة السابقة، ويعاني من ذلك الآن. وقف إليس، المدير الإقليمي لشركة أخرى، قبالة لوحة الإعلانات، متفحصا إعلانا ومنظره ينم عن تركيز شديد. كان شخصا ضئيلا أشعث الشعر ذا وجه شاحب حاد الملامح وحركات مضطربة. وكان ماكسويل، مسئول الغابات بالإنابة، مستلقيا على أحد المقاعد الطويلة يقرأ مجلة «ذا فيلد»، لا يبدو منه سوى ساقين ضخمتي العظام وساعدين عريضين مكسوين بشعر ناعم.
قال ويستفيلد، وهو يمسك السيد لاكرستين بشيء من المودة من منكبيه ويهزه: «انظر إلى هذا الرجل العجوز الشقي. إنه مثال للشباب، صحيح؟ كنت سأصبح مثله لولا فضل الرب. إنه يعطيك فكرة كيف سيكون حالك في الأربعين من العمر.»
غمغم السيد لاكرستين قائلا كلمة بدت مثل «براندي».
قال ويستفيلد: «يا للرجل العجوز المسكين، دائما شهيد للشراب، هه ؟ انظر إليه وهو ينز من مسامه. يذكرني بالكولونيل العجوز الذي كان ينام من دون ناموسية. حين سألوا خادمه عن السبب قال: «بالليل يكون سيدي ثملا للغاية حتى إنه لا يشعر بالناموس؛ وفي الصباح، يكون الناموس ثملا للغاية حتى إنه لا ينتبه لسيدي.» انظر إليه؛ أسرف في الشراب ليلة أمس والآن يطلب المزيد. وستأتي ابنة أخيه الصغيرة لتقيم معه. ستأتي الليلة، أليس كذلك يا لاكرستين؟»
قال إليس دون أن يستدير: «اترك هذا السكير الثمل وشأنه.» وكانت له لهجة كوكني خبيثة. غمغم السيد لاكرستين مرة أخرى قائلا: «ابنة أخ! أحضر لي بعض البراندي، بحق المسيح.» «يا له من درس جيد لابنة الأخ، ها؟ أن ترى عمها ثملا سبع مرات في الأسبوع. أيها الساقي! أحضر براندي للسيد لاكرستين!»
جاء بالبراندي على صينية نحاسية ساق درافيدي أسمر جسيم ذو عينين صفراوين لامعتين مثل عيني الكلب. طلب فلوري وويستفيلد شراب الجين. ابتلع السيد لاكرستين بضع جرعات من البراندي واسترخى في مقعده، متأوها باستسلام أكثر. كان ذا وجه بريء ممتلئ، بشارب شبيه بفرشاة الأسنان. وقد كان رجلا ضعيف العقل جدا حقا، ليس لديه من الطموح سوى أن يحظى بما سماه «وقت طيب». وكانت زوجته تسيطر عليه بالطريقة الوحيدة الممكنة؛ ألا وهي ألا تجعله يغيب عن ناظريها لأكثر من ساعة أو ساعتين قط. مرة واحدة فقط، بعد زواجهما بعام، تركته لأسبوعين، وحين عادت قبل ميعادها بيوم على نحو مفاجئ، وجدت السيد لاكرستين، ثملا، تسنده على الجانبين فتاة بورمية عارية، بينما كانت ثالثة تقلب زجاجة ويسكي فوق فمه. ومن ساعتها وهي تراقبه، «كما يراقب قط جحرا لعينا لفأر»، كما اعتاد أن يشكو. بيد أنه تمكن من الاستمتاع بعدد كبير من «الأوقات الطيبة»، مع أنها كانت عادة أوقاتا عاجلة بعض الشيء.
قال لاكرستين: «يا إلهي، ماذا أصاب رأسي هذا الصباح؟ ناد ذلك الساقي مرة أخرى، يا ويستفيلد. يجب أن أحصل على براندي آخر قبل أن تصل زوجتي. تقول إنها سوف تخفض شرابي لأربع كئوس في اليوم حين تصل ابنة أخي.» ثم أردف في حزن: «محقهما الرب!»
قال إليس بغلظة: «توقفوا جميعا عن التحامق وأصغوا إلى هذا.» كان له أسلوب جارح في الكلام، حتى إنه لم يكن يفتح فمه دون أن يسب أحدا. وقد تعمد المبالغة في لكنته الكوكنية، للنبرة التهكمية التي تضفيها على كلماته. «هل رأيتم إعلان العجوز ماكجريجور؟ إنه هدية لكل فرد. استيقظ وأصغ يا ماكسويل!»
أنزل ماكسويل مجلة «ذا فيلد». كان شابا أشقر مشرق الوجه لا يربو عن الخامسة أو السادسة والعشرين؛ صغيرا جدا على الوظيفة التي يشغلها. يذكرك بأطرافه الثقيلة وأهدابه البيضاء الكثيفة بمهر جر العربات. نزع إليس الإعلان من على اللوحة بحركة بسيطة عنيفة ودقيقة وبدأ قراءته بصوت عال. كان قد نشره السيد ماكجريجور، الذي كان يعمل أمينا للنادي، بجانب كونه نائب المفوض. «فلتصغوا لهذا: «حيث إنه لا يوجد بعد أعضاء شرقيون في هذا النادي. وبما أنه من المألوف الآن قبول موظفي الحكومة الذين تنشر رتبهم في الجريدة الرسمية، سواء كانوا من أهل البلد أو أوروبيين، في عضوية أغلب الأندية الأوروبية، فلا بد أن ننظر مسألة اتباع هذا النهج في كياوكتادا. سوف يطرح الأمر للمناقشة في الجمعية العمومية التالية. من ناحية يمكن الإشارة إلى» ... حسنا، لا حاجة للخوض في الباقي. إنه لا يستطيع كتابة إعلان حتى دون أن تنتابه نوبة إسهال أدبي. على أي حال، بيت القصيد أنه يطلب منا خرق كل القواعد وأن نقبل بفتى زنجي صغير طيب في هذا النادي. الدكتور فيراسوامي العزيز، مثلا، الذي أدعوه الدكتور شديد اللزوجة. ستكون هذه مكافأة، أليس كذلك؟ أن يطلق زنوجا صغارا بكروش مستديرة لينفثوا رائحة الثوم في وجهك على مائدة البريدج. رباه، لا أطيق حتى التخيل. لا بد أن نتكاتف معا ونتمسك بموقفنا حيال هذا الأمر في الحال. ما رأيك يا ويستفيلد؟ وأنت يا فلوري؟»
هز ويستفيلد منكبيه النحيلين بتفلسف، وكان قد جلس إلى الطاولة وأشعل لفافة من السيجار البورمي الأسود كريه الرائحة.
وقال: «أعتقد أننا لا بد أن نتقبل الأمر. فالسكان المحليون الحثالة يدخلون كل النوادي الآن، حتى نادي بيجو كما أخبرت. فهذا هو النهج الذي سيتخذه هذا البلد كما ترى. إننا آخر ناد صمد ضدهم في بورما.» «هذا صحيح؛ بل وسوف نداوم على صمودنا بلا شك. فسوف أظل أقاوم حتى الموت قبل أن أرى زنجيا هنا.» وأخرج إليس عقب قلم رصاص. وأعاد تثبيت الإعلان على اللوحة تلفه هالة غريبة من النكاية التي يستطيع بعض الرجال أن يبدوها في أقل حركاتهم، وخط بالقلم أمام توقيع السيد ماكجريجور حرفي «أ. ل.» (أي أحمق لعين) بخط صغير ومنمق. «هذا رأيي في فكرته. سأخبره به حين يأتي. ما رأيك أنت يا فلوري؟»
لم يكن فلوري قد نبس ببنت شفة طوال هذا الوقت. رغم أنه لم يكن بطبعه رجلا هادئا على الإطلاق، فقلما كان يجد الكثير لقوله في محادثات النادي. كان قد جلس إلى الطاولة وجعل يقرأ مقال جي كيه تشسترتون في مجلة «لندن نيوز»، بينما يربت على رأس فلو بيده اليسرى. غير أن إليس كان واحدا من أولئك الناس الذين يلحون على الآخرين ليرددوا آراءهم. أعاد سؤاله، فرفع فلوري ناظريه، والتقت عيناهما. فجأة صار الجلد حول أنف إليس شاحبا جدا حتى كاد يكون رماديا، وكانت هذه من علامات غضبه. وبدون أي مقدمات انفجر في سيل من التوبيخ الذي كان سيصيب الآخرين بالدهشة، لو لم يكونوا معتادين على سماع شيء مثله كل صباح. «يا إلهي، وأنا كنت أظن أنه في مسألة كهذه، حين يكون السؤال متعلقا بإبعاد أولئك الخنازير العفنين السود عن المكان الوحيد الذي يتسنى لنا فيه الاستمتاع بوقتنا، أنك ستتحلى باللياقة لتأييدي. حتى إن كان ذلك الدكتور الزنجي الأكرش القذر التافه الحقير أفضل أصدقائك. لا يعنيني إن كنت تؤثر مرافقة حثالة البازار. إذا كان يسرك أن تذهب إلى منزل فيراسوامي وأن تحتسي الويسكي مع كل رفاقه الزنوج، فهذا شأنك. فلتفعل ما يحلو لك خارج النادي. لكن بحق الرب، الأمر يختلف حين تتحدث عن إحضار زنوج هنا. أعتقد أنك تود جعل الدكتور فيراسوامي عضوا في النادي، صحيح؟ ليقاطع حديثنا ويربت على الكل بيدين تتصببان عرقا ويطلق في وجوهنا أنفاسه القذرة المحملة برائحة الثوم. أقسم بالله إنه سيخرج يتبعه حذائي إن رأيت خطمه الأسود داخل ذلك الباب. الكريه، الأكرش، الحقير!» ... إلخ.
استمر الأمر عدة دقائق، وكان مبهرا في غرابة؛ لأنه كان صادقا تماما. فقد كان إليس يكره الشرقيين حقا؛ يكرههم بمشاعر بغض حادة لا تهدأ كأنهم شيء خبيث أو غير نظيف. رغم إقامته وعمله مساعدا في شركة أخشاب مما يجعله على تواصل دائم مع البورميين، فهو لم يألف رؤية وجه أسود قط. وكانت أي إشارة لمشاعر ود ناحية شخص شرقي تبدو له انحرافا فظيعا. كان رجلا ذكيا، وموظفا كفئا في شركته، لكنه كان واحدا من أولئك الرجال الإنجليز - السواد الأعظم للأسف - الذين يجب ألا يسمح لهم بأن تطأ قدمهم الشرق.
جلس فلوري يهدهد رأس فلو في حجره، غير قادر على ملاقاة عيني إليس. وحتى في أفضل الظروف كانت وحمته تجعل من العسير عليه أن ينظر في وجه الناس مباشرة. وحين صار متأهبا للكلام، أحس بصوته مرتعشا - فقد كان من دأبه الارتعاش حين يتحتم عليه الحزم - وكذلك كانت ملامحه تختلج أحيانا دون سيطرة له عليها.
وأخيرا قال بعبوس وشيء من الوهن: «فلتهدأ، فلتهدأ. لا داعي لكل هذا الانفعال، فإنني لم أقترح قط ضم أي أعضاء من السكان المحليين هنا.» «ألم تفعل؟ لكننا جميعا نعرف جيدا جدا أنك تود ذلك. وإلا لماذا تذهب إذن إلى منزل ذلك الرجل اللزج الحقير كل صباح؟ وتجلس معه إلى المائدة كما لو كان رجلا أبيض، وترشف من الأكواب التي سال عليها اللعاب من شفتيه السوداوين القذرتين؛ شيء يثير في الرغبة في القيء.»
قال ويستفيلد: «اجلس يا عزيزي. انس الأمر واحتس شرابا. فهذا الأمر لا يستحق العراك. الحر شديد.»
قال إليس بهدوء أكثر قليلا، وهو يذرع المكان ذهابا وإيابا مرة أو مرتين: «يا إلهي، يا إلهي، لا أستطيع فهمكم يا رفاق، لا أستطيع حقا. ها هو ماكجريجور الأحمق العجوز يريد إحضار زنجي إلى النادي بلا سبب على الإطلاق، وكلكم تقبلون الأمر بلا كلمة. رباه، ما المفترض منا فعله في هذا البلد؟ إن لم نكن سنسيطر، فلم لا نرحل بحق الشيطان؟ المفترض أننا هنا من أجل حكم مجموعة من الخنازير السوداء الملعونة ظلوا عبيدا منذ بدء التاريخ، لكن بدلا من بسط سيطرتنا عليهم بالطريقة الوحيدة التي يفهمونها، نعاملهم على أنهم أكفاء لنا. وأنتم أيها الحمقى تسلمون بذلك. فها هو فلوري جعل أقرب أصدقائه رجلا أسود يدعو نفسه طبيبا لأنه أمضى عامين فيما يسمى جامعة هندية. وأنت يا ويستفيلد، شديد الزهو بشرطييك الجبناء متقاضي الرشوة معوجي السيقان. وها هو ماكسويل، يقضي وقته في ملاحقة البغايا الآسيويات من أصل أوروبي. نعم، يا ماكسويل؛ لقد سمعت عن علاقتك في ماندالاي مع عاهرة صغيرة كريهة الرائحة تدعى مولي بيريرا. أعتقد أنك كنت ستقدم على الزواج منها لو لم ينقلوك إلى هنا؟ يبدو أنكم جميعا تحبون الأوغاد السود القذرين. رباه، لا أعلم ماذا أصابنا جميعا. لا أعلم حقا.»
قال ويستفيلد: «على رسلك، لتأخذ شرابا آخر. يا أيها الساقي! القليل من الجعة قبل أن ينفد الثلج، هه؟ الجعة، أيها الساقي!»
أحضر الخادم بعض زجاجات من جعة ميونيخ. وبعد قليل جلس إليس إلى المائدة مع الآخرين، وأخذ بين يديه الصغيرتين إحدى الزجاجات الباردة. كانت جبهته تتصبب عرقا، وهو عابس لكن لم يعد غاضبا. كان مشاكسا وجامحا طوال الوقت، لكن سريعا ما كانت تنتهي نوبات غضبه العارم، دون الاعتذار عنها قط. كانت المشاجرات جزءا معتادا من روتين الحياة في النادي. تحسن حال السيد لاكرستين وراح يتفحص الصور في مجلة «لا في باريزيان.» جاوزت الساعة التاسعة، وقد صارت الحجرة التي عبقت برائحة الدخان الحاد لسيجار ويستفيلد، خانقة من شدة الحر، والتصقت القمصان بظهور أصحابها بأول قطرات عرق سالت في اليوم. أما الغلام الخفي عن الأنظار الذي كان يشد حبل مروحة السقف فقد غالبه النوم في وهج الشمس.
هتف إليس: «أيها الساقي!» وحين ظهر الساقي قال له: «اذهب لتوقظ ذلك الغلام اللعين!» «حسنا يا سيدي.» «وأيها الساقي !» «نعم يا سيدي؟» «كم تبقى من الثلج؟» «نحو عشرين رطلا يا سيدي. وأعتقد أنه لن يمكث بعد اليوم. فإنني أجد صعوبة بالغة في الحفاظ على الثلج باردا الآن.» «لا تتحدث هكذا، عليك اللعنة: «أجد صعوبة بالغة!» هل ابتلعت قاموسا؟ قل: «معذرة يا سيدي، لا أستطيع حفظ ثلج بارد.» هكذا يجدر بك أن تتحدث. لا بد أن نطرد هذا الشخص إذا تمكن من تحدث الإنجليزية بإتقان. لا أستطيع احتمال الخدم الذين يتحدثون الإنجليزية. سمعت أيها الساقي؟»
قال الساقي: «أجل يا سيدي.» وانصرف.
قال ويستفيلد: «يا إلهي! لا ثلج حتى يوم الإثنين. هل ستعود إلى الغابة يا فلوري؟» «نعم، لا بد أن أكون هناك الآن. لم آت إلا لأجل البريد الإنجليزي.» «أعتقد أنني نفسي سأذهب في جولة، وأدبر القليل من بدل السفر. فلا أطيق المكتب اللعين في هذا الوقت من العام؛ حيث الجلوس أسفل المروحة اللعينة، وتوقيع فاتورة تلو الأخرى. العمل الورقي الممل. رباه، كم أتمنى لو اندلعت الحرب مرة أخرى!»
قال إليس: «سوف أذهب بعد غد. ألن يأتي ذلك القس اللعين لإقامة القداس يوم الأحد؟ سأحرص على ألا أكون موجودا من أجل ذلك، على أي حال. أكره ذلك الركوع اللعين.»
قال ويستفيلد: «الأحد القادم. لقد وعدت بأن أكون موجودا، وكذلك ماكجريجور. لا بد من القول بأن الأمر سيكون صعبا بعض الشيء على ذلك القس المسكين. فهو لا يأتي سوى مرة كل ستة أسابيع. من المستحسن أن نجمع له حشدا حين يأتي.» «سحقا! إنني لأتلو المزامير باكيا إرضاء للقس، لكنني لا أطيق الطريقة التي يأتي بها أولئك المسيحيون من أهل البلد متدافعين إلى كنيستنا. قطيع من الخدم الهنود والمعلمين الكارين. وهذان الأصفران، فرانسيس وصامويل؛ اللذان يدعيان نفسيهما مسيحيين هما الآخران. في آخر مرة حين كان القس هنا تجاسرا على التقدم والجلوس في المقاعد الأمامية مع الرجال البيض. لا بد أن يخاطب أحد القس في ذلك الشأن. يا لنا من حمقى ملاعين لما جنيناه حين أطلقنا العنان للمبشرين في هذا البلد! يعلمون كناسي السوق أنهم أكفاء لنا. «معذرة سيدي، أنا مسيحي مثل السادة.» منتهى الصفاقة.»
قال السيد لاكرستين وهو يمرر «لا في باريزيان» بينهم: «ما رأيكم في هاتين الساقين؟ أنت تعرف الفرنسية يا فلوري؛ ما المقصود بما كتب تحت؟ يا إلهي، هذا يذكرني بحين كنت في باريس، في أول إجازاتي، قبل أن أتزوج. رباه، أتمنى أن أذهب إلى هناك مرة أخرى!»
قال ماكسويل: «هل سمعتم السجع الذي يقول: «كانت هناك سيدة شابة من وكينج»؟» كان ماكسويل بالأحرى شابا هادئا، لكنه كغيره من الشباب، كان مولعا بالأسجاع البذيئة الرنانة. وحين أتم سيرة سيدة وكينج الشابة تصاعد الضحك. وأجاب ويستفيلد بسجع: كان في إيلينج سيدة تنتابها مشاعر غامضة، وشارك فلوري بسجع: في هورشام قس لا يفتأ أن يحترس، وازداد الضحك. حتى إليس أدلى بعدة أسجاع؛ وكانت نكات إليس دوما فكهة بحق، لكنها بذيئة بلا حدود. ابتهج الجميع وزاد شعورهم بالألفة رغم الحرارة. وكانوا قد فرغوا من الجعة وعلى وشك طلب شراب آخر، حين سمع وقع أحذية على السلم الخارجي. كان ثمة صوت جهوري جعل الأرضية ترتج، يقول هازلا: «نعم، في غاية الفكاهة. لقد وضعتها في أحد مقالاتي الصغيرة في مجلة «بلاكوودز». أتذكر أيضا موقفا آخر في غاية ... آه ... الطرافة، حين كنت مرابطا في بروم، حيث ...»
كان جليا أن السيد ماكجريجور قد وصل إلى النادي. صاح السيد لاكرستين: «تبا! جاءت زوجتي.» ونحى كأسه الفارغ بعيدا بقدر المستطاع. دخل السيد ماكجريجور والسيدة لاكرستين قاعة الجلوس معا.
كان السيد ماكجريجور رجلا ضخما، عظيم البنية، تعدى الأربعين بقليل، ذا وجه محبب شبيه لكلب البج، يرتدي نظارة بإطارين ذهبيين. وكان بمنكبيه العريضين، وعادة دفع رأسه للأمام يذكرك بالسلحفاة - حتى إن البورميين كانوا يدعونه «السلحفاة». وكان متسربلا في حلة نظيفة من الحرير، بانت عليها بقع العرق أسفل الإبطين. وقد حيا الآخرين باصطناع التحية العسكرية ممازحا، ثم وقف أمام لوحة الإعلانات، مبتسما وهو يدير خيزرانة خلف ظهره على غرار المعلمين. كانت السماحة البادية على وجهه صادقة تماما، بيد أنه كان ثمة تكلف في لطفه، ومشقة في التظاهر بأنه ينسى رتبته الرسمية في غير ساعات العمل، حتى إن أحدا لم يكن يشعر براحة تامة في وجوده. وبدا واضحا أنه في أسلوبه في الحديث يحذو حذو أحد مديري المدارس أو رجال الدين الطرفاء الذين تعرف عليهم في أول حياته. كانت أي كلمة طويلة، أو اقتباس، أو تعبير شائع تتمثل في ذهنه كمزحة، فيمهد لها بالتلعثم مثل أن يقول: «أمم» أو «آه» ليبدو واضحا أن ثمة مزحة في الطريق. أما السيدة لاكرستين فكانت في الخامسة والثلاثين تقريبا، مليحة ملاحة صورة في مجلة أزياء، بلا تضاريس مع استطالة. وكان صوتها متنهدا، ممتعضا. هب الآخرون واقفين حين دخلت السيدة لاكرستين، فيما جلست هي منهكة على أفضل مقعد أسفل المروحة، وهي تهوي لنفسها بيدها الرفيعة الشبيهة بيد سمندل الماء. «ويحي، يا له من حر، يا له من حر! جاء السيد ماكجريجور وأقلني في سيارته. إنه لكرم شديد منه. إن توم، سائق العربة الوضيع، يدعي المرض ثانية. أعتقد حقا أنك يجب أن تضربه ضربا مبرحا وتعيده إلى صوابه. فإنه لفظيع جدا أن تضطر للسير في هذه الشمس كل يوم.»
كانت السيدة لاكرستين غير قادرة على مسيرة ربع ميل بين منزلها والنادي فاستوردت عربة ذات عجلتين من رانجون، كانت هي المركبة الوحيدة المزودة بعجلات في كياوكتادا، بجانب العربات التي تجرها الثيران وسيارة السيد ماكجريجور؛ إذ كانت الطرق في المقاطعة بأسرها لا تزيد عن عشرة أميال. وكانت السيدة لاكرستين تتحمل في الغابة كل الفظائع من خيام تسرب الأمطار وناموس وطعام معلب، لكيلا تترك زوجها وحده؛ إلا أنها كانت تستعيض عن ذلك بالشكوى من أمور تافهة حين تكون في العاصمة.
تنهدت قائلة: «أعتقد حقا أن الكسل في هؤلاء الخدم صار مزعجا جدا. ألا تتفق معي يا سيد ماكجريجور؟ يبدو أننا لم يعد لدينا سلطة على أهل البلد الآن، مع كل هذه الإصلاحات المرعبة، والوقاحة التي يتعلمونها من الجرائد. أوشكوا أن يكونوا في سوء الطبقات الدنيا في الوطن من عدة نواح.» «أعتقد أنهم لا يعادلونهم سوءا. إلا أنني أخشى أن الروح الديموقراطية في سبيلها إلى التسلل لا محالة، حتى إلى هنا.» «منذ فترة قصيرة، قبل الحرب مباشرة، كانوا لطافا ومحترمين للغاية! الطريقة التي يلقون بها التحية حين تمر بهم على الطريق كانت ساحرة جدا بحق. أتذكر حين كنا ندفع لخادمنا اثنتي عشرة روبية في الشهر، وكان ذلك الرجل يحبنا مثل كلب حقا. أما الآن فهم يطلبون أربعين وخمسين روبية، وقد وجدت أن الطريقة الوحيدة للاحتفاظ بخادم هي التأخر في دفع مرتبه عدة أشهر.» وافقها السيد ماكجريجور الرأي قائلا: «النوع القديم من الخدم في طريقه للاختفاء. كان في أيام شبابي، حين يتصرف واحد من الخدم بقلة احترام، يرسل إلى السجن مع ورقة تقول: «برجاء إعطاء حامله خمس عشرة جلدة.» تلك أيام ذهبت بلا رجعة، على ما أخشى.»
قال ويستفيلد بأسلوبه المغتم: «إنك محق تماما. لن يعود هذا البلد مناسبا للعيش فيه مرة أخرى أبدا. فقد انتهى الراج البريطاني حسبما أرى. فقدنا المستعمرة وما إلى ذلك، وحان الوقت لنجلو عنها.»
هنا سرت همهمة اتفاق من كل من في الحجرة، حتى فلوري، المعروف بآرائه المتمردة، وحتى ماكسويل الذي أمضى بالكاد ثلاث سنوات في البلد. لن ينفي أي إنجليزي يعيش في الهند قط أن الهند في تدهور، ولا حتى ينكر ذلك؛ فالهند، لم تعد كما كانت.
في نفس الوقت نزع إليس الإعلان من خلف ظهر السيد ماكجريجور وناوله إياه، وهو يقول بأسلوبه المستاء: «تفضل يا ماكجريجور، لقد قرأنا هذا الإعلان، ونعتقد جميعا أن فكرة ضم واحد من أهل البلد هي محض ...» - أوشك إليس أن يقول تعبيرا بذيئا لكنه تذكر وجود السيدة لاكرستين وكبح نفسه - «محض هراء. فهذا النادي هو المكان الذي نأتي إليه لنسري عن أنفسنا، ولا نريد أن يأتي أهل البلد للتسكع فيه. نريد أن نشعر أنه ما زال هناك مكان نكون فيه بمعزل عنهم. والجميع متفقون تماما معي في هذا.»
ونظر حوله إلى الآخرين، فقال السيد لاكرستين بصوت أجش: «لا فض فوك!» كان يعلم أن زوجته سوف تخمن أنه كان يعاقر الشراب، وشعر أن إبداء رأي عاقل سوف يغفر له.
تناول السيد ماكجريجور الإعلان مبتسما. رأى حرفي «أ. ل.» مكتوبين قبالة اسمه، وشعر في قرارة نفسه أن سلوك إليس كان مهينا للغاية، لكنه أنهى الأمر بمزحة. كان يبذل مجهودا بالغا ليكون طيب المعشر في النادي كما كان يفعل للحفاظ على وقاره أثناء ساعات العمل. قال: «أعتقد أن صديقنا إليس لا يرحب بصحبة ... آه ... شقيقه الآري؟»
قال إليس في جواب لاذع: «لا، لا أرحب. ولا بشقيقي المنغولي. فإنني، باختصار، لا أحب الزنوج.»
تسمر السيد ماكجريجور عند سماع كلمة «زنوج»، التي أدين استخدامها في الهند. لم يكن متحاملا ضد الشرقيين؛ فقد كان حقا مولعا بهم ولعا شديدا. وكان يعتقد أنهم أكثر الشعوب الحية سحرا، شريطة ألا يمنحوا أي حرية. وكان يؤلمه دوما أن يراهم يهانون جورا.
قال السيد ماكجريجور بلهجة صارمة: «هل من اللائق أن نسمي هؤلاء الناس زنوجا - الكلمة التي بالطبع يستاءون منها أشد الاستياء - في حين أنه من الجلي أنهم ليسوا كذلك؟ فالبورميون منغوليون، والهنود آريون أو دارفيديون، وكلهم متباينون تماما.»
قال إليس الذي لم يتهيب مطلقا من الصفة الرسمية للسيد ماكجريجور: «هراء! سمهم زنوجا أو آريين أو كيفما تشاء. ما أرمي إليه هو أننا لا نريد رؤية أي بشرة سوداء في هذا النادي. وإن طرحت الأمر للتصويت ستجدنا جميعا بلا استثناء ضده.» ثم أردف قائلا: «إلا إذا كان فلوري يريد صديقه العزيز فيراسوامي.»
أعاد السيد لاكرستين قوله: «لا فض فوك! ثق أنني سأصوت ضدهم جميعا.»
زم السيد ماكجريجور شفتيه بانزعاج؛ فقد كان في موقف حرج، إذ إن فكرة اختيار عضو من أهل البلد لم تكن فكرته، وإنما أمليت عليه من قبل المفوض. إلا أنه كان لا يحب اختلاق الأعذار، لذا قال بنبرة أكثر استرضاء: «هلا أجلنا مناقشة الأمر حتى الجمعية العمومية التالية؟ ويمكننا حتى ذلك الوقت أن ننظر الموضوع بترو وإمعان.» ثم أضاف وهو متجه إلى الطاولة: «والآن من سيشاركني القليل من ... آه ... المرطبات السائلة؟»
استدعى الساقي وطلبت «المرطبات السائلة». كان الجو حينذاك قد صار أشد حرا من ذي قبل وكان الكل عطشى. أوشك السيد لاكرستين أن يطلب شرابا لكنه انكمش وقال متجهما: «لا»، حين انتبهت له زوجته. هكذا جلس واضعا يديه على ركبتيه، باديا عليه بعض الأسى، وهو يشاهد السيدة لاكرستين تزدرد كأسا من عصير الليمون يحتوي على جين. أما السيد ماكجريجور فقد احتسى عصير ليمون صرف، رغم أنه وقع فاتورة المشروبات. كان الوحيد بين الأوروبيين في كياوكتادا الذي يحافظ على قاعدة عدم احتساء الشراب قبل الغروب.
قال إليس متبرما، فيما راح يعبث بكأسه، باسطا ساعديه على الطاولة: «حسنا جدا.» كان الجدال مع السيد ماكجريجور قد جعله مضطربا مرة أخرى. «حسنا جدا، لكنني متمسك بما قلته. لا أعضاء محليين في هذا النادي! فقد أهلكنا الإمبراطورية بالاستمرار في التنازل في شئون صغيرة كتلك. لم يفسد البلد العصيان إلا لأننا ترفقنا بهم أكثر من اللازم. السياسة الوحيدة الممكنة هي أن نعاملهم معاملة القاذورات التي يستحقونها. هذه لحظة حاسمة، ونحن بحاجة لكل ذرة ممكنة من الهيبة. يجب أن نتكاتف معا ونقول: «نحن الأسياد، وأنتم شحاذون».» وضغط إليس بإبهامه الصغير كأنه يسحق دودة: «الزموا وضعكم أيها الشحاذون!»
قال ويستفيلد: «لا جدوى يا عزيزي، لا جدوى على الإطلاق. ما الذي يسعك فعله وكل هذه الإجراءات البيروقراطية تكبل يديك؟ أهل البلد الوضعاء يعرفون القانون أفضل منا. فهم يسبونك في وجهك وتحبس لحظة أن تضربهم. لن نستطيع أن نفعل أي شيء إلا إذا وقفنا موقفا حازما. لكن كيف لنا ذلك ما داموا لا يملكون الشجاعة للعراك؟»
قاطعتهما السيدة لاكرستين قائلة: «طالما قال رئيسنا في ماندالاي إننا سوف نغادر الهند في النهاية لا محالة. فلن يظل الشباب يأتي هنا للعمل طوال حياتهم في مقابل السباب ونكران الجميل. سوف نرحل. وحين يأتينا أهل البلد متوسلين أن نبقى سنقول لهم: «لا، كانت لديكم فرصة وأضعتموها. لا بأس، سوف نترككم لتحكموا أنفسكم.» ويا له من درس سيتعلمونه ساعتها!»
قال ويستفيلد مغتما: «هذا ما فعله بنا كل هذا القانون والنظام.» كانت فكرة اضمحلال الإمبراطورية الهندية عن طريق الإجراءات القانونية الكثيرة فكرة متواترة لدى ويستفيلد. إذ كان يرى أن لا شيء يمكنه إنقاذ الإمبراطورية من التدهور إلا تمرد شامل، وما يترتب عليه من تطبيق الأحكام العرفية. «مع كل هذه الأعمال الورقية والخطابات المتداولة صار موظفو المكاتب هم الحكام الحقيقيين لهذا البلد الآن. لقد أشرفنا على النهاية. وأفضل ما يمكننا عمله هو أن ننهي الأمر ونتركهم يعانون عواقب أخطائهم.»
قال إليس: «لا أتفق معك، لا أتفق معك مطلقا. فباستطاعتنا أن نضع الأمور في نصابها إن أردنا. لا يحتاج الأمر إلا القليل من الشجاعة. انظروا لما حدث في أمريتسار. انظروا كيف استكانوا بعد ذلك. لقد عرف داير كيف يعاملهم. يا لداير المسكين! كانت مهمة قذرة. أولئك الجبناء الذين في إنجلترا هم المسئولون.»
انطلقت من الآخرين تنهيدة ما، نفس النهيدة التي يلفظها جمع من الرومان الكاثوليك عند ذكر ماري الدموية وحتى السيد ماكجريجور الذي كان يبغض إراقة الدماء والأحكام العرفية، هز رأسه عند ذكر اسم داير. «رجل مسكين! ضحي به من أجل أعضاء برلمان على شاكلة باجيت لكن لا بأس، ربما يكتشفون خطأهم بعد فوات الأوان.»
قال ويستفيلد: «اعتاد رئيسي القديم أن يحكي لي قصة عن ذلك الأمر. كان هناك هافيلدار عجوز في كتيبة محلية، سأله أحد الأشخاص عما قد يحدث إن غادر البريطانيون الهند. فقال الرجل العجوز ...»
دفع فلوري كرسيه للوراء وهب واقفا. لا يجب، ولا يمكن ... بل لا ينبغي مطلقا أن يستمر هذا الأمر أكثر من ذلك! ينبغي أن يخرج من الحجرة سريعا، قبل أن يحدث شيء في رأسه ويبدأ في تكسير الأثاث وقذف الصور بالزجاجات. خنازير حمقى سكارى بلداء! هل من الممكن أن يستمروا أسبوعا تلو الآخر، وعاما بعد الآخر، يكررون نفس اللغو الخبيث كلمة كلمة، مثل محاكاة لقصة من الدرجة الخامسة في «بلاكوودز»؟ ألن يخطر لأي منهم أبدا شيء جديد ليقوله؟ آه، يا له من مكان، ويا لهم من ناس! أي حضارة هذه! حضارة آثمة قائمة على الويسكي و«بلاكوودز» وصور «الجرو بونزو»! فليرحمنا الرب، فكلنا جزء منها.
لم ينبس فلوري بكلمة من هذا، وكابد بعض الآلام لكيلا يظهر على وجهه. وقف بجوار مقعده، متنحيا قليلا عن الآخرين، بنصف ابتسامة مثل رجل لا يثق في محبة الناس له قط.
وقال: «أخشى أنني سأضطر للمغادرة. للأسف، علي القيام ببعض الأمور قبل الإفطار.»
قال ويستفيلد: «ابق وتناول شرابا آخر يا رجل. ما زال الوقت مبكرا. فلتحتس الجين. سيفتح شهيتك.» «لا، شكرا، لا بد أن أذهب. هيا يا فلو. إلى اللقاء يا سيدة لاكرستين. إلى اللقاء جميعا.»
قال إليس بمجرد اختفاء فلوري: «خرج واشنطن بووكر، صديق الزنوج.» كان من المألوف دائما أن يقول شيئا بغيضا عن أي شخص بمجرد أن يغادر الحجرة. «أعتقد أنه ذهب لمقابلة اللزج جدا. أو تسلل تجنبا لسداد قيمة المشروبات.»
قال ويستفيلد: «إنه ليس شخصا سيئا. يقول بعض الأشياء المتشددة أحيانا. لكن لا أظنه يعنيها تماما.»
قال السيد ماكجريجور: «شخص طيب جدا بالتأكيد.» أي أوروبي في الهند هو شخص طيب، بحكم عمله، أو بالأحرى بحكم لونه، حتى يرتكب أمرا شديد الفظاعة. إنها مرتبة شرفية. «إنه شديد التطرف بالنسبة إلي. فأنا لا أطيق أي شخص يرافق أهل البلد. لا عجب أنه حصل على مسحة من فرشاة القطران هو نفسه. فهذا يفسر تلك العلامة السوداء التي على وجهه. ذلك الأبقع. ويبدو كشخص رعديد، بذلك الشعر الأسود، وبشرته الصفراء كالليمون.»
سرت بعض النميمة العابرة حول فلوري، لكن ليست كثيرة، لأن السيد ماكجريجور لم يكن يهوى النميمة. مكث الأوروبيون طويلا في النادي بما يكفي لاحتساء دور آخر من الشراب. وحكى السيد ماكجريجور حكايته عن بروم، التي من الجائز أن ترد في أي سياق تقريبا. ثم ارتدت المحادثة إلى الموضوع القديم الذي لا يمل أبدا؛ وقاحة أهل البلد، وتراخي الحكومة، والأيام الخوالي الحلوة حين كان الراج البريطاني في عزه وبرجاء إعطاء حامله خمس عشرة جلدة. لم يكن هذا الموضوع ينسى طويلا، بسبب هوس إليس به من ناحية. كما أنه من الممكن عذر الأوروبيين كثيرا على تذمرهم؛ فالعيش بين الشرقيين والعمل معهم يحتاج صبر أيوب. وكانوا جميعا، وبوجه خاص المسئولين الرسميين، يعرفون معنى أن يستفزوا ويسبوا. فكان كل يوم تقريبا، حين يسير ويستفيلد أو السيد ماكجريجور أو حتى ماكسويل في الشارع، ويمرون بصبية المدرسة الثانوية، تقابلهم السخرية على وجوههم الشابة الصفراء - وجوه ناعمة مثل العملات الذهبية، مفعمة بالاحتقار المزعج المطبوع على الوجه المنغولي - وأحيانا تعلو أصواتهم خلفهم بضحكات مثل صوت الضباع. لم تكن حياة المسئولين الإنجليز في الهند شهدا خالصا. فربما كان لهم الحق في أن يكونوا بغضاء قليلا وهم يعيشون في معسكرات خالية من أسباب الراحة، ومكاتب شديدة الحر، وبيوت مسافرين معتمة تفوح منها رائحة الغبار والنفط الخام.
كانت الساعة تقترب من العاشرة، وصار الحر فوق الاحتمال. تجمع على وجوه الجميع، وعلى سواعد الرجال العارية قطرات راكدة وشفافة من العرق. وراحت بقعة رطبة على ظهر سترة السيد ماكجريجور الحريرية تزداد حجما. بدا كأن الوهج بالخارج تخلل بطريقة ما الأستار الخضراء التي غطت النوافذ، ليصيب عيون الجميع بالألم ويملأ رءوسهم بالخمول. صار كل منهم يفكر بفتور في إفطاره الدسم، وفي الساعات الطويلة المملة المقبلة. وقف السيد ماكجريجور وعدل وضع نظارته، التي انزلقت على أنفه المتعرق.
ثم قال: «من المؤسف أن ينتهي هذا التجمع المرح. لكن لا بد أن أعود إلى المنزل من أجل الإفطار. هموم الإمبراطورية. هل سيذهب أحد في طريقي؟ السائق في الانتظار مع السيارة.» قالت السيدة لاكرستين: «أكون شاكرة إذا أخذتني أنا وتوم. كم هو مريح ألا نضطر إلى السير في هذا القيظ!»
وقف الآخرون. مط ويستفيلد ذراعيه وتثاءب من أنفه وقال: «أعتقد أنه من الأفضل الإسراع. سوف أنام إن جلست هنا أكثر من ذلك. تذكرت أنني سأظل أتصبب عرقا في ذلك المكتب طوال النهار! والسلال المليئة بالأوراق. يا إلهي!»
قال إليس: «لا ينس أحد منكم التنس هذا المساء. وأنت يا ماكسويل، أيها الوغد الكسول، إياك أن تتهرب من اللعب مرة أخرى. لتأت بمضربك في الساعة الرابعة والنصف تماما.»
قال السيد ماكجريجور بذوق باللغة الفرنسية لدى الباب: «تفضلي يا سيدتي.»
وقال ويستفيلد: «تقدم يا ماكدوف.»
وخرجوا إلى أشعة الشمس البيضاء المتقدة؛ حيث كانت الحرارة تتصاعد من الأرض مثل صهد الفرن، فيما توهجت الزهور، مجهدة ألوانها للعين، دون أن تهتز لها ورقة في لجة الشمس. كان الهجير يرسل كللا في العظام. كان ثمة شيء مريع فيه؛ مريع أن تتأمل تلك السماء الزرقاء المبهرة للبصر، في امتدادها المتواصل فوق بورما والهند، وفوق سيام، وكمبوديا، والصين، من دون غيمة ومن دون انقطاع. كان صفيح سيارة ماكجريجور المنتظرة ساخنا جدا للمس. كان النهار الخبيث في بدايته، الوقت الذي، كما يقول البورميون، «تسكن فيه الأقدام». فلم يكن كائن حي ليتحرك، باستثناء الرجال، وصفوف النمل الأسود، التي أثارتها الحرارة، فسارت مثل الشريط عبر الممر، والنسور عديمة الذيل التي ارتفعت في تيارات الهواء.
الفصل الثالث
انعطف فلوري يسارا خارج بوابة النادي ومضى في طريق السوق، تحت ظلال أشجار التين المجوسي. انبعث صوت الموسيقى من على بعد مائة ياردة؛ حيث كانت فرقة من رجال الشرطة العسكرية الهنود المهزولين في ملابس كاكي خضراء يسيرون عائدين إلى صفوفهم بينما كان يعزف أمامهم على مزمار القربة، صبي من الجوركا. كان فلوري ذاهبا لرؤية الدكتور فيراسوامي. كان منزل الدكتور عبارة عن كوخ طويل من الخشب المدهون بالنفط الخام، قائم على ركائز، بحديقة كبيرة مهملة متاخمة لحديقة النادي. كان ظهر المنزل مطلا على الطريق؛ حيث يقابل المستشفى، القائم بينه وبين والنهر.
مع دخول فلوري المجمع تصاعدت صرخة ذعر من النساء وهرولة داخل المنزل. بدا واضحا أنه كان قد أوشك أن يرى زوجة الطبيب. دار لمقدمة المنزل وهتف إلى الشرفة قائلا: «أيها الطبيب! هل أنت مشغول؟ هل من الممكن أن أصعد؟»
برز من داخل المنزل الدكتور، بهيئة ضئيلة جمعت بين الأبيض والأسود، مثل عفريت العلبة. وهرع إلى درابزين الشرفة، هاتفا بانفعال: «من الممكن أن تصعد! بالطبع، بالطبع، اصعد في الحال! كم تسرني رؤيتك يا سيد فلوري! فلتصعد، فلتصعد. ما الشراب الذي تود تناوله؟ لدي ويسكي وجعة ونبيذ فيرموث ومشروبات أوروبية أخرى. كم كنت أتوق لبعض الحديث الراقي يا صديقي العزيز.»
كان الطبيب رجلا ضئيلا أسود ممتلئا ذا شعر متلبد وعينين ساذجتين مستديرتين. كان يرتدي نظارة ذات إطارين من الصلب، وبذلة بيضاء من قماش الدريل القطني غير مناسبة في مقاسها، بسروالها المتهدل مثل آلة الكونسرتينا، على حذاء برقبة أسود رديء. وكان صوته متحمسا ومتدفقا، مصفرا حروف السين. أثناء صعود فلوري السلم، ارتد الطبيب لنهاية الشرفة وراح يقلب في صندوق ثلج كبير من الصفيح، مخرجا منه سريعا زجاجات مختلفة الأوصاف. كانت الشرفة واسعة ومعتمة، ذات حواف منخفضة تدلت منها سلال السراخس، مما جعلها تبدو مثل كهف وراء شلال من شعاع الشمس. وكانت مفروشة بمقاعد طويلة بقواعد من الخوص صنعت في السجن، ووضع في أحد جوانبها خزانة كتب تحتوي على كتب قليلة غير مشجعة بعض الشيء، أغلبها كتب مقالات، من نوعية كتب إميرسون وكارلايل وستيفنسون. فقد كان الطبيب قارئا نهما، يحب أن يكون للكتب ما يسميه «معنى أخلاقيا».
قال فلوري، فيما أجلسه الطبيب في الوقت ذاته على مقعد طويل، وأخرج له مسند الساقين حتى يتمكن من الاستلقاء، ووضع السجائر والجعة في متناوله: «حسنا يا دكتور، كيف الحال؟ كيف صارت الإمبراطورية البريطانية؟ مريضة بالشلل كالعادة؟» «نعم، حالتها متدهورة للغاية، متدهورة للغاية يا سيد فلوري! أصابتها مضاعفات خطيرة. تسمم الدم والتهاب الصفاق وشلل في العقد العصبية. أخشى أنه ينبغي علينا استدعاء المتخصصين. وا أسفاه!»
كان الرجلان اعتادا المزاح بالتظاهر بأن الإمبراطورية البريطانية مريضة عجوز لدى الطبيب. وما زال الطبيب على استمتاعه بالمزحة منذ عامين دون أن يتسرب إليه الملل منها.
قال فلوري مستلقيا على المقعد الطويل: «يا لها من متعة أن أكون هنا بعد ذلك النادي اللعين، أيها الطبيب. حين آتي إلى منزلك أشعر كأنني قسيس منشق عن الكنيسة يتسلل إلى البلدة عائدا إلى منزله بعاهرة. يا لها من إجازة رائعة منهم جميعا ...» قال هذا مشيرا بكعبه في اتجاه النادي: «من رفاقي الأحباء بناة الإمبراطورية. الهيبة البريطانية وعبء الرجل الأبيض، السيد الأبيض الذي لا يخشى شيئا ويسمو فوق الشبهات. يا لها من راحة أن أبتعد عن ذلك العفن قليلا من الوقت!» «مهلا، مهلا يا صديقي، أرجوك! هذا فظيع! لا يمكن أن تقول تلك الأشياء عن السادة الإنجليز المحترمين!» «إنك لا تضطر إلى الإنصات إلى أولئك الرجال المحترمين وهم يتكلمون يا دكتور. لقد صبرت بقدر ما استطعت هذا الصباح. إليس وقوله «زنجي قذر»، ونكات ويستفيلد، وماكجريجور وعباراته اللاتينية وبرجاء إعطاء حامله خمس عشرة جلدة. لكن حين بلغوا قصة الهافيلدار العجوز؛ الهافيلدار العجوز الطيب الذي قال إنه إذا تركت بريطانيا الهند لن يتبقى هناك روبية أو عذراء بين ... كما تعلم؛ حسنا، لم أستطع الصبر أكثر من ذلك. لقد حان الوقت لوضع الهافيلدار العجوز في قائمة المتقاعدين. إنه ما فتئ يقول الشيء نفسه منذ اليوبيل الذهبي لاعتلاء الملكة فيكتوريا العرش عام 1887.»
ازداد غضب الطبيب، كدأبه حين ينتقد فلوري أعضاء النادي. كان واقفا مستندا بلباسه الأبيض المنتفخ إلى درابزين الشرفة، مستخدما الإشارات والإيماءات أحيانا. وكان عند بحثه عن كلمة يضم إبهامه وسبابته السوداوين، كأنه يلتقط فكرة طارت في الهواء.
قال الطبيب: «لكن حقا، حقا يجب ألا تتحدث هكذا يا سيد فلوري! لماذا تديم إهانة السادة البيض، كما تدعوهم؟ إنهم ملح الأرض. فلتنظر إلى الأشياء العظيمة التي فعلوها. فلتنظر إلى الحكام العظام الذين جعلوا الهند البريطانية ما صارت إليه. فلتنظر كلايف ووارين هيستينجز ودالهاوزي وكيرزن. كانوا رجالا - سأقتبس من أديبكم الخالد شكسبير - من أفضل الرجال من جميع الوجوه، وهيهات أن نرى لهم مثيلا مرة أخرى!» «حسنا، هل تود أن ترى مثيلا لهم مرة أخرى؟ أنا لا.» «وانظر كم هو نبيل السيد الإنجليزي! ووفاء بعضهم العظيم لبعض! روح المدرسة الحكومية! وحتى الذين سلوكهم مؤسف منهم - إذ أتفق معك أن من الرجال الإنجليز من هم متغطرسون - يتمتعون بالخصال الممتازة التي نفتقر إليها نحن الشرقيين؛ فخلف مظهرهم الصارم، قلوب من ذهب.» «هلا قلنا إنه ذهب قشرة؟ يوجد نوع من المودة الزائفة بين الإنجليز وهذا البلد . فهي عادة أن نتنادم على الشراب معا ونتشارك الطعام ونتظاهر بأننا أصدقاء، مع أن كلا منا يكره الآخر كراهية السم. نسمي هذا تآزرا. إنه ضرورة سياسية. لا شك أن الشراب هو ما يجعل الوضع مستمرا. ولولاه لجن جنوننا وقتل كل منا الآخر في ظرف أسبوع. هناك موضوع من أجل كتاب المقالات مستنفري الهمم الذين تهواهم يا دكتور: الشراب باعتباره ملاط الإمبراطورية.»
هز الطبيب رأسه وقال: «لا أعلم حقا ما الذي جعلك بهذا التهكم يا سيد فلوري؟ إنه شيء غير لائق على الإطلاق! أن تتفوه أنت - السيد الإنجليزي ذو الملكات والشخصية الرفيعة - بهذه الآراء التحريضية اللائقة بجريدة «بورميز باتريوت»!»
قال فلوري: «تحريضية؟ لست محرضا. فلا أريد أن يطردنا البورميون من هذا البلد. حاشا لله! فإنني هنا لأكسب المال، مثلي كمثل أي شخص آخر. كل ما أعترض عليه هو خدعة عبء الرجل الأبيض الوضيعة. التظاهر بأنه سيد شريف. إنه شيء مضجر جدا. حتى أولئك الحمقى الملعونون الذين في النادي كانت صحبتهم ستصير أفضل لو لم نكن جميعا نعيش كذبة طوال الوقت.» «لكن ما هي الكذبة التي تعيشونها يا صديقي العزيز؟» «بالتأكيد كذبة أننا هنا لننهض بأشقائنا السود المساكين وليس حتى نسرقهم. أعتقد أنها كذبة فطرية تماما، لكنها تفسدنا، تفسدنا بطرق لا يمكنك تخيلها. إذ يعذبنا شعور دائم بأننا كاذبون ومخادعون ويدفعنا لتبرير أفعالنا ليلا ونهارا. وهو المسئول عن نصف تصرفاتنا الحيوانية مع أهل البلد. نحن الإنجليز المقيمين في الهند من الممكن احتمالنا فقط إن اعترفنا بأننا لصوص وواصلنا السرقة من دون أي خداع.»
ضم الطبيب سبابته وإبهامه بسرور بالغ، متهللا من سخريته، وقال: «حجتك ضعيفة يا صديقي العزيز، ويبدو أنها ضعيفة لأنكم لستم لصوصا.» «حسنا أيها الطبيب العزيز!»
استوى فلوري في جلسته على المقعد الطويل، بسبب طفحه الحراري الذي كان قد وخزه للتو في ظهره مثل آلاف الإبر من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن مناقشته المفضلة مع الطبيب أوشكت أن تبدأ. كانت هذه المناقشة، ذات الطبيعة السياسية نوعا ما، تجري كلما التقى الاثنان، وتعكس فيها الأدوار؛ إذ يصير الرجل الإنجليزي معاديا للإنجليز بشدة والهندي مخلصا لهم بتعصب. كان الدكتور فيراسوامي يكن إعجابا متقدا للإنجليز لم يوهنه ألف إهانة من رجال إنجليز. كان يؤكد بحماس قاطع أنه بصفته هنديا، ينتمي إلى عرق دنيء ومنحط. وكانت ثقته في العدالة البريطانية بالغة لدرجة أنه حتى حين يضطر للإشراف على عقوبة الجلد أو الشنق في السجن، كان يعود إلى منزله وقد استحال وجهه الأسود رماديا فيسكن أوجاعه بالويسكي، دون أن يفتر حماسه. وكانت آراء فلوري التحريضية تصدمه، لكنها كانت تمنحه كذلك نوعا من قشعريرة السعادة، كالتي تنتاب شخصا مؤمنا ورعا عند سماع الصلاة الربانية تردد بالعكس.
قال فلوري: «عزيزي الدكتور، كيف لك أن تتخيل أننا موجودون في هذا البلد لأي سبب آخر غير السرقة؟ الأمر غاية في البساطة. المسئولون يقيدون المواطن البورمي بينما يفتش رجال الأعمال جيوبه. هل تعتقد مثلا أن شركتي أو شركات الأخشاب الأخرى، أو شركات النفط، أو المنقبين عن المعادن وأصحاب المزارع والتجار كانوا سيستطيعون أن يحصلوا على عقود الأخشاب لو لم يكن البلد تحت سيطرة البريطانيين؟ كيف كانت رابطة تجار الأرز ستستمر في استغلال الفلاح التعيس الحظ لو لم تكن الحكومة تساندها؟ الإمبراطورية البريطانية هي مجرد وسيلة لمنح احتكارات تجارية للإنجليز - أو بالأحرى عصابات اليهود والأسكتلنديين.» «إنه لمن المؤسف أن أسمعك تتحدث هكذا يا صديقي. مؤسف حقا. تقول إنك هنا من أجل التجارة؟ إنك كذلك بالطبع. فهل يستطيع البورميون أن يتاجروا لأنفسهم؟ هل يستطيعون صنع آلات وسفن وسكك حديدية وطرق؟ إنهم بلا حيلة من دونكم. ماذا كان سيحدث لغابات بورما لو لم يكن الإنجليز هنا؟ كانت ستباع في الحال لليابان، التي كانت ستتلفها وتدمرها. إنها تتحسن حقا في أياديكم بدلا من ذلك. وفي نفس الوقت الذي ينمي فيه رجال أعمالكم مواردنا، يتولى المسئولون لديكم مهمة جعلنا متحضرين، ناهضين بنا لمستواكم، من أجل الصالح العام فحسب. إنه سجل رائع من التضحية بالذات.» «هراء يا عزيزي الطبيب. لكن أقر أننا نعلم الشباب احتساء الويسكي ولعب كرة القدم، فقط لا غير. انظر إلى مدارسنا، إنها مصانع لتخريج الكتبة الحقراء. لم نعلم الهنود ولو حرفة يدوية واحدة مفيدة قط. فإننا لا نجرؤ على هذا؛ خوفا من المنافسة في الصناعة. بل إننا قضينا على صناعات عديدة. فأين أقمشة الموسلين الهندي الآن؟ قرب الأربعينيات كانوا يبنون في الهند سفنا بحرية ويعملون عليها أيضا. أما الآن فلا تستطيع بناء قارب صيد صالح للإبحار هنا. كان الهنود في القرن الثامن عشر يسبكون أسلحة على المستوى الأوروبي بكل المقاييس. أما الآن وقد لبثنا مائة وخمسين عاما في الهند، لم يعد بإمكانك صنع ولو ظرف خرطوش من النحاس في القارة بأكملها. الأعراق الشرقية الوحيدة على الإطلاق التي تطورت سريعا هي الأعراق المستقلة. لن أذكر مثال اليابان، لكن انظر إلى حالة سيام ...»
لوح الطبيب بيده متحمسا. كان دائما ما يقاطع المناقشة عند هذه النقطة، لأنه كان يجد أن حالة سيام توقفه. «يا صديقي، يا صديقي، لقد نسيت الشخصية الشرقية. كيف كنا سنتطور ببلادتنا وخرافتنا؟ لقد جلبتم القانون والنظام على الأقل. العدالة البريطانية التي لا تحيد وهيمنة السلام البريطاني.» «بل الطاعون البريطاني يا دكتور، الطاعون البريطاني هو المسمى المناسب. ولمن هذا السلام على أي حال؟ المرابي والمحامي. لا شك أننا نحافظ على السلام في الهند من أجل مصلحتنا، لكن ما الذي ينتهي إليه كل هذا القانون والنظام؟ المزيد من البنوك والمزيد من السجون، هذا خلاصة الأمر.»
هتف الطبيب: «يا لها من تلفيقات بشعة! أوليست السجون ضرورية؟ وهل السجون هي كل ما أتيتمونا به؟ تأمل بورما أيام ثيبو بما ساد فيها من قذارة وتعذيب وجهل، ثم انظر حولك. فلتطل من هذه الشرفة فقط، انظر إلى ذلك المستشفى، وإلى تلك المدرسة على اليمين وقسم الشرطة ذلك. انظر إلى نهضة التقدم الحديث!»
قال فلوري: «إنني لا أنكر بالتأكيد أننا نطور هذا البلد في نواح معينة. فلا يمكن ألا نفعل هذا. بل وقبل أن نفرغ من هذا سنقضي تماما على الثقافة القومية البورمية. لكننا لا نجعلهم متحضرين، وإنما ننفض غبارنا عليهم. إلى أين ستؤدي نهضة هذا التقدم الحديث، كما تدعوها؟ فقط إلى حظيرتنا القديمة للجرامافونات والقبعات المستديرة. يخطر لي أحيانا أنه خلال مائتي عام كل هذا - أشار بقدمه نحو الأفق - كل هذا سيختفي؛ الغابات والقرى والأديرة والمعابد كلها ستختفي. وبدلا منها ستقام فلل وردية تبعد كل منها عن الأخرى خمسين ياردة؛ في جميع أنحاء التلال، وعلى مرمى البصر، فيلا بعد الأخرى، فيها كلها جرامافونات تصدر نفس اللحن. ستمحى كل الغابات من على الأرض، وتفرم إلى لباب خشب لطباعة جريدة «نيوز أوف ذا وورلد»، أو تنشر لصنع صناديق الجرامافونات. بيد أن الأشجار تثأر لنفسها كما يقول الرجل العجوز في مسرحية «البطة البرية». لقد قرأت أعمال إبسن بالطبع، أليس كذلك؟» «لا للأسف، يا سيد فلوري! إنه عبقري جبار كما قال عنه برنارد شو كاتبكم الملهم. يسرني ذكر سيرته. لكن ما لا تراه يا صديقي أن حضارتكم في أسوأ حالاتها تظل خطوة إلى الأمام بالنسبة إلينا. فالجرامافونات والقبعات المستديرة و«نيوز أوف ذا وورلد»، كلها أشياء أفضل من بلادة الشرقيين الكريهة. أرى البريطانيين، وحتى أقلهم ذكاء، بمثابة، بمثابة - راح الطبيب يبحث عن عبارة، حتى وجد واحدة ربما من ستيفنسون - بمثابة حاملي الشعلة على طريق التقدم.» «لا أراهم كذلك. أراهم نوعا من القمل المغرور النظيف المعاصر. يتسللون في أنحاء العالم لبناء السجون. يبنون سجنا ويسمون هذا تقدما.» أضاف بشيء من الندم: فالطبيب لن يدرك التشبيه. «حقا إنك تكرر موضوع السجون يا صديقي! فلتعترف أن هناك كذلك إنجازات أخرى لأهل بلدك. فإنهم ينشئون الطرق ويروون الصحاري، ويقضون على المجاعات، ويبنون المدارس، ويقيمون المستشفيات، ويكافحون الطاعون والكوليرا والجذام والجدري والمرض التناسلي.»
قاطعه فلوري قائلا: «الذي جلبوه بأنفسهم.»
فرد عليه الطبيب، متحمسا لنسب هذا التميز لأهل بلده، وقال: «لا يا سيدي! لا يا سيدي، الهنود هم من أدخلوا المرض التناسلي في هذا البلد. الهنود يدخلون الأمراض، والإنجليز يداوونها. هذه هي الإجابة على كل تشاؤمك وتحريضك.» «حسنا يا دكتور، إننا لن نتفق أبدا. الواقع هو أنك تهوى كل هذه الأمور المتعلقة بالتقدم الحديث، بينما أميل أنا إلى رؤية الفساد في الأمر. أعتقد أن بورما في أيام ثيبو كانت ستناسبني أكثر. وكما قلت من قبل، لو كان لنا تأثير تحضري، فهذا فقط من أجل بسط سيطرتنا على نطاق أكبر. لو لم يكن الأمر مجديا لكنا تخلينا عنه سريعا.» «ليس هذا رأيك يا صديقي. إن كنت تستنكر الإمبراطورية البريطانية بحق، ما كنت ستتحدث في الأمر سرا هنا. كنت ستجاهر به فوق أسطح المنازل. فإنني أعرف شخصيتك أكثر مما تعرفها أنت نفسك يا سيد فلوري.» «معذرة يا دكتور؛ إنني لا أحبذ المجاهرة من فوق أسطح المنازل. فليس لدي الشجاعة. إنما «أنصح باتباع سبيل السلام على وضاعته»، مثل بليال العجوز في «الفردوس المفقود»، فهذا آمن سبيل. في هذا البلد، إما أن تكون واحدا من السادة البيض المبجلين أو تموت. وإنني لم أتحدث مع أحد بصدق سواك منذ خمسة عشر عاما. إن أحاديثي هنا بمثابة صمام أمان؛ طقس سري لعبادة الشيطان، إذا فهمت ما أعني.»
في هذه اللحظة جاء من الخارج صوت نحيب بائس. كان ماتو العجوز، البواب الهندوسي الذي يحرس الكنيسة الأوروبية، واقفا في ضوء الشمس أسفل الشرفة. كان مخلوقا مسنا مصابا بالحمى، أقرب شبها إلى حشرة الجندب من الإنسان، تلفع بخرقة قذرة لا تزيد عن بضع بوصات مربعة. كان يقطن بالقرب من الكنيسة في كوخ مبني من صفائح الكيروسين المفرودة، من حيث كان يمضي مهرولا عند ظهور أحد الأوروبيين، ليحييه منحنيا ويشكو بعبارات ما حول مرتبه، الذي كان ثماني عشرة روبية شهريا. راح ماتو يرنو في مسكنة إلى الشرفة، وهو يدلك بيد جلد بطنه الشبيه بلونه بالوحل، وبيده الأخرى يؤدي حركة من يضع الطعام في فمه. تحسس الطبيب جيبه ورمى قطعة بأربعة آنات من فوق درابزين الشرفة. كان معروفا برقة قلبه، فكان كل الشحاذين في كياوكتادا يستهدفونه.
قال الطبيب، مشيرا إلى ماتو، الذي انحنى مثل الدودة وهو يتفوه بنحيب الامتنان: «انظر إلى تردي الشرق. انظر إلى ضعف أطرافه. إن ساقيه أنحف من ساعدي الرجل الإنجليزي. انظر إلى بؤسه وذله. انظر إلى جهله؛ جهل لا تراه في أوروبا إلا خارج دار المرضى العقليين. ذات مرة سألت ماتو عن عمره، فقال: «أعتقد يا سيدي أنني في العاشرة.» فكيف تدعي يا سيد فلوري أنكم لستم أسمى طبيعة من تلك المخلوقات؟»
قال فلوري وهو يلقي قطعة أخرى بأربع آنات من فوق السور: «مسكين ماتو العجوز، يبدو أن نهضة التقدم الحديث قد فاتته بطريقة ما. هيا يا ماتو، أنفقها على الشراب. لتنغمس في الفسق بقدر ما تستطيع. هذا كله يؤخر اليوتوبيا.» «حسنا يا سيد فلوري، أشعر أحيانا أن كل ما تقوله إنما هو لكي - ما هو التعبير؟ - تستدرجني. إنه حس الدعابة الإنجليزي. نحن الشرقيين لا نتمتع بحس دعابة، كما هو معروف.»
قال فلوري: «محظوظون. أما نحن فقد أهلكنا حس دعابتنا اللعين.» ثم تثاءب واضعا يديه خلف رأسه. كان ماتو قد ابتعد بخطوات متثاقلة بعد أن لفظ المزيد من الأصوات المعبرة عن الامتنان. «أعتقد أنه ينبغي أن أذهب قبل أن ترتفع الشمس اللعينة عاليا في الأفق. سيكون الحر بالغا هذا العام، أشعر به يتسلل إلى عظامي. حسنا يا دكتور، لقد طالت بنا المجادلة للغاية حتى إنني لم اسألك عن الأخبار. لقد وصلت من الغابة بالأمس فقط، وعلي أن أعود بعد غد. لا أعلم ما إذا كنت سأفعل. هل وقع أي شيء في كياوكتادا؟ أي فضائح؟»
بدت الجدية على الطبيب بغتة، وخلع نظارته، فصار وجهه شبيها بوجه كلب ريتريفر أسود، بعينيه السوداوين اللامعتين. أشاح ببصره، وتحدث بنبرة أكثر ترددا عن ذي قبل بقليل. «في الواقع، ثمة مسألة غير سارة على الإطلاق مقبلة يا صديقي. قد تثير ضحكك - فهي تبدو هينة - لكنني في مشكلة خطيرة. أو بالأحرى معرض لمشكلة. إنها مسألة سرية. أنتم الأوروبيون لن تعلموا بها أبدا مباشرة. في هذا المكان - أشار بيده في اتجاه البازار - تحاك باستمرار مؤامرات ودسائس لا تسمعون بها، لكنها تعني لنا الكثير.» «ماذا حدث إذن؟» «ثمة مكيدة تدبر ضدي، هذا ما في الأمر. مكيدة شديدة الخطورة الهدف منها تشويه سمعتي والقضاء على مستقبلي المهني. لن تفهم هذه الأشياء لأنك رجل إنجليزي. لقد أثرت عداوة رجل ربما لا تعرفه، يو بو كين، قاضي المركز. إنه من أخطر الرجال، والأذية التي يستطيع إلحاقها بي تفوق الحصر.» «يو بو كين؟ من هذا؟ ذكرني به.» «الرجل الضخم البدين ذو الأسنان الكثيرة. يقع منزله آخر الطريق، على بعد مائة ياردة.» «ذلك الوغد البدين؟ أعرفه جيدا.»
هتف الطبيب بحمية شديدة: «كلا، كلا، يا صديقي، لا، لا! لا يمكن أن تكون على معرفة به. فلا يمكن أن يعرفه إلا الشرقيون. فلا يمكنك، وأنت سيد إنجليزي، أن تنحدر بعقليتك لمستوى عقلية يو بو كين. إنه أكثر من مجرد وغد، إنه ... ماذا أقول؟ الكلمات تتوه مني. إنه يذكرني بتمساح في شكل إنسان. فهو لديه خبث التمساح، وقسوته ووحشيته. لو عرفت تاريخ ذلك الرجل! الفظائع التي ارتكبها! ما جناه من جرائم الابتزاز والرشاوى! الفتيات اللواتي أرداهن، باغتصابهن أمام عيون أمهاتهن! لا يمكن للسيد الإنجليزي النبيل أن يتخيل تلك الشخصية. وهذا هو الرجل الذي أقسم أن يدمرني.»
قال فلوري: «لقد سمعت الكثير عن يو بو كين من مصادر متعددة. يبدو نموذجا للقاضي البورمي. أخبرني أحد البورميين أن يو بو كين كان يجند الأفراد أثناء الحرب، وأنه كون كتيبة من أبنائه غير الشرعيين، هل هذا صحيح؟»
قال الطبيب: «هذا أمر مستبعد، فلم تكن أعمارهم مناسبة آنذاك. لكن ما من شك في خسته. أما الآن فقد عقد العزم على تدميري، فهو يكرهني لأنني أعرف عنه الكثير جدا، من ناحية؛ كما أنه غريم أي شخص نزيه سوي. وسوف يلجأ - كما هي عادة أولئك الرجال - إلى الافتراء. سوف ينشر عني التقارير، تقارير بتفاصيل بالغة الفظاعة والكذب. لقد شرع في الأمر بالفعل.» «لكن هل من الممكن أن يصدق أي أحد شخصا مثله ضدك؟ فليس سوى قاض دنيء. أما أنت فمسئول كبير.» «إنك لا تفهم المكر الشرقي يا سيد فلوري. لقد قضى يو بو كين على مسئولين أعلى مني شأنا. سوف يجد سبلا لجعل الناس تصدقه. ولهذا ... آآ! إنها مسألة مستعصية!»
ذرع الطبيب الشرفة جيئة وذهابا مرة أو مرتين، وهو يمسح نظارته بمنديله. بدا جليا أن ثمة شيئا آخر منعته اللياقة من قوله. للحظة بدا اضطراب شديد على سلوكه حتى إن فلوري ود أن يسأل ما إذا كان بمقدوره المساعدة بطريقة ما، لكنه لم يسأل، فقد كان يعلم عدم جدوى التدخل في نزاعات الشرق. فلم يسبق لأي أوروبي قط أن سبر أغوار هذه النزاعات؛ إذ إن هناك دائما شيئا مستغلقا على العقل الأوروبي، مؤامرة خلف المؤامرة، وخطة خلف الخطة. كما أن الابتعاد عن نزاعات أهل البلد هو واحد من المبادئ العشرة لأي سيد أوروبي في الشرق. هكذا قال فلوري بريبة: «ما هي المسألة المستعصية؟» «إنني فقط أخشى أنك ستضحك مني يا صديقي. لكن هذا ما في الأمر؛ لو كنت عضوا في النادي الأوروبي! ليتني كذلك! كم كان سيختلف موقفي حينئذ!» «النادي؟ كيف لهذا أن ينقذ موقفك؟» «الوجاهة هي أهم شيء في هذه الأمور يا صديقي. فلن يجاهر يو بو كين بالهجوم علي؛ لن يجرؤ على ذلك أبدا؛ لكنه سيقدح في ويغتابني. وما إذا كانت الناس ستصدقه أم لا هو أمر يتوقف بالكامل على موقفي مع الأوروبيين. هكذا تجري الأمور في الهند. إذا كان موقفنا جيدا نعلو؛ وإن كان سيئا نسقط. يمكن لإيماءة وغمزة إنجاز أكثر ما لا يمكن لألف تقرير رسمي إنجازه. وأنت لا تعلم الوجاهة التي يكتسبها الهندي بأن يكون عضوا في نادي أوروبي. فهو يصبح أوروبيا فعليا في النادي. لا يمكن لأي افتراء أن يمسه؛ فعضو النادي له قدسية.»
رنا فلوري ببصره بعيدا من فوق سور الشرفة، وكان قد نهض كأنه سيرحل. كان دائما ما يشعر بالخجل والضيق عند الاضطرار للاعتراف بينهما بأنه لا يمكن قبول الطبيب في النادي، بسبب لونه الأسود. إنه لأمر كريه أن يكون صديقك المقرب غير مكافئ لك اجتماعيا؛ لكنه شيء أصيل في هواء الهند نفسه.
قال: «ربما يختارونك في الجمعية العمومية التالية. لا أقول إنهم سيفعلون، لكنه ليس مستحيلا.» «أرجو يا سيد فلوري ألا تظن أنني أسألك أن ترشحني للنادي. حاشا لله! أعرف أن الأمر مستحيل عليك. إنما كنت أشير لأنني لو كنت عضوا في النادي، لكنت صرت في الحال حصينا.»
أمال فلوري قبعته دون إحكام على رأسه وغمز بعصاه فلو التي كانت نائمة أسفل المقعد. انتاب فلوري ضيق شديد؛ إذ كان يعلم أن بإمكانه في الغالب ضمان اختيار الدكتور فيراسوامي في النادي لو كان لديه الشجاعة لمواجهة بضع مشاحنات مع إليس. كما أن الطبيب كان صديقه على أي حال، بل يكاد يكون صديقه الوحيد في بورما. فقد دارت بينهما الأحاديث والمجادلات مائة مرة، وتناول الطبيب عشاءه في منزله، بل واقترح تقديم فلوري إلى زوجته، لكنها رفضت في ذعر، لكونها هندوسية ملتزمة. كما ذهبا في رحلات صيد معا؛ حيث تسلح الطبيب بأحزمة عريضة لحمل الطلقات وسكاكين صيد، وتسلق لاهثا التلال التي جعلتها أوراق الخيزران زلقة، وهو يطلق مسدسه على أي شيء. كان من الواجب عليه من باب اللياقة أن يدعم الطبيب. لكنه كان يعلم كذلك أن الطبيب لن يطلب منه أي دعم أبدا، وأن التحاق أي شرقي بالنادي سيسبقه مشاحنة كريهة. لا، إنه لا يستطيع خوض تلك المشاحنة! لم يكن الأمر يستحق. هكذا قال: «لأقول لك الحقيقة، لقد جرى حديث عن هذا الشأن. كانوا يتناقشون فيه هذا الصباح، وكان الشيطان الصغير إليس يدلي بعظته المعتادة عن «الزنجي النجس»؛ إذ كان ماكجريجور قد اقترح اختيار عضو من أهل البلد. أعتقد أنه تلقى أوامر بذلك.» «أجل، لقد سمعت بالأمر، تصلنا كل هذه الأخبار، وهذا ما وضع الفكرة في رأسي.» «من المقرر أن يطرح الأمر في الجمعية العمومية في يونيو. لا أعلم ماذا سيحصل، لكنه يتوقف على ماكجريجور، على ما أعتقد. سوف أعطيك صوتي، لكن لا أستطيع أن أفعل أكثر من ذلك. آسف، لكنني لا أستطيع فحسب. فلا تعلم المشاحنة التي ستنشأ. من المحتمل جدا أن يختاروك، لكنهم سيفعلون ذلك كواجب مكروه، رغم أنفهم . فلديهم هوس شديد بالحفاظ على هذا النادي أبيض تماما، حسب قولهم.» «بالطبع، بالطبع يا صديقي! أدرك ذلك تماما. حاشا لله أن تقع في مشكلة مع أصدقائك الأوروبيين بسببي. أرجوك، أرجوك ألا تتورط! مجرد معرفة كونك صديقي تفيدني أكثر مما تتخيل. الوجاهة يا سيد فلوري، إنها مثل البارومتر. في كل مرة ترى أثناء دخولك منزلي يرتفع الزئبق نصف درجة.» «حسنا، لا بد أن نحاول الحفاظ عليه مستقرا. أخشى أن هذا كل ما أستطيع أن أقدمه لك.» «حتى هذا كثير يا صديقي. ولذلك، ثمة شيء آخر سأحذرك منه، رغم أنك ستضحك، على ما أخشى. أنت نفسك لا بد أن تحذر من يو بو كين. احذر من التمساح! فمن المؤكد أنه سيهاجمك حين يعلم أنك تصادقني.» «حسنا يا دكتور. سآخذ حذري من التمساح. ولو أنني لا أعتقد أن باستطاعته أن يلحق بي أذى حقيقيا.» «سوف يحاول على الأقل، فأنا أعرفه. سيلجأ إلى تجريدي من أصدقائي. ومن المحتمل حتى أن يتجاسر على نشر افتراءاته عنك أيضا.» «عني؟ يا للعجب، لن يصدق أحد أي شيء يقال ضدي. إنني مواطن روماني. إنني رجل إنجليزي، فوق مستوى الشبهات تماما.» «رغم ذلك خذ حذرك من افتراءاته يا صديقي. لا تستهن به. فسوف يعرف السبيل لمهاجمتك. إنه تمساح، ومثل التمساح - ضم الطبيب سبابته وإبهامه متأثرا؛ إذ تختلط عليه التشبيهات أحيانا - مثل التمساح، يهاجم نقاط الضعف!» «هل تهاجم التماسيح نقاط الضعف دائما يا دكتور؟»
ضحك الرجلان، كانت الألفة بينهما قوية بما يسمح بالضحك أحيانا على إنجليزية الطبيب الغريبة. ربما كان الطبيب في أعماق قلبه محبطا قليلا أن فلوري لم يعده بترشيحه للنادي، لكنه كان يفضل الهلاك على البوح بذلك. وكان فلوري سعيدا لترك الموضوع، فهو موضوع مزعج لدرجة أنه تمنى لو أنه لم يثر قط. «حسنا، لا بد أن أذهب حقا يا دكتور. أودعك في حالة لم أرك مرة أخرى. أرجو أن تسير الأمور على ما يرام في الجمعية العمومية. ليس ماكجريجور شخصا سيئا، وأعتقد أنه سيصر على أن يختاروك .» «لنتمن هذا يا صديقي. فبهذا أستطيع مواجهة مائة يو بو كين، بل ألفا! إلى اللقاء يا صديقي، إلى اللقاء.»
عدل فلوري وضع قبعته على رأسه ومضى إلى منزله عبر الميدان الملتهب، لتناول إفطاره، الذي قضى الصباح الطويل من الشرب والتدخين والحديث على شهيته له.
الفصل الرابع
اضطجع فلوري نائما، عاريا إلا من سروال أسود فضفاض، على فراشه الذي بلله العرق. كان قد قضى النهار كله متعطلا. إذ كان يقضي نحو ثلاثة أسابيع من كل شهر في المعسكر، ويأتي لكياوكتادا بضعة أيام متواصلة، من أجل التعطل في المقام الأول، فقد كان لديه القليل جدا من الأعمال المكتبية ليقوم بها.
كان مخدع النوم حجرة كبيرة مربعة ذات جدران من الجص الأبيض، ومداخل مفتوحة، ومن دون سقف، وإنما عوارض عششت فيها طيور السنونو. ولم يكن بها من أثاث سوى فراش بأربعة أعمدة، بناموسية مطوية مثل فسطاط، ومنضدة من الخوص ومقعد ومرآة صغيرة؛ وكذلك بعض من رفوف الكتب البدائية الصنع، ضمت مئات عديدة من الكتب، أصابتها فصول ممطرة عدة بالعفن وغربلتها حشرات السمك الفضي. وتشبث بالجدار برص، مستويا بلا حراك كأنه شعار تنين. وراء حواف الشرفة انهمر الضوء كأنه زيت أبيض رقراق. وفي إحدى أدغال الخيزران ظلت بعض الحمامات تطن طنينا رتيبا، تماشى على نحو غريب مع الحر صوت يبعث على النوم، لكنه النوم تحت تأثير الكلوروفورم لا بفعل تهويدة.
وعلى بعد مائتي ياردة، في كوخ السيد ماكجريجور، طرق أحد البوابين أربع طرقات على جزء من قضيب حديدي، كأنه ساعة حية. أيقظ هذا الصوت، كو سلا، خادم فلوري، فذهب إلى المطبخ الخارجي ونفخ في جذوات الحطب، وغلى البراد من أجل الشاي. ثم وضع عصابة رأسه الوردية وقميصه الموسلين وأحضر صينية الشاي إلى جانب فراش سيده.
كو سلا (اسمه الحقيقي مونج سان هلا؛ كو سلا كان اختصارا) كان بورميا، مربع المنكبين، ريفي المظهر، ذا بشرة داكنة جدا وتعبير منزعج. وكان لديه شارب أسود ملتف لأسفل حول فمه، لكنه كان بلا لحية مطلقا مثل أغلب البورميين . وقد ظل خادم فلوري منذ يومه الأول في بورما. وكان أحدهما يكبر الآخر بشهر واحد. وقد عاش الاثنان صباهما معا، وهاما جنبا إلى جنب بحثا عن طيور الشنقب والبط، وجلسا معا في درايا في انتظار نمور لم تأت قط، وتقاسما متاعب ألف معسكر ومسيرة؛ وكان كو سلا يجلب لفلوري البغايا ويقترض له المال من المرابين الصينيين، ويحمله إلى الفراش وهو ثمل، ويعتني به في نوبات الحمى. كان كو سلا يرى فلوري ما زال صبيا لكونه أعزب؛ أما كو سلا فقد تزوج، وأنجب خمسة أطفال، وتزوج مرة أخرى وصار أحد الشهداء المغمورين لتعدد الزوجات. وشأن كل خدم العزاب، كان كو سلا كسولا وقذرا، لكنه كان مخلصا لفلوري. فلم يكن ليسمح لأي أحد غيره بخدمة فلوري على المائدة، أو حمل سلاحه، أو إمساك رأس مهره أثناء امتطائه له. وحين يعترضهما جدول أثناء سيرهما، كان يعبره حاملا فلوري فوق ظهره. وكان كو سلا ينزع للإشفاق على فلوري؛ لأنه كان يراه طفلا ويسهل خداعه من ناحية، وبسبب وحمته التي كان يراها شيئا مريعا من ناحية أخرى.
وضع كو سلا صينية الشاي على المنضدة بهدوء شديد، ثم دار إلى طرف الفراش ودغدغ أصابع فلوري؛ إذ كان يعلم عن تجربة أنها الطريقة الوحيدة لإيقاظ فلوري دون وضعه في مزاج سيئ. تقلب فلوري وسب ثم دس جبهته في الوسادة.
قال كو سلا: «لقد دقت الساعة الرابعة يا سيدي الكريم، وقد أتيتك بفنجاني شاي لأن المرأة قالت إنها آتية.»
كانت السيدة هي ما هلا ماي، عشيقة فلوري، وكان كو سلا يدعوها المرأة ليبدي استنكاره. لم يكن يستنكر على فلوري أن لديه عشيقة، وإنما كان غيورا من نفوذ ما هلا ماي في المنزل.
تساءل كو سلا: «هل سيلعب سيدي الكريم التنس هذا المساء؟»
قال فلوري بالإنجليزية: «لا؛ فالجو حار جدا. ولا أريد أن آكل أي شيء. خذ هذا الوسخ بعيدا وهات بعض الويسكي.»
كان كو سلا يفهم الإنجليزية جيدا جدا، وإن كان لا يستطيع التحدث بها. أحضر كو سلا زجاجة ويسكي، وكذلك مضرب تنس فلوري، الذي أسنده إلى الجدار المقابل للفراش بطريقة ذات مغزى. فقد كان التنس حسب اعتقاده طقسا غامضا فرضا على الرجال الإنجليز جمعاء، كما أنه لم يكن يحب أن يرى سيده متعطلا في المساء. دفع فلوري بعيدا بازدراء الخبز والزبد اللذين أحضرهما كو سلا، لكنه خلط بعض الويسكي في فنجان الشاي وشعر بتحسن بعد احتسائه. وكان قد خلد إلى النوم منذ الظهر، ويشعر بالألم في رأسه وكل عظامه، وبمذاق مثل الورق المحترق في فمه. لم يستمتع فلوري بوجبة واحدة منذ سنوات؛ فكل الطعام الأوروبي في بورما مقزز نوعا ما؛ الخبز عبارة عن شيء إسفنجي يختمر بخمر النخيل ومذاقه مثل خبز رخيص رديء، والزبد يأتي من صفيحة، وكذلك اللبن، إلا إذا كان السائل الرمادي الشبيه بالماء الذي لدى اللبان. بينما كان كو سلا يغادر الحجرة، سمع من الخارج صوت احتكاك خفين، وصوت فتاة بورمية عالي النبرة يقول: «هل سيدي مستيقظ؟»
قال فلوري بمزاج متعكر بعض الشيء: «ادخلي.»
دخلت ما هلا ماي وهي تخلع خفيها المدهونين بورنيش أحمر في المدخل. كان مسموحا لها أن تأتي للشاي، كامتياز خاص، لكن ليس لوجبات أخرى، ولا أن ترتدي خفيها في حضرة سيدها.
كانت ما هلا ماي امرأة عمرها اثنان أو ثلاثة وعشرون، وطولها ربما خمس أقدام. كانت ترتدي إزارا من ساتان صيني أزرق فاتح مطرز وبلوزة من الموسلين الأبيض المنشى تدلت عليها عدة دلايات ذهبية. أما شعرها فقد لف في كعكة سوداء محكمة مثل الأبنوس، وزين بزهور الياسمين. كان جسمها الصغير المستقيم النحيل بلا تضاريس مثل نقش بارز على شجرة. كانت مثل الدمية، بوجهها البيضاوي الجامد بلون النحاس الجديد، وعينيها الضيقتين؛ دمية غريبة لكنها جميلة جمالا متنافرا. دخلت ودخل معها الحجرة رائحة خشب الصندل وزيت جوز الهند. ثم مضت ما هلا ماي إلى الفراش، وجلست على حافته، ووضعت ذراعيها حول فلوري على نحو مفاجئ بعض الشيء.
وقالت: «لماذا لم يرسل سيدي في طلبي هذا العصر؟» «كنت نائما. والجو حار جدا لمثل ذلك الأمر.» «هل تفضل إذن النوم بمفردك على النوم مع ما هلا ماي؟ كم تراني قبيحة إذن! هل أنا قبيحة يا سيدي؟»
فقال وهو يدفعها: «ارحلي. لا أريدك في هذا الوقت من اليوم.» «إذن فلتلمسني بشفتيك على الأقل (لا يوجد في اللغة البورمية كلمة مقابلة للقبلة) كل الرجال البيض يفعلون ذلك بنسائهم.» «ها هي إذن. الآن فلتتركيني لحالي. هاتي بعض السجائر وأعطيني واحدة.» «لماذا لا تريد مطارحتي الغرام هذه الأيام قط؟ كم كان الأمر مختلفا منذ سنتين! كنت تحبني في تلك الأيام. كنت تهاديني بالأساور الذهبية والأزر الحرير من ماندالاي. لكن الآن انظر - مدت ما هلا ماي ذراعها الصغيرة المغطاة بالموسلين - لا توجد أسورة واحدة. كان لدي ثلاثون الشهر الماضي، والآن كلها مرهونة. كيف يمكنني الذهاب إلى البازار من دون أساوري، مرتدية نفس الإزار مرة تلو الأخرى؟ أشعر بالخزي أمام النساء الأخريات.» «هل هو خطئي أنك ترهنين أساورك؟» «كنت ستستردها لي منذ عامين. آه، إنك لم تعد تحب ما هلا ماي!»
أحاطته بذراعيها ثانية وقبلته، وهي العادة الأوروبية التي علمها إياها. تصاعد منها خليط من روائح خشب الصندل والثوم وزيت جوز الهند والياسمين الذي في شعرها. كانت تلك الرائحة تجعل أسنانه ترتجف. شاردا بعض الشيء، دفع رأسها إلى الوسادة ونظر إلى وجهها الغض الغريب بوجنتيه المرتفعتين، وجفنيه المشدودين وشفتيه القصيرتين المتناسقتين. كانت أسنانها جميلة نوعا ما، مثل أسنان هرة صغيرة. كان قد اشتراها من أبويها منذ عامين، مقابل ثلاثمائة روبية. بدأ يداعب عنقها البني، البازغ مثل غصن ناعم رفيع من بلوزتها التي بلا ياقة.
قال لها: «إنني أروقك فقط لأنني رجل أبيض ولدي مال.» «إنني أحبك يا سيدي. أحبك أكثر من أي شيء في العالم. لماذا تقول ذلك؟ ألم أكن دوما مخلصة لك؟» «بل لديك حبيب بورمي.» «أف!» اصطنعت ما هلا ماي القشعريرة من الفكرة، «لا أتخيل أن تلمسني أياديهم البنية الكريهة! سأموت لو لمسني أحد البورميين!» «كاذبة.»
وضع يده على ثديها. في خبيئة نفسها، لم تكن ما هلا ماي يروقها هذا، إذ كان يذكرها بوجود ثدييها - كان يفترض أن تكون المرأة البورمية المثالية بلا ثديين - استلقت ما هلا ماي وتركته يفعل بها ما يحلو له، بخضوع تام لكن بسعادة وابتسامة باهتة، مثل قطة تتيح لشخص أن يمسد على جسمها. لم تكن أحضان فلوري تعني لها شيئا (كان با بي، الأخ الأصغر لكو سلا، عشيقها سرا)، إلا أنها كانت تتألم بشدة حين يتجاهلها. في بعض الأحيان كانت تضطر لوضع أشربة الحب في طعامه. كانت تهوى تلك الحياة الفارغة للمحظية، وزياراتها لقريتها مرتدية كل زينتها، حيث كانت تستطيع التباهي بوضعها كزوجة رجل أبيض؛ فقد كانت أقنعت الجميع، بما فيهم نفسها، بأنها زوجة فلوري الشرعية.
حين فرغ فلوري منها أدبر عنها، منهكا وخجلا، واستلقى صامتا تغطي يده اليسرى وحمته. كان دائما ما يتذكر وحمته حين يقدم على شيء يخجل منه. دس وجهه باشمئزاز في الوسادة، التي كانت رطبة وتفوح منها رائحة زيت جوز الهند. كان الحر رهيبا، والحمام بالخارج لا يزال على هديله الرتيب. اضطجعت ما هلا ماي عارية بجانب فلوري، وجعلت تهوي عليه برقة بمروحة من الخوص أخذتها من على المنضدة.
ما لبثت أن نهضت وارتدت ملابسها، وأشعلت سيجارة. ثم عادت للفراش وجلست وراحت تمسد كتف فلوري العاري. كان بياض بشرته يبهرها، بسبب غرابته والإحساس بالنفوذ الذي يمنحها إياه. هز فلوري كتفه ليبعد يدها؛ إذ كانت في هذه الأوقات تصير مثيرة للغثيان وكريهة له، فلم يرغب إلا في إبعادها عن ناظريه.
قال لها: «ارحلي.»
أخذت ما هلا ماي السيجارة من فمها وحاولت أن تناوله إياها، وقالت: «لماذا دائما يشتد الغضب بسيدي مني بعد أن يطارحني الغرام؟»
أعاد قوله: «ارحلي.»
واصلت ما هلا ماي تمسيد كتف فلوري. لم تتعلم أبدا الحكمة في تركه وحيدا في هذه الأوقات. كانت تعتقد أن الخلاعة نوع من الشعوذة التي تمنح المرأة قوى سحرية للسيطرة على الرجل، حتى تستطيع في نهاية الأمر أن توهنه فيصير عبدا شبه أبله. كل حضن بعد الآخر كان يستنزف إرادة فلوري ويجعل السحر أقوى؛ كان هذا اعتقادها. جعلت تزعجه ليعاودا الأمر. وضعت سيجارتها وأحاطته بذراعيها، محاولة تحويله ناحيتها وتقبيل وجهه الذي أشاح به عنها، وهي توبخه على بروده.
قال بسخط: «ارحلي، ارحلي! ابحثي في جيب سروالي القصير. يوجد به نقود. خذي خمس روبيات واذهبي.»
وجدت ما هلا ماي ورقة بخمس روبيات ودستها في صدر بلوزتها، لكنها ظلت دون أن تغادر. حامت حول الفراش، مسببة الإزعاج لفلوري حتى استبد به الغضب في النهاية ووثب واقفا. «اخرجي من هذه الحجرة! قلت لك أن تذهبي. لا أريدك هنا بعد أن أنتهي منك.» «يا له من أسلوب لطيف لمخاطبتي! إنك تعاملني كما لو كنت بغيا.»
قال لها وهو يدفع بها من كتفيها إلى خارج الحجرة: «إنك كذلك. لتخرجي من هنا.» ثم ركل خفيها وراءها، وهذه هي الطريقة التي كثيرا ما كانت تنتهي بها لقاءاتهما.
وقف فلوري في وسط الحجرة وهو يتثاءب. فهل يذهب إلى النادي للعب التنس على أي حال؟ لا، فهذا معناه أن يحلق، وهو لا يقوى على جهد الحلاقة قبل تجرع بضع كئوس من الشراب. تحسس ذقنه الخشن وسار متراخيا إلى المرآة ليتفحصه، لكنه تحول عنها بعد ذلك؛ إذ لم يرد أن يطالع الوجه النحيل الأصفر الذي كان سيبادله النظر. وقف بضع دقائق بأطراف مرتخية، يشاهد البرص وهو يتتبع عثة فوق أرفف الكتب. احترقت السيجارة التي رمتها ما هلا ماي برائحة لاذعة، وتحول الورق إلى اللون البني. تناول فلوري كتابا من على الرفوف، وفتحه ثم ألقاه في نفور. ليس لديه الطاقة حتى للقراءة. يا إلهي، يا إلهي، ماذا يفعل فيما تبقى من هذا المساء اللعين؟
دخلت فلو الحجرة تتهادى وتهز ذيلها طالبة الخروج في نزهة. دخل فلوري الحمام الصغير ذا الأرضية الحجرية المفضي إلى مخدع النوم، ونضح نفسه ببعض الماء الفاتر وارتدى قميصه وسرواله القصير. لا بد أن يمارس بعض النشاط قبل أن تغرب الشمس. في الهند يعد شرا نوعا ما أن تمضي يوما من دون أن تتصبب عرقا ولو مرة واحدة، فإنه شيء يعطي المرء شعورا بالخطيئة أقوى من ألف فاحشة. وفي المساء المعتم، بعد يوم من الخمول التام، يبلغ الملل بالإنسان ذروة من الجزع والرغبة في الانتحار. ملل يصير أمامه العمل والصلاة والكتب والشراب والحديث بلا جدوى؛ ولا يمكن التخلص منه إلا عرقا من مسام الجلد.
خرج فلوري واتخذ الطريق الصاعد إلى الغابة. كانت في بدايتها غابة من الأشجار الخفيضة، ذات شجيرات متقزمة كثيفة، والأشجار الوحيدة كانت أشجار مانجو شبه برية، تحمل ثمارا صغيرة بمذاق التربنتين وفي حجم البرقوق. ثم يتوغل الطريق بين أشجار أطول. كانت الغابة جافة وبلا حياة في هذا الوقت من العام. تراصفت الأشجار على الطريق في صفوف متلاصقة مغبرة، بأوراق لونها أخضر زيتوني باهت. وخلا المنظر من الطيور سوى بعض مخلوقات بنية سقيمة مثل طيور سمنة رثة الهيئة، راحت تتقافز طائشة تحت الشجيرات؛ ومن بعيد ندت عن طير آخر صيحة «آه ها ها! آه ها ها!» صوت خائر وحيد مثل رجع ضحكة. وانبعثت رائحة سامة شبيهة باللبلاب من أوراق شجر متهشمة. كان الجو ما زال حارا، مع أن الشمس كانت تفقد وهجها وأصبحت أشعتها المائلة صفراء اللون.
وبعد ميلين انتهى الطريق عند معبر جدول ضحل؛ حيث تزداد الغابة خضرة بسبب الماء، وتزداد الأشجار طولا. كان عند حافة الجدول شجرة بينكادو ضخمة ميتة زينتها زهور الأوركيد العنكبوتي، وكان كذلك بعض شجيرات ليمون برية بزهور شاحبة بيضاء، ذات عبق حاد مثل البرجموت. كان فلوري يسير سريعا وقد تخضل قميصه بالعرق وراح يتساقط منه، ويلسع عينيه. كان قد تصبب من العرق ما جعله في حالة مزاجية أفضل. كذلك كان مرأى الجدول دائما ما يبهجه؛ إذ كانت مياهه صافية تماما، وهو منظر نادر جدا في بلد موحل. عبر الجدول على أحجار، ووراءه فلو تنثر الماء، وانعطف إلى مسار ضيق كان يعرفه، يمر وسط الشجيرات، كانت الماشية قد صنعته عند ورودها الجدول للشرب، ومن سلكه من البشر كانوا قلة قليلة. وكان بعد خمسين ياردة يؤدي إلى بحيرة في اتجاه منبع الجدول، حيث تنمو شجرة تين مجوسي في هيئة شيء هائل ذي جذور داعمة سمكه ست أقدام، حبك من عدد لا يحصى من الخيوط الخشبية مثل كابل خشبي حبكه مارد. وقد صنعت جذور الشجرة كهفا طبيعيا، يخرخر الماء المخضر الصافي تحته. حجبت الأوراق الكثيفة الضوء من فوق ومن الجوانب، مما حول المكان إلى كهف جدرانه من أوراق الشجر.
خلع فلوري ملابسه ودلف إلى الماء الذي كان أبرد قليلا من الهواء، فصعد إلى عنقه حين جلس. وجاءت أسراب من سمك الماسير الفضي، لا يزيد حجمها عن حجم السردين، وراحت تتحسس جسمه وتقرصه. وكانت فلو قد ارتمت هي أيضا في الماء، وأخذت تسبح بهدوء، مثل القضاعة، بقدميها المكففتين. كانت تعرف البحيرة خير معرفة؛ إذ كانا كثيرا ما يأتيانها حين يكون فلوري في كياوكتادا.
كان ثمة حركة أعلى شجرة التين، وصوت بقبقة مثل صوت غليان القدور؛ إذ كان هناك سرب من الحمام الأخضر يأكل التوت. حدق فلوري في القبة الخضراء الهائلة للشجرة، محاولا العثور على الطيور؛ لكنها كانت غير مرئية؛ فقد تطابقت تماما مع الأوراق، بيد أنها أضفت حيوية على الشجرة كلها، التي تألقت كأن أشباح طيور كانت تهزها. استندت فلو إلى الجذور وجعلت تزمجر على الكائنات الخفية. ثم رفرفت حمامة خضراء واحدة وحطت على فرع منخفض، غير مدركة أن هناك من يراقبها. كانت عبارة عن شيء رقيق، أصغر حجما من الحمامة الأليفة، ذات ظهر أخضر مائل للزرقة في نعومة القطيفة، وعنق وصدر بألوان براقة. أما ساقاها فكانتا مثل الشمع الوردي الذي يستخدمه طبيب الأسنان.
تأرجحت الحمامة ذهابا وإيابا على الغصن، وهي تنفخ ريش صدرها وتضع عليه منقارها المرجاني. هنا شمل فلوري ألم ممض مفاجئ. وحيدا، وحيدا، يا لمرارة الوحدة! كثيرا ما كان يقابله في الأماكن الخالية من الغابة، شيء يفوق بهاؤه كل الكلمات، سواء طائر أو زهرة أو شجرة، فيتمنى لو كان معه نفس يشاركها إياه. فالجمال لا معنى له حتى تجد من يشاركك فيه. ليته كان لديه شخص واحد، واحد فقط، ليشاطره عزلته! وفجأة رأت الحمامة الرجل والكلبة في الأسفل، فانطلقت في الجو ومرقت سريعا مثل الرصاصة، وجناحاها يرفرفان. ليس من المألوف أن يرى المرء الحمام الأخضر بهذا القرب حيا. فهو من الطيور التي تحلق عاليا، وتعيش على قمم الأشجار، ولا تهبط إلى الأرض، وحين تهبط يكون للشرب فقط. حتى حين يطلق عليها النار، لا تموت في الحال، وإنما تتشبث بفروع الأشجار حتى تلقى حتفها، وتسقط بعد أن يكون الشخص قد يئس من الانتظار وابتعد بوقت طويل.
خرج فلوري من الماء، وارتدى ملابسه وأعاد عبور الجدول. لم يسلك الطريق لمنزله، وإنما اتخذ مسار مشاة متجها جنوبا إلى الغابة، ناويا الالتفاف والمرور من قرية واقعة على حدود الغابة غير بعيدة عن منزله. تقافزت فلو بين الشجيرات، صارخة أحيانا حين تعلق أذناها الطويلتان في الأشواك. كانت قد عثرت على أرنب بري ذات مرة هناك. سار فلوري على مهل، وقد تصاعد الدخان من غليونه مباشرة في ألسنة ساكنة. كان هانئا وشاعرا بالسلام بعد التمشية والمياه الصافية. وكان الجو قد صار أكثر برودة حينذاك، ما عدا بعض المواضع التي ظلت حارة أسفل الأشجار الأكثر كثافة، والضوء رقيقا. فيما ارتفع في سلام من بعيد صرير عجلات عربة يجرها ثور.
وما لبثا أن ضلا الطريق في الغابة، وشردا في متاهة من الأشجار الميتة والشجيرات المتشابكة. ثم بلغا طريقا مسدودا حيث اعترضتهما نباتات كبيرة قبيحة مثل نباتات دريقة متضخمة، انتهت أوراقها بسياط طويلة متسلحة بأشواك. وتوهجت يراعة بلون أخضر أسفل إحدى الشجيرات، فيما كان الشفق يغمر الأماكن الأكثر كثافة. وسريعا ما اقترب صرير عجلات العربة التي يجرها الثور، متخذة مسارا موازيا.
هتف فلوري، قابضا على طوق فلو لمنعها من الجري بعيدا، وقال: «مهلا، يا سيدي، يا سيدي!»
رد الرجل البورمي صائحا: «ماذا هناك؟» وتصاعد صوت وقع الحوافر وصياح الثيران. «لتأت أرجوك، أيها السيد العلامة المبجل! لقد ضللنا السبيل. فلتتوقف لحظة، يا بناء المعابد العظيم!»
غادر الرجل البورمي عربته وشق طريقه في الغابة، وهو يمزق النباتات المتسلقة بسيفه. كان رجلا مربوعا في منتصف العمر بعين واحدة، وقد قاد فلوري عائدا إلى المسار؛ حيث صعد إلى العربة المسطحة غير المريحة التي تجرها الثيران. تناول الرجل البورمي الزمام، وصاح في الثيران، ولكز منابت ذيولها بعصاه القصيرة، فانطلقت العربة محدثة صريرا بعجلاتها. كان سائقو عربات الثيران البورميون نادرا ما يشحمون محاور عجلاتهم، غالبا لاعتقادهم أن الصرير يبعد الأرواح الشريرة، مع أنهم عند سؤالهم يقولون إنهم فقراء جدا ليشتروا الشحم.
وقد مروا بمعبد خشبي مطلي بالجير، لا يعدو طوله قامة إنسان توارى نصفه وراء فروع النباتات المتسلقة. ثم دار المسار متجها إلى القرية التي احتوت على عشرين كوخا خشبيا متهالكا معرشا بالقش، وبئر أسفل بعض نخيل البلح الأجرد. كانت طيور البلشون الجاثمة على النخيل تتقاطر نحو أعشاشها فوق قمم الأشجار مثل ريش أبيض في سهام. وكان ثمة امرأة صفراء البشرة بدينة إزارها مشدود تحت إبطيها تطارد كلبا حول أحد الأكواخ، تضربه بساق خيزران وتضحك، والكلب أيضا يضحك بطريقته. كانت تلك القرية تسمى نيانجليبين؛ «شجرات التين المجوسي الأربع»، لكن لم يعد هناك أشجار تين مجوسي الآن، فربما قطعت ونسيت منذ قرن مضى. كان أهل القرية قد زرعوا شريطا ضيقا من الحقول يقع بين البلدة والغابة، وكانوا أيضا يصنعون عربات تجرها الثيران يبيعونها في كياوكتادا. لذلك تجد عجلات عربات الثيران متناثرة في كل مكان أسفل المنازل؛ أغراض ضخمة عرضها خمس أقدام، قطعت برامقها بلا دقة لكنها متينة.
نزل فلوري من على العربة ونفح السائق أربع آنات. هرعت بعض الكلاب الهجينة المخططة من أسفل المنازل لتتشمم فلو، وكذلك ظهر جمع من الأطفال العرايا ذوي الكروش بشعور معقوصة فوق رءوسهم، يحدوهم فضول إزاء الرجل الأبيض، لكن مع البقاء مبتعدين. كذلك خرج من منزله زعيم القرية، الذي كان عجوزا متغضنا بنيا بلون الورق، وراح يؤدي التحية بالجثو على الركبتين عدة مرات. جلس فلوري على سلم منزل الزعيم وأعاد إشعال غليونه. ولما كان عطشان، فقد سأل الزعيم: «هل المياه التي في بئركم صالحة للشرب يا أيها الزعيم؟»
أخذ الزعيم يفكر وهو يحك ربلة ساقه اليسرى بظفر الإصبع الأكبر في قدمه اليمنى، وقال: «أولئك الذين يشربونها، يشربونها. وأولئك الذين لا يشربونها، لا يشربونها يا سيدي.» «حسنا، تلك حكمة.»
جاءت السيدة البدينة التي كانت تطارد الكلب الضال بإبريق شاي من الفخار المسود ووعاء بلا يد، وأعطت فلوري بعض الشاي الأخضر الباهت، بمذاق دخان الحطب. «لا بد أن أرحل يا أيها الزعيم. شكرا على الشاي.» «ليصاحبك الرب يا سيدي.»
سلك فلوري لمنزله المسار المفضي إلى الميدان. كان الظلام قد حل، وكو سلا قد ارتدى قميصا نظيفا ولبث منتظرا في مخدع النوم. وكان قد سخن مياها للاستحمام في صفيحتي كيروسين، وأشعل مصابيح الجاز ووضع بذلة وقميصا نظيفين من أجل فلوري. كان القصد من الملابس النظيفة التلميح لفلوري بضرورة أن يحلق، ويرتدي ملابسه ويذهب إلى النادي بعد العشاء. كان فلوري أحيانا يمضي المساء في سروال فضفاض، متكاسلا على أحد المقاعد برفقة كتاب، وهي العادة التي كان كو سلا يستنكرها. فقد كان يبغض أن يرى سيده يسلك سلوكا مختلفا عن سائر الرجال البيض. ولم يكن رأي كو سلا يغيره أن فلوري كثيرا ما كان يرجع ثملا من النادي، بينما يظل مفيقا عند بقائه في المنزل؛ لأن السكر كان أمرا عاديا ومغفورا في الرجل الأبيض.
قال كو سلا مخبرا في سعادة، كما كان شأنه دائما حين تغادر ما هلا ماي المنزل: «لقد ذهبت المرأة إلى البازار. وقد ذهب با بي بمصباح ليراقبها حين تعود.»
قال فلوري: «حسنا.»
لقد ذهبت لإنفاق الروبيات الخمس، في المقامرة بلا شك. «حمام مولاي جاهز.»
قال فلوري: «انتظر، لا بد أن نولي الكلبة اهتمامنا أولا. هات المشط.»
جلس الرجلان القرفصاء على الأرض معا وراحا يمشطان فراء فلو الأملس ويتحسسان بين أصابعها، ليلتقطا القراد. كان لا بد من فعل هذا كل مساء؛ إذ كانت تلتقط أعدادا هائلة من القراد أثناء النهار، أشياء رمادية فظيعة تكون في حجم رءوس الدبابيس حين تحط عليها، ثم تتخم حتى تصير في حجم حبات البازلاء. ومع التقاط كل قرادة كان كو سلا يضعها على الأرض ويدهسها بحرص بإصبع قدمه الكبير.
حلق فلوري وتحمم وارتدى ملابسه، ثم جلس لتناول العشاء، حيث وقف كو سلا وراء مقعده، يناوله الصحون ويهوي له بالمروحة الخوص، وكان قد أعد وعاء بزهور الخطمي القرمزية في وسط المائدة الصغيرة. كانت الوجبة مبهرجة وقذرة. فقد كان الطهاة الماج المهرة، المنحدرون من خدم دربهم فرنسيون في الهند منذ قرون مضت، يستطيعون أن يفعلوا بالطعام أي شيء ما عدا أن يجعلوه قابلا للأكل. بعد العشاء سار فلوري إلى النادي، ليلعب البريدج ويثمل دون إفراط، كما كان دأبه في أغلب أمسياته في كياوكتادا.
الفصل الخامس
رغم الويسكي الذي كان قد احتساه فلوري في النادي؛ فقد نام قليلا تلك الليلة. كانت الكلاب الضالة تعوي على القمر الذي كان في طور التربيع وكاد يهبط إلى الأرض في منتصف الليل، لكن الكلاب ظلت نائمة طوال النهار في الحرارة، وبدأت جوقاتها للقمر بالفعل. وكان لدى أحد الكلاب ضغينة تجاه منزل فلوري، فاستقر به المقام ليعوي عليه بانتظام. إذ جلس على مؤخرته على بعد خمسين ياردة من البوابة، وراح يردد صيحات حادة غاضبة تتراوح من دقيقة لنصف دقيقة، في دقة الساعة. وكان يداوم على هذا الأمر طوال ساعتين أو ثلاث، حتى تبدأ الديكة في الصياح.
ظل فلوري يتقلب من جنب إلى جنب، شاعرا بألم في رأسه. قال أحد الحمقى إنه لا يمكن لأحد أن يكره حيوانا؛ لا بد أن يجرب المبيت بضع ليال في الهند، أثناء عواء الكلاب على القمر. في النهاية لم يستطع فلوري الصبر أكثر من ذلك، فنهض، وبحث في حقيبة المعدات العسكرية الصفيح أسفل فراشه عن بندقية وبعض الخراطيش، وخرج إلى الشرفة.
كان ضوء القمر في طور التربيع معقولا. استطاع فلوري أن يرى الكلب، واستطاع أن يرى مهدافه الأمامي. استند إلى العمود الخشبي للشرفة وصوب بحرص، لكنه جفل حين شعر بطرف البندقية المطاط المبركن الصلب على كتفه العاري. كانت البندقية ترتد بعنف حتى إنها كانت تخلف كدمة عند إطلاقها. انكمش لحم كتفه الرقيق وأنزل البندقية ؛ لم تواته الشجاعة لإطلاق النار بدم بارد.
لم يكن هناك فائدة ترجى من محاولة النوم. أخذ فلوري سترته وبعض السجائر، وراح يقطع ممشى الحديقة جيئة وذهابا، بين الزهور الباهتة. كان الجو حارا، وقد عثر عليه الناموس وراح يلاحقه بطنينه. وفي الميدان كانت أشباح الكلاب يلاحق كل منها الآخر. على اليسار لمعت شواهد قبور الجبانة الإنجليزية بلون أبيض باعثة على شيء من التشاؤم، ولاح على مرمى البصر في الجوار أكمة كانت أطلالا لقبور صينية قديمة. وكان يقال إن منحدر التل مسكون، فكان غلمان النادي يصرخون عند صعودهم الطريق ليلا.
راح فلوري يحدث نفسه قائلا: «وغد، وغد متخاذل.» لكن من دون انفعال، فقد كان معتادا على ذلك الخاطر. «وغد مخادع كسول سكير زان منكب على ذاته ومشفق عليها. كل أولئك الحمقى الذين في النادي، أولئك المغفلون البلداء الذين يسرك الاعتقاد بأنك أفضل منهم؛ كلهم أفضل منك، كلهم بلا استثناء، فإنهم على الأقل رجال بأسلوبهم الأبله. ليسوا جبناء ولا كاذبين. وليسوا نصف أموات ومتعفنين، لكن أنت ...»
وكان لديه حق في أن يكيل لنفسه الشتائم، فقد حدث أمر كريه وحقير في النادي ذلك المساء. شيء مألوف تماما، متسق كلية مع المعتاد، لكنه يظل حقيرا وجبانا ومخزيا.
حين بلغ فلوري النادي لم يكن هناك سوى إليس وماكسويل. أما آل لاكرستين فكانا قد غادرا إلى المحطة مستعيرين سيارة السيد ماكجريجور، لملاقاة ابنة الأخ، التي كانت ستصل في قطار الليل. كان الرجال الثلاثة يلعبون البريدج بالنظام الثلاثي يشملهم ود تام حين دخل ويستفيلد بوجهه الأصفر وقد تورد غضبا، حاملا نسخة من صحيفة بورمية باسم «بورميز باتريوت». كان بها مقال تشهيري، يهاجم السيد ماكجريجور. كانت ثورة إليس وويستفيلد عارمة؛ فقد استبد بهما الغضب حتى إن فلوري عانى أشد المعاناة في التظاهر بالغضب لإرضائهما. ظل إليس يصب اللعنات طوال خمس دقائق، ثم جزم في خطوة مفاجئة بأن الدكتور فيراسوامي هو المسئول عن المقال، بل خطرت له أيضا ضربة مضادة بالفعل، بأن يضعوا إعلانا على اللوحة - إعلانا يرد على الإعلان الذي كان السيد ماكجريجور قد نشره في اليوم السابق، ويناقضه - وكتبه إليس في الحال، بخطه الدقيق الواضح: «نظرا للإهانة الوضيعة التي وجهت مؤخرا إلى النائب المفوض، نود نحن الموقعين أدناه الإعراب عن رأينا بأن هذه أسوأ لحظة على الإطلاق لنظر مسألة انتخاب زنوج في النادي» ... إلخ.
اعترض ويستفيلد على كلمة «زنوج»، فشطبت بخط واحد رفيع وحل محلها «أهل البلد». جاء في توقيع الإعلان إمضاء: «آر ويستفيلد وبي دبليو إليس وسي دبليو ماكسويل وجيه فلوري.»
كان إليس سعيدا للغاية بفكرته حتى إن نصف غضبه تبخر. لن يحقق الإعلان في حد ذاته شيئا، لكن ستنتقل أخباره سريعا في أنحاء البلدة، وتصل إلى الدكتور فيراسوامي غدا. وبهذا يكون الدكتور نعت فعليا بالزنجي علنا في المجتمع الأوروبي. وكان هذا مما أسعد إليس؛ حتى إنه بالكاد استطاع أن يشيح بناظريه عن لوحة الإعلانات ما تبقى من المساء، وكان كل بضع دقائق يصيح بفرح: «ذلك سيلقن ذا الكرش الحقير درسا، أليس كذلك؟ سيجعل الوغد التافه يدرك رأينا فيه. هذه هي الطريقة لوضعهم في مكانهم الصحيح، ها؟» إلخ.
في الوقت ذاته، كان فلوري بذلك قد وقع على إهانة علنية في حق صديقه، وقد أقدم على هذا للسبب نفسه الذي جعله يفعل ألف شيء مماثل في حياته؛ لأنه كان يفتقر إلى ذرة الشجاعة اللازمة للرفض. فقد كان بإمكانه الرفض بالطبع إذا اختار ذلك؛ وبالطبع كذلك كان الرفض سيأتي بشجار مع إليس وويستفيلد. وآه، كم كان يمقت الشجار! الإزعاج وعبارات التهكم! كان مجرد التفكير في الأمر يجعله يرتد على عقبيه؛ فقد كان يواتيه شعور بجلاء وحمته على وجنته، وبشيء في حنجرته يجعل صوته رتيبا وشاعرا بإثمه. لكن كلا! من الأسهل أن يسب صديقه، مع علمه بأن صديقه سيسمع بالأمر حتما.
عاش فلوري خمس عشرة سنة في بورما، وفي بورما يتعلم المرء ألا يتخذ موقفا معاديا للرأي العام. بيد أن مشكلة فلوري كانت أقدم من ذلك؛ فقد بدأت وهو بعد في رحم أمه، حين وضعت الصدفة وحمة زرقاء على وجنته . جال بخاطره بعض الآثار المبكرة لوحمته. دخوله المدرسة لأول مرة وهو في التاسعة من العمر؛ نظرات التحديق، وما تلاها من صيحات الفتيان الآخرين بعد بضعة أيام؛ لقب ذا الوجه الأزرق، الذي استمر حتى جاء شاعر المدرسة (هنا تذكر فلوري ناقدا كتب مقالات جيدة نوعا ما في صحيفة «نيشن») ببيتي شعر قال فيهما:
الفتى الجديد فلوري يبدو مريبا؛ فوجهه يبدو بمؤخرة القرد شبيها.
وإثر ذلك تغير لقبه إلى مؤخرة القرد. وفي ليالي السبت في السنوات التالية اعتاد الصبية الأكبر سنا أن يقيموا ما أسموه محاكم التفتيش الإسبانية. وكان أسلوب التعذيب المفضل لدى أحدهم هو أن يحكم على الشخص قبضة موجعة جدا لم يخبرها سوى قلة من المستنيرين وتسمى «سبيشال توجو»، بينما يضربه شخص آخر بثمرة كستناء مربوطة بحبل. لكن فلوري كان قد قلل من وطأة «مؤخرة القرد» في نهاية الأمر. فقد كان كاذبا ولاعب كرة قدم ماهرا، وهما شيئان ضروريان جدا للنجاح في المدرسة. وفي الفصل الدراسي الأخير له شد مع فتى آخر قبضة «سبيشال توجو» على شاعر المدرسة بينما ضربه قائد فريق الكرة ست ضربات بحذاء الركض ذي المسامير لضبطه متلبسا بكتابة سوناتة. كانت تلك فترة تكوينية.
خرج فلوري من تلك المدرسة إلى مدرسة حكومية رخيصة من الدرجة الثالثة. وقد كانت مكانا فقيرا ورديئا، يحاكي المدارس الحكومية الكبرى في اتباع التقاليد الأنجليكانية ولعب الكريكيت ودراسة النصوص اللاتينية، وكان لديها أغنية مدرسية باسم «مباراة الحياة»؛ حيث يصور الرب على أنه الحكم الأكبر. بيد أنها كانت تفتقر إلى الفضيلة الرئيسية للمدارس الحكومية الكبرى؛ وهي أجواء دراسة الأدب. فقد كان الفتيان لا يتعلمون شيئا تقريبا. لم يكن عقاب الضرب بالخيزرانة هناك كافيا لجعلهم يبتلعون الهراء الكئيب في المناهج، ولم يكن المعلمون البؤساء ذوو الأجور القليلة من النوع الذي يتشرب منه الشخص الحكمة لا شعوريا. هكذا غادر فلوري المدرسة جلفا صغيرا همجيا. لكن حتى في ذلك الوقت كان يتمتع بصفات مبشرة، وكان يدرك ذلك؛ صفات قد تؤدي به إلى المتاعب بقدر ما يمكن أن تجنبه إياها. لكنه كبتها بالطبع. فلا يمكن لصبي أن يستهل حياته العملية بلقب مؤخرة القرد دون أن يتعظ.
لم يكن فلوري قد أتم العشرين حين جاء إلى بورما. فقد وجد له والداه، اللذان كانا من خيار الناس وكانا مخلصين له، مكانا في شركة أخشاب. وقد واجها صعوبة شديدة في العثور على وظيفة له ودفعا مبلغا باهظا يفوق قدراتهما؛ وقد كافأهما لاحقا بالرد على خطاباتهما بشخبطات يسطرها دون اكتراث كل عدة أشهر. قضى فلوري الأشهر الستة الأولى له في بورما في رانجون؛ حيث كان من المفترض أن يتعلم الجانب الإداري من عمله. وقد أقام في مسكن للعزاب مع أربعة شباب آخرين كانوا يكرسون طاقاتهم كلها للعربدة، وأي عربدة! فقد كانوا يسرفون في شرب الويسكي الذي كانوا يعافونه في قرارة أنفسهم، ويقفون حول البيانو ليصخبوا بأغان بذيئة وسخيفة لحد الخبل، ويبذرون الروبيات بالمئات على بغايا يهوديات مسنات بوجوه شبيهة بوجوه التماسيح. كانت تلك أيضا فترة تكوينية.
وذهب من رانجون إلى معسكر في الغابة، شمال ماندالاي، لاستخراج أشجار الساج. ولم تكن حياة الغابة سيئة، رغم المشقة والوحدة وما يكاد يكون أسوأ شيء في بورما؛ الطعام الملوث المتكرر. وقد كان صغيرا جدا آنذاك، صغيرا بما يكفي ليكون مغرما بمثل أعلى، وكان لديه أصدقاء من الرجال الذين في شركته. كان كذلك يمارس الرماية والصيد، وقد يذهب في رحلة سريعة إلى رانجون مرة سنويا؛ بحجة الذهاب إلى طبيب الأسنان. ويا لبهجة رحلات رانجون! حيث التهافت على مكتبة سمارت أند موكيردام من أجل الروايات الجديدة الواردة من إنجلترا، وتناول عشاء شرائح اللحم والزبد التي سافرت ثمانية آلاف ميل على الثلج في مطعم أندرسون، وجلسات الشرب الرائعة! كان صغيرا جدا ليدرك ما الذي كانت تعده له هذه الحياة. فلم ير السنوات وهي تتوالى موحشة وفاسدة وبلا أحداث.
تأقلم فلوري مع بورما وصار جسده متآلفا مع إيقاع المواسم المدارية الغريب. في كل عام من فبراير حتى مايو كانت الشمس تتوهج في السماء مثل إله غاضب؛ وفجأة تهب الرياح الموسمية غربا، في صورة عواصف عاتية في البداية، ثم أمطار غزيرة لا تنقطع تصيب كل شيء بالبلل حتى يبدو أن ملابس المرء لا تجف أبدا، ولا فراشه ولا حتى طعامه. بيد أن الجو كان يظل حارا حرارة خانقة معبأ ببخار الماء. وكانت مسارات الغابة السفلى تتحول إلى مستنقعات، وتصير حقول الأرز قفورا ممتلئة بمياه راكدة ذات رائحة آسنة مثل رائحة الفئران. وكان العفن يصيب الكتب والأحذية. ويأتي رجال بورميون عراة بقبعات عرضها ياردة مصنوعة من سعف النخيل ليحرثوا حقول الأرز، وهم يدفعون جاموسهم في مياه تصل حتى الركب. وبعد ذلك، تزرع النساء والأطفال شتلات الأرز الخضراء، فيغرسون كل نبتة في الطين بمذار صغيرة ذات ثلاث أصابع. وتهطل الأمطار لا تكاد تتوقف طوال شهري يوليو وأغسطس. ثم تأتي ليلة يسمع فيها صياح طيور غير مرئية، مرتفعا في الأفق؛ إذ تحلق طيور الشنقب جنوبا من وسط آسيا. وتتضاءل الأمطار حتى تنتهي في أكتوبر؛ فتجف الحقول، وينضج الأرز، ويلعب الأطفال البورميون الحجلة بحبوب الخيزران ويطيرون الطائرات الورقية في الرياح الباردة. تكون تلك بداية الشتاء القصير، حيث تبدو بورما العليا كأن أشباح إنجلترا سكنتها؛ تزدهر الزهور البرية في كل مكان، ليس مثل الزهور الإنجليزية تماما، لكن تشبهها إلى حد كبير؛ أجمة كثيفة من نبات صريمة الجدي، وورد حقلي برائحة حلوى قطرات الكمثرى، بل وزهور بنفسج في مناطق معتمة من الغابة. وتنخفض الشمس في السماء، ويصير البرد قارسا في الليل والصباح الباكر، مع تدفق ضباب أبيض في الوديان كأنه بخار منبعث من غلايات ضخمة. ويذهب الناس إلى صيد البط والشنقب. تتوفر طيور الشنقب بأعداد لا تحصى، وأسراب الإوز البري التي ترتفع من البركة مطلقة هديرا مثل قطار البضائع عند عبوره جسرا حديديا. ويبدو الأرز الناضج شبيها بالقمح، وقد بلغ مستوى الصدر وصار أصفر اللون. ويذهب البورميون إلى أعمالهم وقد غطوا رءوسهم وعقدوا أذرعهم فوق صدورهم، بوجوه صفراء قرصها البرد. في الصباح يسير المرء وسط خلاء أربد غير منسجم، وفسحات ابتلت حشائشها الشبيهة بالحشائش الإنجليزية، وأشجار جرداء جثمت القردة على فروعها العليا في انتظار الشمس. وفي المساء عند العودة إلى المعسكر عن طريق الممرات الباردة، تقابلك قطعان الجاموس والصبية يسوقونها إلى المنزل، وقرونها الضخمة تلوح في الضباب كأنها أهلة. كان الشخص يحصل على ثلاثة أغطية في فراشه، وفطائر من لحوم طيور الصيد بدلا من الدجاج الخالد. وبعد العشاء يكون الجلوس على جذع شجرة قرب نار المعسكر الهائلة، واحتساء الجعة، والحديث حول الصيد، بينما تتراقص ألسنة اللهب مثل نبات البهشية الأحمر، ملقية دائرة من الضوء على الطرف الذي قرفص عليه الخدم والعمال، يتملكهم حياء شديد من التطفل على الرجال البيض، لكنهم يتقربون إلى النار مثل الكلاب رغم ذلك. وعند الخلود للفراش كان بإمكان الشخص سماع تساقط الندى من الأشجار كأنه قطرات كبيرة من الأمطار لكنها رقيقة. كانت حياة طيبة والمرء شابا ولا حاجة به للتفكير في المستقبل أو الماضي.
كان فلوري في الرابعة والعشرين، وعلى وشك الذهاب إلى الوطن في إجازة، حين اندلعت الحرب. تهرب فلوري من الخدمة العسكرية، وهو ما كان أمرا سهلا ويبدو طبيعيا في ذلك الوقت. فقد كان المدنيون في بورما يعتنقون نظرية مطمئنة تفيد بأن «الالتزام بالوظيفة» هو أصدق أشكال الوطنية؛ حتى إنه كان ثمة عداء مستتر تجاه الرجال الذين تخلوا عن وظائفهم للالتحاق بالجيش. لكن الحقيقة هي أن فلوري تهرب من الحرب لأن الشرق كان قد أفسده بالفعل، ولم يرد أن يستبدل بالويسكي وخدمه وفتياته البورميات ضجر ساحة التدريب وإنهاك المسيرات القاسية. انقضت الحرب، مثل عاصفة وراء الأفق. أما البلد الحار الفوضوي، البعيد عن الخطر، فقد لفه شعور الوحيد المنسي. وأقبل فلوري على القراءة بنهم، وتعلم أن يعيش في الكتب حين تصير الحياة مضجرة؛ فقد صار راشدا، وفقد الاهتمام بالمتع الصبيانية، وتعلم أن يفكر لنفسه، تفكيرا يكاد يكون عشوائيا.
احتفل فلوري بعيد ميلاده السابع والعشرين في المستشفى وقد غطاه من رأسه لأخمص قدميه قرح بشعة تسمى قرح الوحل، لكنها كانت ناتجة غالبا عن الويسكي والطعام السيئ. وقد تركت في جلده ندبات صغيرة لم تختف قبل عامين. وعلى نحو مفاجئ تماما بدأ يشعر ويبدو عليه أن العمر قد تقدم كثيرا به. فقد انتهى شبابه؛ وتركت ثمانية أعوام من الحياة الشرقية والحمى والوحدة والشراب المتقطع بصمتها عليه.
ومنذ ذاك الوقت، ووحدته ووجده يزدادان كل عام عن العام الذي سبقه. كان الشيء الذي تركز في خواطره كلها الآن، والذي سمم كل شيء، شعور بالكراهية لا ينفك يزداد مرارة إزاء جو الإمبريالية الذي عاش فيه. فمع نمو عقله - لا يمكنك أن تمنع عقلك من النمو، وإنها لأحد مآسي أنصاف المتعلمين أن نموهم يأتي متأخرا، بعد أن يكونوا قد التزموا بالفعل بسبيل خطأ في الحياة - أدرك حقيقة الإنجليز وإمبراطوريتهم. إمبراطورية الهند البريطانية هي إمبراطورية مستبدة؛ خيرية لا شك، لكن تظل مستبدة وهدفها النهائي هو السرقة. أما إنجليز الشرق، السادة البيض، فقد صار فلوري يبغضهم لعيشهم في عالمهم، حتى إنه لم يكن قادرا بتاتا على أن ينظر إليهم بعدل. فلم يكن الأوغاد المساكين على أي حال أسوأ من أي شخص آخر. إذ كانوا يعيشون حياة لا يحسدون عليها؛ فإنها صفقة خاسرة أن تقضي ثلاثين عاما، بأجر بخس، في بلد غريب، ثم تعود إلى الوطن بكبد مدمر وكفل مثل قشرة ثمرة الأناناس من الجلوس على مقاعد من الخيزران، ليستقر به الحال شخصا مملا في أحد نوادي الدرجة الثانية. لكن من ناحية أخرى لا يمكن اعتبار السادة الأوروبيين في الشرق مثاليين. ثمة فكرة شائعة تفيد بأن الرجال الذين يعملون في «مواقع خارجية للإمبراطورية» هم رجال أكفاء ومجتهدون على أقل تقدير. وهذا وهم؛ فلا يوجد حاجة ماسة إلى مسئول بريطاني يؤدي عمله بكفاءة في الهند، خارج حدود الخدمات العلمية؛ إدارة الغابات وإدارة الأشغال العامة وما شابههما. والقليل منهم يعمل بنفس قدر اجتهاد مدير مكتب بريد إقليمي في إنجلترا أو بنفس فطنته. ويضطلع بالعمل الإداري الحقيقي في أكثره مرءوسون من مواطني البلد؛ العماد الحقيقي للاستبداد والطغيان ليسوا المسئولين وإنما الجيش. مع وجود الجيش يستطيع المسئولون ورجال الأعمال تدبر أمورهم بأمان حتى إذا كانوا حمقى، وإن أغلبهم لحمقى. شعب بليد مهذب يرعى بلادته ويدعمها من وراء ربع مليون حربة.
إنه عالم خانق باعث على الخمول لمن يحيا فيه؛ عالم تخضع فيه كل كلمة وكل فكرة للرقابة. إنه من الصعب حتى تخيل مثل ذلك الجو في إنجلترا. فالجميع أحرار في إنجلترا؛ نتنازل عن أرواحنا في العلن ونستردها في السر بين أصدقائنا. لكن حتى الصداقة يشق أن توجد وكل رجل أبيض هو ترس في آلة الاستبداد. حرية التعبير أمر محال، لكن كل أشكال الحرية الأخرى متاحة. لك حرية أن تكون سكيرا أو متعطلا أو رعديدا أو نماما أو زانيا؛ لكن ليس لك حرية التفكير لنفسك. رأيك في أي موضوع له أي قدر من الأهمية يمليه عليك قانون السادة البيض.
في نهاية المطاف يسممك تمردك السري مثل مرض مستتر. وتصير حياتك بأسرها حياة من الأكاذيب. عام تلو الآخر وأنت جالس في نواد صغيرة تسكنها روح كيبلينج، الويسكي إلى يمينك، والصحيفة الرياضية إلى يسارك، مصغيا للكولونيل بودجر وهو يصل إلى نظريته القائلة بضرورة غلي أولئك الوطنيين الملاعين في الزيت. وتسمع أصدقاءك الشرقيين وهم يدعون «أشخاص تافهون لزجون.» وتقر بأنهم أشخاص تافهون لزجون. وترى أجلافا أنهوا دراستهم للتو وهم يركلون خدما غزا المشيب شعرهم. ثم تأتي اللحظة التي تكتوي فيها بكراهيتك لأهل بلدك، حين تتوق لانتفاضة وطنية تغرق إمبراطوريتهم في الدم. وليس في هذا ما هو جدير بالاحترام، بل وبالكاد أي إخلاص. فلم تكترث في الأساس لاستبداد الإمبراطورية البريطانية، أو التنمر على الهنود واستغلالهم؟ إنك لا تكترث إلا لأنك محروم من الحق في حرية التعبير. إنك كائن قوامه الاستبداد، سيد أبيض، يربطك بنظام لا ينكسر من المحظورات، قيد أشد من الذي يربط الرهبان أو الهمج.
مر الزمن وفي كل عام يقل شعور فلوري بالألفة في عالم السادة البيض، ويصير أكثر عرضة للوقوع في المشكلات عند التحدث بجدية في أي موضوع أيا كان. ومن ثم فقد تعلم أن يعيش في باطنه، سرا، في الكتب والأفكار المضمرة التي لا يمكن التفوه بها. حتى في أحاديثه مع الطبيب كان نوعا ما يتحدث مع نفسه؛ فالطبيب، وهو رجل طيب، كان يفهم القليل مما يقال له. بيد أنه مما يفسد الإنسان أن يعيش حياته الحقيقية سرا. فلا بد للمرء أن يسير مع تيار الحياة، لا ضده. فمن الأفضل أن تكون من أبلد الأوروبيين في الهند الذين ارتادوا المدارس العامة وتأثروا وهم يرددون نشيد المدرسة بدلا من العيش صامتا وحيدا، تعزي نفسك في عوالم خفية عقيمة.
لم يعد فلوري لدياره في إنجلترا قط. أما السبب فلم يكن يستطيع شرحه مع أنه كان يعرفه جيدا. في البداية منعته الأحداث؛ في الأول كانت الحرب، وبعد الحرب عانت شركته من نقص شديد في المساعدين المدربين حتى إنها لم تسمح له بالسفر طيلة عامين. وأخيرا أعد العدة للسفر؛ كان يتوق إلى إنجلترا، مع أنه كان يتهيب مواجهتها، كما يتهيب الشخص مواجهة فتاة جميلة وهو بقميص من دون ياقة وبذقن غير حليقة. حين غادر الديار كان صبيا، صبيا واعدا ووسيما رغم وحمته؛ أما الآن، بعد عشر سنوات، فقد صار شاحبا ونحيلا وسكيرا، يكاد يكون كهلا سواء في عاداته أو في مظهره. لكنه كان يتوق إلى إنجلترا. مضت السفينة غربا وسط الخلاء في بحر مثل فضة لم يكمل الصائغ صقلها، من خلفها رياح الشتاء التجارية. ومع الطعام الطيب ورائحة البحر تدفقت دماء فلوري السقيمة سريعا في عروقه. وخطر له شيء كان قد نسيه فعلا في هواء بورما الراكد؛ أنه ما زال شابا ليبدأ من جديد. سوف يعيش عاما في مجتمع متحضر، وسوف يجد فتاة لا تبالي بوحمته؛ فتاة متحضرة، لا إحدى السيدات الأوروبيات اللواتي يعشن في الهند، وسوف يتزوجها ويصبران عشرة أو خمسة عشر عاما أخرى في بورما. وبعد ذلك سوف يتقاعدان، ربما ستقدر ثروته باثني عشر أو خمسة عشر ألف جنيه عند تقاعده. وسوف يشتريان كوخا في الريف، ويحيطان نفسيهما بالأصدقاء وأطفالهم والحيوانات. سيتحرران من رائحة السادة الأوروبيين في الهند إلى الأبد. وسوف ينسى بورما، البلد البشع الذي كاد أن يقضي عليه.
وحين بلغ كولومبو وجد برقية في انتظاره. كان ثلاثة رجال من شركته قد ماتوا بحمى البول الأسود. كانت الشركة آسفة، لكنها سألته أن يتفضل بالعودة إلى رانجون في الحال. فكان لا بد أن يستأذن ويغادر في أقرب فرصة ممكنة.
ركب فلوري القارب التالي إلى رانجون، وهو يلعن حظه، وأخذ القطار إلى مقره. لم يكن مقيما في كياوكتادا آنذاك، ولكن في بلدة أخرى في بورما العليا. كان كل الخدم في انتظاره على الرصيف. كان قد عهد بهم جميعا لخليفته في العمل، الذي مات. كان من العجيب جدا أن يرى سحناتهم المألوفة مجددا! من عشرة أيام فقط كان يحث المسير إلى إنجلترا، يكاد يشعر أنه في إنجلترا بالفعل؛ والآن عاد إلى المشهد الرتيب القديم، حيث العمال السود العرايا يتشاجرون على المتاع، ورجل بورمي يصيح في ثيرانه على الطريق.
تزاحم الخدم حوله، دائرة من الوجوه السمراء السمحة، يقدمون الهدايا. كان كو سلا قد أحضر جلد غزال السامبار، والهنود جاءوا بحلويات وإكليل من زهور القطيفة، وأهداه با بي، الذي كان صبيا صغيرا حينذاك سنجابا في قفص من الخوص. كان هناك عربات تجرها الثيران في انتظار الحقائب. سار فلوري إلى منزل، وقد بدا سخيفا والإكليل يتدلى حول عنقه. كان ضوء المساء البارد أصفر ورقيقا. وعند البوابة كان ثمة عجوز هندي يقطع الحشائش بمنجل صغير. وكانت زوجتا الطاهي والبواب جاثيتين على ركبتيهما أمام مساكن الخدم تطحنان معجون الكاري على لوح حجر.
طرأ شيء في قلب فلوري؛ كانت واحدة من تلك اللحظات التي يصير فيها المرء واعيا للتغير والتدهور الهائلين في حياته. فقد أدرك فجأة أنه كان سعيدا في أعماقه بعودته. فقد صار هذا البلد الذي أبغضه بلده الأصلي. لقد عاش هنا عشرة أعوام، وكانت كل ذرة في جسده ممزوجة بتراب بورما. كانت هذه المشاهد - الضوء الشاحب للمساء، والهندي العجوز وهو يقص الحشائش، وصرير عجلات العربات، وطيور البلشون المتدفقة - وما على غرارها أقرب إليه من إنجلترا. لقد ضرب بجذوره عميقا، ربما لأقصى درجة، في بلد أجنبي.
ومنذ ذلك الحين لم يتقدم حتى بطلب إجازة لزيارة الوطن. ومات أبوه، ثم أمه، وتزوجت أخواته، النساء الكريهات الشبيهات بالخيل اللواتي لم يحبهن قط، وقد فقد الاتصال بهن تقريبا. والآن لا يربطه بأوروبا رابط، ما عدا رابط الكتب؛ إذ كان قد أدرك أن مجرد العودة إلى إنجلترا ليس دواء لوحدته؛ فقد وعى الطبيعة الخاصة للجحيم المحفوظ للإنجليز الذين عاشوا في الهند. آه على المساكين! أولئك المحطمين الهرمين المتكلفين في حديثهم في باث وتشيلتنام! دور الإقامة تلك الشبيهة بالقبور التي يتناثر فيها الإنجليز الذين عاشوا في الهند وقد بلغوا درجات مختلفة من التحلل، يتحدثون ويتحدثون جميعا عما حدث في عام ثمانية وثمانين في إقليم بوجلي والا! يا لهم من أوغاد مساكين؛ فإنهم يدركون معنى أن تترك قلبك في بلد غريب ومكروه! وحينذاك، تراءى له جليا أن ثمة مفرا واحدا. وهو أن يعثر على شخص يقاسمه حياته في بورما، لكن يقاسمها عن حق، يقاسمه حياته السرية الداخلية، ويرحل من بورما حاملا نفس الذكريات التي يحملها. شخص يحب بورما كما أحبها ويمقتها كما مقتها. شخص يعينه على العيش من دون أن يخفي شيئا، أو لا يعبر عنه. شخص يفهمه؛ انتهى الأمر إلى أن يكون هذا الشخص صديقا.
صديق؟ أم زوجة؟ تلك الأنثى المستحيلة تماما. هل تكون واحدة مثل السيدة لاكرستين مثلا؟ إحدى السيدات الإنجليزيات البغيضات اللواتي يعشن في الهند، شاحبة ونحيلة، تثرثر بالنميمة وهي تحتسي الشراب، وتلح على الخدم، وتعيش عشرين عاما في البلد دون أن تتعلم كلمة من لغته. رباه، لا أريدها واحدة من أولئك.
استند فلوري إلى البوابة، وكان القمر يتوارى خلف جدار الغابة المعتم، لكن الكلاب ظلت تعوي. توارد على ذهنه بضعة سطور لجيلبرت، أغنية مبتذلة سخيفة لكنها مناسبة للحالة؛ شيء ما عن «التحدث حول حالتك الذهنية المعقدة». كان جيلبرت شخصا بغيضا حقيرا وموهوبا. هل تلخصت كل متاعبه ببساطة هكذا إذن؟ مجرد عويل معقد مخنث؛ أمور فتاة ثرية صغيرة مسكينة. ألم يكن إلا تنبلا يستغل فراغه ليتخيل متاعب خيالية ؟ السيدة ويتيترلي بطابع روحاني؟ هاملت من دون شعر؟ ربما. وإن كان كذلك، فهل هذا يجعل الأمر أكثر احتمالا على الإطلاق؟ بل إن الشعور بالمرارة لا ينقص لأنه من المحتمل أن يكون الخطأ خطأ الإنسان نفسه، أن يرى نفسه وهو ينجرف ويتردى في عار وعبث مريع، وهو يعلم طوال الوقت أن بداخله في مكان ما بادرة إنسان محترم.
حسنا، اللهم احفظنا من الشفقة على الذات! عاد فلوري إلى الشرفة، وتناول البندقية وصوبها على الكلب الضال بقليل من الجفول. تردد صدى عواء، وتوارت الرصاصة في الميدان، بعيدا جدا عن الهدف. ظهرت كدمة بلون التوت البري على منكب فلوري. أما الكلب فقد أطلق صيحة فزع، وولى الفرار، ثم جلس على بعد خمسين ياردة، وشرع يعوي مجددا بانتظام.
الفصل السادس
انحرفت أشعة الشمس الصباحية أعلى الميدان، وانعكست بصفرة رقاقة الذهب، على واجهة الكوخ البيضاء. هبطت أربعة غربان بلون أسود خالطه اللون الأرجواني وجثمت على سور الشرفة، متحينة الفرصة للانطلاق للداخل وسرقة الخبز والزبد اللذين وضعهما كو سلا بجانب فراش فلوري. زحف فلوري من وراء الناموسية، وصاح في كو سلا ليأتيه ببعض الجين، ثم ذهب إلى دورة المياه وجلس لبعض الوقت في حوض استحمام من الزنك ملئ بمياه كان حريا أن تكون باردة. شعر فلوري بتحسن بعد الجين، فأقبل على حلاقة ذقنه. كان دائما ما يؤجل الحلاقة إلى المساء؛ إذ كانت لحيته سوداء وتنمو سريعا.
بينما كان فلوري جالسا بمزاج نكد في حمامه، كان السيد ماكجريجور لابسا سروالا قصيرا وقميصا تحتانيا على بساط من الخيزران مخصصا لهذا الغرض في مخدعه، يؤدي بمشقة التمارين رقم خمسة وستة وسبعة وثمانية وتسعة من كتاب نوردينفليخت «تمارين رياضية للأشخاص القليلي الحركة». كان السيد ماكجريجور لا يفوت تمارين الصباح قط، إلا في حالات نادرة. التمرين رقم ثمانية (الاستلقاء على الظهر، ورفع الساقين في وضع قائم دون ثني الركبتين) كان مؤلما جدا لرجل في عمر الثالثة والأربعين؛ بل وكان رقم تسعة (الاستلقاء على الظهر، والنهوض لوضع الجلوس ولمس أصابع القدمين بأطراف الأصابع) أسوأ. لكن مهما يكن من الأمر، لا بد للمرء من المحافظة على لياقته! مع اندفاع السيد ماكجريجور متوجعا في اتجاه أصابع قدميه، تصاعد من عنقه لون في حمرة قوالب البناء واحتبس في وجهه منذرا بسكتة دماغية. وتلألأ العرق على صدره الكبير الشحيم. استمر، استمر! لا بد أن يحافظ المرء على لياقته بأي ثمن. كان يشاهده من خلال انفراج الباب، محمد علي، الشيال، وقد بسط على ذارعه ملابس السيد ماكجريجور النظيفة، دون أن يبدو على وجهه العربي أمارات فهم أو فضول. فقد ظل يشاهد تلك الانثناءات - التي تخيلها بلا اكتراث بذلا لإله غامض متعسف - كل صباح طيلة خمس سنوات.
في الوقت ذاته أيضا، كان ويستفيلد الذي خرج مبكرا، مستندا إلى طاولة قسم الشرطة التي كستها الثقوب وبقع الحبر، بينما كان المحقق المساعد البدين يستجوب أحد المتهمين الذي تولى شرطيان حراسته. كان المتهم رجلا في الأربعين، ذا وجه رمادي مفزوع، لا يرتدي سوى إزار مهلهل ثني حتى الركبتين، اللتين بدت أسفلهما قصبتا ساقيه النحيلتين المعوجتين مبقعتين بقرصات القراد.
تساءل ويستفيلد: «من هذا الشخص؟» «لص يا سيدي. لقد قبضنا عليه وفي حوزته هذا الخاتم بفصين من الزمرد النفيس جدا. ولا يوجد تفسير. من أين له - وهو عامل فقير - بخاتم زمرد؟ لقد سرقه.»
اتجه محتدا إلى المتهم، واقترب بوجهه مثل قط هائج حتى كاد يلامس وجهه، وزأر بصوت جهير: «لقد سرقت الخاتم!» «لا.» «إنك مجرم عتيد!» «لا.» «لقد دخلت السجن!» «لا.»
جأر المحقق وقد أتاه إلهام قائلا: «استدر! انحن!»
حول المتهم وجهه الرمادي في ألم نحو ويستفيلد الذي رنا بعيدا. أمسك به الشرطيان، وأداراه وأحنيا قامته؛ مزق المحقق إزاره، وعرى مؤخرته.
قال وهو يشير إلى بعض الندبات: «انظر إلى هذا يا سيدي! لقد ضرب بالخيزران. إنه متهم عتيد. ومن ثم فقد سرق الخاتم!»
قال ويستفيلد متكدرا وهو يتراجع بكسل عن الطاولة واضعا يديه في جيوبه: «حسنا، فلتضعه في الزنزانة.» كان في قرارة نفسه يكره القبض على أولئك الأشقياء المساكين من اللصوص. رجال العصابات والمتمردون نعم؛ لكن ليس تلك الجرذان الذليلة المسكينة!
قال ويستفيلد: «كم لديك في الزنزانة الآن يا مونج با؟» «ثلاثة يا سيدي.»
كان الحجز في الطابق العلوي، عبارة عن قفص أحاط به قضبان خشبية بعرض ست بوصات، ويحرسه شرطي متسلح ببندقية قصيرة. وكان معتما جدا، وحارا لدرجة خانقة، وليس به أي متاع سوى حفرة لقضاء الحاجة تصاعد نتنها إلى السماء. عند القضبان جلس سجينان القرفصاء، مبتعدين عن سجين ثالث، عامل هندي، غطته القوباء الحلقية من رأسه إلى أخمص قدميه مثل درع من الحلقات المعدنية. وكان خارج القفص سيدة بورمية ممتلئة، زوجة أحد الشرطيين، جاثية تغترف الأرز والعدس السائل في أقداح من الصفيح.
قال ويستفيلد: «هل الطعام طيب؟»
ردد السجناء مثل كورس: «إنه طيب يا سيدنا الكريم.»
كانت الحكومة تخصص لغذاء السجناء قيمة آنتين ونصف للرجل في الوجبة، تتطلع زوجة الشرطي إلى ربح آنة منها.
خرج فلوري وتسكع في المجمع السكني، وهو يضرب الحشائش في الأرض بعصاه. في تلك الساعة كانت ثمة ألوان جميلة هادئة في كل شيء - أخضر رقيق في أوراق الأشجار، وبني مائل للوردي في التربة وجذوع الأشجار - مثل دهان بألوان مائية لن يلبث يختفي في وهج الشمس القادم. بعيدا في الميدان كانت ثمة أسراب من حمام بني صغير يحلق على ارتفاع منخفض يطارد كل منها الآخر هنا وهناك، ووروار، أخضر مثل الزمرد، يتقافز مثل طيور سنونو بطيئة. وكان هناك صف من الكناسين، توارى حمل كل منهم جزئيا خلف ملابسه، يسيرون متجهين إلى حفرة مقززة للنفايات واقعة على حدود الغابة. كانوا وهم بؤساء مهزولون، بأطراف وركب مثل العصي وهنت حتى استعصت على الاستقامة، مكتسين بأسمال بلون الوحل، مثل موكب سائر من الهياكل العظمية التي غطاها الكفن.
كان البستاني يحفر الأرض من أجل حوض زهور جديد، بجوار برج الحمام القائم قرب البوابة. كان شابا هندوسيا غبيا بليدا، عاش حياته في شبه صمت مطبق؛ لأنه كان يتحدث إحدى لهجات مانيبور التي لم يفقهها أحد آخر، ولا حتى زوجته الزربادية. كما أن لسانه كان كبيرا جدا على فمه. وقد انحنى لتحية فلوري، مغطيا وجهه بيده، ثم رفع فأسه عاليا مرة أخرى واخترق الأرض الجافة بضربات خرقاء ثقيلة، فيما ارتعشت عضلات ظهره الرخوة.
صدرت صرخة حادة مزعجة «كوااا!» من حجرات الخدم؛ كانت زوجتا كو سلا قد بدأتا شجارهما الصباحي. وفي الممر تبختر ديك المصارعة المروض، المسمى نيرو، في خط متعرج، بينما خرج با بي بوعاء أرز وأطعم نيرو والحمام. تصاعدت صيحات أخرى من حجرات الخدم وأصوات الرجال الخشنة وهم يحاولون وقف الشجار. كان كو سلا يعاني كثيرا من زوجتيه. ما بو، زوجته الأولى، امرأة نحيلة جامدة الوجه، جعلتها كثرة الحمل نحيفة، وكانت ما يي (الزوجة الصغيرة)، هرة بدينة كسولة تصغرها ببضع سنوات. وكانت المرأتان تتشاجران بلا انقطاع متى كان فلوري في المقر وكانتا معا. ذات مرة بينما كانت ما بو تطارد كو سلا بعصا خيزران، توارى وراء فلوري متحاميا، فتلقى فلوري ضربة مؤلمة على ساقه.
كان السيد ماكجريجور يرتقي الطريق، بخطوات خفيفة وهو يؤرجح عصا مشي غليظة. كان يرتدي قميصا كاكيا من قماش العمائم، وسروالا قصيرا من قماش الدريل القطني، وخوذة صيد خفيفة. فقد كان إلى جانب أدائه التمارين، يذهب في تمشية خفيفة مسافة ميلين كل صباح متى استطاع توفير الوقت.
صاح السيد ماكجريجور بفلوري بصوت صباحي ملؤه الود، مصطنعا اللكنة الإيرلندية، قائلا: «أجمل صباح صباحك!» راعى أن يكون سلوكه مفعما بالنشاط منتعشا كمن أخذ حماما باردا في هذه الساعة من الصباح. كما أن مقال «بورميز باتريوت» التشهيري، الذي قرأه في الليلة الماضية، كان قد ساءه لذا فقد تظاهر بمرح استثنائي للتستر على الأمر.
رد عليه فلوري صائحا بأقصى ما استطاع من ود قائلا: «صباح!»
يا له من أصلع عجوز بغيض! هذا ما جال بخلده وهو يشاهده في ارتقائه الطريق. كم تنتأ هذه العجيزة حقا في هذا السروال القصير الكاكي الضيق. إنه كواحد من رؤساء فرق الكشافة الكريهين الكهلة أولئك، المثليين جنسيا جميعا دون استثناء، الذين ترى صورهم في الصحف المصورة. إنه يتأنق في تلك الملابس السخيفة ويكشف عن ركبتيه السمينتين ذاتي التعاريج، لأنه من طباع السيد الأبيض أن يؤدي التمارين الرياضية قبل الإفطار، يا للقرف!
جاء رجل بورمي صاعدا التل، بقعة من اللونين الأبيض والأرجواني. كان هذا كاتب فلوري، قادما من المكتب الصغير، الذي لم يكن بعيدا عن الكنيسة. حين بلغ البوابة، هبط إلى ركبتيه محييا وقدم ظرفا متسخا، مختوما على طرف الغطاء كما جرت الطريقة البورمية. «صباح الخير يا سيدي.» «صباح الخير. ما هذا الشيء؟» «خطاب محلي، سعادتك. جاء هذا الصباح. أعتقد أنه خطاب مجهول المصدر يا سيدي.» «اللعنة. حسنا، سأنزل إلى المكتب قرب الساعة الحادية عشرة.»
فتح فلوري الخطاب، الذي كان مكتوبا في ورقة فولسكاب، وجاء فيه:
السيد جون فلوري
سيدي، أود أنا الموقع أدناه أن أوعز لسيادتك وأعلمك ببعض المعلومات النافعة التي من شأنها أن تفيد سيادتك فائدة كبرى يا سيدي.
لقد لوحظ يا سيدي في كياوكتادا صداقتك الوطيدة للدكتور فيراسوامي، الجراح المدني، وترددك عليه، ودعوته إلى منزلك ... إلخ. ونود يا سيدي أن نعلمك بأن الدكتور فيراسوامي المذكور ليس رجلا صالحا وغير جدير على الإطلاق بصداقة سيد أوروبي. فالطبيب موظف حكومي محتال وخائن وفاسد إلى حد بالغ. فهو يعطي المرضى ماء ملوثا ويبيع لهم الدواء لحسابه الخاص، فضلا عن العديد من الرشاوى وعمليات الابتزاز ... إلخ. وقد جلد اثنين من المساجين بالخيزران، ثم دعك مكان الضرب بالفلفل الحار حين لم يرسل أقاربهما مالا. بالإضافة إلى هذا فهو متورط مع الحزب الوطني وتقدم مؤخرا بمعلومات لمقال خبيث جدا ظهر في «بورميز باتريوت»، هوجم فيه السيد ماكجريجور، نائب المفوض المحترم.
كما أنه يعاشر المريضات في المستشفى بالإكراه.
وبناء عليه فإننا نرجو بشدة أن تتحاشى سيادتك الدكتور فيراسوامي وألا ترافق أشخاصا لا يجلبون لشخصك الكريم إلا الشر.
ولكم منا خالص الدعاء بالصحة والرخاء. (التوقيع): صديق
كان الخطاب مكتوبا بحروف مرتجفة مستديرة؛ أسلوب كتبة الخطابات في البازار، الشبيه بكراسة تمارين كتبها شخص ثمل. بيد أن كاتب الخطاب ما كان ليرقى بمستواه لكلمة مثل «تتحاشى». لا بد أن الخطاب قد أملاه أحد الكتبة، ولا شك أنه جاء في الأساس من عند يو بو كين أو «التمساح»، كانت هذه هي الفكرة التي راودت عقل فلوري بعد تفكير.
لم ترقه نبرة الخطاب؛ إذ كان من الجلي أنه خطاب تهديد تحت قناع من الخضوع. وما قصده حقا: «فلتتخل عن الطبيب وإلا سنسبب لك المتاعب.» لكن لم يكن ذلك بالأمر الجلل؛ فما من رجل إنجليزي يشعر بتهديد حقيقي من رجل شرقي.
انتاب فلوري التردد والخطاب في يديه. ثمة شيئان يمكن فعلهما بخطاب مجهول المصدر. يمكن ألا يبوح بشيء عنه، أو أن يريه الشخص المعني به. كان التصرف البديهي، اللائق أن يعطي الدكتور فيراسوامي الخطاب ويدعه يتخذ الإجراء الذي يختاره.
إلا أنه كان من الآمن أن ينأى بجانبه عن هذا الأمر كلية. فمن الأهمية بمكان (ربما الأهم بين المبادئ العشرة جمعاء للسادة البيض) ألا تتورط في مشاحنات «أهل البلد». فلا بد ألا ينشأ إخلاص أو صداقة حقيقية مع الهنود. عاطفة، أو حتى حب. نعم. وكثيرا ما يحب الإنجليز الهنود حقا؛ أهل البلد الموظفون، وحراس الغابات، والصيادون، والكتبة، والخدم. فالجنود يبكون كالأطفال حين يتقاعد الكولونيل الذي يتبعونه. بل حتى الإخاء مسموح به، في اللحظات المناسبة. لكن التحالف، المناصرة، كلا مطلقا! كان مجرد معرفة تفاصيل مشاجرة من مشاجرات «أهل البلد» تفقد الهيبة.
إن أفشى أمر الخطاب سيثور خلاف وسيجرى تحقيق رسمي، وفي نهاية المطاف سيقرن مصيره بمصير الطبيب في مواجهة يو بو كين. ليس يو بو كين ذا بال، لكن يظل هناك الأوروبيون؛ إن كان هو، فلوري، مناصرا للطبيب في سفور شديد، فقد يكون لهذا ثمن باهظ. من الأفضل كثيرا أن يتظاهر بأن الخطاب لم يصله مطلقا. كان الطبيب صديقا طيبا، لكن أن يناصره في مواجهة جام غضب السادة البيض ... كلا، كلا! ماذا يفيد الرجل إن أنقذ روحه وخسر العالم بأسره؟ شرع فلوري يمزق الخطاب. كان الخطر الناتج عن إذاعة خبره ضئيلا جدا، مبهما جدا. لكن لا بد من توخي الحذر من المخاطر المبهمة في الهند. فحتى الهيبة، قوام الحياة، هي نفسها مبهمة. مزق الخطاب بحرص قطعا صغيرة وألقى بها من فوق البوابة.
في هذه اللحظة ترددت صرخة مرتاعة، مختلفة تماما عن صوتي زوجتي كو سلا. أنزل البستاني فأسه وحملق فاغرا فاه في اتجاه الصوت، وجاء كو سلا الذي سمعها هو الآخر، راكضا حاسر الرأس من حجرات الخدم، فيما هبت فلو واقفة ونبحت بحدة. تكررت الصرخة التي كانت صادرة من الغابة خلف المنزل، وكان الصوت إنجليزيا، امرأة تصرخ مفزوعة.
لم يكن ثمة طريق إلى الخارج من الخلف. وثب فلوري من فوق البوابة وهبط وركبته تنزف دما من أثر شظية. وركض حول سور المجمع منطلقا إلى الغابة، تتبعه فلو. خلف المنزل تماما، وراء أول طوق من الشجيرات، كان ثمة واد صغير، يرتاده الجاموس من نيانجليبين لوجود بركة من المياه الراكدة فيه. شق فلوري طريقه وسط الأجمة، وفي الوادي كانت فتاة إنجليزية، ممتقعة الوجه، منكمشة أمام إحدى الشجيرات فيما تتهددها جاموسة ضخمة بقرنيها الهلاليي الشكل، وقد وقف عجل مشعر في الخلفية، كان بلا شك السبب في المشكلة. في الوقت ذاته كان جاموس آخر غمره وحل البركة حتى عنقه، يتطلع بوجه هادئ يعود إلى أزمنة ما قبل التاريخ، متسائلا ما الأمر.
ولت الفتاة وجها مكروبا إلى فلوري حين ظهر. هتفت بالنبرة الغاضبة الملحة التي تغشى صوت الناس المذعورة: «فلتسرع! أرجوك! أنجدني! أنجدني!»
كان فلوري في غاية من الاندهاش ليطرح أي أسئلة. هكذا هرع إليها، ولعدم وجود عصا، فقد صفع الجاموسة صفعة شديدة على أنفها. فتنحت جانبا، بحركة خائفة ثقيلة، ثم رحلت بخطوات متثاقلة يتبعها العجل. كذلك خلص الجاموس الآخر نفسه من الوحل ورحل بخطوات متعثرة. أما الفتاة فارتمت على فلوري، تكاد تكون بين ذراعيه، وقد غلبها الذعر تماما. «شكرا، شكرا! يا لها من أشياء مريعة! ماذا تكون؟ خلت أنها ستقتلني. يا لها من كائنات رهيبة! ماذا تكون؟» «ليس سوى جاموس الماء. إنه يأتي من القرية التي هناك.» «جاموس؟» «ليس جاموسا بريا، الذي نسميه البيسون. إنه مجرد نوع من الماشية التي يربيها البورميون. أعتقد أنها سببت لك صدمة فظيعة. يؤسفني ذلك.»
كانت لا تزال متشبثة بذراعه لصيقة به، فاستطاع أن يشعر بها ترتعد. خفض ناظريه، لكنه لم يستطع رؤية وجهها، فقط أعلى رأسها، من دون قبعة، بشعر أشقر قصير مثل شعر صبي. واستطاع رؤية إحدى يديها على ذراعه؛ كانت يدا طويلة رشيقة شابة، ذات رسغ ملطخ بالألوان مثل رسغ تلميذة. لم يكن قد رأى يدا كهذه منذ عدة سنوات. انتبه فلوري إلى الجسد اللين النضير الضاغط على جسده، والدفء النافذ منه؛ فبدا كأن شيئا ينبض بداخله ويذيب جليد قلبه.
قال فلوري: «لا بأس، لقد رحلت. ليس هناك ما يدعو إلى الخوف.»
كانت الفتاة لا تزال تستفيق من ذعرها، ووقفت مبتعدة قليلا عنه، وإحدى يديها لا تزال على ذراعه. قالت: «إنني بخير. لا بأس، لم أصب بأذى. فهي لم تمسني. شكلها فقط كان مريعا.» «حقا، إنها غير مؤذية على الإطلاق. فقرونها واقعة بعيدا جدا في مؤخرة رءوسها فلا يمكنها أن تنطحك. إنها حيوانات غبية جدا، تتظاهر فقط بالهجوم حين يكون لديها عجول.»
وقف الاثنان متباعدين الآن، وغشاهما حرج طفيف في الحال. وكان فلوري قد استدار قليلا بالفعل ليخفي عنها وحمته. ثم قال: «حسنا، إنه نوع غريب من التعارف! لم أسألك بعد كيف جئت إلى هنا. من أي مكان جئت، إذا لم يكن في السؤال وقاحة؟» «لقد خرجت للتو من حديقة عمي. بدا الصباح جميلا للغاية، فارتأيت أن أذهب في تمشية. ثم جاءت تلك الأشياء المريعة خلفي. فإنني جديدة تماما في هذا البلد.» «عمك؟ بالتأكيد! أنت ابنة أخ السيد لاكرستين. لقد سمعنا بقدومك. حسنا، هلا خرجنا إلى الميدان؟ سنجد مسارا في مكان ما. يا لها من بداية لأول صباح لك في كياوكتادا! أخشى أن هذا حري أن يعطيك انطباعا سيئا عن بورما.» «كلا؛ جل ما هناك أن الأمر برمته غريب بعض الشيء. كم تنمو بكثافة هذه الأجمة! وكلها ملتفة معا وغريبة المنظر. من الممكن أن تضل السبيل هنا في لحظة. هل هذا ما يسمونه غابة؟» «أدغال. بورما في أغلبها أدغال؛ ما أسميه أرضا خضراء كريهة. لو كنت مكانك ما كنت سأخوض وسط تلك الحشائش. فالبذور تتخلل الجوارب وتصل إلى الجلد.»
ترك الفتاة تسير أمامه، شاعرا براحة أكبر أنها لن تستطيع رؤية وجهه. كانت طويلة بعض الشيء بالنسبة إلى فتاة، هيفاء، ترتدي فستانا قطنيا لونه بنفسجي فاتح. من لفتاتها لم يبد له أنها ناهزت العشرين بكثير. لم يكن قد أمعن النظر في وجهها بعد، سوى أنها كانت ترتدي نظارة مستديرة مصنوعة من صدفة سلحفاة، وأن شعرها قصير مثل شعره. لم يكن قد رأى من قبل امرأة بشعر حليق، سوى في الصحف المصورة.
مع دخولهما الميدان تقدم بمحاذاتها، فالتفتت لتواجهه. كان وجهها بيضاويا، متناسق الملامح رقيقها؛ ربما ليست جميلة، لكنها بدت كذلك هناك، في بورما، حيث كل النساء الإنجليزيات شاحبات ونحيلات. سريعا ما أشاح فلوري بوجهه جانبا، مع أن الوحمة كانت مستترة عنها. لم يطق أن ترى وجهه الكامد عن كثب شديد. تحسس الجلد الذابل حول عينيه وشعر كأنه جرح. بيد أنه تذكر أنه كان قد حلق ذلك الصباح، مما منحه شجاعة.
قال: «أعتقد أنك حتما مصدومة قليلا من بعد هذا الأمر. هل تودين أن تأتي إلى مسكني لتستريحي بضع دقائق قبل الذهاب إلى المنزل؟ كما أن الوقت متأخر بعض الشيء للخروج من دون قبعة.»
قالت الفتاة: «شكرا، أود ذلك.» خطر لفلوري أنها لا يمكن أن يكون لديها أي علم بأفكار الهنود عن الأصول «هل هذا منزلك؟» «نعم. لا بد أن ندور حول الطريق الأمامي. سوف أجعل الخدم يأتون بمظلة من أجلك. فهذه الشمس خطيرة عليك، بشعرك القصير.»
سار الاثنان في ممشى الحديقة، وفلو تمرح حولهما وتحاول لفت الانتباه إلى نفسها. كانت دائما ما تنبح على الشرقيين الأغراب، لكن راقت لها رائحة المرأة الأوروبية. اشتدت حرارة الشمس، وسرت من زهور البتونيا على جانب الممشى رائحة الكشمش الأسود، وهبطت واحدة من الحمام إلى الأرض، لتنطلق في الهواء مرة أخرى في الحال حين حاولت فلو الإمساك بها. توقف فلوري والفتاة مرة واحدة، لينظرا إلى الزهور، وفجأة سرى فيهما شعور بالسعادة لا سبب له.
أعاد قوله: «حقا لا بد ألا تخرجي في الشمس من دون اعتمار قبعة.» وبطريقة ما كان ثمة شعور بالألفة في قول هذا. لم يستطع أن يمنع نفسه من الإشارة إلى شعرها القصير بطريقة أو بأخرى، فقد بدا له جميلا جدا. وكان بحديثه عنه كأنه لمسه بيده.
قالت الفتاة: «انظر، إن ركبتك تنزف. هل حدث هذا حين كنت آتيا لإنقاذي؟»
كان ثمة خيط رفيع من الدم الذي تجلط قرمزيا على جوربه الكاكي. قال: «الأمر هين.» لكن لم يشعر أي منهما في تلك اللحظة أنه أمر هين. طفقا يثرثران بحماس غير عادي حول الزهور. قالت الفتاة إنها «تعشق» الزهور. تقدمها فلوري في الممشى، وهو يتحدث مبالغا في الحديث حول نبات تلو الآخر. «انظري إلى زهور الفلوكس هذه كيف تنمو. إنها تظل مزهرة طوال ستة أشهر في هذا البلد. فهي تحب الشمس وتزدهر معها. أعتقد أن تلك الزهور الصفراء تكاد تكون في لون زهور الربيع. أنا لم أر زهرة ربيع منذ خمس عشرة سنة، ولا زهرة منثور. تلك الزينيا جميلة، أليس كذلك؟ تبدو كأنها زهور مرسومة، بتلك الألوان المطفية الخلابة. هذه زهور القطيفة الأفريقية. إنها خشنة الملمس، تكاد تكون مثل الحشائش، لكن لا يسعك إلا أن تحبيها، فهي زاهية وقوية جدا. لدى الهنود ولع خاص بها؛ فأينما وجدت هنودا تجدين زهور القطيفة، ولو بعد سنوات بعد أن تكون الغابة قد محت كل أثر لها. لكنني أرجو أن تأتي إلى الشرفة لرؤية الأوركيد. لدي منها بعض الزهور التي يجب رؤيتها فهي تبدو تماما كأنها أجراس من الذهب - مثل الذهب حرفيا. وتفوح منها رائحة عسل، تكاد تكون نفاذة. هذه هي المزية الوحيدة تقريبا في هذا البلد، إنها مناسبة لنمو الزهور. أرجو أن تكوني هاوية للبستنة؟ فهي عزاؤنا الأكبر في هذا البلد.»
قالت الفتاة: «إنني أعشق البستنة حقا.»
ودخل الاثنان الشرفة. كان كو سلا قد ارتدى على عجل قميصه وأفضل عصابات رأسه العصابة الحريرية الوردية، فجاء من داخل المنزل بصينية عليها دورق جين وكئوس وصندوق سجائر. وضعها على المنضدة، وضم يديه معا وهبط إلى ركبتيه محييا، وهو يرنو إلى الفتاة ببعض الترقب.
قال فلوري: «أظن أنه لا جدوى من عرض الشراب عليك في هذه الساعة من الصباح؟ لا يمكنني إقناع خادمي قط أن بعض الناس تستطيع أن تعيش من دون تناول الجين قبل الإفطار.»
وضم نفسه لأولئك الناس بأن لوح بيده رافضا الشراب الذي عرضه عليه كو سلا. كانت الفتاة قد جلست على المقعد الخوص الذي وضعه لها كو سلا في نهاية الشرفة. كانت زهور الأوركيد بأوراقها الداكنة معلقة وراء رأسها، بباقاتها الذهبية الزهر، تنشر عبير عسل دافئ، بينما وقف فلوري أمام سور الشرفة، موليا الفتاة إحدى صفحتي وجهه، محتفظا بوجنته الموحومة خفية.
قالت وهي ترسل نظرها إلى سفح التل: «ترى من هنا منظرا غاية في الروعة.» «نعم، أليس كذلك؟ إنه بديع في هذا الضوء الأصفر، قبل أن تصعد الشمس في كبد السماء. أحب ذلك اللون الأصفر الداكن للميدان، وأشجار البوانسيانا الملكية تلك، كأنها بقع من اللون القرمزي. وتلك التلال في الأفق، شبه سوداء.» ثم أضاف قائلا: «يقع معسكري على الجانب الآخر من تلك التلال.»
خلعت الفتاة، التي كانت بعيدة النظر، نظارتها لترسل بصرها بعيدا. فلاحظ أن عينيها كانتا ذاتي زرقة فاتحة شديدة الصفاء، أفتح من زهرة الجريسة. ولاحظ نعومة الجلد حول عينيها، يكاد يكون في نعومة بتلات الزهور. وهو ما ذكره بسنه ووجهه المنهك مرة أخرى، حتى إنه أشاح بوجهه قليلا عنها. لكنه قال بعفوية: «حسنا، يا له من حظ الذي أتى بك إلى كياوكتادا! لا يمكن أن تتخيلي تأثير أن نرى وجها جديدا في هذه الأماكن. بعد أشهر من مخالطة مجتمعنا البائس، وما يعرض من جولات أحد المسئولين، وإبحار رحالة أمريكان إلى منبع نهر إيراواداي بكاميراتهم. أعتقد أنك قدمت من إنجلترا مباشرة؟» «حسنا، ليس إنجلترا تحديدا. كنت أعيش في باريس قبل أن آتي إلى هنا؛ ذلك لأن أمي كانت فنانة.» «باريس! هل عشت حقا في باريس؟ يا إلهي، تصوري أن تأتي من باريس إلى كياوكتادا! دعيني أقل لك إنه من المستعصي تماما على المرء في حفرة كهذه أن يصدق أن ثمة أماكن مثل باريس.»
سألته الفتاة: «هل تحب باريس؟» «بل إنني لم أرها قط. لكن، ويحي، كم تصورتها! باريس ... إنها في ذهني خليط من صور شتى؛ المقاهي والشوارع ومراسم الفنانين وفيون وبودلير وموباسان كلها متراكبة. إنك لا تعلمين كيف تبدو لنا تلك البلدات الأوروبية. هل عشت في باريس حقا؟ هل جلست في مقاه مع دارسي فن أجانب، تحتسون النبيذ الأبيض وتتحدثون عن مارسيل بروست؟»
قالت الفتاة ضاحكة: «شيء من هذا القبيل على ما أظن.» «يا للاختلاف الذي ستجدينه هنا! فلا يوجد هنا نبيذ أبيض ولا مارسيل بروست؛ وإنما ويسكي وإدجار والاس على الأرجح. لكن إذا أردت كتبا على الإطلاق، فربما تجدين شيئا يروق لك بين كتبي؛ إذ لا يوجد في مكتبة النادي سوى حثالة الكتب. لكن لا شك أن كتبي عفا عليها الدهر حد اليأس. أعتقد أنك قرأت كل الكتب الموجودة.»
قالت الفتاة: «لا، لكنني بالطبع أعشق القراءة للغاية.» «ما أجمل أن تلتقي بشخص له اهتمام بالكتب! أقصد الكتب التي تستحق القراءة، وليس تلك النفايات التي في مكتبات النادي. أرجو حقا أن تسامحيني إن كنت أطيل عليك في الكلام. أخشى إنني أنطلق مثل زجاجة جعة دافئة حين ألتقي بشخص على علم بالكتب. إنه ذنب لا بد أن تغفريه في هذه البلاد.» «لكنني أحب الحديث عن الكتب. أعتقد أن القراءة شيء في غاية الروعة. أقصد، كيف كانت الحياة ستصير من دونها؟ إنها ... إنها ...» «إنها ملاذ خاص. أجل!»
استغرق الاثنان في حديث طويل ومتحمس، عن الكتب أولا، ثم الرماية، التي بدا أن للفتاة اهتماما بها، والتي حثت فلوري على الحديث عنها. كانت من الإثارة في غاية حين وصف حادثة مقتل أحد الأفيال التي كان قد أقدم عليها قبل عدة سنوات. بالكاد انتبه فلوري، وربما الفتاة كذلك ، إلى أنه استأثر بكل الحديث. فهو لم يستطع أن يكبح جماح نفسه؛ إذ كانت بهجة الدردشة كبرى. وكانت الفتاة على استعداد للإنصات. فقد أنقذها من الجاموس على أي حال، وهي التي كانت حتى تلك اللحظة لا تصدق أن تلك الحيوانات الضخمة قد تكون غير مؤذية؛ ومن ثم فقد كان في تلك اللحظة بمثابة بطل في عينيها. متى نسب للإنسان أي فضل في الحياة، فهو غالبا على شيء لم يفعله. كانت هذه واحدة من المرات التي يتدفق فيها الحديث بسلاسة شديدة، وبتلقائية شديدة، حتى إنه ليستطيع الإنسان أن يستمر في الكلام إلى الأبد. لكن بغتة تبخرت سعادتهما، وجفلا ولاذا بالصمت. فقد لاحظا أنهما لم يعودا بمفردهما.
كان على الجانب الآخر من الشرفة، من بين القضبان، وجه بشارب كبير في سواد الفحم يختلس النظر بفضول عظيم. كان ذلك وجه سامي العجوز، الطاهي الماجي. وخلفه وقفت ما بو وما يي وأبناء كو سلا الأربعة الكبار، وطفل عار من دون صاحب، وامرأتان عجوزان جاءتا من القرية عند سماع الخبر بأن ثمة سيدة إنجليزية ظاهرة للعيان. مثل تمثالين منحوتين من خشب الساج اندس في الوجه الخشبي الجامد لكل منهما سيجار طوله قدم، راحت الكائنتان الهرمتان تحدقان في السيدة الإنجليزية كما قد يحدق فلاح إنجليزي في محارب من شعب الزولو بحلته الرسمية كاملة.
قالت الفتاة في ضيق وهي ترنو نحوهم: «أولئك الناس ...»
لما رأى سامي أن وجوده صار ملحوظا، بدا عليه أسف شديد وتظاهر بأنه يعيد لف عمامته. أما بقية المتفرجين فقد شعروا بقليل من الإحراج، ما عدا العجوزين ذاتي الوجهين الخشبيين.
قال فلوري: «سحقا لوقاحتهم!» وتخلله شعور بارد بالإحباط. على كل حال، لم يعد مناسبا أن تمكث الفتاة في شرفته أكثر من ذلك. كان الاثنان قد تذكرا في آن واحد أنهما غريبان تماما. فتورد وجهها قليلا، وبدأت ترتدي نظارتها.
قال فلوري: «أخشى أن وجود فتاة إنجليزية أشبه ببدعة لهؤلاء الناس. إنهم لا يقصدون أي أذى.» ثم أردف في غضب، ملوحا بيده للمتفرجين، الذين اختفوا بعدئذ : «اغربوا من هنا!»
قالت الفتاة وقد نهضت واقفة: «أعتقد أنني لا بد أن أرحل إذا سمحت. لقد مكثت بالخارج لوقت طويل جدا. لعلهم يتساءلون أين ذهبت.» «هل ضروري حقا؟ فما زال الوقت مبكرا جدا. سأحرص على ألا تعودي إلى المنزل برأس مكشوف في الشمس.»
أنشأت تقول مرة أخرى: «يجب حقا ...»
ثم توقفت، ناظرة إلى عتبة الباب؛ حيث كانت ما هلا ماي خارجة إلى الشرفة.
تقدمت ما هلا ماي واضعة يدها على ردفها. كانت قد أتت من داخل المنزل، بهدوء يؤكد حقها في الوجود هناك. ووقفت الفتاتان وجها لوجه، لا يفصلهما سوى ست أقدام.
كان التناقض بينهما لا يدانيه أي تناقض آخر غرابة؛ فإحداهما باهتة اللون مثل زهر التفاح، والأخرى داكنة ومبهرجة، ينعكس بريق شبه معدني على كعكة شعرها الأبنوسي وحرير إزارها البرتقالي الوردي. خطر لفلوري أنه لم يلحظ من قبل قط كم يبدو وجه ما هلا ماي داكنا، وكم هو غريب جسدها الضئيل المتيبس، المستقيم مثل جسد الجنود، الخالي من أي منحنيات ما عدا منحنى أردافها الشبيه بمنحنى المزهرية. وقف أمام سور الشرفة وراح يراقب الفتاتين، منسيا تماما. لم تستطع أي منهما أن ترفع عينيها عن الأخرى طيلة دقيقة تقريبا؛ لكن من الصعب أن نعرف أيا منهما وجدت المشهد أكثر شذوذا وإثارة للدهشة.
حولت ما هلا ماي وجهها صوب فلوري، وتساءلت بتجهم وقد ضمت حاجبيها الأسودين الرفيعين كخطي قلم رصاص، قائلة: «من هذه المرأة؟»
أجاب بلا اكتراث، كأنه يعطي أمرا لأحد الخدم: «انصرفي الآن. إن أثرت أي مشكلة سآتي لاحقا بخيزرانة وأبرحك ضربا حتى لا أترك ضلعا من ضلوعك سليما.»
ترددت ما هلا ماي وهزت منكبيها الصغيرين واختفت، فيما تساءلت الأخرى بفضول وهي تتبعها بعينين محدقتين: «هل كان ذلك رجلا أم امرأة؟»
فقال: «امرأة. زوجة أحد الخدم على ما أعتقد. جاءت لتسأل عن الغسيل، هذا جل ما في الأمر.» «هل هكذا تبدو النساء البورميات؟ إنهن كائنات صغيرة عجيبة! لقد رأيت الكثير منهن في طريقي إلى هنا بالقطار، لكنني في الحقيقة ظننتهن جميعا صبية. إنهن يبدون مثل نوع من الدمى الخشب الألمانية، أليس كذلك؟»
كانت قد شرعت في التحرك صوب سلم الشرفة، بعد أن فقدت اهتمامها بما هلا ماي التي كانت قد اختفت، ولم يوقفها؛ إذ شعر أن ما هلا ماي خليقة تماما بالعودة وإحداث فضيحة. بيد أن ذلك لم يكن ذا بال؛ إذ لم تكن أي من الفتاتين تعرف كلمة من لغة الأخرى. هكذا نادى على كو سلا، فجاء كو سلا راكضا معه مظلة كبيرة من الحرير المشمع ذات أضلاع من الخيزران، ليفتحها برزانة أسفل السلم ويرفعها فوق رأس الفتاة عند نزولها. وقد سار فلوري معهما حتى البوابة، حيث توقفا ليتصافحا، وهو متنح جانبا قليلا في أشعة الشمس القوية، مواريا وحمته. «سيرافقك صاحبي هذا إلى المنزل. كان كرما شديدا منك أن أتيت إلى هنا. لا يمكنني أن أصف لك كم أنا سعيد بمقابلتك. فسوف تحدثين فرقا كبيرا هنا في كياوكتادا.» «إلى اللقاء يا سيد ... يا للعجب! إنني لا أعرف اسمك حتى.» «فلوري، جون فلوري. وأنت ... الآنسة لاكرستين، أليس كذلك؟» «نعم، إليزابيث. إلى اللقاء يا سيد فلوري. وأشكرك شكرا جزيلا. فقد أنقذتني حقا من تلك الجاموسة الفظيعة.» «كان أمرا بسيطا. أرجو أن أراك هذا المساء في النادي؟ أعتقد أن عمك وزوجته سيأتيان. الوداع مؤقتا إذن.»
وقف عند البوابة، يشاهدهما يذهبان. إليزابيث! اسم جميل، نادر جدا هذه الأيام. تمنى لو كانت تكتبه بحرف الزاي. هرول كو سلا خلفها بخطوات طريفة مرتبكة، مادا المظلة فوق رأسها مع الابتعاد بجسمه عنها بقدر الإمكان. وهبت على التل ريح باردة؛ كانت واحدة من تلك الرياح العابرة التي تهب أحيانا في الجو البارد في بورما، آتية بغتة، لتملأ المرء عطشا وحنينا إلى حمامات السباحة المملوءة بمياه البحر الباردة وأحضان حوريات البحر والشلالات وكهوف الجليد. وقد أحدثت حفيفا بين الرءوس العريضة لأشجار البوانسيانا الملكية، وأثارت أجزاء الخطاب المجهول المصدر الذي كان فلوري قد ألقاه من فوق البوابة قبل نصف ساعة.
الفصل السابع
استلقت إليزابيث على الأريكة في حجرة استقبال آل لاكرستين، رافعة قدميها وواضعة حشية خلف رأسها، بينما تقرأ كتاب مايكل آرلين «هؤلاء الناس الفاتنون». كان مايكل آرلين كاتبها المفضل في العموم، لكنها كانت تميل إلى تفضيل ويليام جيه لوك حين تريد شيئا جادا.
كانت حجرة الاستقبال حجرة باردة فاتحة اللون بجدران بسمك ياردة مدهونة بالجير؛ ورغم أنها كانت كبيرة فقد بدت أصغر مما كانت، لما تناثر فيها من طاولات صغيرة وحليات نحاسية من مدينة بيناريس الهندية. كذلك عبقت الحجرة برائحة القماش القطني المطبوع والزهور الميتة. في الدور العلوي كانت السيدة لاكرستين نائمة؛ وفي الخارج اضطجع الخدم صامتين في حجراتهم، وقد ربط نوم منتصف اليوم الشبيه بالموت رءوسهم بوسائدهم الخشبية. وكان السيد لاكرستين في مكتبه الخشبي الصغير الواقع على الطريق، في سبات هو الآخر غالبا. لم يبد أحد حراكا سوى إليزابيث، والغلام الذي كان يشد حبل المروحة خارج مخدع السيدة لاكرستين، مستلقيا على ظهره وقد وضع أحد كعبيه في عقدة الحبل.
كانت إليزابيث قد أتمت لتوها عامها الثاني والعشرين، وكانت يتيمة. كان أبوها أقل إدمانا للشراب من شقيقه توم، لكنه كان ذا طابع مشابه. كان يعمل في تجارة الشاي وسيطا، حيث تقلب به الحال تقلبات كبرى، لكنه كان بطبعه أكثر تفاؤلا من ادخار المال في فترات الازدهار. أما أم إليزابيث فقد كانت امرأة معدومة الكفاءة، ناقصة النضج، مضطربة العقل، دائمة الرثاء على حالها، وقد تهربت من كل الواجبات الطبيعية للحياة مستندة إلى مدارك لم تكن تتمتع بها. وهي بعد العبث لسنوات في أشياء مثل حق المرأة في الانتخاب وحركة الفكر الجديد، والإقدام على عدة محاولات فاشلة في الأدب، بدأت أخيرا تتجه ناحية الرسم. فالرسم هو الفن الوحيد الذي يمكن ممارسته من دون موهبة أو عمل شاق. وكانت السيدة لاكرستين تتكلف دور الفنان المنفي بين أصحاب النزعات المادية - ومن هؤلاء زوجها بالطبع - وقد منحها هذا الدور مجالا يكاد لا يحده حد لتجعل من نفسها مصدر إزعاج.
في العام الأخير للحرب، كون السيد لاكرستين، الذي تدبر الهروب من الجيش، ثروة طائلة، وبعد الهدنة مباشرة انتقلوا إلى منزل ضخم جديد تشوبه بعض الكآبة في ضاحية هايجيت، به عدد من المستنبتات الزجاجية والشجيرات والإسطبلات وملاعب التنس. وعين السيد لاكرستين رهطا من الخدم، بل وبلغ به التفاؤل أن عين مديرا للمنزل. وأرسلت إليزابيث لقضاء فصلين دراسيين في مدرسة داخلية ذات مصاريف باهظة للغاية. وكم كان في ذينك الفصلين من بهجة، بهجة لا تنسى! كانت أربع من الفتيات في المدرسة من بنات النبلاء؛ وكان لكل واحدة منهن تقريبا مهر، يسمح لها بامتطائه في آخر النهار أيام السبت. في حياة كل شخص ثمة فترة قصيرة تتشكل فيها شخصيته إلى الأبد؛ من ناحية إليزابيث كانت ذينك الفصلين الدراسيين اللذين اختلطت خلالهما مع طبقة الأثرياء. من ذلك الحين فصاعدا تلخص نظام معيشتها بأكمله في اعتقاد واحد، وهو على ذلك اعتقاد بسيط. وهو أن الجيد (الذي كانت تسميه «الجميل») يترادف مع الغالي والأنيق والأرستقراطي؛ أما الرديء (الكريه) فهو الرخيص والوضيع والرث والمرهق. قد يكون تدريس هذه العقيدة هو الهدف من وجود مدارس الفتيات باهظة المصاريف. وقد تعمق هذا الشعور مع تقدم إليزابيث في السن، وتفشى في كل أفكارها. هكذا صار كل شيء بدءا من زوج الجوارب وصولا إلى أرواح البشر يصنف على أنه «جميل» أو «كريه». ولسوء الحظ، كان «الكريه» هو ما غلب على حياتها؛ إذ لم يدم رخاء السيد لاكرستين.
فقد وقع الانهيار المحتوم في أواخر عام 1919؛ وتبعا لذلك أخرجت إليزابيث من المدرسة، لتستكمل تعليمها في عدد من المدارس الرخيصة الكريهة، مع التخلف لفصل دراسي أو فصلين حين لم يستطع أبوها دفع المصروفات. ثم مات أبوها بالأنفلونزا وهي في العشرين؛ وتركت السيدة لاكرستين بدخل بلغ مائة وخمسين جنيها سنويا، وهو ما كان سينتهي بوفاتها. لم تستطع السيدتان، في ظل تدبير السيدة لاكرستين، العيش بثلاثة جنيهات في الأسبوع في إنجلترا. لذا انتقلتا إلى باريس؛ حيث كانت المعيشة أرخص وحيث نوت السيدة لاكرستين أن تكرس نفسها كلية للفن.
باريس! والحياة في باريس! كان فلوري مخالفا للواقع قليلا حين تصور تلك الأحاديث المطولة مع فنانين ملتحين تحت أشجار الدلب الخضراء. فلم تكن حياة إليزابيث في باريس هكذا بالضبط.
كانت أمها قد استأجرت مرسما في حي مونبارناس، وتردت في التو في حالة مضطربة ومزرية من البطالة. وكانت شديدة السفاهة حتى إن دخلها لم يكن يكاد يغطي نفقاتها، فكانت إليزابيث تظل شهورا لا تحصل على ما يسد رمقها من الطعام. لكنها فيما بعد عثرت على عمل فصارت مدرسة خصوصية للغة الإنجليزية لدى أسرة مدير بنك فرنسي، وكانوا ينادونها بالفرنسية قائلين: «آنستنا الإنجليزية.» كان مدير البنك يعيش في الدائرة الثانية عشرة، التي تبعد عن مونبارناس بمسافة طويلة، لذلك استأجرت إليزابيث حجرة في بنسيون قريب. كان البنسيون عبارة عن منزل ضيق بواجهة صفراء في شارع جانبي، يطل على متجر دواجن، كان يزين دائما بجثث نتنة الرائحة لخنازير برية، يزورها كل صباح سادة مسنون يشبهون كائنات ساتير هرمة ليشموها طويلا بحب. وإلى جانب متجر الدواجن كان هناك مقهى مليء بالحشرات، بلافتة كتب عليها بالفرنسية «مقهى الصداقة. جعة ممتازة». لشد ما أبغضت إليزابيث ذلك البنسيون! وكانت مالكته عجوز متلصصة متشحة بالسواد قضت حياتها وهي ترتقي الدرج وتهبطه على أطراف أصابعها متحينة الفرصة لضبط النزلاء وهم يغسلون جواربهم في أحواضهم المخصصة لغسيل اليدين. أما النزلاء فكانوا أرامل سليطات الألسن حادات الطباع، وكن يلاحقن الرجل الوحيد في البناية، الذي كان كائنا أصلع هادئا يعمل في متجر «لا ساماريتين»، كما تقلب طيور السنونو كسرة خبز. أثناء الوجبات كانت كل واحدة منهن تفحص صحون الأخريات لترى من أعطيت أكبر حصة من الطعام. كان الحمام جحرا معتما بجدران مبقعة مثل جلد أصابه الجذام وسخان صدئ متهالك يطلق بوصتين من الماء الفاتر في حوض الاستحمام ثم يتوقف عن العمل معاندا. أما مدير البنك الذي كانت إليزابيث تدرس لأطفاله فكان رجلا في الخمسين، ذا وجه سمين منهك ورأس أصفر أصلع شبيه ببيض النعام. في اليوم الثاني بعد وصولها دخل الحجرة التي كان الأطفال يتلقون فيها دروسهم، وجلس بجانب إليزابيث وقرصها في كوعها في الحال. وفي اليوم الثالث قرصها في ربلة ساقها، وفي اليوم الرابع وراء ركبتها، وفي اليوم الخامس فوق ركبتها. ومنذ ذلك الحين، صارت كل مساء معركة صامتة بينهما، يدها أسفل الطاولة تقاوم وتحاول إبعاد تلك اليد الشبيهة بحيوان ابن مقرض عنها.
كانت حياة حقيرة وكريهة؛ بل إنها بلغت مستويات من «الكراهة» لم تكن إليزابيث تعلم بوجودها من قبل. لكن أكثر ما أحزنها وملأها بشعور التردي في عالم سفلي مريع، كان مرسم أمها. كانت السيدة لاكرستين واحدة من أولئك الناس الذين ينهارون تماما عند حرمانهم من الخدم. فكانت تعيش في كابوس مؤرق ما بين الرسم وأعمال المنزل، لكنها لم تجتهد في أي منهما. كانت من حين لآخر تذهب إلى «مدرسة» ما حيث ترسم لوحات رمادية مسلوبة الروح تحت توجيه معلم قام أسلوبه الفني على الفرش المتسخة؛ فيما عدا ذلك كانت تعبث بائسة في المنزل بأباريق الشاي والمقالي. وكانت حالة مرسمها تثير في نفس إليزابيث الكآبة، وأي كآبة؛ فقد بلغ من الخبث درجة شيطانية. كان حظيرة خنازير باردة ومغبرة، بأكوام من الكتب والجرائد متناثرة في أنحاء أرضه، وأجيال من القدور بدهونها راقدة على موقد الغاز الصدئ، وفراش لا يرتب مطلقا إلا بعد الظهر، وفي كل مكان - حيثما كان هناك احتمال أن تطأهم القدم أو تسقطهم - صفائح تربنتين ملوثة بالطلاء وأباريق شاي نصف مليئة بشاي أسود بارد. وكنت إذا رفعت حاشية عن أحد المقاعد قد تجد أسفلها صحنا به بقايا بيضة مسلوقة. كانت إليزابيث بمجرد ولوجها من الباب تصرخ قائلة: «يا أماه، عجبا لك يا أمي العزيزة! فلتنظري إلى حال هذه الحجرة! كم هو فظيع العيش هكذا!» «الحجرة يا عزيزتي؟ ما خطبها؟ هل هي غير منظمة؟» «غير منظمة! لماذا تركت صحن العصيدة ذلك في منتصف الفراش يا أماه؟ وتلك القدور! المنظر غاية في البشاعة حقا. فلتفترضي أن أحدا دخل!»
حينذاك كان يلوح في عيني السيدة لاكرستين تلك النظرة المنتشية السابحة في عالم آخر التي كانت تصطنعها متى طرأ أي شيء مثل العمل. «لن يبالي بذلك أي من أصدقائي يا عزيزتي. فنحن الفنانين بوهيميون للغاية. إنك لا تدركين كم نحن جميعا مستغرقون تماما في فننا. فليس لديك المزاج الفني يا عزيزتي.» «لا بد أن أحاول تنظيف بعض من تلك القدور. لا أطيق أن أتصورك تعيشين هكذا. ماذا فعلت بفرشاة التنظيف؟» «فرشاة التنظيف؟ دعيني أتذكر، أظن أنني رأيتها في مكان ما. آه، أجل! لقد استخدمتها بالأمس في تنظيف لوحة ألواني. لكنها ستكون على ما يرام إذا غسلتها جيدا بزيت التربنتين.»
ثم كانت السيدة لاكرستين تجلس لتواصل تلطيخ فرخ من أوراق الرسم بقلم فحم بينما تعمل إليزابيث. «كم أنت رائعة يا عزيزتي. عملية للغاية! لا أدري من أين ورثت هذه الصفة. أما أنا فالفن لي هو كل شيء. أشعر به مثل بحر مترام يمور بداخلي، ليغرق كل ما هو حقير وتافه في الوجود. بالأمس تناولت غدائي في مجلة «ناشز» لتوفير الوقت الذي يضيع في غسيل الصحون. يا لها من فكرة جيدة! كلما أردت صحنا نظيفا نزعت صفحة فحسب ... إلخ».
لم يكن لدى إليزابيث أصدقاء في باريس. فأصدقاء أمها كانوا إما نساء على شاكلتها، أو عزابا كبار السن خائبي السعي يعيشون على دخول صغيرة ويمارسون أنواعا تافهة من أنصاف الفنون مثل الحفر على الخشب أو الرسم على الخزف. فيما عدا ذلك كانت إليزابيث لا ترى سوى أجانب فقط، وهي كانت تكره كل الأجانب في مجملهم؛ أو على الأقل كل الرجال الأجانب، بملابسهم الرخيصة المنظر وسلوكياتهم المقززة على المائدة. وكان لديها عزاء وحيد في هذا الوقت، وهو الذهاب إلى المكتبة الأمريكية في شارع الإليزيه وقراءة الصحف المصورة. وأحيانا في أوقات الفراغ بعد ظهر يوم الأحد كانت تجلس لساعات إلى الطاولة الكبيرة اللامعة، منكبة على صحف «ذا سكيتش» و«تاتير» و«ذا جرافيك» و«ذا سبورتينج أند دراماتيك».
ويا للمباهج التي كانت مصورة فيها! «تجمع للصيد في حديقة شارلتون هول، المقر البديع للورد بورودين في وريكشير»، «معالي السيدة تايك بولبي في الحديقة مع كلبها الألزاسي الرائع، كوبلاي خان، الذي فاز بالجائزة الثانية في مهرجان كرافت للكلاب هذا الصيف»، «الاستمتاع بحمام شمس في مدينة كان. من اليسار إلى اليمين؛ الآنسة باربرا بيلبريك والسير إدوراد توك والليدي باميلا ويستروب والقبطان «تابي» بيناكير».
يا له من عالم ذهبي غاية في الجمال! حدث مرتين أن أطل على إليزابيث من الصفحة وجه إحدى زميلاتها القدامى في المدرسة. وقد أوجعها حتى الأعماق أن ترى ذلك. هناك كانت زميلاتها القدامى من المدرسة، كلهن مع خيولهن وسياراتهن وأزواجهن في سلاح الفرسان؛ وهي هنا، مقيدة إلى تلك الوظيفة البشعة، وذلك البنسيون البشع، وأمها البشعة! هل من الممكن ألا يكون ثمة مفر؟ هل من الممكن أن يحكم عليها إلى الأبد بهذا الانحطاط الدنيء، بلا رجاء في العودة مطلقا إلى العالم المحترم مرة أخرى؟
لم يكن عجيبا أن تكن إليزابيث كرها صحيا للفن، ومثال أمها قائم أمام عينيها. بل إن أي مبالغة في الفكر - الذي كانت تسميه «ذكاء» - يميل في عينيها للانتماء لما هو «كريه». كانت تشعر أن الناس الحقيقيين، الناس الوجهاء - الناس الذين يصطادون طيور الطهيوج ويذهبون إلى بلدة أسكوت حيث سباق الخيل ويبحرون في يخوت في ميناء كاوز - ليسوا أذكياء. فهم لا يولعون بهراء تأليف الكتب والعبث بفرش الرسم، وسائر أفكار الثقافة الرفيعة؛ الاشتراكية وما إلى ذلك. كانت «الثقافة الرفيعة» كلمة بغيضة في قاموسها. وحينما اتفق، كما حدث مرة أو مرتين، والتقت بفنان حقيقي على استعداد للعمل دون مقابل طوال حياته، بدلا من أن يبيع نفسه لمصرف أو شركة تأمين، كانت تحتقره أكثر مما احتقرت الهواة الذين في دائرة أمها. كان تخلي الرجل عامدا عن كل ما هو طيب ومحترم والتضحية بذاته من أجل عبث لا يؤدي إلى شيء شرا مخزيا ومهينا. ورغم أنها كانت ترهب العنوسة فقد كانت تفضل أن تعيش عانسا ألف عمر على أن تتزوج رجلا من هذا النوع.
بعد أن قضت إليزابيث نحو عامين في باريس ماتت أمها فجأة بتسمم الطعام. العجيب أنها لم تمت به أسرع من ذلك. هكذا تركت إليزابيث لا تملك من حطام الدنيا ما يكمل مائة جنيه. وفي الحال أرسل عمها وزوجته برقية من بورما طالبين أن تأتي وتقيم معهما، قائلين إنهما سيتبعان البرقية بخطاب.
وجعلت السيدة لاكرستين تتفكر في الخطاب لبعض الوقت، واضعة القلم بين شفتيها، مطلة على الصفحة بوجهها الرقيق المثلث مثل حية في حالة تأمل. «أعتقد أننا لا بد أن نستقبلها لدينا لمدة عام على أي حال. يا للضجر! مهما يكن من أمر، الفتيات هنا يتزوجن خلال عام إذا كان لديهن أي مسحة من جمال. ماذا أقول للفتاة يا توم؟» «تقولين؟ فلتقولي إنها هنا ستلتقط زوجا سريعا عن الوطن. شيء من هذا القبيل.» «عزيزي توم! أي كلام غير معقول هذا الذي تنطق به!»
ثم كتبت السيدة لاكرستين قائلة:
صحيح أن هذه القاعدة صغيرة جدا وأننا نقضي وقتا طويلا في الغابة، وأخشى أنك ستجدين الوضع مضجرا للغاية بعد مباهج باريس. لكن حقا هذه القواعد الصغيرة تنطوي إلى حد ما على مزايا للشابة الصغيرة. فهي تجد نفسها ملكة في المجتمع المحلي. إذ إن الرجال غير المتزوجين يشعرون بوحدة شديدة، حتى إنهم يقدرون صحبة الفتيات على نحو رائع للغاية ... إلخ.
أنفقت إليزابيث ثلاثين جنيها على الفساتين الصيفية وأبحرت في الحال. عبرت السفينة البحر المتوسط، تتقافز أمامها خنازير البحر معلنة عن قدومها، وهبطت القناة ونفذت منها إلى بحر ذي زرقة بينة مثل المينا، ثم خرجت منه لتتوغل في الرحاب الخضراء للمحيط الهندي، حيث راحت أسراب السمك الطيار تمرق رعبا من بدن السفينة المقترب. في الليل كانت المياه تشع نورا حتى إن المياه كانت تتدفق حول مقدمة السفينة مثل انطلاق رأس سهم مشتعل بنار خضراء. «أحبت» إليزابيث الحياة على متن السفينة. فقد أحبت الرقص على السطح ليلا، والكوكتيلات التي بدا كل رجل على السفينة متلهفا ليبتاعها لها، وألعاب سطح السفينة وإن كانت تسأم منها في نفس الوقت تقريبا الذي يسأم فيه أفراد مجموعة الشباب. لم تكن وفاة أمها التي مر عليها شهران فقط بشيء ذي بال لها. فهي لم تأبه لأمها كثيرا قط ، كما أن الناس هناك لم يكونوا يعلمون شيئا عن أمورها. كان جميلا جدا بعد ذينك العامين القاسيين أن تتنفس هواء الثروة مرة أخرى. لا يعني هذا أن أغلب الناس هنا كانوا أثرياء؛ لكن على متن السفينة يتصرف كل شخص كما لو كان ثريا. وأيقنت هي أنها سوف تحب الهند. إذ كانت قد كونت صورة مميزة من أحاديث الركاب الآخرين؛ بل وتعلمت العبارات الهندوستانية الضرورية، مثل «إدهيرو أو» (تعال هنا) و«جالدي» (أسرع) و«صاحبلوج» (السادة الأوروبيون) ... إلخ. وفي لهفة تذوقت الأجواء المحببة للنوادي، بمراوحها وهي تخفق وصبية حفاة بعمامات بيضاء يؤدون التحية في تبجيل؛ والميادين حيث رجال إنجليز ببشرة مسمرة وشوارب صغيرة شذبت بعناية، يعدون على خيولهم جيئة وذهابا ويسددون الضربات لكرات البولو. كادت الحياة التي يعيشها الناس في الهند أن تكون في جمال أن يكون المرء ثريا حقا.
أبحروا إلى كولومبو في مياه خضراء شفافة كالزجاج، حيث طفت السلاحف والثعابين السوداء مستدفئة. وجاء أسطول من الزوارق تتسابق لملاقاة السفينة، يدفعها رجال في سواد الفحم بشفاه صبغتها عصارة التانبول بحمرة أشد من الدم، وقد راحوا يتصايحون ويتصارعون حول معبر السفينة أثناء نزول الركاب. وأثناء نزول إليزابيث وأصدقائها جعل اثنان من أصحاب الزوارق يستجدونهم بهتافهم، وقد احتكت مقدمتا زورقيهما بمعبر السفينة. «لا تذهبي معه يا آنسة! ليس معه! إنه رجل سيئ شرير، غير جدير باصطحابك يا آنسة.» «لا تستمعي لكذبه يا آنسة! إنه شخص حقير بغيض! إنه يخادع بحيل وضيعة بغيضة. حيل أهل البلد البغيضة!» «ها ها! وهو نفسه ليس من أهل البلد! لا! إنه رجل أوروبي، وبشرته بيضاء تماما يا آنسة! ها ها!»
قال زوج صديقة إليزابيث، الذي كان مزارعا: «توقفا عن الصخب وإلا ركلت أحدكما.» وركبوا أحد الزورقين الذي حملهم تجاه أرصفة الميناء التي أضاءتها الشمس. وقد استدار صاحب الزورق الفائز ونفث على غريمه ملء فمه بصاقا لا بد أنه ظل يدخره وقتا طويلا جدا.
كان هذا هو الشرق. حمل الهواء الساخن المضطرب روائح زيت جوز الهند والصندل، والقرفة والكركم عابرا المياه. خرج أصدقاء إليزابيث بها إلى ضاحية ماونت لافينيا، حيث تحمموا بمياه البحر الفاترة التي علاها زبد مثل الكوكا كولا. وعادت إلى السفينة في المساء، ثم وصلوا إلى رانجون بعد ذلك بأسبوع.
في شمال ماندالاي كان القطار الذي تغذى بالحطب، يسير رويدا بسرعة اثني عشر ميلا في الساعة عبر سهل شاسع جاف، تحد أطرافه النائية دوائر زرقاء من التلال. وقد وقفت طيور البلشون البيضاء من دون حراك مثل طيور مالك الحزين، ولمعت أكوام من الفلفل الجاف بلون قرمزي تحت أشعة الشمس. من حين لآخر كان يبرز في السهل معبد أبيض كأنه صدر واحدة من العمالقة مستلقية على الأرض. هبط الليل المداري المبكر، ومضى القطار مرتجا، على مهل، متوقفا في محطات صغيرة حيث ترددت صيحات همجية في الظلام. إذ كان هناك رجال نصف عراة عاقدين شعورهم الطويلة وراء رءوسهم، يتحركون جيئة وذهابا، وقد بدوا في بشاعة الشياطين في عيني إليزابيث. توغل القطار في الغابة، ولامست الفروع غير المرئية النوافذ. كانت الساعة التاسعة تقريبا حين وصلوا كياوكتادا؛ حيث كان عم إليزابيث وزوجته منتظرين مع سيارة السيد ماكجريجور، وبعض الخدم الذين حملوا مشاعل. تقدمت زوجة العم وأخذت بمنكبي إليزابيث بين يديها الرقيقتين الشبيهتين بالسحالي.
قالت: «أعتقد أنك إليزابيث، ابنة أخينا؟ إننا في غاية السعادة لرؤيتك»، ثم قبلتها.
حدق السيد لاكرستين من فوق منكب زوجته في ضوء المشعل، ثم أطلق نصف تصفيرة، وهتف: «يا للهول!» ثم ضم إليزابيث وقبلها، بدفء أكثر مما كان ينبغي عليه، كما اعتقدت. فهي لم تر أيا منهما من قبل قط.
بعد العشاء، راحت إليزابيث وزوجة عمها تتحدثان تحت المروحة في حجرة الاستقبال. أما السيد لاكرستين فكان يتمشى في الحديقة، بذريعة أنه يشم عبير زهور الياسمين الهندي، لكنه في الحقيقة كان يتناول شرابا خلسة هربه إليه أحد الخدم من مؤخرة المنزل. «كم أنت جميلة حقا يا عزيزتي! دعيني أنظر إليك مرة أخرى.» ثم أمسكت بمنكبيها وقالت: «أعتقد حقا أن الشعر القصير يناسبك. هل قصصته في باريس؟» «أجل. فالجميع هناك يقصرون شعرهم. إنه يناسب من كان رأسها صغيرا بعض الشيء.» «جميل! وتلك النظارة المزخرفة المصنوعة من صدفة السلحفاة، يا لها من موضة جذابة! لقد سمعت أن كل ال... آه ... النساء في أمريكا الجنوبية بدأن يرتدينها. لم أكن أعلم أن لدي قريبة بهذا الجمال الصارخ. قلت لي كم عمرك يا عزيزتي؟» «اثنان وعشرون.» «اثنان وعشرون! كم سيسر الرجال جميعا حين نصطحبك إلى النادي غدا! فيا لهم من مساكين، يشعرون بوحدة شديدة لعدم رؤيتهم أي وجه جديد مطلقا. وهل مكثت عامين كاملين في باريس؟ لا أتخيل ما الذي يمكن أن يكون دها الرجال هناك ليتركوك تغادرين من دون زواج.» «أخشى أنني لم أكن ألتقي بالعديد من الرجال يا عمتي. أجانب فقط. فقد كان علينا أن نعيش حياة هادئة جدا.» ثم أردفت قائلة: «كما أنني كنت أعمل» وقد راودها شعور بأنه اعتراف مخز بعض الشيء.
تنهدت السيدة لاكرستين قائلة: «بالطبع، بالطبع. نسمع بهذا الأمر من هنا وهناك. فتيات جميلات يضطررن للعمل من أجل كسب الرزق. يا له من شيء مؤسف! أعتقد أنها أنانية فظيعة أن يظل هؤلاء الرجال بلا زواج بينما هناك الكثير جدا من الفتيات المسكينات اللواتي يبحثن عن أزواج، أليس كذلك؟» لما لم تجب إليزابيث على هذا السؤال، أضافت السيدة لاكرستين بتنهيدة أخرى: «من المؤكد أنني لو كنت شابة صغيرة كنت سأتزوج أي أحد، أي أحد حرفيا!»
التقت عينا السيدتين. كان لدى السيدة لاكرستين الكثير الذي أرادت قوله، لكنها لم يكن لديها نية أن تزيد عن التلميح له بمواربة. وقد جرى جزء كبير من حديثها بالتلميحات؛ بيد أنها تدبرت عامة أن تجعل مقصدها واضحا بدرجة معقولة. إذ قالت بنبرة محايدة رقيقة كأنها تناقش أحد الموضوعات العامة: «لا بد أن أقر بالطبع أن إخفاق الفتيات في الاقتران بزوج يكون في بعض الحالات خطأ منهن. وهذا يحدث أحيانا حتى هنا. تحضرني إحدى تلك الحالات التي وقعت منذ فترة قصيرة؛ إذ حضرت فتاة إلى هنا وأقامت مع شقيقها عاما بأكمله، وقد جاءتها عروض من كل أصناف الرجال؛ شرطيون ومسئولو غابات ورجال يعملون في شركات أخشاب ينتظرهم مستقبل طيب جدا. وقد رفضتهم جميعا؛ إذ أرادت أن تتزوج زواجا مختلط الأعراق حسبما سمعت. حسنا، وماذا كانت النتيجة؟ بالطبع لم يستطع أخوها أن يحتفظ بها إلى الأبد. سمعت أنها الآن في الوطن، تعمل المسكينة وصيفة، بالأصح خادمة، وتحصل على خمسة عشر شلنا فقط في الأسبوع! أليس هذا أمرا مروعا؟»
قالت إليزابيث مرددة: «مروع!»
لم تنبس كلمة أخرى في هذا الموضوع. في الصباح، بعد أن عادت من منزل فلوري، جعلت إليزابيث تصف لعمها وزوجته مغامرتها. كانوا جالسين لتناول الإفطار، إلى المائدة المحملة بالزهور، فيما راحت المروحة تخفق فوقهم، وقد وقف الخادم المسلم الطويل القامة مثل طائر اللقلق في بزته البيضاء وعمته، وراء مقعد السيدة لاكرستين حاملا صينية في يده. «صحيح يا عمتي، كان ثمة شيء مثير للفضول! فقد دخلت فتاة بورمية الشرفة، وأنا لم أكن قد رأيت واحدة قط، أو بالأحرى لم أكن أعرف أنهن فتيات. يا لها من شيء صغير عجيب! كانت تقريبا أشبه بدمية بوجهها الأصفر المستدير وشعرها الأسود الملفوف فوق رأسها. بدت في السابعة عشرة من عمرها تقريبا. وقد قال السيد فلوري إنها الغسالة.»
تسمر رئيس الخدم، الذي كان يتحدث اللغة الإنجليزية جيدا، ببدنه الطويل، وحدق في الفتاة بمقلتي عينيه البيضاوين في وجهه الأسود. وتوقف السيد لاكرستين بشوكة مليئة بالسمك في منتصف الطريق بين صحنه وفمه الغليظ المفتوح.
وقال: «غسالة؟ غسالة! اللعنة، أعتقد أن ثمة خطأ! فليس هناك غسالات في هذا البلد. فالرجال يقومون بكل أعمال الغسيل. إذا أردت رأيي ...» ثم توقف على نحو مفاجئ جدا، كأن أحدا قد وطئ إصبع قدمه أسفل المائدة.
الفصل الثامن
في ذلك المساء طلب فلوري من كو سلا استدعاء الحلاق؛ كان الحلاق الوحيد في البلدة وكان هنديا ويكسب رزقه من الحلاقة للعمال الهنود حلاقة جافة يوما بعد يوم مقابل ثماني آنات في الشهر. وكان الأوروبيون يترددون عليه لعدم وجود أي حلاق آخر. ظل الحلاق منتظرا في الشرفة حتى عاد فلوري من التنس، فعقم المقص بالمياه المغلية ومطهر كونديز فلويد ثم قص شعره.
قال فلوري لكو سلا: «ضع أفضل بذلاتي الخفيفة وقميصا حريريا وحذائي المصنوع من جلد السامبار. وكذلك ربطة العنق الجديدة التي وصلت من رانجون الأسبوع الماضي.»
قال كو سلا قاصدا أنه سوف يفعل ذلك: «لقد فعلت ذلك يا سيدي.» حين دخل فلوري المخدع وجد كو سلا منتظرا بجانب الملابس التي بسطها، باديا عليه تجهم طفيف. اتضح في الحال أن كو سلا على علم بسبب تأنق فلوري (ألا وهو الأمل في لقاء إليزابيث) وأنه كان يستنكره.
سأله فلوري: «ماذا تنتظر؟» «لأساعدك في ارتداء ملابسك.» «سأرتدي ملابسي بنفسي هذا المساء. يمكنك الذهاب.»
كان سيحلق - للمرة الثانية ذلك اليوم - ولم يرد أن يراه كو سلا وهو يأخذ أدوات الحلاقة للحمام. فقد مرت عدة سنوات منذ حلق مرتين في نفس اليوم. وقد قال في نفسه يا له من حظ سعيد الذي جعله يرسل في طلب ربطة العنق الجديدة تلك الأسبوع الماضي. ارتدى فلوري ملابسه بعناية شديدة، وأمضى نحو ربع ساعة في تصفيف شعره، الذي ظل واقفا يأبى أن ينام بعد قصه.
في الدقيقة التالية تقريبا، كما بدا الأمر، كان يسير مع إليزابيث في طريق البازار؛ إذ كان قد وجدها بمفردها في «مكتبة» النادي، فواتته شجاعة مباغتة وسألها أن تخرج معه؛ وقد ذهبت معه بيسر فاجأه؛ دون حتى أن تتوقف لتقول أي شيء لعمها وزوجته. لكنه كان قد عاش في بورما زمنا طويلا جدا حتى إنه نسي العادات الإنجليزية. كان الظلام حالكا تحت أشجار التين المجوسي القائمة على طريق البازار، وقد أخفت أوراقها القمر الذي كان في أحد أطواره، لكن تألقت النجوم بيضاء ودانية هنا وهناك، كأنها مصابيح تدلت بخيوط غير مرئية. وتدفقت موجات متتالية من الروائح، في البداية رائحة الياسمين الهندي الحلوة لدرجة مزعجة، ثم زخمة باردة صادرة عن روث أو تحلل آتية من الأكواخ المقابلة لبيت الدكتور فيراسوامي. وتصاعد قرع طبول من على بعد مسافة قصيرة.
حين سمع فلوري الطبول تذكر أنهم يقيمون مهرجان بوي على مسافة غير بعيدة على الطريق، أمام منزل يو بو كين؛ في الواقع كان يو بو كين هو الذي أعد العدة للمهرجان، وإن كان شخص آخر هو الذي تكفل بنفقاته. هنا خطر لفلوري فكرة جريئة، أن يصطحب إليزابيث إلى المهرجان! فسوف تحبه، لا بد أن تحبه؛ فلا يمكن لشخص له عينان أن يقاوم رقص مهرجان بوي. قد تقع فضيحة حين يعودان إلى النادي معا بعد غياب طويل؛ لكن تبا! ما أهمية ذلك؟ فهي مختلفة عن ذلك القطيع من الحمقى الذين في النادي. وسيكون الذهاب معا إلى المهرجان ممتعا للغاية! في هذه اللحظة انفجرت الموسيقى في جلبة مخيفة؛ صرير حاد من المزامير، وجلجلة مثل جلجلة الصناجات، وقرع خشن على الطبول، علا فوقها صوت رجل كان يزعق بحدة.
توقفت إليزابيث وقالت: «ما هذه الضجة؟ يبدو مثل صوت فرقة جاز!» «إنها الموسيقى المحلية؛ فإنهم يقيمون مهرجان بوي، إنها مسرحية بورمية نوعا ما؛ مزيج ما بين مسرحية تاريخية وإسكتشات رقص وغناء، إذا استطعت تخيل ذلك. أعتقد أنك ستجدينها مسلية. إنها عند منعطف الطريق بالضبط.»
قالت بشيء من الشك: «أوه.»
دارا مع المنعطف فوصلا إلى وهج من الضوء. كان الطريق طيلة ثلاثين ياردة يسده جمهور يشاهدون المهرجان. كان في الخلفية مسرح مرتفع أسفل مصابيح كيروسين لها أزيز، وأمامه الفرقة الموسيقية وقد علا صوتها صياحا وقرعا؛ على المسرح كان رجلان بملابس ذكرت إليزابيث بالمعابد الصينية يؤديان حركات تمثيلية بسيوف معقوفة في أياديهما. على طول طريق السير كان بحر من ظهور نساء تسربلن بموسلين أبيض، بشالات وردية مرسلة حول مناكبهن وشعور سوداء ملفوفة في كعكات. وتمدد القليلون على حصائرهم، وراحوا في سبات عميق. وجعل صيني عجوز بصينية فول سوداني يسلك طريقه وسط الحشد، وهو يترنم حزينا: «مايابي! مايابي!» [فول سوداني باللغة البورمية].
قال فلوري: «سنتوقف ونشاهد لبضع دقائق إذا أردت.»
كاد وهج المصابيح والضجيج المروع للفرقة الموسيقية أن يصيب إليزابيث بذهول، لكن أكثر ما جعلها تجفل كان منظر هذا الحشد من الناس وهم جالسون على قارعة الطريق كما لو كانت صالة مسرح.
قالت إليزابيث: «هل دائما ما يؤدون مسرحياتهم في وسط الطريق؟» «دائما؛ فهم يقيمون شيئا شبيها بخشبة مسرح ويفككونها في الصباح. ويستمر العرض طوال الليل.» «لكن هل يسمح لهم بأن يسدوا الطريق كله؟» «أجل. لا يوجد هنا أنظمة مرور. إذ لا يوجد مرور لينظم.»
بدا لها الأمر شاذا جدا عن الطبيعي. في هذا الوقت كان كل الجمهور تقريبا قد استداروا على حصائرهم ليبحلقوا في السيدة الإنجليزية. كان يوجد في منتصف الحشد بضعة مقاعد، جلس عليها بعض الكتبة والمسئولين. كان بينهم يو بو كين، الذي بذل جهدا ليستدير بجسده الشبيه بجسد الفيل ويحيي الأوروبيين. حين توقفت الموسيقى جاء با تايك المجدور مسرعا وسط الحشد وهبط إلى الأرض محييا فلوري، بأسلوبه الوجل.
وقال: «سيدي المعظم، يو بو كين، يسألك إذا ما كنت تود أن تأتي أنت والسيدة الشابة البيضاء وتشاهدا عرضنا بضع دقائق. فلديه مقاعد جاهزة لكما.»
قال فلوري لإليزابيث: «إنهما يسألاننا الذهاب والجلوس. هل تودين ذلك؟ العرض ممتع إلى حد ما. سينصرف هذان الرجلان عما قليل وستقدم بعض الرقصات. هلا لبثنا بضع دقائق إذا كنت لا تجدين الأمر مملا؟»
ساور إليزابيث شك كبير. فعلى نحو ما لم يبد من الصحيح ولا حتى الآمن أن تخوض بين ذلك الحشد الكريه الرائحة من أهل البلد. إلا أنها كانت تثق في فلوري، الذي كان من المفترض أنه على علم بما يصح، وسمحت له بأن يتقدمها إلى المقاعد. أفسح البورميون الطريق على حصائرهم، وهم يحدقون إليها ويثرثرون؛ احتكت قصبتا ساقيها بأجساد دافئة متلفعة بالموسلين، وفاحت زهمة عرق همجية. مال يو بو كين ناحيتها، منحنيا بقدر ما استطاع وقال بصوت به غنة: «تفضلي بالجلوس يا سيدتي! يشرفني أيما شرف التعرف عليك. مساء الخير. صباح الخير يا سيدي، السيد فلوري! يا لها من مفاجأة سارة. لو كنا نعلم أننا سنتشرف بصحبتك لكنا وفرنا الويسكي وسائر المرطبات الأوروبية. ها ها!»
ضحك فالتمعت في ضوء المصابيح أسنانه التي حمرها نبات التانبول مثل ورق قصدير أحمر. كان في غاية الجسامة وفي غاية البشاعة حتى إن إليزابيث لم تملك ألا تنكمش منه. في نفس الوقت كان شابا نحيفا يرتدي إزارا أرجوانيا ينحني أمامها مادا صينية عليها قدحا شربات أصفر، مثلج. صفق يو بو كين كفيه بعنف ونادى على صبي بجواره قائلا: «يا أيها الصبي!» أعطاه بعض التعليمات باللغة البورمية، فشق الصبي طريقه إلى حافة المسرح.
قال فلوري: «إنه يطلب منهم أن يأتوا بأفضل راقصة لديهم على شرفنا. انظري، ها قد أتت.»
تقدم إلى ضوء المصابيح فتاة كانت جالسة القرفصاء تدخن في مؤخرة خشبة المسرح. كانت صغيرة السن جدا، نحيلة المنكبين، غائرة الصدر، ترتدي إزارا أزرق فاتحا من الساتان أخفى قدميها. كانت حواشي بلوزتها مقوسة للخارج في أطواق صغيرة فوق ردفيها، على غرار الموضة البورمية القديمة، فبدت مثل بتلات زهرة متجهة إلى أسفل. ألقت الراقصة بالسيجار بفتور إلى أحد الرجال في الفرقة الموسيقية، ثم بسطت إحدى ذراعيها النحيلتين ولوتها كأنها تريد إرخاء عضلاتها.
انطلقت الفرقة الموسيقية في ضجيج عال مفاجئ. كان هناك مزامير مثل آلة مزامير القربة، وآلة غريبة مكونة من ألواح من البامبو، راح رجل يضربها بمطرقة صغيرة، وفي الوسط كان رجل أحاطت به اثنتا عشرة طبلة طويلة مختلفة الأحجام. وكان ينتقل من واحدة إلى أخرى سريعا، ببطن يده. وخلال لحظة بدأت الفتاة ترقص. لكنه لم يكن رقصا في البداية، وإنما كان حركات متناغمة من هز الرأس، واتخاذ وضعيات ولوي المرفقين، شبيهة بانثناءات واحدة من تلك الدمى الخشبية فوق إحدى الأرجوحات الدوارة القديمة. كان عنقها ومرفقاها في دروانها تماما مثل دمية، لكنها أفعوانية إلى حد مدهش. كانت يداها، اللتان تلوتا مضمومتي الأصابع مثل رأسي حيتين، تستطيعان أن تمتدا للوراء حتى تكادا تصيران محاذيتين لساعديها. ثم تسارعت حركاتها تدريجيا، وراحت تقفز من ناحية إلى أخرى، وهي تهبط بجسمها فيما يشبه الانحناء للتحية وتنهض مرة أخرى برشاقة غير عادية، رغم الإزار الطويل الذي حبس قدميها. ثم رقصت في وضعية غريبة كأنها جالسة، وقد ثنت ركبتيها ومالت بجسدها إلى الأمام ومدت ذراعيها تلويهما، ورأسها أيضا يتحرك على إيقاع الطبول. تسارعت وتيرة الموسيقى حتى بلغت الذروة، فقامت الفتاة منتصبة وراحت تدور سريعا مثل البلبل الدوار، وطوق بلوزتها يرفرف حولها مثل بتلات زهرة اللبن الثلجية. ثم توقفت الموسيقى بغتة كما بدأت، وهبطت الفتاة مرة أخرى منحنية تحية، وسط صياح هادر من الجمهور.
شاهدت إليزابيث الرقصة بمزيج من الذهول والملل وشيء يشارف الرعب. كانت قد احتست شرابها ووجدت مذاقه مثل زيت الشعر، فيما راح في سبات عميق على حصيرة قريبة من قدميها ثلاث فتيات بورميات واضعات رءوسهن على الوسادة ذاتها، وقد بدت وجوههن البيضاوية الصغيرة المتراصة مثل وجوه هريرات. في ظل الموسيقى كان فلوري يتحدث بصوت خفيض في أذن إليزابيث معلقا على الرقصة. «عرفت أن هذا سيثير اهتمامك؛ لذلك أحضرتك إلى هنا. فقد قرأت كتبا وذهبت إلى أماكن ذات حضارة، ولست مثل بقيتنا نحن الهمج البؤساء هنا. ألا تعتقدين أن هذا يستحق المشاهدة، بأسلوبه الغريب؟ فلتنظري فحسب إلى حركات تلك الفتاة، انظري إليها في ذلك الوضع الراكع الغريب كأنها دمية ماريونيت، والطريقة التي تتلوى بها ذراعاها من المرفقين كأنها كوبرا ترتفع لتنقض. إنه شيء غريب، بل إنه قبيح، نوع من القبح المتعمد. كما يشوبه شيء شرير أيضا. فكل المغوليين بهم مس شيطاني، لكن حين تمعنين النظر، فأي فن، وأي قرون من الثقافة تجدينها خلفه! كل حركة تؤديها تلك الفتاة جرت دراستها وتناقلها على مر أجيال لا تحصى. متى أمعنت النظر في فنون هذه الشعوب الشرقية، رأيت ذلك؛ حضارة تعود إلى الماضي السحيق، تقريبا في نفس الزمان الذي كنا نكتسي فيه بدهان أجسادنا بصبغة نبات الوسمة. بطريقة لا أستطيع وصفها لك، تتلخص حياة بورما بأكملها وروحها في الطريقة التي تلوي بها تلك الفتاة ذراعيها. وأنت تشاهدينها تستطيعين أن تري حقول الأرز، والقرى الواقعة أسفل أشجار الساج، والمعابد، والقساوسة في أرديتهم الصفراء، والجاموس وهي تسبح في الأنهار في الصباح الباكر، وقصر ثيبو ...»
توقف صوته فجأة مع توقف الموسيقى. كان ثمة أمور معينة، منها رقصة البوي، حثته على الحديث باستطراد وبلا حذر؛ لكنه أدرك الآن أنه إنما كان يتحدث مثل شخصية في رواية، بيد أنها ليست برواية جيدة، فأشاح ببصره بعيدا. كانت إليزابيث قد أصغت له بفتور لشعورها بالضيق. كان أول ما طرأ على بالها التساؤل: ما الذي كان هذا الرجل يتحدث عنه؟ كما أنها التقطت كلمة فن التي تبغضها أكثر من مرة. ولأول مرة تذكرت أن فلوري غريب عنها تماما وأنه لم يكن من الحكمة أن تخرج معه بمفردها. نظرت حولها إلى بحر الوجوه داكنة البشرة والوهج الصارخ للمصابيح؛ كادت غرابة المشهد أن توقع فيها الرعب. ما الذي كانت تفعله في هذا المكان؟ من المؤكد أنه لم يكن من الصواب أن تجلس بين الناس السود هكذا، تكاد تلامسهم، تغمرها رائحة ثومهم وعرقهم. لماذا لم تعد أدراجها إلى النادي لتكون مع سائر الناس البيض؟ لماذا أتى بها إلى هنا، وسط هذا الحشد من السكان الأصليين، لتشاهد هذا العرض البشع والهمجي؟
انطلقت الموسيقى، وبدأت فتاة المهرجان ترقص مرة أخرى. كان وجهها مغطى بطبقة كثيفة من البودرة حتى إنه لاح في ضوء المصابيح كأنه قناع من الطبشور خلفه عينان حيتان. كانت مسخا بذلك الوجه البيضاوي الأبيض كبشرة الموتى وتلك الحركات المتيبسة كالخشب، كأنها شيطان. غيرت الموسيقى سرعة إيقاعها، وشرعت الفتاة تغني بصوت عال مزعج. كانت أغنية ذات إيقاع سريع، مرح لكن شديد. واشترك الحشد في الغناء، فراح مائة صوت يردد المقاطع المزعجة في انسجام. وظلت الفتاة وهي في وضع الانحناء الغريب تدور وترقص وقد برز ردفاها تجاه الجمهور، بينما لمع إزارها الحريري مثل المعدن. وراحت تهز عجيزتها ذات اليمين وذات اليسار وما زالت يداها ومرفقاها يدوران. ثم راحت تلوي ردفيها منفصلين على إيقاع الموسيقى، بمهارة مدهشة، بانت جلية من خلال الإزار.
تصاعدت صيحة استحسان من الجمهور. واستيقظت الفتيات الثلاث النائمات على البساط في نفس اللحظة وجعلن يصفقن بحماس. وهتف واحد من الكتبة بصوت أخنف: «أحسنت! أحسنت!» باللغة الإنجليزية من أجل الأوروبيين. لكن يو بو كين عبس ولوح بيده، إذ كان يفهم النساء الأوروبيات جيدا. إلا أن إليزابيث كانت قد هبت واقفة بالفعل.
وقالت بفظاظة: «سأرحل. حان الوقت لنعود.» رغم أنها كانت قد تولت بوجهها عنه، فقد استطاع فلوري أن يرى أن وجهها كان متوردا.
وقف بجانبها منزعجا وقال: «لكن مهلا! ألا يمكنك البقاء بضع دقائق أخرى؟ أعلم أن الوقت متأخر، لكن ... لقد أدخلوا هذه الفتاة قبل موعدها بساعتين إكراما لنا. لنبق بضع دقائق فقط؟» «لا أستطيع الصبر، كان يجدر بي العودة منذ زمن طويل جدا. لا أعلم ماذا سيجول بخاطر عمي وزوجته.»
بدأت في الحال تلتمس طريقها بحذر وسط الحشود، وذهب هو في إثرها، دون حتى أن يتاح له الوقت ليشكر القائمين على المهرجان على جهدهم. أفسح البورميون الطريق عابسين. كم هو تصرف مألوف من الإنجليز، يقلبون حال كل شيء باستدعاء أفضل راقصة ثم يرحلون قبل أن توشك على البدء! وقد قام شجار مخيف بمجرد ذهاب فلوري وإليزابيث، لرفض فتاة المهرجان مواصلة رقصتها ومطالبة الجمهور أن تستمر. بيد أن السلام عاد حين هرع اثنان من المهرجين إلى خشبة المسرح وشرعا يطلقان الألعاب النارية والنكات البذيئة.
تبع فلوري الفتاة على الطريق خانعا. كانت تسير سريعا، وقد أعرضت عنه، وظلت بعض الوقت دون أن تنطق. يا له من موقف بعد أن كانا في انسجام شديد معا! ظل فلوري يحاول الاعتذار. «إنني في غاية الأسف! لم يدر بخلدي أنه سوف يزعجك ...» «لا بأس. ما الذي يدعو للاعتذار؟ قلت فقط إن الوقت حان للعودة، هذا جل ما في الأمر.» «كان يجب أن أمعن التفكير. لا يلحظ المرء مثل تلك الأشياء في هذا البلد. فحس اللياقة لدى هؤلاء الناس ليس مثلنا؛ إنه أشد نوعا ما، لكن ...»
فهتفت في غضب شديد: «ليس هذا ما في الأمر! ليس هذا ما في الأمر!»
رأى أنه إنما كان يزيد الطين بلة. فسارا في صمت، يتبعها هو. كان بائسا. فكم كان أحمق وأي حماقة! إلا أنه طوال هذا الوقت لم يكن لديه أدنى فكرة عن السبب الحقيقي لغضبها منه. لم يكن تصرف فتاة المهرجان، في حد ذاته، ما أثار استياءها؛ وإنما ذكرها بأشياء. لكن الرحلة بأسرها - الرغبة في الاحتكاك بكل أولئك الناس الكريهي الرائحة من أهل البلد في حد ذاتها - تركت لديها انطباعا سيئا. كانت على يقين تام أن تلك لم تكن الطريقة التي يجدر أن يتصرف بها الرجال البيض. وتلك الخطبة المتشعبة العجيبة التي كان قد بدأها، بكل تلك الكلمات الطويلة - حتى كادت تظن مستاءة أنه كان يقتبس شعرا - كانت تلك هي الطريقة التي كان يتحدث بها أولئك الفنانون البشعون الذين تلقاهم أحيانا في باريس. كانت تظنه رجلا متمتعا بصفات الرجولة حتى هذا المساء. ثم عادت بها الذاكرة لمغامرة الصباح، وكيف واجه الجاموسة وهو أعزل، فتبخر بعض من غضبها. مع بلوغهما بوابة النادي شعرت بنفسها تنازعها لمسامحته. وكان فلوري في ذاك الوقت قد استجمع شجاعته للتحدث ثانية. فتوقف، وتوقفت هي أيضا، في رقعة تسلل فيها ضوء النجوم من بين فروع الأشجار فاستطاع أن يرى وجهها رؤية غير واضحة. «حسنا. حسنا، أرجو حقا ألا تكوني غاضبة فعلا بشأن هذا الأمر؟» «لا، بالطبع لست كذلك. لقد أخبرتك أنني لست كذلك.» «ما كان يجدر بي أن آخذك هناك. أرجو أن تسامحيني. في الحقيقة، لا أعتقد أنني سوف أخبر الآخرين أين كنت. ربما من الأفضل أن نقول إنك خرجت للتمشية، في الحديقة؛ شيء من هذا القبيل. فقد يعتقدون أنه من الغريب أن تذهب فتاة بيضاء إلى مهرجان. ولا أعتقد أنني سأخبرهم.»
أجابته بود فاجأه: «لن أخبرهم بالطبع!» عرف بعد ذلك أنه قد سومح. لكنه لم يكن قد أدرك بعد ما الذي سومح عليه.
دخلا النادي كل على حدة، في اتفاق ضمني. كانت الرحلة الاستكشافية فاشلة دون شك. أحاطت أجواء احتفالية قاعة الجلوس في النادي تلك الليلة؛ إذ كان المجتمع الأوروبي بأسره في انتظار الترحيب بإليزابيث، واصطف الساقي والغلمان الستة على جانبي الباب، في أفضل بذلاتهم البيضاء المنشاة، مبتسمين يؤدون التحية. بعد أن انتهى الأوروبيون من عبارات الترحيب، تقدم الساقي بعقد ضخم من الزهور كان الخدم قد أعدوه من أجل «الآنسة الأوروبية». ألقى السيد ماكجريجور خطبة ترحيب فكاهية جدا، قدم فيها كل الأشخاص؛ إذ قدم ماكسويل بصفته «اختصاصي الأشجار المحلي لدينا»، وويستفليد بصفته «حامي القانون والنظام و... آه ... مصدر رعب اللصوص في البلد»، وهكذا دواليك. تعالت الضحكات؛ إذ كانت رؤية وجه فتاة جميلة قد جعلت الجميع في مزاج مرح جدا حتى إنهم استمتعوا بخطبة السيد ماكجريجور، التي قضى أغلب المساء في إعدادها في الواقع.
أول ما سنحت الفرصة، أخذ إليس كلا من فلوري وويستفيلد من ذراعيهما، خلسة، وابتعد بهما إلى حجرة لعب الأوراق. كان في حالة مزاجية أفضل كثيرا عن المعتاد. حتى إنه قرص ذراع فلوري بأصابعه الصغيرة القاسية قرصة مؤلمة لكن بود. «حسنا يا صديقي، كان الكل يبحثون عنك. فأين كنت طوال هذا الوقت؟» «كنت أتمشى فحسب.» «تتمشى! مع من؟» «مع الآنسة لاكرستين.» «كنت أعلم ذلك! إذن أنت الأحمق الذي وقع في الفخ، أليس كذلك؟ لقد ابتلعت الطعم قبل حتى أن يراه أحد آخر. حقا أقسم أنني كنت أظن أنك قد كبرت جدا على ذلك.» «ماذا تقصد؟» «أقصد! انظر إليه وهو يتظاهر بأنه لا يعلم ما أقصد! أقصد أن السيدة لاكرستين قد وجدت فيك صهرها المحبوب بالطبع. هذا ما سيحدث إن لم تتوخ أشد الحذر. صحيح يا ويستفيلد؟» «صحيح تماما يا صديقي. شاب عازب مناسب. قيد الزواج وما إلى ذلك. لقد وضعوك هدفا لهم.» «لا أعلم من أين جئتما بهذا الاعتقاد. فلم تمض أربع وعشرون ساعة على وجود الفتاة هنا.» «لكنها كانت فترة كافية لتصحبها في ممشى الحديقة على أي حال. فلتحترس لخطواتك. قد يكون توم لاكرستين سكيرا لا يفيق، لكنه ليس شديد الحماقة ليريد أن تظل ابنة أخيه معلقة برقبته لبقية حياته. وهي بالتأكيد تعلم من أين تؤكل الكتف. لذا احترس ولا تضع الحبل حول رأسك.» «تبا، لا يحق لك الحديث عن الناس هكذا. على كل حال، الفتاة ليست سوى طفلة ...» «يا عزيزي الغبي ...» أمسك إليس بتلابيب فلوري، بشيء من العطف وقد صار لديه الآن موضوع جديد لفضيحة، وقال: «يا عزيزي، يا عزيزي الأبله، لا تتسرع في ملء رأسك بهذا اللغو. إنك تظن أن تلك الفتاة بريئة، لكنها ليست كذلك. كل أولئك الفتيات المتغربات على شاكلة واحدة؛ «ارضي بأي رجل لكن لا تضاجعيه قبل الزواج!» هذا هو شعارهن، كلهن بلا استثناء. لماذا جاءت الفتاة إلى هنا في ظنك؟» «لماذا؟ لا أعلم. لأنها أرادت ذلك على ما أعتقد.» «يا لك من أحمق طيب! لقد جاءت لتنقض على زوج بالطبع. كأن ذلك ليس معروفا! حين تفشل مساعي الفتاة في كل الأماكن تجرب حظها في الهند؛ حيث يهفو كل رجل إلى رؤية امرأة بيضاء. هذا ما يسمونه سوق الزواج الهندي. يجدر بهم أن يسموه سوق اللحم. كل عام تأتي حمولات ملء السفن منهن مثل جثث الخراف المجمدة، ليقلب فيها العزاب كبار السن المقرفون أمثالك. تخزين بارد. قطع لحم لينة من الثلج مباشرة.» «إنك تنطق بأشياء شنيعة.»
قال إليس وقد بدا عليه السرور: «أفضل لحوم المراعي الإنجليزية. شحنات طازجة. حالة مضمونة من الجودة.»
وراح يمثل أنه يتفحص قطعة لحم، ويتشممها بصوت كصوت الماعز. كان الاحتمال أن يستمر إليس في هذه النكتة وقتا طويلا؛ فهذا ما يحدث دائما؛ ولم يكن ثمة شيء يمنحه المتعة البالغة مثل أن يلطخ اسم امرأة بالوحل.
لم ير فلوري إليزابيث كثيرا ذلك المساء. كان الكل معا في قاعة الجلوس، وتصاعدت ثرثرة صاخبة حول لا شيء كما جرت العادة في هذه المناسبات. لم يكن فلوري يستطيع مجاراة ذلك النوع من الحديث طويلا. أما إليزابيث، فقد كان في جو التحضر في النادي، بالوجوه البيضاء التي أحاطت بها والشكل المألوف للصحف المصورة وصور الجرو «بونزو»، ما منحها شعورا بالطمأنينة بعد ذلك الفاصل المريب في مهرجان البيو.
حين غادر آل لاكرستين النادي في الساعة التاسعة، كان السيد ماكجريجور لا فلوري هو من سار معهم إلى المنزل، بخطوات متمهلة بجانب إليزابيث كأنه سحلية عملاقة أليفة، بين الظلال المعوجة الباهتة لفروع أشجار البوانسيانا الملكية. وهكذا وجدت حكاية بروم، والعديد غيرها، أذنا جديدة. كان أي وافد جديد إلى كياوكتادا عرضة لأن يصيبه جزء كبير بعض الشيء من حديث السيد ماكجريجور، إذا كان الآخرون يعتبرونه مملا مللا منقطع النظير، وكان من العادات المتبعة في النادي مقاطعة حكاياته. إلا أن إليزابيث كانت بطبعها تجيد الإنصات. وقد خطر للسيد ماكجريجور أنه قلما التقى بفتاة بذلك الذكاء.
مكث فلوري وقتا أطول قليلا في النادي، يحتسي الشراب مع الآخرين، حيث جرى الكثير من الأحاديث البذيئة عن إليزابيث. وهكذا أجل الخلاف بشأن اختيار الدكتور فيراسوامي مؤقتا. كذلك نزع الإعلان الذي كان إليس قد وضعه في المساء السابق. إذ كان السيد ماكجريجور قد رآه هذا الصباح في زيارته للنادي وأصر على نزعه في الحال بأسلوبه المعتدل. وبهذا صار الإعلان في طي الكتمان؛ لكن ليس قبل أن يحقق هدفه.
الفصل التاسع
حصل الكثير خلال الأسبوعين التاليين.
كان الخلاف بين يو بو كين والدكتور فيراسوامي على قدم وساق آنذاك. وانقسمت البلدة بأكملها إلى فصيلين؛ حيث انضم كل كائن حي من أهل البلد من القضاة حتى كناسي السوق إلى أحد الجانبين، مستعدين جميعا للحلف كذبا حين يحين موعده. لكن حزب الطبيب كان الأصغر حجما والأقل كفاءة في التشهير بين الحزبين. أما محرر «بورميز باتريوت» فقد حوكم بتهمتي إثارة الفتنة والتشهير، ورفض إطلاق سراحه بكفالة. أثار حبسه القليل من أعمال الشغب في رانجون، قمعتها الشرطة بقتل اثنين فقط من المتظاهرين. وفي الحبس أضرب المحرر عن الطعام، لكنه استسلم بعد ست ساعات.
كانت ثمة أحداث في كياوكتادا أيضا. إذ هرب مجرم يدعى نجا شوي أو من السجن في ظروف غامضة. وسارت إشاعات جمة حول انتفاضة أهلية متوقعة في المنطقة. تركزت الإشاعات - التي كانت مبهمة جدا حتى ذاك الوقت - حول قرية تسمى ثونجوا، لا تبعد عن المعسكر الذي كان يجري فيه ماكسويل عملية تحليق أشجار الساج. جرت أقاويل عن ظهور «ويكسا» أو ساحر فجأة من حيث لا يدري أحد وعن تنبئه بانهيار السلطة الإنجليزية وتوزيعه سترات واقية من الرصاص. لم يأخذ السيد ماكجريجور الإشاعات بجدية كبيرة، لكنه استدعى قوة إضافية من الشرطة العسكرية. فقيل إن سرية من المشاة الهنود يترأسها ضابط هندي سترسل إلى كياوكتادا قريبا. أما ويستفيلد فقد هرع إلى ثونجوا مع أول بادرة تهديد، أو بالأحرى أمل، لوقوع مشكلة.
قال ويستفيلد لإليس قبل السفر: «رباه، ليتهم يثورون ويتمردون على نحو صحيح مرة واحدة! لكنها سوف تكون عملية فاشلة لعينة كالعادة. هكذا دائما حال حركات التمرد تلك، تتلاشى قبل أن تكاد تبدأ. هل تصدق أنني لم أطلق النار من مسدسي قط على أحد حتى الآن، ولا حتى مجرم. أحد عشر عاما، دون احتساب سنوات الحرب، من دون أن أقتل رجلا واحدا. شيء محبط.»
قال إليس: «حسنا، إذا لم يبلغوا للمستوى المرضي فبوسعك أن تمسك بالزعماء وتوسعهم ضربا بالخيزرانة دون أن يدري أحد. ذلك أفضل من تدليلهم في سجوننا اللعينة الأشبه بدور الرعاية.» «ربما، لكنني لا أستطيع أن أفعل ذلك هذه الأيام، مع كل تلك القوانين المتساهلة. أعتقد أن علي الالتزام بها، ما دمنا كنا حمقى لوضعها.» «سحقا لتلك القوانين. القرع بالخيزرانة هو الشيء الوحيد الذي يحدث تأثيرا على البورميين. هل سبق لك رؤيتهم بعد جلدهم؟ أنا رأيتهم. كانوا في طريق الخروج من السجن على عربات تجرها الثيران، يصرخون، والنساء يدهن أكفالهن بالموز المعجون. هذا شيء يستوعبونه. لو كان الأمر بيدي لكنت ضربتهم بها على أخمص أقدامهم تماما كما يفعل الأتراك.» «حسنا، لنرجو أن يتحلوا مرة بالشجاعة ويبدوا الرغبة في القتال. حينئذ سنستدعي الشرطة العسكرية، بالبنادق وما إلى ذلك. ونطلق النيران على بضع عشرات منهم؛ هذا سيصفي الأجواء.»
بيد أن الفرصة المرجوة لم تأت. حين ذهب ويستفيلد والكونستابلات العشرة الذين أخذهم معه إلى ثونجوا - صبية مرحون بوجوه مستديرة من الجوركا، يتوقون إلى إعمال سكاكينهم الكوركي في أي شخص - وجد المنطقة مسالمة إلى حد محبط. لم يلح شبح لتمرد في أي مكان؛ إنما كانت المحاولة السنوية، المنتظمة مثل الرياح الموسمية في هبوبها، التي كان يقدم عليها سكان القرى لتفادي دفع ضريبة الرءوس.
كان الجو يزداد حرا أكثر فأكثر، فأصاب إليزابيث أول نوبة طفح جلدي من الحر. كذلك كاد يتوقف لعب التنس في النادي؛ فقد صار الناس يلعبون شوطا واحدا في كسل ثم يسقطون على المقاعد ويتجرعون كميات من عصير الليمون الفاتر؛ فاتر لأن الثلج يأتي من ماندالاي مرتين فقط أسبوعيا ويذوب خلال أربع وعشرين ساعة من وصوله. في هذه الأثناء بلغت شجرة لهب الغابات أوج ازدهارها. وكانت النساء البورميات، لحماية أطفالهن من الشمس، يلطخن وجوههم بمستحضر تجميلي أصفر حتى يصيروا أشبه بالأطباء المشعوذين الأفارقة لكن صغار. وجاءت أسراب من الحمام الأخضر وحمام إمبراطوري كبير في حجم البط، لتأكل حبوب أشجار التين المجوسي الضخمة القائمة على طريق السوق.
في الوقت ذاته كان فلوري قد طرد ما هلا ماي من منزله.
كم هي مهمة مزعجة مقرفة! كان لديه ذريعة كافية - أنها سرقت صندوق سجائره الذهبي ورهنته في منزل لي ييك، البقال والمسترهن المحظور الصيني الذي في السوق - لكنها رغم ذلك كانت مجرد ذريعة. كان فلوري يعلم جيدا، وما هلا ماي تعلم، وكل الخدم يعلمون أنه كان يتخلص منها بسبب إليزابيث. بسبب «السيدة الإنجليزية ذات الشعر المصبوغ»، كما كانت ما هلا ماي تدعوها.
لم تحدث ما هلا ماي جلبة شديدة في البداية. وإنما وقفت تنصت عابسة وهو يحرر لها شيكا بمائة روبية - يستطيع لي ييك أو التاجر الهندي في السوق صرف الشيكات - ويخبرها بأنها مطرودة. كان محرجا أكثر منها؛ فلم يستطع أن ينظر في وجهها، وكان صوته رتيبا وتشي نبراته بشعوره بالذنب. حين جاءت عربة الثيران لتأخذ أغراضها، أغلق على نفسه مخدعه متواريا إلى حين انتهاء الموقف.
صرت عجلات العربة على الطريق، وتصاعد صياح رجال؛ وفجأة تعالت جلبة مذعورة من الصرخات. خرج فلوري فإذا بهم جميعا يتشاجرون عند البوابة في ضوء الشمس. كانت ما هلا ماي متشبثة بالبوابة بينما يحاول كو سلا أن يدفعها للخروج. ولت وجهها مليئا بالغضب واليأس ناحية فلوري وهي تصرخ وتصرخ: «سيدي! سيدي! سيدي! سيدي ! سيدي!» وقد آلمه ألما نافذا أنها ما زالت تناديه «سيدي» بعد أن صرفها.
قال فلوري: «ما الأمر؟»
اتضح أنه كان ثمة وصلة شعر مستعار ادعت كل من ما هلا ماي وما يي ملكيتها. أعطى فلوري الوصلة لما يي ونفح ما هلا ماي روبيتين لتعويضها. ثم مضت العربة تهتز، وقد جلست عليها ما هلا ماي بجانبها سبتان من الخوص، مستقيمة الظهر ومتجهمة، تداعب على ركبتيها هريرة، كان قد أهداها إياها منذ شهرين فقط.
كو سلا، الذي طالما تمنى التخلص من ما هلا ماي، لم يكن سعيدا الآن وقد تحقق ذلك. بل وكان أقل سعادة وهو يرى سيده ذاهبا إلى الكنيسة - أو «المعبد الإنجليزي» كما كان يسميه - إذ كان فلوري ما زال في كياوكتادا يوم الأحد الذي وصل فيه القس، وذهب إلى الكنيسة مع الآخرين. كان هناك جمع من اثني عشر شخصا، بينهم السيد فرانسيس والسيد صامويل وستة مسيحيين من أهل البلد، والسيدة لاكرستين التي راحت تعزف ترنيمة «ابق معي» على هارمونيوم صغير بدواسة واحدة. كانت تلك المرة الأولى منذ عشر سنوات التي يذهب فيها فلوري إلى الكنيسة، إذا استثنينا الجنازات. كانت أفكار كو سلا حول ما يجري في «المعبد الإنجليزي» مبهمة إلى أقصى حد؛ لكنه كان لديه يقين أن الذهاب إلى الكنيسة دلالة على السلوك المحترم؛ وهي السمة التي كان - شأن كل خدم العزاب - يكرهها من أعمق أعماقه.
هكذا قال كو سلا في يأس للخدم الآخرين: «ستقع مشكلة عما قريب. ظللت أراقبه (يقصد فلوري) طوال الأيام العشرة الماضية. لقد قلل من عدد السجائر التي يدخنها لخمس عشرة واحدة، وأقلع عن شرب الجين قبل الإفطار، ويحلق لنفسه كل مساء - وإن كان يظن أنني لا أعلم، الأحمق! - وقد طلب نصف دزينة قمصان حرير جديدة! كان علي الوقوف على يدي الخياط ونعته بأقذع الألفاظ لحمله على الانتهاء منها في الميعاد. نذر شر! أتوقع له البقاء على هذا الحال ثلاثة أشهر أخرى، بعدها أودع السكينة في هذا المنزل!»
سأله با بي قائلا: «إذن، هل سيقدم على الزواج؟» «إنني على يقين من ذلك. حين يبدأ رجل أبيض في الذهاب إلى المعبد الإنجليزي، تكون بداية النهاية، إذا جاز القول.»
قال سامي العجوز: «كان لي سادة عديدون في حياتي. كان أسوأهم السيد الكولونيل ويمبول، الذي اعتاد أن يجعل جنديه يشد وثاقي محنيا على المنضدة بينما يأتي هو جريا من ورائي ويركلني بحذائه العالي الرقبة الغليظ جدا لتقديمي فطائر الموز كثيرا. وفي أحيان أخرى، وهو ثمل، كان يطلق النار من مسدسه مخترقا سقف حجرات الخدم، فوق رءوسنا مباشرة. لكنني على أتم استعداد لخدمة السيد الكولونيل ويمبول عشر سنوات على أن أخدم سيدة أوروبية لأسبوع بكل إلحاحها. فإذا تزوج سيدنا سوف أرحل في نفس اليوم.» «أما أنا فلن أرحل، فقد ظللت خادمه خمسة عشر عاما. لكنني أعلم ما ينتظرنا حين تأتي تلك السيدة. ستصيح فينا لوجود ذرات غبار على الأثاث، وتوقظنا لإحضار فناجين الشاي في العصاري حين ننام، وتأتي مقتحمة المطبخ كل ساعة لتتذمر من القدور المتسخة ووجود صراصير في صفيحة الدقيق. لدي اعتقاد أن هؤلاء النساء يبقين مستيقظات ليلا يفكرن في طرق جديدة لتعذيب خدمهن.»
قال سامي: «إنهن يحتفظن بكتاب أحمر صغير يدون فيه مصروفات السوق، آنتان لهذا، وأربع آنات لذاك، فلا يستطيع الرجل أن يكسب بيسة واحدة. إن الضجة التي يثرنها على سعر بصلة أكثر مما قد يثيرها سيد على خمس روبيات.» «آه، إنني أدرى بذلك! سوف تكون أسوأ من ما هلا ماي.» ثم أضاف إضافة شاملة، بشبه تنهيدة: «النساء!»
ورد الآخرون صدى تنهيدته، حتى ما بو وما يي. إذ لم تعتبر أي منهما ملاحظات كو سلا نقدا لجنسهما، فالنساء الإنجليزيات كن يعتبرن جنسا آخر، ربما ليس بشريا حتى، ومريعا جدا حتى إن زواج الرجل الإنجليزي دائما ما يكون إشارة لفرار كل خادم في منزله، حتى من ظلوا معه طيلة سنوات.
الفصل العاشر
لكن في الواقع كان انزعاج كو سلا سابقا لأوانه. إذ بعد عشرة أيام من التعارف، بالكاد صار فلوري أكثر قربا من إليزابيث، عن أول يوم التقى بها فيه.
فقد شاءت الظروف أن ينفرد بها خلال هذه الأيام العشرة، لوجود أغلب الأوروبيين في الغابة. فلوري نفسه لم يكن من حقه أن يقبع في المقر؛ إذ كانت أعمال جلب الأخشاب تجري على قدم وساق في هذا الوقت من العام، وفي غيابه انهار كل شيء تحت إمرة المراقب الأوراسي غير الكفء. لكنه كان قد مكث - بحجة إصابته بحمى خفيفة - بينما راحت تأتيه من المشرف خطابات يائسة كل يوم تقريبا، تحكي عن كوارث. إذ مرض أحد الأفيال، وتعطل محرك القطار المستخدم في نقل جذوع الساج إلى النهر، ورحل خمسة عشر فردا من العمال. لكن ظل فلوري باقيا، غير قادر على انتزاع نفسه من كياوكتادا بينما إليزابيث ما زالت هناك، ساعيا باستمرار - من دون فائدة كبيرة حتى الآن - أن يستعيد تلك الصداقة السلسة والممتعة التي كانت في لقائهما الأول.
كانا يلتقيان كل يوم، صباحا ومساء، هذا صحيح. كانا يلعبان مباراة تنس فردية في النادي كل مساء - إذ كانت السيدة لاكرستين في حالة بالغة من الارتخاء وكان السيد لاكرستين معتل المزاج بشدة بما لا يسمح بلعب التنس في هذا الوقت من العام - وكانوا بعد ذلك يجلسون في قاعة الجلوس، الأربعة معا، يلعبون البريدج ويتحدثون. لكن رغم أن فلوري أمضى ساعات في صحبة إليزابيث، وكثيرا ما كانا معا بمفردهما، فهو لم يشعر للحظة بأنه على راحته معها قط. كانا يتحدثان - ما داما يتحدثان في أمور تافهة - بأقصى درجة من الحرية، لكنهما كانا متنائيين مثل اثنين من الغرباء. كان يساوره شعور بالانقباض في وجودها؛ إذ لم يستطع أن ينسى وحمته؛ كان ذقنه يؤلمه من حلاقته مرتين يوميا، وجسده يتعذب من لهفته على الويسكي والتبغ - فقد كان يحاول التقليل من الشرب والتدخين وهو معها. وبعد عشرة أيام، بدا أنهما لم يقتربا أكثر من العلاقة التي أرادها.
إذ إنه بطريقة ما، لم يستطع قط أن يتحدث معها كما كان يتوق أن يتحدث. أن يتحدث، يتحدث فحسب! يبدو الأمر بسيطا جدا، لكن كم هو عظيم! حين تظل حتى يوشك عمرك أن ينتصف تعيش في وحدة مؤلمة، بين ناس يرون رأيك الحقيقي في كل موضوع على وجه البسيطة تجديفا، تكون الحاجة للحديث هي الأعظم بين كل حاجاتك. بيد أن الحديث الجاد مع إليزابيث بدا شيئا مستحيلا. كانا كمن سحر لهما أن يتمخض كل حديث بينهما عن أمر تافه؛ تسجيلات الجرامافون، الكلاب، مضارب التنس؛ كل تلك الثرثرة التي تجري بها الألسنة في النادي لتخلق فيه شعورا بالوحدة. بدا أنها لا تريد الكلام عن أي شيء سوى ذلك. كان لا يكاد يقترب من موضوع ذي أي أهمية ملموسة حتى يسمع صوتها تغشاه نبرة تهرب، كأنها تقول «لن ألعب». كما صدمه ذوقها في الكتب حين اكتشفه. لكنه ذكر نفسه بأنها صغيرة، وأنها احتست النبيذ الأبيض وتحدثت عن مارسيل بروست تحت أشجار الدلب في باريس، أليس كذلك؟ سوف تفهمه فيما بعد لا شك وتعطيه الصحبة التي يحتاجها. ربما ليس السبب سوى أنه لم يفز بثقتها بعد.
وكان هو بعيدا كل البعد عن الكياسة معها. إذ كان شأنه شأن كل الرجال الذين عاشوا كثيرا بمفردهم، يكيف نفسه مع الأفكار لا مع الناس. ومن ثم، مع أن كل حديثهما كان سطحيا، فقد بدأت تنزعج منه أحيانا؛ ليس مما يقوله وإنما مما كان يوحي به. نشأ بينهما حرج، غير واضح معالمه لكنه كثيرا ما كان يوشك على شجار. حين تجمع الظروف بين شخصين، أحدهما عاش في البلد طويلا والآخر وافد جديد، يتحتم على الأول أن يتصرف بصفته مرشدا سياحيا للثاني. وكانت إليزابيث، خلال هذه الأيام، تتعرف لأول مرة على بورما؛ فكان فلوري بطبيعة الحال من يقوم بدور المترجم لها، ليفسر هذا ويعلق على ذلك. وكانت الأشياء التي يقولها، أو طريقته في قولها، تثير فيها اعتراضا مبهما لكن عميقا. فقد لاحظت أن فلوري، حين يتحدث عن «أهل البلد»، يكاد يتحدث دائما في صالحهم. كان دوما يمدح العادات البورمية والشخصية البورمية؛ بل بلغ به الأمر أيضا أن ينحاز لهم عند مقارنتهم بالإنجليز. كان هذا مما أزعجها . فمهما يكن من أمر، أهل البلد هم أهل البلد؛ مثيرون للاهتمام، بلا شك، لكنهم في النهاية مجرد شعب «تابع»، شعب وضيع بوجوه سوداء. وقد كان سلوكه وتوجهه مفرطا في التسامح بعض الشيء. كما أنه لم يكن قد أدرك بعد كيف كان يستثير عداءها. إذ أراد بشدة أن تحب بورما، كما أحبها، لا أن تنظر إليها بعينين كليلتين غافلتين شأن أي سيدة أوروبية في الهند! كان قد نسي أن أغلب الناس لا يشعرون بالراحة في بلد أجنبي إلا وهم يزدرون السكان.
كان متحمسا في محاولاته لإثارة اهتمامها بالأشياء الشرقية. فحاول على سبيل المثال تشجيعها على تعلم اللغة البورمية، لكن لم يثمر هذا شيئا. (إذ كانت زوجة عمها قد أوضحت لها أن المبشرات وحدهن يتحدثن البورمية؛ النساء الرقيقات يجدن أقصى غايتهن في مفردات المطبخ الأردية.) نشأت بينهما خلافات صغيرة لا تحصى على غرار ذلك. راحت تدرك على نحو مبهم، أن وجهات نظره لا يجوز أن تكون لدى رجل إنجليزي. وأدركت بوضوح أكثر أنه يطلب منها أن تحب البورميين، بل وأن تحترمهم؛ تحترم ناسا بوجوه سوداء، يكادون يكونون وحوشا، ما زال مظهرهم يبعث فيها القشعريرة.
وقد طرأ الأمر بمائة طريقة. مثل أن يمر بهم زمرة من البورميين على الطريق، فكانت تحدق فيهم، بعينين ما زالتا لم تألفا المنظر بعد، بفضول من ناحية ونفور من ناحية أخرى؛ وكانت عندئذ تقول لفلوري، كما قد تقول لأي شخص: «كم يبدو هؤلاء الناس دميمين إلى درجة مقززة، أليس كذلك؟» «حقا؟ طالما اعتقدت أنهم بالأحرى يتمتعون بمظهر جذاب، هؤلاء البورميون. فلديهم أبدان غاية في الروعة! انظري إلى منكبي ذلك الشخص ... كأنه تمثال برونزي! فقط تخيلي المناظر التي قد ترينها في إنجلترا لو أن الناس ساروا نصف عرايا كما يفعلون هنا!» «لكن رءوسهم تبدو بشعة للغاية! جماجمهم ترتفع من الخلف نوعا ما مثل رءوس القطط الذكور. كذلك الطريقة التي تميل بها جباههم للوراء، تجعلهم يبدون أشرارا جدا. أتذكر أنني قرأت في مجلة شيئا عن أشكال الرءوس؛ قيل إن الشخص ذا الجبهة المائلة من النمط المجرم.» «مهلا، في ذلك بعض التعميم! نحو نصف الناس في العالم لديهم ذلك الشكل من الجبهة.» «حسنا، إذا حسبت الناس الملونين، بالطبع!»
أو قد تمر مجموعة من النساء، ذاهبات إلى البئر؛ فتيات فلاحات، متينات البنيان، نحاسيات البشرة، مستقيمات، انتصبت قاماتهن أسفل جرات الماء وبرزت أكفالهن القوية الشبيهة بأكفال الفرس. كانت النساء البورميات يثرن نفور إليزابيث أكثر من الرجال؛ لشعورها بانتسابها لنفس الجنس، وكراهة أن تنتسب إلى كائنات بوجوه سوداء. «ألسن حقا شديدات البشاعة؟ مظهرهن في غاية الغلظة؛ وكأنهن نوع من الحيوانات. هل تعتقد أنه يمكن لأي شخص أن يجد أولئك النساء جذابات؟» «رجالهن يجدونهن كذلك، على ما أعتقد.» «أعتقد ذلك. لكن ذلك الجلد الأسود ... لا أعلم كيف يستطيع أي شخص تحمله!» «أظن أن المرء يعتاد على الجلد الأسمر مع الوقت. إذ يقال - وأظنه حقيقة - إنه بعد بضع سنوات في هذه البلاد يألف المرء الجلد الأسمر أكثر من الأبيض؛ فهو المألوف أكثر على كل حال. إذا نظرت للعالم ككل، وجدت الأبيض حالة شاذة.» «لديك حقا بعض الأفكار الغريبة!»
وهكذا دواليك. ظلت تستشعر طوال الوقت شيئا غير مرض ولا سليم في الأشياء التي يقولها. حدث ذلك بوجه خاص في ذلك المساء حين سمح فلوري للسيد فرانسيس والسيد صامويل، الأوروبيين الآسيويين المنبوذين، بتوريطه في محادثة عند بوابة النادي.
تصادف أن إليزابيث كانت قد وصلت النادي قبل فلوري ببضع دقائق، وحين سمعت صوته لدى البوابة دارت حول شبكة التنس لملاقاته. كان الأوروبيان الآسيويان قد انسلا نحو فلوري وحاصراه مثل زوج من الكلاب يريد اللهو. تولى فرانسيس أغلب الحديث. كان رجلا نحيلا، سريع الانفعال، وفي سمرة ورق السيجار، لكونه ابن امرأة من جنوب الهند؛ أما صامويل الذي كانت أمه من عرق الكارين، فكانت بشرته صفراء شاحبة وشعره أحمر باهتا. كان الاثنان يرتديان بذلتين رثتين من قماش الدريل القطني، وقبعتين كبيرتين بدا جسداهما النحيلان أسفلهما مثل عيدان الفطر.
أخيرا قطعت إليزابيث الممشى فسمعت مقتطفات من سيرة ذاتية هائلة ومعقدة. إذ كان فرانسيس يجد في الحديث مع الرجال البيض - الحديث الذي يفضل أن يدور حوله هو نفسه - مصدر سعادة كبرى في حياته. وحين كان يجد، كل بضعة أشهر، واحدا من الأوروبيين ليستمع إليه، كان تاريخ حياته ينهمر منه في سيول من حمم لا تنطفئ. هكذا راح يتحدث بصوت أخنف رتيب النبرة مدهش السرعة، قائلا: «أتذكر القليل عن أبي يا سيدي، لكنه كان رجلا غضوبا جدا وكان كثيرا ما ينهال ضربا بخيزرانة كبيرة مليئة بالنتوءات علينا جميعا أنا وأخي الصغير غير الشقيق وأمي وأمه. أتذكر أيضا كيف كنت أنا وأخي الصغير غير الشقيق عند زيارة الأسقف نشد علينا الأزر ونرسل للوقوف بين الأطفال البورميين لنظل متخفيين. لم يرق أبي منصب أسقف قط يا سيدي. فقد جعل أربعة أشخاص فقط يعتنقون المسيحية خلال ثمانية وعشرين عاما، كما أن ولعه الشديد بخمر الأرز الصيني كان له صدى غاضب جدا بالخارج وأفسد مبيعات كتيب أبي الذي كان بعنوان «بلاء الكحول»، الذي نشرته دار رانجون بابتيست بريس، مقابل روبية وثماني آنات. أما أخي الصغير غير الشقيق فمات من الجو الحار، بعد أن ظل يسعل، ويسعل ... إلخ».
لاحظ الرجلان الأوروبيان الآسيويان وجود إليزابيث، فخلعا قبعتيهما منحنيين وكاشفين عن أسنانهم اللامعة. ربما مرت سنوات عدة منذ تسنى لأي منهما فرصة الحديث مع امرأة إنجليزية. انطلق فرانسيس في الحديث بإفراط أكثر من ذي قبل. فجعل يثرثر في خوف واضح من أن يقاطعه أحد وتنتهي المحادثة. «مساء الخير عليك يا سيدتي، مساء الخير، مساء الخير! تشرفت جدا بمعرفتك يا سيدتي! الجو شديد القيظ هذه الأيام، أليس كذلك. لكنه ملائم لطقس شهر أبريل. أرجو ألا يكون قد أصابك طفح جلدي من الحرارة. دهن المنطقة المصابة بمعجون التمر هندي دواء ناجع. أنا نفسي أكابد منه آلاما كل ليلة. إنه مرض شديد الانتشار بيننا نحن الأوروبيين.»
نطق «الأوروبيين»، مثل السيد شالوب في رواية «مارتين شازلويت». لم تحر إليزابيث جوابا، وراحت تنظر إلى الأوروبيين الآسيويين بشيء من البرود. لم يكن لديها فكرة واضحة من هما أو ماذا، وبدا لها من الصفاقة أن يتحدثا إليها.
قال فلوري: «شكرا، سوف أتذكر التمر هندي.» «إنها وصفة طبيب صيني مشهور يا سيدي. كذلك، هل تسمحان لي يا سيدي وسيدتي أن أسدي إليكما النصح، فارتداء القبعة الصغيرة وحدها ليس تصرفا حكيما في أبريل يا سيدي. هو مناسب تماما لأهل البلد، فلديهم جماجم صلبة. أما نحن فضربات الشمس تهددنا دائما. الشمس شديدة الخطورة على الجمجمة الأوروبية. هل عطلتك يا سيدتي؟»
قيل هذا بنبرة إحباط. إذ كانت إليزابيث في الواقع قد قررت ازدراء الرجلين الأوروبيين الأسيويين. لم تدر لماذا سمح فلوري لهما بتعطيله بمحادثة. وحين استدارت عنهما لتسير عائدة لملعب التنس، لوحت بمضربها في الهواء، لتذكر فلوري أن ميعاد المباراة قد أزف. وقد رآها وتبعها، على مضض بعض الشيء، إذ لم يكن يحب معاملة فرانسيس المسكين بازدراء، مع أنه كان مملا جدا.
قال فلوري: «لا بد أن أمضي. طاب مساؤك يا فرانسيس. طاب مساؤك يا صامويل.» «طاب مساؤك يا سيدي! طاب مساؤك يا سيدتي! طاب مساؤكما، طاب مساؤكما!» تراجعا بمزيد من التلويح بقبعتيهما.
قالت إليزابيث لما جاءها فلوري: «من ذانك الاثنان؟ يا لهما من كائنين عجيبين! كانا في الكنيسة يوم الأحد. أحدهما يكاد يكون أبيض. إنه ليس رجلا إنجليزيا بالطبع، أليس كذلك؟» «لا، إنهما من الأوروبيين الآسيويين؛ أبناء لآباء بيض وأمهات من أهل البلد. نطلق عليهما اسم الأصفرين على سبيل المداعبة.» «لكن ماذا يفعلان هنا؟ وأين يقيمان؟ وهل لديهما أي عمل؟» «إنهما يعيشان بطريقة أو بأخرى في البازار. وأعتقد أن فرانسيس يعمل كاتبا لدى مراب هندي، وصامويل لدى بعض المحامين. لكنهما قد يتضوران جوعا أحيانا لولا كرم أهل البلد.» «أهل البلد! هل تقصد أن تقول إنهما يتسولان من أهل البلد؟» «أعتقد هذا. إنه أمر سهل للغاية لمن يريد. فالبورميون لا يتركون أحدا يتضور جوعا.»
لم تكن إليزابيث قد سمعت بشيء من هذا القبيل من قبل قط. صدمها صدمة شديدة أن يكون هناك رجال بيض ولو جزئيا يعيشون في فقر بين «أهل البلد » حتى إنها توقفت فجأة في الممشى وتأجلت مباراة التنس بضع دقائق. «لكن كم هذا فظيع! أعني أنه نموذج سيئ! تكاد تكون مثل أن يعيش واحد منا هكذا. ألا يمكن فعل شيء لذينك الاثنين؟ نجمع لهما تبرعات ونرسلهما بعيدا عن هنا، أو شيء من هذا القبيل؟» «أخشى أن هذا لن يجدي كثيرا. أينما ذهبا سيكونان في نفس الوضع.» «لكن ألا يمكنهما الحصول على عمل مناسب؟» «أشك في ذلك؛ فالأوروبيون الآسيويون من ذلك النوع - الرجال الذين يترعرعون في البازار ولا يتلقون تعليما - يقضى عليهم منذ البداية؛ فالأوروبيون يرفضون أدنى تعامل معهم، كما يمنعون من دخول أدنى المصالح الحكومية. ليس بوسعهما سوى أن يتسولا، إلا إذا أقلعا عن أي ادعاء بأنهم أوروبيون. والواقع أن ذلك ليس مما قد يفعله أولئك المساكين. فإن نقطة الدم الأبيض هي الميزة الوحيدة لديهم. فرانسيس المسكين، لم ألقه قط دون أن يشرع في إخباري بشأن إصابته بطفح جلدي؛ حيث إن السكان الأصليين ليس من المفترض أن يعانوا من الطفح الجلدي. هراء بالطبع، لكن الناس تصدقه. وهكذا ضربة الشمس. إنهما يرتديان هاتين القبعتين الضخمتين ليذكرونا بأن لديهما جمجمتين أوروبيتين. وكأنه شعار نبالة أو شيء من هذا القبيل. شعار الدولة إذا جاز التعبير.»
لم يرق هذا إليزابيث؛ إذ شعرت أن فلوري كان، كدأبه، يكن شفقة خفية نحو الأوروبيين الآسيويين. كما أثار مظهر الرجلين بداخلها شعورا عجيبا بالكره. هنا كانت قد حددت نوعهما؛ فقد بدوا مثل الداجوز. مثل أولئك المكسيكيين والإيطاليين وغيرهم من الداجوز الذين يلعبون دور الشر في العديد من الأفلام. «لقد بدوا من الأشخاص شديدي الانحطاط، أليس كذلك؟ في غاية النحافة والهزال والتذلل؛ ولا يبدو على وجهيهما أي من سمات الأمانة؟ أظن أن هذين الرجلين الأوروبيين الآسيويين في غاية الانحطاط. فقد سمعت أن المولدين دائما ما يرثون الأسوأ في العرقين. هل ذلك صحيح؟» «لا أعلم إذا كان ذلك صحيحا. أغلب الأوروبيين الآسيويين ليسوا أشخاصا صالحين، ومن الصعب معرفة كيف كانوا سيصيرون صالحين في ظل الطريقة التي نشئوا بها. لكن سلوكنا تجاههم بغيض نوعا ما. فنحن دائما ما نتحدث عنهم كأن الأرض انشقت عنهم فجأة مثل الفطر، وكأن هذه العيوب طبيعة فيهم وقد جبلوا عليها. لكننا في النهاية مسئولون عن وجودهم.» «مسئولون عن وجودهم؟» «حسنا، أقصد أن كلهم لديهم آباء.» «أوه ... بالطبع يوجد ذلك ال... لكن مهما يكن من أمر، أنت لست مسئولا. أقصد وحده نوع وضيع جدا من الرجال قد ... آه ... تجمعه علاقة بنساء البلد، أليس كذلك؟» «أوه، بالتأكيد. لكن والدا ذينك الرجلين كانا رجلي دين في رتب كهنوتية، على ما أعتقد.»
تذكر روزا ماكفي، الفتاة الأوروبية الآسيوية التي غرر بها في ماندالاي عام 1913، وكيف كان يتسلل إلى المنزل في عربة يجرها الخيل مغلقة الدرف؛ وخصلات شعر روزا المعقوصة؛ وأمها البورمية العجوز الذابلة، وهي تقدم له الشاي في حجرة معيشة معتمة بها أصص سراخس وأريكة من الخوص. ثم ما كان، حين جافى روزا، وتلك الخطابات المتوسلة المريعة، المكتوبة على ورق رسائل معطر، التي امتنع عن فتحها في النهاية.
عادت إليزابيث إلى موضوع فرانسيس وصامويل بعد مباراة التنس. «هذان الأوروبيان الآسيويان ... هل لأي أحد هنا أي علاقة بهما؟ مثل أن يدعوهما إلى منازلهم أو ما إلى ذلك؟» «يا إلهي، لا. فهما منبوذان تماما. في الواقع ليس من المقبول تماما التحدث إليهما. فأغلبنا نقول لهما صباح الخير فحسب. إليس لا يفعل ذلك حتى.» «لكنك تحدثت معهما.» «حسنا، إنني أخرق القواعد من حين لآخر. أقصد أنك ربما لن تري سيدا أوروبيا يتحدث معهما. لكنني في الحقيقة، أحاول - أحيانا فقط، حين تواتيني الشجاعة - ألا أتصرف مثل مجتمع البوكا صاحب.»
كانت ملحوظة طائشة؛ إذ كانت تعلم جيدا في هذا الوقت معنى عبارة «بوكا صاحب»، وما يمثله. وقد جعلت ملحوظته الفرق بين وجهتي نظرهما أوضح قليلا. كانت النظرة التي رمقته بها شبه معادية، وقاسية قسوة غريبة؛ إذ كان وجهها يستطيع أن يبدو قاسيا أحيانا، رغم نضارته وبشرته الرقيقة كأوراق الزهور. كانت النظارة العصرية المصنوعة من صدفة السلحفاة تلك تعطيها مظهرا رزينا جدا. غريبة النظارات في قدرتها على التعبير؛ إذ تكاد تكون معبرة أكثر من العينين حقا.
لم يتأت له حتى هذا الوقت فهمهما ولا كسب ثقتها تماما. لكن لم تسؤ الأمور بينهما، ظاهريا على الأقل. كان يثير حنقها أحيانا، لكن لم يكن الانطباع الحسن الذي تركه في ذلك الصباح حين التقيا أول مرة قد انمحى بعد. لكن كان ثمة حقيقة غريبة ألا وهي أنها كانت بالكاد تلاحظ وحمته في هذا الوقت. وكانت تستمتع بالاستماع إليه وهو يتحدث في بعض الموضوعات. الرماية، على سبيل المثال؛ فقد بدت متحمسة للرماية وهو ما كان شيئا غير مألوف في الفتيات. وكذلك الخيل؛ لكنه كان أقل معرفة بالخيل. وكان قد استعد لاصطحابها في يوم للرماية، لاحقا، حين يستطيع التحضير لذلك. كان كلاهما يتطلعان لهذه الرحلة الاستكشافية بحماس بعض الشيء، وإن لم يكن لنفس الأسباب بالضبط.
الفصل الحادي عشر
سار فلوري وإليزابيث في طريق البازار. كان الوقت صباحا، لكن الهواء شديد الحرارة حتى إن السير فيه كان مثل الخوض في بحر متقد. مر بهما، صفوف من البورميين، قادمين من البازار، منتعلين صنادل تحك في الأرض، ومجموعات من أربع وخمس فتيات يحثثن السير متقاربات، بخطوات قصيرة سريعة، يثرثرن وشعورهن البراقة تلمع. على جانب الطريق، قبل أن تصل إلى السجن مباشرة، تناثرت أجزاء من معبد حجري، بعد أن حطمتها الجذور القوية لإحدى أشجار التين المجوسي وأسقطتها. وعلى مقربة التفت شجرة تين مجوسي أخرى حول نخلة، فاقتلعتها وثنتها للوراء في صراع استمر طوال عقد.
سار الاثنان ووصلا عند السجن، الذي كان مبنى ضخما مربعا، يمتد كل جانب منه مائتي ياردة، بجدران خرسانية بيضاء اللون ترتفع عشرين قدما. راح يتبختر على السور طاووس، كان هو الحيوان الأليف للسجن، وقد التفت أصابع قدميه للداخل. وجاء ستة مدانين، مطأطئو الرءوس، يجرون عربيتين ثقيلتين مكدستين بالتراب، تحت حراسة سجانين هنود. كانوا رجالا محكوما عليهم بعقوبات طويلة، أطرافهم ثقيلة، يرتدون ملابس موحدة من قماش أبيض خشن بأغطية رأس مخروطية الشكل وقفت منتصبة على رءوسهم الحليقة. أما وجوههم فقد مالت إلى اللون الرمادي، وبدت خانعة ومفلطحة بشكل غريب. وقد راح الحديد الذي يطوق سيقانهم يجلجل بصدى واضح. ومرت امرأة تحمل على رأسها سلة سمك جعل غرابان يحومان حولها وينقضان عليها، والسيدة تلوح بيد واحدة في غير اكتراث لإبعادهما.
تصاعدت ضجة أصوات على مسافة قريبة. قال فلوري: «اقتربنا جدا من البازار. أعتقد أن السوق تنصب هذا الصباح. في مشاهدتها بعض المتعة.»
طلب منها أن تأتي معه إلى البازار، قائلا إنها ستجد متعة في مشاهدته. ثم انعطفا مع الطريق. كان البازار عبارة عن مكان مسيج مثل حظيرة كبيرة جدا للماشية، أحاط بحدوده أكشاك خفيضة، أغلبها مسقفة بجريد النخل. وراء السياج، ماج حشد من الناس، يتدافعون ويتصايحون؛ وقد بدت ملابسهم متعددة الألوان في اختلاطها كأنها مجموعة من قطع السكاكر الدقيقة الملونة انسكبت من مرطبان. ولاح للعيان من وراء البازار النهر المترامي الموحل، الذي كانت تتسابق فيه فروع الأشجار وسلاسل طويلة من الغثاء بسرعة سبعة أميال في الساعة. وعند ضفة النهر لدى أنابيب الرسو، راح يهتز أسطول من الزوارق، بمجاديف حادة مثل مناقير الطير رسم عليها عيون.
ظل فلوري وإليزابيث لحظة يشاهدان. مرت صفوف من النساء حملن على رءوسهن سلال الخضر، وأطفال اتسعت عيونهم وهم يحملقون في الأوروبيين. وعدا عجوز صيني يرتدي بدلة عمل حال لونها إلى الأزرق السماوي، يحمل برفق جزءا مجهولا ملطخا بالدماء من أمعاء خنزير.
قال فلوري: «هلا ذهبنا وتفقدنا الأكشاك قليلا؟» «هل من الملائم الذهاب وسط الزحام؟ فكل شيء قذر بشكل بشع.» «لا بأس، سوف يفسحون لنا الطريق. سيثير الأمر اهتمامك.»
اتبعته إليزابيث مرتابة، بل ومرغمة. لماذا دائما ما يأتي بها إلى هذه الأماكن؟ لماذا يدفعها دوما وسط «أهل البلد»، محاولا أن يجعلها تنشغل بهم وتشاهد عاداتهم القذرة المقززة؟ كان هذا خطأ تماما، لسبب ما. لكنها اتبعته، لعدم شعورها بالقدرة على تبرير إحجامها. في الحال استقبلتهما موجة من الهواء الخانق؛ فقد فاحت رائحة ثوم وسمك مجفف وعرق وغبار ويانسون وقرنفل وكركم. وتدافع الجمهور حولهم، حشود من فلاحين قصار القامة ممتلئي الأجسام بوجوه في سمرة السيجار، وشيوخ ذابلين بشعور رمادية عقصت للخلف في كعكات، وأمهات شابات يحملن أطفالا عرايا منفرجي الساقين فوق خصورهن. وقد داست الأقدام فلو فجعلت تنبح. واصطدمت بإليزابيث مناكب منخفضة قوية؛ إذ انهمك الفلاحون في الفصال لدرجة الانشغال عن التحديق في امرأة بيضاء، وهما يشقان طريقهما بصعوبة حول الأكشاك. «انظري!» كان فلوري يشير بعصاه إلى كشك، ويقول شيئا، لكن طغى على صوته صيحات اثنتين من النساء كانت تلوح كل منهما للأخرى بقبضتها فوق سلة أناناس. كانت إليزابيث قد جفلت من الرائحة الكريهة والضجيج، لكنه لم يلحظ ذلك، وتوغل بها أكثر في الزحام، مشيرا إلى الأكشاك المختلفة. بدت البضائع غريبة الشكل وعجيبة ورديئة. كان هناك ثمرات بوملي [نوع من الحمضيات] ضخمة متدلية من حبال كأنها أقمار خضراء، وموز أحمر، وسلال قريدس قرمزي في حجم الكركند، وحزم من سمك مجفف هش، وفلفل حار قرمزي، وبط مشقوق ومعالج مثل لحم الخنزير المقدد، وجوز هند أخضر، وقطع من قصب السكر، وسكاكين، وصنادل مطلية، وأزر حرير بنقوش مربعة، ومقويات جنسية في شكل أقراص كبيرة مثل الصابون، وجرات من الفخار المطلي طولها أربع أقدام، وسكاكر صينية مصنوعة من الثوم والسكر، وسيجار أخضر وأبيض، وباذنجان أورجواني، وقلادات من بذور البرسيمون، ودجاج يسقسق في أقفاص من الخوص، وتماثيل من النحاس لبوذا، وأوراق من شجر التين المجوسي على شكل قلب، وزجاجات ملح إنجليزي، ووصلات شعر مستعار، وأواني طهي من الفخار الأحمر، وحدوات صلب للثيران، وعرائس ماريونيت من الورق المعجون، وقطع ذات خواص سحرية من جلود التماسيح. كانت رأس إليزابيث بدأت تدور. في الطرف الآخر من البازار، سطعت الشمس من خلال مظلة حمراء كالدم لأحد القساوسة، كأنها تسطع من خلال أذن عملاق. كان أربع من النساء الدرافيديات يطحن الكركم بعصي ثقيلة في هاون من الخشب أمام أحد الأكشاك. طار المسحوق الأصفر حاد الرائحة، وداعب منخري إليزابيث فجعلها تسعل. شعرت أنها لا تستطيع الصبر لحظة أخرى في هذا المكان، فلمست ذراع فلوري. «هذا الزحام ... الحر فظيع. هل تعتقد أن باستطاعتنا أن نحتمي بالظل؟»
هنا استدار فلوري، الذي كان في الحقيقة منهمكا جدا في الكلام - كلام أغلبه غير مسموع في الجلبة - حتى إنه لم يلحظ كيف كان تأثير الحر والرائحة عليها. «أوه، إنني آسف. هيا نخرج من هنا في الحال. لدي فكرة، سنذهب إلى متجر لي ييك العجوز؛ إنه بقال صيني، وسوف يأتي إلينا بأي شراب. فالجو هنا خانق بعض الشيء.» «كل هذه التوابل ... كأنها تحبس الأنفاس. وما تلك الرائحة المريعة الشبيهة بالسمك؟» «إنه نوع من الصلصة يعدونه من القريدس. فهم يدفنونه ثم يستخرجونه بعدها بعدة أسابيع.» «يا له من شيء في غاية الفظاعة!» «بل مفيد للغاية على ما أعتقد.» ثم أردف قائلا لفلو، التي دست أنفها في سلة بها سمك صغير شبيه بالقوبيون لديه حسك في خياشيمه: «ابتعدي عن ذلك!»
كان متجر لي ييك يواجه نهاية السوق. ما أرادته إليزابيث حقا هو العودة إلى النادي، لكن المظهر الأوروبي لواجهة متجر لي ييك - التي كانت مكدسة بقمصان قطنية صنعت في لانكاشاير وساعات ألمانية رخيصة لدرجة لا يصدقها عقل - بثت فيها بعضا من الطمأنينة بعد الهمجية التي كانت في البازار. كانا على وشك ارتقاء السلم حين انفصل عن الزحام وتبعهما شاب نحيل في العشرين شنيع الملبس ارتدى إزارا وسترة رياضية زرقاء وحذاء أصفر زاهيا، وفرق شعره ودهنه «على الموضة الإنجاليكية.» وقد حيا فلوري بحركة صغيرة مرتبكة كأنه كان يحاول أن يمنع نفسه من الانحناء.
قال فلوري: «ما الأمر؟»
أخرج ظرفا متسخا وقال: «خطاب يا سيدي.»
قال فلوري لإليزابيث، وهو يفتح الظرف: «هلا سمحت لي؟» كان خطابا من ما هلا ماي - أو بالأحرى، كتب لها ووقعته بصليب - وكان يطالب بخمسين روبية، بأسلوب تهديد مستتر.
جذب فلوري الشاب بعيدا، وقال: «هل تتحدث الإنجليزية؟ أخبر ما هلا ماي أنني سأنظر هذا الأمر لاحقا. وأخبرها أنها إذا حاولت ابتزازي لن تحصل مني على بيسة أخرى. هل فهمت؟» «نعم يا سيدي.» «والآن ارحل بعيدا. ولا تتبعني وإلا ستقع في مشكلة.» «حسنا يا سيدي.»
قال فلوري لإليزابيث وهما يصعدان السلم، مفسرا: «إنه كاتب يريد وظيفة. إنهم يأتون لإزعاجنا طوال الوقت.» رأى أن نبرة الخطاب كانت غريبة، إذ لم يتوقع أن تبدأ ما هلا ماي ابتزازه بهذه السرعة؛ بيد أنه لم يكن لديه وقت عندئذ ليتساءل عما قد يعنيه الأمر.
دخلا المتجر الذي بدا مظلما بعد الأجواء الخارجية؛ حيث جلس لي ييك يدخن بين سلال بضائعه - لم يكن هناك طاولة بيع - وتقدم وهو يعرج متحمسا حين رأى من دخل، فقد كان فلوري صديقا له. كان لي ييك رجلا عجوزا منحني الركبتين بزي أزرق، وشعر جمع في ضفيرة، ووجه أصفر بلا ذقن، نتئت عظام وجنتيه مثل جمجمة لكن أليفة. وقد حيا فلوري بأصوات عالية أنفية أراد بها أن يتحدث البورمية، وفي الحال عرج إلى مؤخرة المتجر لطلب المرطبات. عبق المكان برائحة أفيون هادئة حلوة. ولصق على الجدران شرائط طويلة من الورق الأحمر عليها حروف سوداء، وقام في أحد الجوانب مذبح صغير به صورة لشخصين ضخمين في ردائين مطرزين، بدت عليهما السكينة، فيما احترق أمامه عودان من البخور. وجلس على البساط امرأتان صينيتان، إحداهما عجوز والأخرى فتاة، تلفان سجائر بقش ذرة وتبغ يبدوان مثل قصاقيص شعر حصان. وكانتا ترتديان سروالين أسودين من الحرير، وقد حشرت أقدامهما التي انتفخت أمشاطها وتورمت في أخفاف خشبية ذات كعوب حمراء لا يزيد حجمها عن حجم خف دمية. وجعل طفل عار يزحف بطيئا على الأرض مثل ضفدعة صفراء ضخمة.
همست إليزابيث بمجرد أن أدار لي ييك ظهره: «انظر إلى قدمي تينك المرأتين! أليس هذا غاية في الفظاعة! كيف يجعلن أقدامهن هكذا؟ إنه ليس أمرا طبيعيا بالتأكيد؟» «لا، إنهن يشوهنها عمدا. إنها عادة في طريقها للزوال في الصين، لكن الناس هنا متخلفون عن الحاضر. ضفيرة لي ييكي العجوز أيضا عفى عليها الدهر. تلك الأقدام الصغيرة تعد جميلة وفقا لآراء صينية.» «جميلة! إنها في غاية البشاعة حتى إنني لا أقوى على النظر إليها. من المؤكد أن هؤلاء الناس همجيون تماما.» «كلا! إنهم متحضرون للغاية؛ في رأيي أكثر تحضرا منا. فالجمال إنما هو مسألة أذواق. يوجد في هذا البلد جماعة تدعى البالونج يحبون في النساء العنق الطويل. لذلك ترتدي الفتيات حلقات نحاسية لإطالة أعناقهن، ويرتدين المزيد والمزيد منها حتى تصير أعناقهن مثل أعناق الزراف في النهاية. وهذا ليس أغرب شأنا من الأرداف المستعارة أو التنورات المنتفخة.»
في هذه اللحظة عاد لي ييك بفتاتين بورميتين سمينتين بوجهين مستديرين، شقيقتان على ما يبدو، تضحكان وتحملان مقعدين وإبريق شاي صينيا أزرق سعة نصف جالون. الفتاتان هما جاريتان لدى لي ييك أو كانتا كذلك. أخرج الرجل العجوز علبة شوكولاتة من الصفيح ونزع الغطاء هو يبتسم ابتسامة أبوية كاشفا عن ثلاث أسنان طوال سودها التبغ. جلست إليزابيث بحالة مزاجية مرتبكة بشدة. كانت واثقة تماما أن قبول كرم ضيافة هؤلاء الناس لا يمكن أن يكون شيئا صحيحا. في الحال ذهبت إحدى الفتاتين البورميتين خلف المقعدين وشرعت تهوي على فلوري وإليزابيث، بينما جثت الأخرى عند أقدامهما وصبت فناجين الشاي. شعرت إليزابيث بحرج بالغ والفتاة تهوي على قفاها والرجل الصيني يبتسم قبالتها. بدا أن فلوري دائما ما يضعها في هذه المواقف الحرجة. أخذت قطعة شوكولاتة من العلبة التي قدمها لها لي ييك، لكن لم تطاوعها نفسها على أن تقول «شكرا».
ثم همست لفلوري: «هل هذا يصح؟» «يصح؟» «أقصد هل يجوز لنا الجلوس في منزل هؤلاء الناس؟ أليس هذا نوعا ... نوعا من النزول من قدرنا؟» «لا بأس بهذا مع الصينيين. فإنهم من الأعراق المفضلة في هذا البلد. وإنهم متواضعون جدا في أفكارهم. فالأفضل أن تعامليهم كأنهم نوعا ما أنداد.» «هذا الشاي يبدو في غاية البشاعة. إنه أخضر تماما. أعتقد أنه لا بد أن يكون لديهم تمييز ويضيفوا له حليبا، أليس كذلك؟» «إنه ليس سيئا. فهو نوع خاص من الشاي يأتي به لي ييك العجوز من الصين. أعتقد أن به أزهار برتقال.»
قالت بعد أن تذوقته: «أف! مذاقه مثل التراب تماما.»
وقف لي ييك ممسكا بغليونه، الذي كان طوله قدمين بوعاء معدني في حجم جوزة البلوط، وهو يشاهد الأوروبيين ليرى ما إذا كانا استمتعا بشايه. قالت الفتاة الواقفة خلف المقعد شيئا بالبورمية، فانفجرت كلتاهما ضحكا عليه مرة أخرى. رفعت الفتاة الجاثية على الأرض ناظريها إلى إليزابيث وحدقت فيها ببلاهة وإعجاب. ثم التفتت إلى فلوري وسألته ما إذا كانت السيدة الإنجليزية ترتدي مشدا وقد أخطأت في نطق الكلمة الإنجليزية.
قال لي ييك مصدوما: «صه!» وهو يهز الفتاة بإصبع قدمه ليسكتها.
قال فلوري: «هذا أمر لا يعنيني البتة لأسألها عنه.» «فلتسألها أرجوك يا سيدي! إننا في غاية اللهفة لنعرف!»
وثار جدل، ونسيت الفتاة الواقفة خلف المقعد أمر التهوية وشاركت في الجدل. بدا أن كلتيهما ظلتا زمنا طويلا تتوقان لرؤية مشد أصلي. فقد سمعتا العديد والعديد من الحكايات عنه؛ إنه يصنع من الصلب على نسق صديري ضيق، ويشد على المرأة بشدة حتى تبدو بلا صدر، بلا صدر على الإطلاق! ضغطت الفتاتان بأيديهما على ضلوعهما السمينة لتوضيح الأمر. وتساءلتا ما إذا كان فلوري سيتكرم بسؤال السيدة الإنجليزية. كان ثمة غرفة خلف المتجر حيث يمكنها الذهاب معهما لخلع ملابسها. كانتا تأملان بشدة أن تريا مشدا.
ثم توقف الحديث بغتة. كانت إليزابيث تجلس متسمرة، حاملة فنجان الشاي الصغير، الذي لم تستطع إجبار نفسها على تذوقه مرة أخرى، وهي تبتسم ابتسامة مصطنعة تماما. غشي الشرقيين فتور؛ إذ أدركوا أن الفتاة الإنجليزية، التي لم تستطع المشاركة في حديثهم، لم تكن تشعر بارتياح. وبدأت أناقتها وجمالها الأجنبي، اللذين سحراهم قبل لحظة، يثيران فيهم الروع. وحتى فلوري كان مدركا للشعور نفسه. ثم جاءت واحدة من تلك اللحظات البغيضة التي تمر على المرء مع الشرقيين، حين يتحاشى كل فرد عيني فرد آخر، محاولا التفكير دون جدوى في شيء ليقوله. ثم جاء الطفل العاري، الذي كان يستكشف بعض السلال في خلفية المتجر، زاحفا إلى حيث كان الأوروبيان جالسين. وراح يتفحص أحذيتهما وجواربهما بفضول هائل، ثم رفع بصره فرأى وجهيهما الأبيضين فاستولى عليه الفزع. وند عنه عويل مستوحش، وبدأ يبول على الأرض.
رفعت السيدة الصينية العجوز ناظريها وطرقعت بلسانها واستأنفت لف السجائر. لم يعر أحد آخر الأمر أدنى اهتمامه. بدأت بركة تتكون على الأرض، فانتاب إليزابيث هلع بالغ حتى إنها وضعت فنجانها على عجل، وسكبت الشاي، ثم تشبثت بذراع فلوري. «ذلك الطفل! انظر ماذا يفعل! حقا ألا يستطيع أحد ... يا للفظاعة!» ظل الكل يحملق مندهشا، ثم أدركوا جميعا ما الأمر. ثار صخب وسرت طرقعة بالألسنة. لم يكن أحد قد أعار الطفل أي اهتمام؛ فقد كان الحدث عاديا ليسترعي الانتباه، لكنهم صاروا جميعا الآن يشعرون بخزي شديد. وطفق الكل ينحون باللائمة على الطفل. وسارت صيحات: «يا له من طفل مخز! يا له من طفل مقزز!» حملت العجوز الصينية الطفل، وهو ما زال يعوي، إلى الباب، ورفعته للخارج على السلم كأنها تعتصر إسفنجة استحمام. في اللحظة نفسها، كما بدا، كان فلوري وإليزابيث خارج المتجر؛ حيث كان يتبعها عائدين إلى الطريق بينما تابعهما لي ييك والآخرون في جزع.
هتفت إليزابيث قائلة: «إذا كان ذلك ما تدعونه شعبا متحضرا ...»
قال لها بوهن: «إنني آسف، لم أتوقع قط ...» «يا لهم من ناس مقرفين غاية القرف!»
كانت غاضبة بشدة. وقد امتقع وجهها بلون زهري رقيق عجيب، مثل برعم شقائق نعمان تفتح قبل أوانه بيوم. كان هذا أغمق لون في إمكانه الاستحالة له. مشى فلوري في أثرها متجاوزين البازار وعائدين للطريق الرئيسي، وقد مضيا خمسين ياردة قبل أن يقدم على الكلام مرة أخرى. «يؤسفني بشدة ما قد جرى! لكن لي ييك رجل محترم للغاية. وسيسوءه أن يشعر بأنه قد تسبب في مضايقتك. كان من الأفضل حقا أن نمكث بضع دقائق. فقط لنشكره على الشاي.» «نشكره! بعد ذلك!» «الصراحة أنك ما كان ينبغي أن تبالي بشيء كهذا. ليس في هذا البلد. فالنظرة العامة لهؤلاء الناس تختلف بشدة عن نظرتنا. لا بد للمرء أن يتأقلم. افترضي مثلا أنك كنت في العصور الوسطى ...» «أعتقد أنني أفضل ألا أناقش الأمر أكثر من ذلك.»
كانت هذه المرة الأولى التي تشاجرا فيها يقينا. وكان هو بائسا للغاية حتى ليسأل نفسه كيف ضايقها. لم يدرك أن هذه المحاولة الدائمة لإثارة اهتمامها بالأشياء الشرقية بدت لها تصرفا فاسدا لا يليق برجل مهذب، وسعيا حثيثا وراء ما هو حقير و«كريه». لم يكن قد تفهم حتى اليوم بأي عينين كانت ترى «أهل البلد». عرف فقط أنها مع كل محاولة لجعلها تشاركه حياته وأفكاره وإحساسه بالجمال، كانت تجفل مثل فرس مذعور.
سار الاثنان على الطريق، هو على يسارها متخلفا عنها بقليل. ظل يراقب وجنتها المعرضة، والشعيرات الذهبية على قفاها تحت حافة قبعتها. لشد ما أحبها، لشد ما أحبها! كما لو كان لم يحبها بحق قط حتى هذه اللحظة، وهو يسير خلفها في خزي، لا يجرؤ حتى على أن يطل بوجهه المشوه. أوشك أن يتكلم عدة مرات، لكنه منع نفسه. لم يكن صوته مستعدا تماما، ولم يدر ما الذي يسعه قوله من دون أن يجازف بمضايقتها بطريقة ما. وفي النهاية قال بفتور، بتظاهر كليل بأن ليس ثمة شيء: «الحر صار فظيعا، أليس كذلك؟»
لم تكن ملحوظة ذكية ودرجة الحرارة تسعون في الظل. لكنها فاجأته وأقبلت عليه بنوع من الحماس؛ إذ حولت وجهها إليه، وابتسمت له مرة أخرى. «إنه ملتهب للغاية!»
بذلك صارا في سلام. فقد أتت الملحوظة التافهة السخيفة معها بأجواء دردشة النادي المطمئنة، فهدأت من روعها كأنها سحر. جاءت فلو، التي كانت متخلفة عنهما، وهي تلهث ويسيل لعابها؛ وسريعا ما راحا يتحدثان، كدأبهما تماما، عن الكلاب. ظلا يتحدثان عن الكلاب طوال ما تبقى من الطريق إلى المنزل، دون توقف تقريبا. فالكلاب موضوع لا ينفد. الكلاب، الكلاب! هذا ما خطر لفلوري وهما يتسلقان جانب التل الحار، والشمس الصاعدة تلفح أكتافهما من خلال ملابسهما الخفيفة، مثل لفح النار. ألن يتحدثا قط عن أي شيء غير الكلاب؟ أو عيوب الكلاب أو الأسطوانات أو مضارب التنس؟ لكن كم كان حديثهما يسيرا، وكم كانا يستطيعان الحديث بود حين يبقيان على مثل هذه التفاهات!
مرا بجدار الجبانة الأبيض اللامع وجاءا إلى بوابة منزل آل لاكرستين، الذي نمت حوله أشجار بوانسيانا عجوزة، ومجموعة من نباتات الخطمي بلغ طولها ثماني أقدام، بزهور حمراء مستديرة مثل فتيات بوجوه متوردة. خلع فلوري قبعته وهوى على وجهه. «حسنا، لقد عدنا قبل أن يبلغ الحر أشده. يؤسفني أن رحلتنا إلى البازار لم تكن موفقة بالمرة.» «لا مطلقا! لقد استمتعت بها، استمتعت حقا.» «كلا، لا أعلم، دائما ما يقع شيء سيئ على ما يبدو. آه، صحيح! لا تنسي أننا ذاهبان للرماية بعد غد. أرجو أن يمر ذلك اليوم على هواك.» «نعم وسوف يعيرني عمي سلاحه. يا لها من متعة بالغة! سيكون عليك أن تعلمني كل ما يتعلق بالرماية. إنني أتطلع بشدة إلى الأمر.» «وأنا كذلك. إنه وقت سيئ للرماية، لكننا سنبذل قصارى جهدنا. أما الآن فإلى اللقاء.» «إلى اللقاء يا سيد فلوري.»
كانت ما زالت تناديه سيد فلوري مع أنه كان يناديها إليزابيث. افترقا وذهب كل في سبيله، يفكر في رحلة الرماية، التي شعر كلاهما أنها ستضع الأمور في نصابها بينهما.
الفصل الثاني عشر
في الحر الرطب الباعث على النوم في حجرة المعيشة شبه المعتمة بتأثير الستائر الخرزية، راح يو بو كين يسير على مهل في أنحائها، مزهوا بنفسه. وكان بين الفينة والفينة يمد يده تحت قميصه التحتاني ويحك صدره المتعرق الضخم مثل صدر امرأة سمينة. كانت ما كين جالسة على حصيرتها، تدخن سيجارا أبيض رفيعا. من خلال باب مخدع النوم المفتوح يمكن رؤية حافة فراش يو بو كين المربع الضخم، بأعمدته من خشب التيك المنقوش، الشبيه بمنصة النعش، والذي ارتكب فيه العديد والعديد من حوادث الاغتصاب.
كانت ما كين تسمع لأول مرة عن «الأمر الآخر» الخفي في هجوم يو بو كين على الدكتور فيراسوامي. بقدر ما كان يزدري مستوى ذكائها، كان يو بو كين يطلع ما كين على أسراره عاجلا أو آجلا. كانت الشخص الوحيد الذي لا يخشاه في دائرته المقربة، لذلك كان يلاقي متعة في إبهارها. «حسنا يا كين كين، رأيت كيف جرى الأمر برمته كيفما خططت له! أرسلت بالفعل ثمانية عشر خطابا مجهول المصدر، وكل واحد فيها تحفة . كنت سأعيد عليك أجزاء منها لو كنت تستطيعين تفهمها.» «لكن لنفترض أن الأوروبيين لم يلقوا بالا لخطاباتك المجهولة المصدر؟ فما العمل حينئذ؟» «لم يلقوا بالا؟ لا أخشى ذلك! أعتقد أنني أفهم العقلية الأوروبية. ودعيني أعرفك يا كين كين بأنه إذا كان ثمة شيء واحد أستطيع فعله؛ فهو كتابة خطاب مجهول المصدر.»
كان هذا صحيحا. فقد كانت خطابات يو بو كين قد أحدثت تأثيرها بالفعل، وخاصة على هدفها الرئيسي، السيد ماكجريجور.
قبل هذا بيومين فقط، كان السيد ماكجريجور يقضي أمسية شديدة الاضطراب وهو يحاول أن يقرر ما إذا كان الدكتور فيراسوامي مذنبا بعدم الولاء للحكومة أم لا. بالطبع لم تكن المسألة أي فعل سافر ينم على عدم الولاء؛ كان ذلك بعيدا كل البعد. إنما كان السؤال: هل الدكتور من نوع الرجال الذي قد يتبنى آراء تحريضية؟ حيث إنه في الهند لا تحاسب على ما تفعله، وإنما على من تكون. تستطيع أقل شبهة تمس ولاء أي مسئول في الشرق أن تدمره. وكان السيد ماكجريجور ذا طبيعة نزيهة جدا تمنعه من إدانة حتى رجل شرقي دون تمحيص. وهكذا ظل حتى منتصف الليل يتفكر محتارا في كومة كبيرة من الأوراق السرية، منها الخطابات الخمسة المجهولة المصدر التي كان قد تلقاها، بجانب الخطابين الآخرين اللذين أرسلهما إليه ويستفيلد، مشبوكين معا بشوكة صبار.
لم تكن الخطابات فحسب. فقد ظلت الشائعات عن الطبيب تتدفق من كل حدب وصوب. أدرك يو بو كين تماما أن اتهام الطبيب بالخيانة لم يكن وحده كافيا؛ كان من الضروري الطعن في سمعته من كل ناحية ممكنة. لم يتهم الطبيب بإثارة الفتنة فحسب، بل وكذلك الابتزاز، والاغتصاب، والتعذيب، وإجراء عمليات غير مشروعة، وإجراء عمليات وهو في حالة سكر شديد، والقتل بالسم، والقتل بسحر المحاكاة [السحر القائم على إلحاق الأذى بالأشخاص عن طريق إيذاء صورهم]، وأكل لحم البقر، وبيع شهادات وفاة لقتلة، وارتداء حذائه في حرم المعبد، ومراودة الصبي عازف الطبل في الشرطة العسكرية عن نفسه. كان يخيل للمرء عند سماع ما كان يقال عن الطبيب أنه عبارة عن مكيافيلي وسويني تود والماركيز دو ساد مجتمعين. لم يكترث السيد ماكجريجور كثيرا في البداية؛ إذ كان معتادا جدا على هذا النوع من الأشياء. إلا أن يو بو كين كان قد حقق إنجازا عبقريا حتى بالنسبة إليه بالخطابات المجهولة المصدر الأخيرة.
كانت الخطابات تخص هروب نجا شوي أو، المجرم، من سجن كياوكتادا. كان نجا شوي أو في منتصف عقوبة سبع سنوات استحقها عن جدارة، وقد ظل يخطط لهروبه من قبله بعدة أشهر، وللبدء في الأمر رشا أصدقاؤه خارج السجن أحد السجانين الهنود. تسلم السجان المائة روبية مقدما، وقدم على إجازة لزيارة قريب له على فراش الموت، وأمضى عدة أيام حافلة في بيوت دعارة ماندالاي. مضى الوقت، وتأجل يوم الهروب عدة مرات؛ فقد ظل حنين السجان لبيوت الدعارة يزداد أكثر فأكثر في الوقت ذاته. وأخيرا قرر أن يضيف لمكافأته مكافأة أخرى بأن وشى بالخطة ليو بو كين، لكن يو بو كين رأى فرصته كالعادة. فأمر السجان بأن يلزم الصمت مهددا إياه بعقوبات صارمة، ثم أرسل خطابا آخر مجهول المصدر إلى السيد ماكجريجور، في نفس ليلة الهروب، بعد أن كان قد فات الأوان لفعل أي شيء، محذرا إياه من محاولة هروب. وغني عن القول أن الخطاب أضاف أن الدكتور فيراسوامي، مشرف السجن، كان قد تلقى رشوة للتواطؤ على الأمر.
في الصباح ساد هرج ومرج وتدافع السجانون ورجال الشرطة في أرجاء السجن؛ إذ كان نجا شوي أو قد هرب. (كان النهر قد حمله لمسافة طويلة، داخل زورق وفره يو بو كين.) في هذه المرة بوغت السيد ماكجريجور. أيا يكن من كتب الخطاب فلا بد أنه كان مطلعا على الخطة، وربما كان يقول الحقيقة بشأن تواطؤ الطبيب. كانت المسألة خطيرة جدا. فإن مشرف السجن الذي يقبل رشاوى للسماح بهروب سجين هو قادر على أي شيء. ومن ثم - ربما لم يكن التسلسل المنطقي واضحا تماما، لكنه كان واضحا كفاية لماكجريجور - ومن ثم صارت تهمة إثارة الفتنة، التهمة الرئيسية الموجهة للطبيب، أكثر قابلية للتصديق بكثير.
كان يو بو كين قد شن هجومه على الأوروبيين الآخرين في ذات الوقت. فلوري، الذي كان صديقا للطبيب ومصدره الرئيسي لاكتساب الوجاهة، فزع بسهولة حتى إنه تخلى عنه. أما ويستفيلد فكان أمره أصعب قليلا. إذ كان ويستفيلد رجل شرطة، ويعرف الكثير عن يو بو كين، وكان من الممكن أن يفسد خططه. فرجال الشرطة والقضاة أعداء طبيعيون. بيد أن يو بو كين عرف كيف يحول حتى هذه الحقيقة إلى ميزة. فقد اتهم الطبيب، دون الإفصاح عن هويته بالطبع، بأنه متحالف مع الوغد والمرتشي سيئ السمعة يو بو كين. وبذلك حسم ويستفيلد أمره. أما إليس، فلم تكن ثمة حاجة لخطابات مجهولة المصدر في حالته؛ فلا شيء على الإطلاق كان يمكنه أن يجعل رأيه في الطبيب أسوأ مما كان.
بل وأرسل يو بو كين واحدا من خطاباته المجهولة إلى السيدة لاكرستين؛ إذ كان يعلم بنفوذ النساء الأوروبيات. قال الخطاب: إن الدكتور فيراسوامي كان يحرض أهل البلد على خطف النساء الأوروبيات واغتصابهن، ولم ترد تفاصيل، ولا كانت ضرورية. وإنما لمس يو بو كين نقطة ضعف السيدة لاكرستين. كانت كلمات «فتنة» و«قومية» و«تمرد» و«الحكم الذاتي» في ذهنها تستحضر شيئا واحدا، شيئا واحدا لا غير، وهو صورة لها وهي يغتصبها سلسلة من العمال الشديدي السواد، وعيونهم تدور في محاجرها. كانت تلك الفكرة تؤرقها ليلا أحيانا. وهكذا أيا كان التقدير الذي ربما كان يكنه الأوروبيون للطبيب من قبل فقد راح يتهاوى سريعا.
قال يو بو كين بنبرة سرور: «أرأيت، أريت كيف نلت منه. إنه مثل شجرة نشرت من قاعدتها. دفعة واحدة وسوف يهوي. خلال ثلاثة أسابيع أو أقل سأعطيه تلك الدفعة.»
فقالت: «كيف؟»
رد عليها: «سأقول حالا. أعتقد أن الوقت قد حان لتسمعي بالأمر. صحيح أنك لا تفقهين هذه الأمور، لكنك تعلمين كيف تتكتمين. هل أتاك حديث عن هذا التمرد الوشيك قرب قرية ثونجوا؟» «نعم. إنهم حمقى جدا أولئك القرويون. ماذا يستطيعون أن يفعلوا بسيوفهم ورماحهم ضد الجنود الهنود؟ سوف يسقطون مثل الحيوانات البرية.» «بالطبع، إذا وقعت أي معركة ستكون مذبحة. لكنهم مجرد مجموعة من الفلاحين المؤمنين بالخرافات. لقد ركنوا إلى هذه السترات التافهة المضادة للرصاص التي وزعت عليهم. أزدري ذلك الجهل.» «يا لهم من رجال مساكين! لم لا توقفهم يا كو بو كين؟ ليس هناك ضرورة لحبس أي شخص. عليك فقط الذهاب إلى القرية وإخبارهم أنك تعرف خططهم، ولن يجرءوا أبدا على الاستمرار.» «حسنا، أستطيع أن أوقفهم إذا أردت بالطبع. لكنني لا أريد. ولدي أسبابي. الأمر وما فيه يا كين كين - ولتتكتمي على هذا الأمر - أن هذا التمرد خاص بي، إذا جاز التعبير. لقد أعددت له بنفسي.» «ماذا!»
سقط السيجار من يد ما كين. واتسعت عيناها حتى بدا بياضهما الأزرق الباهت المحيط تماما بحدقتيها. كانت مرتاعة، فانفعلت قائلة: «ماذا تقول يا كو بو كين؟ إنك لا تقصد ما تقول! أنت تثير تمردا ... لا يمكن أن يكون هذا صحيحا!» «إنه صحيح بالتأكيد. وسوف ننجزه على خير وجه. ذلك الساحر الذي أحضرته من رانجون رجل ماهر. لقد تجول في جميع أنحاء الهند ساحرا في سيرك. والسترات المضادة للرصاص اشتريت من متاجر وايت واي أند ليدلو، الواحدة بروبية وثماني آنات. لقد كلفتني مبلغا كبيرا حقا.» «لكن يا كو بو كين! تمرد! حيث ترتكب الفظائع من قتال وإطلاق نار، ويقتل كل أولئك الرجال المساكين! لا يمكن أن تكون قد جننت؟ ألا تخشى أن يطلق عليك النار أنت نفسك؟»
أمسك يو بو كين عن المشي، فقد اندهش. «يا للعجب يا امرأة، كيف جاءت على بالك تلك الفكرة؟ هل تعتقدين أنني سوف أتمرد على الحكومة؟ أنا! وقد ظللت موظفا حكوميا طوال ثلاثين سنة! يا للهول، لا! لقد قلت إنني أثرت التمرد، وليس أنني شاركت فيه. أولئك القرويون الحمقى هم الذين سيخاطرون بحياتهم، وليس أنا. إنه مما لا يخطر على بال أحد أن يكون لي أي شأن به، أو قد يكون لي أبدا، ما عدا با سين وواحد أو اثنين آخرين.» «لكنك قلت إنك أنت من كنت تحثهم على التمرد؟» «بالطبع، كنت قد اتهمت فيراسوامي بإثارة تمرد ضد الحكومة؛ ومن ثم لا بد أن يكون لدي تمرد لأثبت ذلك، أليس كذلك؟» «فهمت. وحين يندلع التمرد ستقول إن الدكتور فيراسوامي هو المسئول عنه، أليس كذلك؟» «كم أنت بطيئة! أعتقد أن حتى الأحمق كان سيدرك أنني إنما أثير التمرد حتى أقمعه. إنني ... ما ذلك التعبير الذي يستخدمه السيد ماكجريجور؟ عميل محرض. لن تفهميها، فهي لاتينية [العبارة التي قالها يو بو كين كانت بالفرنسية]. إنني عميل محرض. أولا: أحرض هؤلاء المغفلين في ثونجوا على التمرد، ثم ألقي القبض عليهم كمتمردين. في نفس اللحظة المقررة لبدايته سأنقض على الزعماء وأزج بكل واحد منهم في السجن. أظن أنه بعد ذلك ربما ينشب بعض القتال. ربما يقتل بعض الرجال ويرسل آخرون إلى جزر أندمان. لكنني في الوقت ذاته سأكون أول من يصل الميدان. يو بو كين الرجل الذي قمع انتفاضة غاية في الخطورة في اللحظة الأخيرة! سوف أكون بطل المنطقة.»
فخورا عن حق بخطته، راح يو بو كين يذرع الحجرة ذهابا وإيابا واضعا يديه خلف ظهره مبتسما. جعلت ما كين تفكر في الخطة لبعض الوقت، ثم قالت أخيرا: «ما زلت لا أدري لماذا تفعل ذلك يا كو بو كين. إلام سيفضي كل ذلك؟ وما علاقته بالدكتور فيراسوامي؟» «ألن أعلمك الحكمة أبدا يا كين كين! ألم أخبرك في البداية أن فيراسوامي يقف في طريقي؟ وهذا التمرد هو أنسب شيء للتخلص منه. لن نستطيع أبدا بالتأكيد أن نثبت أنه المسئول عنه؛ لكن ما أهمية ذلك؟ سيسلم كل الأوروبيين بأنه متورط فيه بطريقة ما. فهكذا تعمل عقولهم. سوف يقضى عليه إلى الأبد. وفي سقوطه سيكون صعودي. كلما استطعت تشويه صورته، بدا سلوكي أكثر جدارة بالثناء. هل فهمت الآن؟» «نعم، فهمت. وأعتقد أنها خطة حقيرة وشريرة. أعجب من أنك لست خجلانا حتى تخبرني بها.» «الآن يا كين كين! بالتأكيد ليس بنيتك الخوض في ذلك الهراء مرة أخرى.» «لماذا لا تكون سعيدا إلا وأنت تتصرف بشر يا كو بو كين؟ لماذا يجب أن يؤذي كل ما تفعله الآخرين؟ فلتفكر في الطبيب المسكين الذي سيفصل من عمله، وأولئك القرويين الذين سيطلق عليهم الرصاص أو يقرعون بالخيزران أو يسجنون مدى الحياة. هل من الضروري فعل مثل تلك الأشياء؟ ماذا قد تريده بمزيد من المال وأنت ثري بالفعل؟» «مال! من الذي تحدث عن المال؟ ذات يوم، ستدركين يا امرأة أن ثمة أشياء أخرى في العالم بجانب المال. الشهرة مثلا. العظمة. هل تدركين أنه من الوارد جدا أن يضع حاكم بورما وساما على صدري لتصرفي المخلص في هذه المسألة؟ حتى أنت ألن تكوني فخورة بشرف كبير مثل ذلك؟»
هزت ما كين رأسها، غير متأثرة. «متى ستتذكر أنك لن تعيش ألف عام يا كو بو كين؟ تفكر فيما يحدث لأولئك الذين عاشوا حياة شريرة؛ فهناك على سبيل المثال من تحول إلى فأر أو ضفدعة. بل وهناك جحيم. أتذكر ما قاله لي واحد من الكهنة ذات مرة عن الجحيم، شيء كان قد ترجمه عن الأسفار البالية، وقد كان بشعا جدا. قال: «كل ألف قرن سيغمد رمحان ملتهبان في قلبك، وسوف تحدث نفسك قائلا: «انتهى ألف قرن آخر من عذابي، وما ينتظرني أكثر مما مضى بكثير».» أليس مرعبا جدا أن تتخيل تلك الأشياء يا كو بو كين؟»
ضحك يو بو كين ولوح بيده بإشارة تنم على عدم اكتراث قصد بها «المعابد». «حسنا، أرجو أن تظل تضحك عندما تحين النهاية. أما أنا فلا أريد أن أتذكر حياة كتلك.»
أعادت إشعال السيجار وقد ولت يو بو كين كتفها النحيل بينما أخذ هو يدور عدة دورات أخرى في أنحاء الحجرة. وحين تحدث، كان أكثر جدية من ذي قبل، بل وبلمحة من خجل. «أتعلمين يا كين كين، ثمة أمر آخر وراء كل هذا. شيء لم أحدثك به ولا أي شخص آخر. حتى با سين لا يعرفه. لكن أعتقد أنني سأخبرك به الآن.» «لا أريد سماعه إذا كان فيه شر آخر.» «لا، لا. لقد سألتني عن الدافع الحقيقي في هذه المسألة. تحسبين على ما أعتقد أنني أدمر فيراسوامي فقط بغضا له ولأفكاره لكونها مصدر إزعاج لي. لكن ليس هذا كل ما في الأمر. ثمة شيء آخر أهم كثيرا، وهو يخصك مثلما يخصني.» «ما هو؟» «ألم تشعري في داخلك قط برغبة في أشياء أرقى يا كين كين؟ ألم يبد لك قط بعد كل نجاحاتنا - التي هي نجاحاتي في الواقع - أننا ما زلنا في نفس الوضع كما كنا حين بدأنا؟ لقد وصلت ثروتي إلى مائتي ألف روبية، على ما أعتقد، لكن انظري إلى الأسلوب الذي نعيش به! انظري إلى هذه الحجرة! حقا إنها ليست أفضل حالا من حجرة واحد من الفلاحين. لقد سئمت من الأكل بأصابعي والاختلاط بالبورميين فقط - الفقراء الأرذال - والعيش مثل موظف بائس في شئون البلدة، إذا جاز القول. المال لا يكفي؛ أود أن أشعر أنني ارتقيت في الحياة كذلك. ألا تتمنين أحيانا عيشة تكون أكثر ... كيف أصفها ... رقيا؟» «لا أعلم كيف لنا أن نريد أكثر مما لدينا بالفعل. حين كنت فتاة في قريتي لم يخطر ببالي قط أنني قد أعيش في بيت كهذا. انظر إلى تلك المقاعد الإنجليزية! لم أجلس على واحد منها قط في حياتي. لكن أشعر بفخر شديد حين أنظر إليها ويخطر لي أنني أمتلكها.» «صه! لماذا تركت قريتك من الأساس يا كين كين؟ فأنت لا يناسبك سوى أن تقفي تثرثرين بالنميمة لدى البئر وعلى رأسك جرة ماء من الحجر. أما أنا فأكثر طموحا، حمدا لله. والآن سأخبرك بالسبب الحقيقي لتآمري على فيراسوامي. في ذهني أن أفعل شيئا رائعا حقا، شيئا رفيعا ومجيدا! شيئا فيه أعلى درجات الشرف التي قد يبلغها شرقي. تعلمين ما أقصد بالطبع، أليس كذلك؟» «لا. ما الذي تقصده؟» «فلتفكري! أعظم إنجاز في حياتي! يمكنك أن تخمني بالتأكيد.» «آه، عرفت! سوف تشتري سيارة. لكن لا تتوقع مني ركوبها يا كو بو كين رجاء!»
لوح يو بو كين بيديه في اشمئزاز. «سيارة! لديك عقل بائعة فول سوداني في البازار! أستطيع شراء عشرين سيارة إذا أردت . لكن ما فائدة السيارة في هذا المكان؟ كلا، إنه شيء أكثر عظمة بكثير من ذلك.» «ما هو إذن؟» «إنه الآتي: عرفت بالصدفة أن الأوروبيين خلال شهر سيختارون واحدا من أهل البلد ليكون عضوا في ناديهم. إنهم لا يريدون ذلك، لكنهم سيتلقون أوامر من المفوض، وسيرضخون لها. وبطبيعة الحال سيختارون فيراسوامي، فهو أعلى مسئول من أهل البلد في المنطقة. لكنني شوهت سمعة فيراسوامي؛ ومن ثم ...» «ماذا؟»
لم يحر يو بو كين جوابا للحظة. نظر إلى ما كين، وقد رق وجهه الأصفر الضخم بفكه العريض وأسنانه العديدة، حتى كاد يصير مثل وجه طفل. ربما كان ثمة دموع في عينيه السمراوين. ثم قال بصوت خفيض يكاد يكون متهيبا، كأن عظمة ما كان يقوله قد غمرته: «ألم تفهمي يا امرأة؟ ألم تفهمي أنه حين تلطخ سمعة فيراسوامي سأنتخب أنا لعضوية النادي؟»
كان للكلام وقع ساحق. فلم يصدر من طرف ما كين كلمة جدال أخرى. إذ ألقمتها عظمة خطة يو بو كين حجرا.
وليس هذا مستغربا، فكل ما حققه يو بو كين من إنجازات في حياته لم يكن شيئا إلى جانب هذا؛ فهو انتصار حقيقي، ويضاعف من قيمته إنه في كياوكتادا؛ أن يختلس موظف من الدرجات الدنيا طريقه إلى النادي الأوروبي. النادي الأوروبي، ذلك المعبد البعيد الغامض، قدس الأقداس الأصعب كثيرا في دخوله من النيرفانا! بو كين، الصبي المتشرد من ماندالاي، والكاتب السارق والمسئول المغمور، سوف يدخل المكان المقدس، ويخاطب الأوروبيين بلا تكليف، ويشرب الويسكي والصودا ويضرب الكرات البيضاء يمينا ويسارا على الطاولة الخضراء! وما كين، المرأة القروية، التي أول ما التقطت عيناها الضوء كان من خلال شقوق كوخ خيزران مسقف بسعف النخيل، سوف تجلس على مقعد مرتفع وقد حبست قدماها في جوارب حرير وحذاء بكعب عال (نعم، سترتدي حقا حذاء في ذلك المكان!) وتتحدث مع السيدات الإنجليزيات باللغة الهندستانية عن أقمشة الأطفال! كان احتمالا جديرا أن يذهل أي شخص.
لاذت ما كين بالصمت طويلا، وقد افترت شفتاها وهي تفكر في النادي الأوروبي وأشكال الأبهة التي قد يحتوي عليها. ولأول مرة في حياتها طالعت مكائد يو بو كين من دون استنكار. ربما كانت زراعة بذرة الطموح في قلب ما كين الرقيق إنجازا أكبر كثيرا من اقتحام النادي.
الفصل الثالث عشر
مع دخول فلوري من بوابة مجمع المستشفى مر به أربعة كناسين ملابسهم رثة، حاملين جثة عامل، ملفوفة في خيش، إلى لحد يبلغ عمقه قدما في الغابة. عبر فلوري الأرض الشبيهة بالقرميد إلى الساحة الواقعة بين سقائف المستشفى. في أنحاء الشرفات الواسعة على أسرة من دون شراشف، رقدت صفوف من رجال بوجوه رمادية صامتين بلا حراك. وكان ثمة بعض الكلاب الهجينة القذرة المنظر، كان يقال إنها تلتهم الأعضاء المبتورة، وقد راحت تغفو أو تنهش براغيثها بين دعامات المباني. لف المكان بأسره جو من القذارة والعفن. وكان الدكتور فيراسوامي يحاول جاهدا الحفاظ على نظافته، لكن لا شيء كان سيتغلب على الغبار وسوء الموارد المائية، وكسل الكناسين ومساعدي الجراحين غير الحاصلين على تدريب كاف.
أخبر فلوري أن الطبيب كان في قسم العيادات الخارجية، وهو حجرة جدرانها من الجص ليس بها من المتاع إلا طاولة وكرسيان، وصورة متربة للملكة فيكتوريا، مالت ميلا شديدا. كان جمع من البورميين، فلاحون بعضلات متيبسة تحت أسمالهم الباهتة يدخلون الحجرة في طابور، ويصطفون لدى الطاولة. كان الطبيب مرتديا قميصا من دون سترة ويتصبب عرقا. وقد هب واقفا وهو يهتف معبرا عن سروره، وبأسلوبه النيق السريع المعتاد دفع بفلوري على كرسي شاغر وأخرج علبة سجائر من الصفيح من درج الطاولة. «يا لها من زيارة سارة! فلتكن على راحتك رجاء، هذا إن كان يمكن لأحد الشعور بأي راحة في مكان كهذا، ها ها! سوف نتحدث فيما بعد، في منزلي، مع الجعة ووسائل الراحة. أرجو أن تسمح لي بالانصراف إلى شئون الجمهور.»
جلس فلوري، فراح العرق الساخن يتدفق منه في الحال حتى بلل قميصه؛ إذ كانت حرارة الحجرة خانقة، ورائحة الثوم تنبعث من كل مسام الفلاحين. مع وصول كل رجل إلى الطاولة كان الطبيب يهب من مقعده ، وينكز المريض في ظهره، ويضع أذنه السوداء على صدره، ويسأل متعجلا عدة أسئلة بلغة بورمية ركيكة، ثم يعود سريعا إلى الطاولة ويدون الروشتة على عجالة. فيأخذ المرضى الروشتات ويعبرون الساحة إلى صانع التركيبات، الذي كان يعطيهم زجاجات مليئة بالماء وأصباغ نباتية متنوعة. كان صانع التركيبات يتعيش إلى حد كبير من بيع المخدرات؛ إذ كانت الحكومة تدفع له خمسا وعشرين روبية فقط شهريا. إلا أن الطبيب لم يكن لديه علم بهذا.
في صباح أغلب الأيام كان لا يتاح للطبيب متسع من الوقت للكشف على مرضى العيادة الخارجية بنفسه، فكان يتركهم لمساعد جراح، كان يتبع أساليب وجيزة في التشخيص. إذ كان بكل بساطة يسأل كل مريض: «أين تشعر بالألم؟ في الرأس، أم الظهر، أم البطن؟» وعند الإجابة يناولونه وصفة من إحدى ثلاث رزم كانوا قد حضروها مسبقا. وكان المرضى يفضلون هذا الأسلوب كثيرا عن أسلوب الطبيب. إذ كان من دأب الطبيب أن يسألهم ما إذا كانوا قد عانوا من أمراض تناسلية - سؤال غير لائق وغير مجد - وكان أحيانا يروعهم أكثر من ذلك بالنصح بإجراء عمليات، وهو ما كانوا يشيرون إليه بعبارة «فتح البطن». كان أغلبهم يفضلون أن يموتوا عشر مرات على أن يخضعوا لعملية «فتح بطن».
بمجرد أن ذهب المريض الأخير ارتمى الطبيب على كرسيه، وجعل يهوي على وجهه بدفتر الروشتات. «أف لهذا الحر! في صباح بعض الأيام أشعر أن رائحة الثوم لن تبارح أنفي أبدا! أتعجب كيف يصير دمهم ذاته مشبعا به! ألا تشعر باختناق يا سيد فلوري؟ فحاسة الشم لديكم أنتم الإنجليز متطورة للغاية. يا لها من عذابات تلك التي تعانونها جميعا حتما في شرقنا القذر!» «ربما يجدر أن يكتبوا فوق قناة السويس: «على جميع من سيدخلون من هنا ترك أنوفهم»، أليس كذلك؟ تبدو مشغولا هذا الصباح؟» «كالعادة، لكن كم هو محبط عمل الطبيب في هذا البلد يا صديقي! هؤلاء القرويون ... يا لهم من همج جهلة قذرين! جل ما يمكننا عمله هو أن نحملهم على المجيء إلى المستشفى، لكنهم يفضلون الموت بالغرغرينا أو العيش بورم بحجم الشمامة لعشر سنوات على أن يخضعوا للمشرط. ويا للأدوية التي يعطيها لهم أطباؤهم المزعومون! أعشاب حصدت تحت ضوء الهلال، وشوارب نمر، وقرون خرتيت، وبول، ودم حيض! إنه لمقزز أن يشرب إنسان مثل تلك التركيبات.» «لكنه بالأحرى مذهل. لا بد أن تؤلف دستورا بالأدوية البورمية يا دكتور. سيكون بنفس جودة دستور كلبيبر.»
قال الطبيب وقد بدأ يرتدي معطفه الأبيض بعصبية: «بهائم همج، بهائم همج. هلا عدنا إلى منزلي؟ يوجد جعة وأظن القليل من قطع الثلج المتبقية. لدي عملية الساعة العاشرة، فتق مختنق، مستعجلة جدا. حتى ذلك الوقت أنا حر.» «حسنا. في الواقع ثمة شيء كنت أود حقا أن أحدثك بشأنه.»
عبر المرضى الساحة عائدين وصعدوا سلم شرفة الطبيب، الذي راح يتحسس صندوق الثلج ليجد أنه قد ذاب كله إلى مياه فاترة، ففتح زجاجة جعة ونادى على الخدم بعصبية ليضعوا بضع زجاجات أخرى في حامل من القش المبتل ويعلقونه في الهواء. كان فلوري واقفا يطل من سور الشرفة، وقبعته ما زالت على رأسه. كان في الحقيقة قد جاء ليقدم اعتذارا، بعد أن ظل يتحاشى الطبيب طوال أسبوعين تقريبا، بالفعل منذ اليوم الذي وضع فيه اسمه في الإعلان المسيء في النادي. لكن كان لا بد من النطق بالاعتذار. كان يو بو كين خبيرا جيدا جدا بالرجال، لكنه أخطأ حين افترض أن خطابين مجهولي المصدر كافيين لإبعاد فلوري مذعورا عن صديقه إلى الأبد. «فلتسمع يا دكتور، أتعلم ما أردت قوله؟» «أنا؟ لا.» «بل تعلم. إنه بشأن تلك المكيدة الكريهة التي كدتها لك ذلك الأسبوع. حين علق إليس ذلك الإعلان على لوحة النادي ووقعت أنا عليه. لا بد أنك سمعت بالأمر. أود أن أشرح ...» «كلا، كلا يا صديقي، لا، لا!» كان الطبيب في ضيق شديد حتى إنه عبر الشرفة مسرعا وقبض على ذراع فلوري. «لا تفسر شيئا! لا تذكر الأمر أبدا أرجوك! إنني متفهم تماما، تماما جدا.» «لا، إنك لا تدري. لا يمكنك ذلك. فأنت لا تدرك أي نوع من الضغط يمارس علينا لنفعل أشياء مثل تلك. لم يكن ثمة شيء ليجعلني أوقع ذلك الإعلان. لم يكن شيء ليحدث لو أنني رفضت. لا يوجد قانون يطالبنا بأن نعامل الشرقيين معاملة كريهة، بل العكس تماما، لكن جل ما هناك أن المرء لا يجرؤ على إخلاص الود لشرقي ما دام هذا يعني معارضة الآخرين. إنه ليس من المعقول. لو كنت عارضت الإعلان معارضة صريحة لكان لحقني العار في النادي طوال أسبوع أو أسبوعين. لذلك جبنت كالعادة.» «أرجوك يا سيد فلوري، أرجوك! إذا واصلت الكلام ستجعلني أشعر بالحرج حقا؛ كما لو أنني لم أستطع أن ألتمس لك الأعذار على موقفك.» «إن شعارنا، كما تعلم: «في الهند تصرف كما يتصرف الإنجليز».» «بالطبع، بالطبع. وإنه لشعار نبيل للغاية «متآزرين معا»، كما تسميه. إنه سر تفوقكم علينا نحن الشرقيين.» «حسنا، إن الاعتذار لن يجدي أبدا. أما ما جئت هنا لأقوله فهو أن ذلك لن يحدث ثانية. في الواقع ...» «مهلا، مهلا يا سيد فلوري، فلتسدني معروفا بألا تزيد كلاما في هذا الموضوع. لقد انتهى ونسي تماما. فلتشرب جعتك قبل أن تصير ساخنة كالشاي، رجاء. كما أن لدي شيئا أود إخبارك به. فلم تسألني عن أخباري بعد.» «أجل، أخبارك. صحيح، كيف أخبارك؟ كيف جرت الأحوال طوال هذا الوقت. كيف حال السيدة بريطانيا؟ ما زالت على فراش الموت؟» «أجل، حالتها سيئة جدا، غاية في السوء! لكنها ليست في سوء حالتي. إنني في مأزق يا صديقي.» «ما الأمر؟ يو بو كين مجددا؟ هل ما زال يشهر بك؟» «ليته كان يشهر بي! هذه المرة ... حسنا، إنه عمل شيطاني. هل سمعت يا صديقي بالتمرد المفترض أنه على وشك الاندلاع في المنطقة؟» «سمعت أقوالا كثيرة. كان ويستفيلد قد مضى ناويا القتال، لكنني سمعت أنه لم يستطع العثور على أي متمردين. وإنما المعتاد من المعارضين القرويين الذين يرفضون سداد ضرائبهم.» «صحيح. يا لهم من حمقى مساكين! هل تعلم كم تبلغ الضريبة التي رفض أغلبهم سدادها؟ خمس روبيات! سرعان ما سيسأمون ويدفعون. تواجهنا هذه المشكلة كل عام. لكن فيما يتعلق بالتمرد - التمرد المزعوم يا سيد فلوري - أرجو أن تعلم أن ما خفي كان أعظم.» «حقا؟ ما الأمر؟»
تفاجأ فلوري حين بدرت من الطبيب حركة غضب عنيفة حتى إنه سكب أغلب الجعة من يده. ثم وضع كوبه على سور الشرفة وقال منفعلا: «إنه يو بو كين مجددا! ذلك الوغد الذي يجل عن الوصف! ذلك التمساح الذي عدم المشاعر الطبيعية! ذلك ... ذلك ...» «أكمل. «ذلك الصندوق المليء بالآفات البشرية؛ ذلك الجوال المفعم بالأسقام، ذلك البرميل الذي صفيت فيه كل الشرور» ... استمر. ما الذي ينويه الآن؟» «خسة لا يضاهيها خسة»، وهنا راح الطبيب يوضح مؤامرة التمرد الزائف، تماما كما شرحها يو بو كين لما كين. التفصيلة الوحيدة التي لم يكن يعلمها هي نية يو بو كين أن يجعل نفسه يختار لعضوية النادي الأوروبي. لا يمكن القول بأن وجه الطبيب كان متوردا بالضبط، لكنه صار أشد سوادا بعدة درجات في فورة غضبه. أما فلوري فقد كان من الاندهاش في غاية حتى إنه ظل واقفا. «يا له من شيطان خبيث! من كان يتخيل أنه يستطيع ذلك؟ لكن كيف استطعت معرفة كل هذا؟» «تبقى لي القليل من الأصدقاء. لكن هل رأيت يا صديقي أي دمار يدبره لي؟ لقد انهال علي بافتراءات شتى بالفعل. وحين يندلع هذا التمرد الغبي، سيبذل كل ما في وسعه ليربط اسمي به. وأؤكد لك أن أقل شبهة تمس ولائي من الممكن أن تتسبب في هلاكي، هلاكي! إذا همس أي خبر بمجرد تعاطفي مع هذا التمرد، سوف تكون نهايتي.» «لكن تبا، هذا لا يعقل! لا بد أن بإمكانك الدفاع عن نفسك بطريقة ما.» «كيف يمكنني الدفاع عن نفسي وأنا لا أستطيع إثبات شيء؟ أعلم أن كل هذا صحيح، لكن ما الجدوى؟ حتى إذا طالبت بتحقيق عام، مقابل كل شاهد سآتي به سيأتي يو بو كين بخمسين. إنك لا تدري بنفوذ ذلك الرجل في المنطقة. فلا أحد يجرؤ على الشهادة ضده.» «لكن ما حاجتك لإثبات أي شيء؟ لماذا لا تذهب لماكجريجور وتخبره بالأمر؟ إنه رجل حقاني جدا بطريقته، وسوف ينصت لك حتى النهاية.» «لا جدوى، لا جدوى. ليس لديك عقلية شخص متآمر يا سيد فلوري. تقديم التبريرات يدل على ارتكاب الذنب، أليس كذلك؟ لا فائدة ترجى من الصياح بأن هناك مؤامرة ضدي.» «حسنا، ماذا ستفعل إذن؟» «ليس هناك ما يسعني فعله. علي ببساطة أن أنتظر على رجاء أن تنقذني مكانتي. في مثل هذه الأمور، حين تكون سمعة أحد المسئولين من أهل البلد على المحك، لا يهم الإثبات أو الدليل. إنما يتوقف الأمر برمته على منزلته لدى الأوروبيين. إذا كان لي منزلة حسنة لن يصدقوا عني ذلك؛ إذا كانت سيئة فسوف يصدقون. المكانة هي كل شيء.»
لاذ الاثنان بالصمت لحظة. فهم فلوري جيدا أن «المكانة هي كل شيء». كان معتادا على هذه النزاعات المبهمة؛ حيث الشك أهم من الإثبات، والصيت أوقع من أكثر من ألف شاهد. ثم طرأت على باله فكرة، فكرة تبعث على القلق والخوف، ما كانت لتخطر على باله قبل ثلاثة أسابيع. كانت إحدى تلك اللحظات التي يرى فيها المرء بوضوح تام ما هو واجبه، ويرغب بشدة أن يتملص منه، لكن يساوره يقين أنه لا بد أن يقوم به. هكذا قال: «لنفترض مثلا أنك انتخبت لعضوية النادي. هل سيكون في ذلك أي فائدة لمكانتك؟» «إذا انتخبت لعضوية النادي! أجل، بالتأكيد! النادي! إنه قلعة حصينة. بمجرد أن أدخله، لن ينصت أحد إلى تلك الحكايات التي تقال عني إلا كأنها عنك أنت أو السيد ماكجريجور أو أي سيد أوروبي آخر. لكن أي أمل يحدوني في أن ينتخبوني بعد أن سممت أفكارهم عني؟» «حسنا، اسمعني يا دكتور، لدي فكرة. سأقترح اسمك في الجمعية العمومية التالية. المفترض أن المسألة ستطرح عندئذ على حد علمي، وأعتقد أنه إذا تقدم أحد باسم مرشح فلن يصوت أحد ضده سوى إليس. وفي الوقت ذاته ...» «آه يا صديقي، يا صديقي العزيز!» كاد الطبيب يختنق من فرط التأثر. ثم قبض على يده وقال: «آه يا صديقي، هذا تصرف نبيل! تصرف نبيل حقا! لكن هذا كثير جدا. أخشى أن تقع في مشكلة مع أصدقائك الأوروبيين مرة أخرى. السيد إليس مثلا، هل سيتغاضى عن اقتراحك اسمي؟» «أف لإليس. عليك أن تفهم أنني لا أستطيع أن أعد بانتخابك. فالأمر يتوقف على ما سيقوله ماكجريجور والحالة المزاجية التي سيكون عليها الآخرون. وقد ينتهي الأمر برمته إلى لا شيء.»
كان الطبيب لا يزال ممسكا بيد فلوري بين يديه، اللتين كانتا مكتنزتين ورطبتين. وكانت الدموع قد تصاعدت فعلا إلى عينيه، اللتين جعلتهما نظارته تبدوان مكبرتين، يطالع بريقهما فلوري مثل عينين لامعتين لكلب. «آه يا صديقي! ليتني أنتخب! فأي نهاية ستكون لكل متاعبي! لكن كما قلت لك من قبل يا صديقي، لا تكن شديد التهور في هذا الأمر. فلتحترس من يو بو كين! لا بد أنه قد احتسبك بالفعل بين أعدائه. ومن الممكن أن تكون عداوته خطيرة حتى عليك.» «يا إلهي، ليس بإمكانه أن يمسني. ولم يفعل شيئا حتى الآن، فقط القليل من الخطابات المجهولة المصدر التافهة.» «ما كنت لأفرط في الاطمئنان لو كنت مكانك؛ فهو لديه أساليب خفية للهجوم. ومن المؤكد أنه سيقيم الدنيا ويقعدها للحول دون انتخابي لعضوية النادي. إذا كان لديك نقطة ضعف فلتحرسها يا صديقي. فسوف يكتشفها. إنه دائما ما يصيب نقاط الضعف.»
أفاد فلوري قائلا: «مثل التمساح.»
وافقه الطبيب بجدية قائلا: «مثل التمساح، لكن كم سيسرني أن أصير عضوا في ناديك الأوروبي يا صديقي! يا له من شرف أن أكون زميلا لرجال أوروبيين مهذبين! لكن ثمة مسألة أخرى يا سيد فلوري لم أكترث لذكرها من قبل. وهي - أرجو أنه يكون هذا مفهوما بوضوح - أنني لا أنوي استغلال النادي بأي طريقة. فالعضوية هي كل ما أرغب فيه. وحتى إذا انتخبت، لن أجرؤ قط بالطبع على الذهاب إلى النادي.» «لن تأتي إلى النادي؟» «لا، لا! معاذ الله أن أفرض صحبتي على السادة الأوروبيين المهذبين! سوف أسدد اشتراكاتي فحسب. يكفيني ذلك الامتياز الرفيع. أعتقد أنك تدرك قصدي، أليس كذلك؟» «تماما يا دكتور، تماما .»
لم يستطع فلوري أن يمنع نفسه من الضحك وهو يسير صاعدا التل. صار الآن ملزما حتما باقتراح انتخاب الطبيب. وستثور مشاجرة عارمة حين يسمع الآخرون بالأمر. يا لها من مشاجرة عويصة! لكن المدهش أن ذلك لم يفعل به شيئا سوى أن جعله يضحك. الاحتمال الذي كان حقيقا أن يروعه قبل شهر يكاد يبهجه الآن.
لماذا؟ ولماذا أعطى وعدا من الأساس؟ كان أمرا بسيطا، مجازفة صغيرة - ليس بها شيء بطولي - إلا أنه كان مخالفا لطبعه. لماذا، بعد كل هذه السنوات - سنوات من العيش بحذر مثل واحد من سائر السادة الأوروبيين الواعين - يحطم كل القواعد فجأة؟
كان يعلم السبب. كان السبب أن إليزابيث، بدخولها حياته، غيرتها وجددتها تماما كأنه لم تمر عليه كل تلك السنوات من القذارة والبؤس قط؛ إذ غير وجودها مدار تفكيره كلية. فقد أعادت له هواء إنجلترا، إنجلترا العزيزة؛ حيث التفكير حر ولا يحكم على المرء باتباع سلوك «البوكا صاحب» إلى الأبد من أجل تهذيب الأعراق الدنيا. تساءل في نفسه: ماذا حدث للحياة التي كنت أعيشها مؤخرا؟ مجرد وجودها جعل التصرف بلياقة ممكنا بل وطبيعيا.
تساءل مرة أخرى مع مروره من بوابة الحديقة: ماذا حدث للحياة التي كنت أعيشها مؤخرا؟ كان سعيدا، سعيدا. فقد أدرك أن المتقين على حق حين يقولون إن ثمة خلاصا وإن الحياة من الممكن أن تبدأ من جديد. سار الممشى، وبدا له أن منزله، وزهوره، وخدمه، حياته بأسرها التي كانت منذ وقت قصير غارقة في ضجر وشوق للوطن، جعلت بطريقة ما جديدة وذات معنى وجميلة بلا حدود. كم من الممكن أن يصير كل شيء ممتعا، فقط إذا كان لديك شخص لتشاركه إياه! كم من الممكن أن تهوى هذا البلد، فقط إذا لم تكن وحيدا! كان نيرو بالخارج على الممشى متحديا الشمس من أجل بعض من حبوب الأرز التي أسقطها البستاني وهو يأخذ الطعام إلى عنزاته. اندفعت فلو إليه، لاهثة، وانطلق نيرو في الهواء بنشاط وحط على كتف فلوري. سار فلوري إلى المنزل بالديك الأحمر الصغير بين ذراعيه، مربتا على طوقه الحريري الملمس وريش ظهره الناعم المتخذ شكل الألماس.
لم يكد يطأ الشرفة حتى علم أن ما هلا ماي في المنزل. لم يكن بحاجة لأن يأتيه كو سلا من الداخل مسرعا بوجه عليه نذر الشر. فقد كان فلوري قد اشتم رائحة الصندل والثوم وزيت جوز الهند والياسمين الذي في شعرها. فأنزل نيرو على سور الشرفة.
قال كو سلا: «لقد عادت المرأة.»
كان فلوري قد شحب بشدة. وكان حين يشحب تجعله الوحمة يبدو قبيحا حد البشاعة. شعر بوخز كأن شفرة من جليد قد اخترقت أحشاءه. كانت ما هلا ماي قد ظهرت في مدخل مخدع النوم؛ إذ وقفت خافضة وجهها، وهي تنظر إليه من أسفل حاجبين مرتخيين.
قالت بصوت خفيض، تناصفت فيه نبرتا الحزن والاستعجال: «سيدي.»
قال فلوري بغضب لكو سلا، منفثا عن خوفه وغضبه عليه: «انصرف!»
قالت: «فلتأت إلى المخدع يا سيدي. لدي شيء لأقوله لك.»
تبعها إلى المخدع. خلال أسبوع - كان أسبوعا فحسب - تدهور مظهرها بشكل غير عادي. فقد بدا شعرها ملبدا. واختفت كل قلاداتها، وكانت ترتدي إزارا من قماش قطني منقوش بزهور صنع في مانشستر، بروبيتين وثماني آنات. وكانت قد دهنت وجهها بطبقة سميكة جدا من البودرة حتى بدا كأنه قناع مهرج، وعند منبت شعرها، حيث انتهت طبقة البودرة، ظهر خط من جلدها بلونه البني الأصلي. بدت عليها سيماء العاهرات. أبى فلوري أن يواجهها، وإنما وقف ينظر بعبوس من خلال الباب المفتوح على الشرفة. «ماذا تريدين بالرجوع هكذا؟ لماذا لم تعودي إلى قريتك؟» «إنني مقيمة في كياوكتادا، في منزل ابن عمي. كيف يمكنني العودة إلى قريتي بعد ما حدث؟» «وماذا تقصدين بإرسالك رجالا للمطالبة بمال مني؟ كيف يمكنك أن تحتاجي إلى مزيد من المال بهذه السرعة، وقد أعطيتك مائة روبية منذ أسبوع فقط؟»
أعادت قولها، متجاهلة ما قاله: «كيف يمكنني العودة؟» ارتفع صوتها ارتفاعا شديدا فجأة حتى إنه استدار. كانت واقفة بقامة شديدة الانتصاب، متجهمة، وقد ضمت حاجبيها الأسودين وزمت شفتيها. «لماذا لا تستطيعين العودة ؟» «بعد ذلك! بعد ما فعلته بي!»
انفجرت فجأة في ملامة مطولة مهتاجة، وقد علا صوتها بالصراخ الهستيري الوقح الذي يصدر عن نساء البازار حين يتعاركن. «كيف يمكنني العودة، ليسخر مني أولئك الفلاحون الوضعاء الأغبياء الذين أحتقرهم ويشيرون إلي؟ أنا التي كنت «بوكاداو»، زوجة رجل أبيض، أعود إلى بيت أبي، وأهز سلال الأرز مع الشمطاوات والنساء البالغات القبح اللواتي لم يجدن أزواجا! آه، يا للعار، يا للعار! طيلة سنتين كنت زوجتك، أحببتني واعتنيت بي، وفجأة من دون إنذار، من دون سبب طردتني من منزلك مثل كلب. والآن علي أن أعود إلى قريتي، بلا مال، وقد ذهب كل مصاغي وأزري الحرير، حتى يشير إلي الناس ويقولون: «ها هي ما هلا ماي التي ظنت أنها أذكى منا. انظروا! لقد فعل بها رجلها الأبيض كما يفعلون دائما.» لقد قضي علي، قضي علي! أي رجل سوف يتزوجني بعد أن عشت في منزلك عامين؟ لقد سلبتني شبابي. آه، يا للعار، يا للعار!»
لم يستطع النظر إليها؛ وقف عاجزا، شاحبا، خجلان. كانت كل كلمة نطقت بها لها تبرير، فكيف يخبرها أنه لم يستطع أن يفعل غير ما فعله؟ كيف يخبرها أن الاستمرار عشيقا لها كان سيصير فضيحة وخطيئة؟ كاد ينكمش منها، وبرزت الوحمة في وجهه الأصفر كأنها بقعة حبر. قال بفتور، لاجئا تلقائيا إلى المال؛ فالمال لم يخفق قط مع ما هلا ماي: «سوف أعطيك مالا. ستحصلين على الخمسين روبية التي طلبتها مني، والمزيد فيما بعد. فلن يكون لدي نقود أخرى حتى الشهر القادم.»
كان هذا حقيقيا. فقد أتت المائة روبية التي كان قد أعطاها لها، وما أنفقه على الملابس على أغلب ما لديه من نقد سائل. هنا انفجرت في عويل مدو أربكه. تقلص قناعها الأبيض وانهمرت الدموع سريعا وتدفقت على وجنتيها. وقبل أن يتسنى له أن يوقفها كانت قد خرت على ركبتيها أمامه وسجدت لامسة الأرض بجبهتها في وضع الانبطاح بالكامل أمام السادة بمذلته المطلقة.
هتف فلوري: «انهضي، انهضي!» فطالما روعه وضع الانبطاح المخزي المذل، من رأس مطأطئ وجسد منحن كأنه يدعو للضرب. «لا قبل لي بهذا. انهضي في الحال.» نوحت مرة أخرى، وحاولت التشبث بكاحليه، لكنه تراجع سريعا. «انهضي في الحال وكفي عن ذلك الصخب الفظيع. إنني لا أعلم علام تبكين.»
لم تنهض، وإنما قامت على ركبتيها وأخذت تنوح له. «لماذا تقدم لي مالا؟ هل تعتقد أنني عدت من أجل المال فقط؟ هل كنت تظن أنني لا أكترث إلا للنقود حين طردتني من منزلك مثل الكلب؟»
قال مجددا: «انهضي.» كان قد ابتعد بضع خطوات، خشية أن تمسك به. ثم قال: «ماذا تريدين إذا لم يكن مالا؟»
نوحت قائلة: «لماذا تكرهني؟ ما الأذى الذي ارتكبته؟ لقد سرقت علبة سجائرك، لكنك لم تكن غاضبا من ذلك. لكنك سوف تتزوج تلك المرأة البيضاء، أعلم ذلك، والجميع يعلمون. لكن ماذا في ذلك، لماذا تصر على طردي؟ لماذا تكرهني؟» «إنني لا أكرهك. لا أستطيع شرح الأمر. فلتنهضي، انهضي أرجوك.»
كانت آنذاك تبكي بلا أدنى خجل. فلم تكن سوى طفلة على أي حال. نظرت إليه من خلال دموعها، تتفرسه بلهفة بحثا عن أثر لشفقة. ثم أتت حركة مروعة؛ إذ تمددت بالكامل على وجهها.
صاح فلوري بالإنجليزية: «انهضي، انهضي! إنني لا أطيق هذا، هذا شنيع للغاية!»
لم تنهض، وإنما زحفت، مثل الدودة، عابرة الأرض إلى قدميه مباشرة. وقد صنع جسدها خطا عريضا في الأرض المغبرة. استلقت منبطحة أمامه، وجهها مختبئ، وذراعاها ممدودان، كأنها أمام مذبح أحد الآلهة.
قالت بنشيج: «سيدي، سيدي، هلا غفرت لي؟ هذه المرة، هذه المرة فقط! فلترد ما هلا ماي. سوف أكون أمتك، بل أدنى من أمتك. أي شيء أفضل من أن تطردني.»
كانت قد لفت ذراعيها حول كاحليه، وراحت تقبل أصابع قدميه فعليا. وقف هو ينظر إليها واضعا يديه في جيوبه، عاجزا. دخلت فلو الحجرة تتهادى، وسارت إلى حيث كانت ما هلا ماي مستلقية وجعلت تتشمم إزارها. وهزت ذيلها قليلا لتعرفها على الرائحة. لم يستطع فلوري الصبر. فانحنى وأمسك ما هلا ماي من منكبيها، ورفعها إلى ركبتيها.
قال : «فلتنهضي حالا. يؤلمني أن أراك هكذا. سوف أفعل ما بوسعي من أجلك. فما فائدة البكاء؟»
في الحال هتفت وقد تجدد لها الأمل: «هل ستردني إذن؟ فلترد ما هلا ماي يا سيدي! لن يعلم أحد أبدا. سأبقى هنا وحين تأتي السيدة البيضاء تلك، ستعتقد أنني زوجة أحد الخدم. هلا رددتني؟»
قال متوليا عنها مرة أخرى: «لا أستطيع. هذا مستحيل.»
سمعت الحسم في نبرته، فأطلقت صرخة حادة قبيحة. وانبطحت مستلقية مرة أخرى، وراحت تضرب الأرض بجبهتها. كان الأمر بشعا. لكن ما كان أكثر بشاعة من كل ذلك، الألم الذي أوجع صدره، هو الوضاعة المطلقة، ودناءة المشاعر الكامنة وراء تلك التوسلات. فلم يكن في هذا كله شرارة حب له. إذا كانت تبكي وتتذلل فقد كان فقط من أجل الوضع الذي تمتعت به وهي عشيقته، والحياة الخاملة، والملابس الغالية، والسيادة على الخدم. وكان في ذلك شيء مثير للشفقة لدرجة تعجز الكلمات عن وصفها. لو كانت تحبه لكان استطاع صرفها شاعرا بذنب أقل كثيرا. فلا توجد أحزان في مرارة تلك الخالية من أي كرامة. انحنى ورفعها إلى ذراعيه.
وقال لها: «اسمعيني يا ما هلا ماي، إنني لا أكرهك؛ فلم تسيئي إلي. أنا الذي أسأت إليك. لكن لا مناص من ذلك الآن. لا بد أن تعودي لدارك، وسوف أرسل إليك مالا لاحقا. إذا أردت فلتنشئي متجرا في البازار. إنك صغيرة. لن تهتمي للأمر حين يصير معك مال وستستطيعين العثور على زوج.»
رفعت صوتها بالبكاء مرة أخرى قائلة: «لقد قضي علي! سوف أقتل نفسي. سأقفز في النهر من على المرسى. كيف يمكنني العيش بعد هذا العار؟»
كان يضمها، يكاد يربت عليها، وكانت هي متشبثة به بشدة، وقد دست وجهها في قميصه، وارتجف جسدها بالنشيج. سرت رائحة الصندل إلى منخاريه. ربما كانت تعتقد حتى في هذه اللحظة أن باستطاعتها استعادة سيطرتها عليه وهي تطوقه بذراعيها وجسدها لصيق جسده. خلص فلوري نفسه منها برفق، ولما رأى أنها لن تخر على ركبتيها، وقف مبتعدا عنها. «حسبك هذا. لا بد أن ترحلي حالا. وانظري، سأعطيك الخمسين روبية التي وعدتك بها.»
أخرج الحقيبة الصفيح لملابسه الرسمية من أسفل الفراش وأخرج خمس ورقات بنكنوت بعشر روبيات. ودستها هي بصمت في صدر بلوزتها، وكانت دموعها قد توقفت عن التدفق على حين غرة. ومن دون أن تتكلم ذهبت إلى الحمام للحظة، ورجعت وقد استعاد وجهها بالغسيل لونه البني الطبيعي، واستعاد شعرها وزيها هندامهما. كانت تبدو متجهمة لكنها لم تعد في حالة هستيرية. «للمرة الأخيرة يا سيدي: ألا تريد أن تردني؟ هل هذه كلمتك الأخيرة؟» «نعم، ليس الأمر بيدي.» «سأذهب إذن يا سيدي.» «حسنا جدا. ليصحبك الرب.»
استند إلى العمود الخشبي للشرفة وهو يشاهدها تسير في الممشى تحت أشعة الشمس المتقدة. كانت تسير بانتصاب شديد، وقد تركت الإهانة المريرة أثرها على هيئة ظهرها ورأسها. كان صحيحا ما قالته، لقد سلبها شبابها. راحت ركبتاه ترتجفان بلا سيطرة. جاء كو سلا من خلفه بخطوات غير مسموعة، وسعل سعلة صغيرة لجذب انتباه فلوري. «ما الأمر الآن؟» «إفطار سيدي الكريم أوشك أن يبرد.» «لا أريد أي إفطار. ائت لي بشيء لأشربه؛ جين.»
ماذا حدث للحياة التي كنت أعيشها مؤخرا؟
الفصل الرابع عشر
سلك الزورقان اللذان حملا فلوري وإليزابيث طريقهما في الجدول المؤدي للمناطق الداخلية من الضفة الشرقية لنهر الإيراوادي كما تخترق الإبر الطويلة المعقوفة القماش المطرز. كان ذلك يوم رحلة الرماية؛ رحلة مسائية قصيرة، فلم يكن بإمكانهما البقاء لليلة في الغابة معا. كانا سيقضيان بضع ساعات في الرماية في جو المساء البارد نسبيا، ويعودان أدراجهما إلى كياوكتادا في ميعاد العشاء.
كان الزورقان، المفرغ كل منهما من جذع شجرة، ينسابان سريعا، يكادان لا يتركان أثرا في المياه ذات اللون البني الداكن. كان المجرى مسدودا بنبات الزنبق المائي وأوراقه الإسفنجية الغزيرة وزهوره الزرقاء، حتى إن القناة كانت عبارة عن شريط متعرج عرضه أربع أقدام فقط. وتخلل الضوء الأغصان المتشابكة وقد اكتسب لونا مخضرا. بين الفينة والفينة كان يسمع صياح الببغاوات آتيا من أعلى، لكن لم تظهر كائنات برية، إلا ثعبانا سبح مسرعا بعيدا وتوارى بين الزنابق المائية.
سألت إليزابيث فلوري من خلفها بصوت مرتفع: «كم تبقى على الوصول إلى القرية؟» كان هو وراءها في زورق أكبر، معه فلو وكو سلا، تجدف به امرأة عجوز ذات بشرة متجعدة في أسمال بالية.
سأل فلوري قائدة الزورق: «كم المسافة المتبقية أيتها الجدة؟»
أخرجت المرأة العجوز السيجار من فمها ووضعت مجدافها على ركبتيها لتفكر، ثم قالت بعد تأمل: «المسافة التي تقطعها صيحة رجل.»
قال فلوري مترجما: «نحو نصف ميل.»
كانا قد قطعا ميلين وصار ظهر إليزابيث يؤلمها. كان الزورقان عرضة للانقلاب مع أقل غفلة، وكان لا بد أن تجلس بانتصاب شديد على مقعد ضيق بلا ظهر، مبتعدا بقدميك قدر الإمكان عن قعر الزورق، بما فيه من قريدس نافق، ظل يترامى هنا وهناك في القاع. كان الرجل البورمي الذي جدف بزورق إليزابيث عجوزا في الستين، نصف عار، ذا بشرة بنية مثل الأوراق الذابلة، وجسد مثال مثل جسد شاب. وكان وجهه طيبا وضحوكا وعليه آثار كدمات. وكانت كتلة شعره الأسود أخف من شعر أغلب البورميين، وقد عقدها بلا إحكام فوق إحدى أذنيه، بينما تبعثرت خصلة أو اثنتان على وجنته. وكانت إليزابيث تحمل سلاح عمها بحرص فوق ركبتيها. كان فلوري قد عرض عليها أن يأخذه، لكنها رفضت؛ إذ كانت في الواقع تستمتع كثيرا بملمسه حتى إنها لم تستطع أن تحمل نفسها على تركه، فلم تكن قد حملت سلاحا قط حتى ذلك اليوم. وكانت ترتدي تنورة من قماش خشن وحذاء جلديا مزخرفا بثقوب وقميصا حريريا مثل قمصان الرجال، تعلم أنها بدت حسنة عليها مع قبعتها العريضة الإطار. ورغم أن ظهرها كان يؤلمها والعرق الساخن يدغدغ وجهها، والناموس الكبير المرقط يطن حول كاحليها، فقد كانت سعيدة للغاية.
ضاق المجرى وجاء محل تجمعات الزنابق المائية ضفاف منحدرة من الوحل اللامع، مثل الشوكولاتة. ومن بعيد مال فوق الجدول أكواخ متهالكة من القش، غرست قوائمها في قاعه. كان ثمة صبي عار واقف بين كوخين، يطير خنفساء خضراء مربوطة بخيط كأنها طيارة ورقية، وقد صاح لدى رؤية الأوروبيين مما دعا إلى ظهور المزيد من الأطفال فجأة. رسا الرجل البورمي العجوز بالزورق إلى مرفأ مصنوع من جذع نخلة واحدة ممتد في الوحل - غطي بالبرنقيل فكان مناسبا لوطء الأقدام - وقفز وساعد إليزابيث على الخروج للبر. وتبعهما الآخرون بالحقائب والخراطيش، وفلو، التي سقطت في الوحل وغاصت حتى كتفيها، كما كانت تفعل دائما في هذه المناسبات. تقدم رجل عجوز هزيل يرتدي إزارا قرمزيا، على وجنته شامة نبتت فيها أربع شعرات رمادية طولها أربع ياردات، وجعل ينحني محييا ويصفع رءوس الأطفال الذين تجمعوا حول المرفأ.
قال فلوري: «هذا زعيم القرية.»
قادهم الرجل العجوز إلى منزله، وكان يسير متقدما منحنيا على نحو غريب، مثل حرف L مقلوب؛ نتيجة للروماتيزم مجتمعا مع الانحناء الدائم للسادة الضروري لدى أي مسئول حكومي صغير. سار حشد من الأطفال سريعا وراء الأوروبيين، والمزيد والمزيد من الكلاب، تنبح كلها وتدفع فلو للانكماش ملتصقة بكعبي فلوري. في مدخل كل كوخ تلاصقت مجموعات من الوجوه الريفية محدقة في السيدة الإنجليزية. مالت القرية إلى العتمة في ظل الأوراق العريضة. حين تسقط الأمطار كان الجدول يفيض، لتتحول الأجزاء السفلية من القرية إلى مدينة فينيسيا خشبية قذرة حيث يخطو سكانها من أبواب أكواخهم إلى زوارقهم.
كان منزل زعيم القرية أكبر قليلا من المنازل الأخرى، وكان سقفه الحديدي المتعرج مصدر فخر له، رغم الضجة غير المحتملة التي تصدر عنه عند سقوط الأمطار. كان قد تراجع عن بناء معبد ليسدد ثمن ذلك المنزل، ومن ثم قلل من فرص بلوغه النرفانا بدرجة كبيرة. صعد السلم مسرعا وركل برفق في الضلوع شابا كان راقدا في غفوة في الشرفة. ثم استدار لينحني محييا الأوروبيين مرة أخرى، سائلا إياهم الدخول.
قال فلوري: «هلا دخلنا؟ أعتقد أن علينا الانتظار نصف ساعة.»
قالت إليزابيث: «ألا يمكنك أن تطلب منه إخراج بعض المقاعد في الشرفة؟» كانت إليزابيث قد قررت سرا بعد تجربتها في منزل لي ييك ألا تدخل منزل أحد من أهل البلد أبدا، ما أمكنها ذلك.
ثارت ضجة داخل المنزل، ثم جاء الزعيم والشاب وبعض النساء يجرون مقعدين مزينين بزهور الخطمي الحمراء بطريقة غريبة، وكذلك بعض نباتات البيجونيا المزروعة في صفائح كيروسين. كان جليا أنه قد جرى تجهيز ما يشبه العرش المزدوج بالداخل من أجل الزائرين الأوروبيين. بعد أن اتخذت إليزابيث مجلسها ظهر الزعيم مجددا ومعه إبريق شاي، وسباطة موز أخضر زاه هائل الطول، وست لفافات سيجار بورمي أسود كالفحم. لكنه حين صب لها فنجان شاي هزت إليزابيث رأسها رفضا، فقد بدا الشاي أسوأ حتى من شاي لي ييك، لو كان هذا ممكنا.
فرك الزعيم أنفه وقد بدا عليه الإحراج. فالتفت إلى فلوري وسأله ما إذا كانت السيدة الشابة تريد بعض الحليب في الشاي. فقد سمع أن الأوروبيين يشربون الشاي بالحليب. وإذا كان هذا هو المطلوب فمن الممكن أن يأتي الفلاحون ببقرة ويحلبوها. إلا أن إليزابيث ظلت عازفة عن الشاي؛ لكنها كانت عطشانة فسألت فلوري أن يرسل في طلب إحدى زجاجات المياه الغازية التي كان كو سلا قد أحضرها في الحقيبة. حين رأى الزعيم ذلك تراجع، شاعرا بالذنب لعدم كفاية ما هيأه من تحضيرات، وترك الشرفة للأوروبيين.
كانت إليزابيث لا تزال تحرس سلاحها على ركبتيها، بينما اتكأ فلوري إلى سور الشرفة متظاهرا بتدخين واحد من سيجار زعيم القرية. كانت إليزابيث متلهفة للشروع في الرماية، حتى إنها راحت تمطره بأسئلة لا حصر لها. «متى يمكننا البدء؟ هل تعتقد أن الخراطيش لدينا كافية؟ كم عدد مثيري الطرائد الذين سنأخذهم؟ أرجو حقا أن يحالفنا بعض الحظ! هل تعتقد أننا سنصطاد شيئا؟» «ربما أشياء عادية. من المؤكد أننا سنصطاد القليل من الحمام، وربما دجاج الأدغال. هذا ليس أوانه، لكن لا بأس إذا اصطدنا ديوكا. يقولون إن ثمة نمرا في الأنحاء، وإنه كاد يقتل ثورا في القرية الأسبوع الماضي.» «نمر! كم سيكون رائعا إذا استطعنا صيده!» «أخشى أن هذا شيء مستبعد تماما. القاعدة الوحيدة للصيد في بورما هي ألا تأمل شيئا، وهو الشيء المحبط للغاية. فالغابة تعج بالطرائد، لكن في أغلب الأحيان لا تتسنى لك الفرصة حتى لإطلاق النار من مسدسك.» «ما السبب؟» «لأن الغابة كثيفة للغاية، فقد يكون الحيوان على بعد خمس ياردات ومتواريا تماما، وفي كثير من الأحيان يتمكن من التهرب من مثيري الطرائد. حتى حين ترونه يكون للحظة فقط. كما أن الماء موجود في كل مكان، لذا فالحيوانات ليست مرتبطة بموقع محدد. فالفهد مثلا قد يهيم لمئات الأميال إذا أراد. مع توفر مختلف أنواع الطرائد، ليس هناك قط ما يضطرها للعودة لذبيحة إذا كان يشوبها ما يدعو إلى ريبة. حين كنت صبيا، كنت أسهر ليلة تلو الأخرى فوق جثث نتنة بشعة لأبقار، منتظرا فهودا لم تأت قط.»
ضمت إليزابيث لوحي كتفيها إلى المقعد. كانت تأتي هذه الحركة أحيانا حين تشعر بسرور بالغ. كانت تحب فلوري، تحبه حقا، حين يتحدث على هذا النحو؛ إذ كانت أتفه ذرة معلومات عن الصيد تثير حماسها. ليته يتحدث عن الصيد دائما، بدلا من التحدث عن الكتب والفن وذلك الشعر البذيء! وفي فورة مفاجئة من الإعجاب قررت أن فلوري رجل وسيم جدا حقا، بطريقته. فقد بدا متمتعا بأروع سمات الرجولة، بقميصه المصنوع من قماش العمائم المفتوح عند الرقبة، والسروال القصير والقلشين وحذاء الصيد! ووجهه المتغضن المسفوع مثل وجه جندي. كان واقفا مشيحا بوجنته الموحومة عنها، وقد ألحت عليه ليستمر في الكلام. «فلتحك لي المزيد عن صيد الفهود. فهو موضوع مثير للغاية!»
وصف فلوري ما جرى، منذ عدة سنوات، من صيد فهد أجرب عجوز من آكلي لحوم البشر كان قد قتل أحد عماله. الانتظار في دريئة مليئة بالناموس؛ وعينا الفهد وهما تقتربان في الغابة المعتمة، مثل مصباحين أخضرين ضخمين؛ صوت الفهد وهو يلهث ويريل بينما يلتهم جثة العامل المقيدة بعمود بالأسفل. حكى فلوري القصة برمتها بفتور تام - أوليس من دأب الإنجليزي الهندي الممل المضروب به المثل، أن يتحدث عن صيد الفهود؟ - بيد أن إليزابيث ضمت كتفيها مبتهجة مرة أخرى. لم يفهم كيف أن حديثا كهذا كان يبث فيها الطمأنينة ويعوضها عن كل المرات التي أثار فيها ضجرها وانزعاجها. جاء في آخر الممشى ستة شبان بشعر أشعث، يحملون سيوفا على أكتافهم، ويتقدمهم رجل عجوز نحيل لكن نشيط. توقفوا أمام منزل زعيم القرية، وأطلق أحدهم صيحة بصوت أجش، ظهر على أثرها الزعيم وقال إن هؤلاء هم مثيرو الطرائد. وكانوا على استعداد للبدء حينئذ إذا كانت السيدة الشابة لا تجد الجو شديد الحرارة.
مضوا في طريقهم. كان الجانب البعيد عن الجدول من القرية محاطا بسياج من الصبار بارتفاع ست أقدام وعرض اثنتي عشرة قدما. يصعد المرء ممرا ضيقا نبت فيه الصبار، ثم يسير في مسار مغبر تركت عجلات عربات الثيران فيه آثارها، وينمو على جانبيه بغزارة خيزران في طول ساريات الأعلام. وقد سار مثيرو الطرائد سريعا في صف واحد، كل منهم باسط سيفه على ساعده. أما الصياد العجوز فقد سار أمام إليزابيث مباشرة. كان إزاره مشمرا مثل مئزر الخصر، وفخذاه الهزيلتان موشومتين بأشكال زرقاء داكنة، شديدة التشابك كأنه يرتدي سروالا داخليا من الدانتيلا الزرقاء. كان يعترض الطريق عود خيزران في سمك معصم الرجل كان قد سقط. وقد قطعه أول مثيري الطرائد بضربة صاعدة من سيفه؛ فانبثق منه الماء المحبوس لامعا كالألماس. بعد نصف ميل وصلوا إلى الوديان المفتوحة، وكلهم يتصببون عرقا؛ إذ كانوا قد هموا في السير والشمس كانت قاسية.
قال فلوري: «ذلك هو المكان الذي سنصطاد فيه، هناك.»
أشار إلى الجانب الآخر من الجذامة، إلى سهل واسع بلون الغبار، مقسم إلى رقع بمساحة فدان أو اثنين يفصل بينها حدود طينية. كان مسطحا تسطيحا قبيحا، وخاليا من أي كائن حي اللهم إلا البلشون الثلجي. وفي الطرف القصي كان ينمو بانحدار غابة من الأشجار الضخمة، كأنها منحدر أخضر داكن. مضى مثيرو الطرائد إلى شجرة صغيرة مثل شجيرة الزعرور على بعد عشرين ياردة. جثا أحدهم، منحنيا للشجرة وهو يتمتم، بينما جعل الصائد العجوز يسكب على الأرض سائلا عكرا من زجاجة. ووقف الآخرون بوجوه جادة ضجرة مثل رجال واقفين في كنيسة.
تساءلت إليزابيث قائلة: «ماذا يفعل أولئك الرجال؟» «إنهم يقدمون القرابين لآلهة المنطقة. إنهم يسمونهم «النات »؛ نوع من جنيات الأشجار. إنهم يصلون لها حتى يحالفنا الحظ.»
عاد الصياد وبين بصوت أجش أنهم سيفزعون الحيوانات للفرار من مساحة صغيرة من الأجمة على اليمين قبل التقدم إلى الغابة الرئيسية. من الواضح أن «النات» قد أوصوا بهذا. وجه الصياد فلوري وإليزابيث إلى المكان الذي سيقفان فيه، مشيرا بسيفه. توغل مثيرو الطرائد الستة في الأجمة؛ كانوا سينحرفون عن الطريق ويطاردون الحيوانات حتى حقول الأرز. كان على بعد ثلاثين ياردة من حدود الغابة بعض شجيرات الجلنسرين، وقد اتخذ فلوري وإليزابيث مخبأهما خلف واحدة منها، بينما جلس كو سلا القرفصاء خلف أخرى، وقد أمسك بطوق فلو وراح يربت عليها لتظل هادئة. كان فلوري دائما ما يصرف كو سلا بعيدا حين يصيد؛ إذ كان لديه عادة مزعجة وهي الطرقعة بلسانه حين لا تصيب الرمية الهدف. بعد قليل تصاعد من بعيد صوت له صدى، صوت قرع وصيحات مجلجلة غريبة؛ لقد بدأت المطاردة. في الحال راحت إليزابيث ترتعش من دون سيطرة حتى إنها لم تستطع تثبيت ماسورة سلاحها. انطلق من بين الأشجار طائر غريب، أكبر قليلا من طائر السمنة، بجناحين رماديين وجسد قرمزي لامع، واقترب منهم وهو يطير على ارتفاع منخفض. اقترب صوت القرع والصيحات أكثر. واهتزت إحدى الشجيرات التي على حافة الغابة بشدة؛ أوشك حيوان ما ضخم أن يبرز منها. فرفعت إليزابيث سلاحها وحاولت تثبيته. لكن اتضح أنه كان فقط أحد مثيري الطرائد بجسده الأصفر العاري، وسيفه في يده. وقد أدرك أنه قد ظهر فنادى على الآخرين لينضموا إليه.
أنزلت إليزابيث السلاح وقالت: «ماذا حدث؟» «لا شيء. لقد انتهت المطاردة.»
فهتفت في إحباط شديد: «إذن لم يكن هناك شيء!» «لا تبالي، فلا أحد يحصل على أي شيء في أول مطاردة. سيحالفنا الحظ في المرة القادمة.»
عبروا الجذامة الوعرة، وهم يتسلقون الحدود الطينية التي قسمت الحقول، واتخذوا موضعا مواجها للجدار الأخضر الشاهق للغابة. كانت إليزابيث قد تعلمت بالفعل كيف تحشو سلاحها. لم تكد المطاردة تبدأ هذه المرة حتى صفر كو سلا صفيرا حادا.
صاح فلوري : «انتبهي! أسرعي، ها هي آتية!»
انطلق نحوهم سرب من الحمام الأخضر بسرعة فائقة، على ارتفاع أربعين ياردة. كان مثل حفنة من أحجار المنجنيق تدور في السماء. صارت إليزابيث عاجزة من فرط الإثارة. وظلت للحظة غير قادرة على الحركة، ثم دفعت بماسورة سلاحها في الهواء، في مكان ما في اتجاه الطيور، وسحبت الزناد بعنف. لم يحدث شيء؛ إذ كانت تشد واقية الزناد. بمجرد أن مرت الطيور فوق رءوسهم وجدت الزنادين وشدتهما في نفس الوقت. وقعت ضجة تصم الآذان وتراجعت هي خطوة للوراء وقد كادت عظمة ترقوتها أن تنكسر. كانت قد أطلقت النار وراء الطيور بثلاثين ياردة. وفي اللحظة نفسها رأت فلوري وهو يستدير ويصوب بسلاحه. توقفت حمامتان عن الطيران ودارتا ثم سقطتا على الأرض مثل سهمين. صاح كو سلا، واستبق هو وفلو إليهما.
قال فلوري: «انظري! ها هو حمام إمبراطوري، هيا نصطاده!»
ثم جاء يرفرف فوقهم طائر كبير ثقيل، أبطأ في الطيران من الآخرين بكثير. لم ترغب إليزابيث في إطلاق النار بعد ما كان من إخفاقها السابق. شاهدت فلوري وهو يدخل الخرطوش في المغلاق ويرفع سلاحه، وعمود الدخان الأبيض وهو ينبعث من الفوهة. ارتطم الطائر بالأرض وقد انكسر جناحه. وجاءت فلو وكو سلا ركضا متحمسين، فلو بالطائر الإمبراطوري الكبير في فمها، وكو سلا مبتسما وهو يخرج الحمامتين الخضراوين من حقيبة كتف مطرزة.
أخذ فلوري إحدى الجثتين الخضراوين الصغيرتين ليريها لإليزابيث. «انظري إليها، أليست كائنات جميلة؟ أجمل طائر في آسيا.»
لمست إليزابيث ريشها الأملس بطرف إصبعها، فامتلأت نفسها بحسد مرير؛ لأنها لم تصبها. لكن كان غريبا أنها شعرت بما يشبه الإعجاب تجاه فلوري بعد أن رأت كيف يستطيع الرماية. «فلتنظري إلى ريش صدره؛ مثل الجوهرة. إنها لجريمة أن نطلق عليها النار. يقول البورميون إن هذه الطيور تتقيأ حين تقتلها، كأنها تقصد بذلك أن تقول: «انظر، هذا كل ما أملك، فإنني لم آخذ منك شيئا. فلماذا قتلتني؟» لكن لا بد أن أقر أنني لم أر واحدا منها يفعل ذلك.» «هل هي شهية؟» «جدا ، لكن حتى مع ذلك دائما ما أشعر أنه من المخزي نقتلها.»
قالت إليزابيث بحسد: «ليتني أستطيع الرماية مثلك!» «إنها مجرد مهارة، وسوف تتعلمينها سريعا. إنك تعرفين كيف تمسكين السلاح؛ وذلك أفضل من حال كثير من الناس حين بدءوا.»
بيد أن إليزابيث ظلت دون أن تصيب شيئا في المطاردتين التاليتين. تعلمت ألا تطلق النار من مرة واحدة، لكنها كانت في فورة من الحماس أعجزتها حتى عن تسديد سلاحها. أصاب فلوري عدة حمامات أخرى، ويمامة برونزية الجناح صغيرة بظهر أخضر مثل الزنجار. أما دجاج الأدغال فكان أمكر من أن يكشف عن نفسه، وإن كان صوت قرقه ظل مسموعا طوال الوقت، وصياح الديوك الحاد مرة أو مرتين. هكذا راحوا يتوغلون أكثر في الغابة؛ حيث كان الضوء مائلا للون الرمادي، مع بقع من ضوء الشمس المبهر. كان المرء أينما يتجه بنظره يجد نفسه محاصرا بصفوف محتشدة من الأشجار، والشجيرات المتشابكة والنباتات المتسلقة التي عافرت حول قواعدها كما يعافر البحر حول قوائم رصيف الميناء. كانت كثيفة جدا، مثل أجمة من الشجيرات الشائكة ممتدة ميلا بعد ميل، حتى ليضيق نظر المرء بها. كانت بعض النباتات المتسلقة ضخمة، مثل الحيات. كابد فلوري وإليزابيث في عبور مسارات ضيقة للحيوانات، وصعود ضفاف زلقة، والأشواك تمزق ملابسهما، وقد صار قميص كل منهما غارقا في العرق. ساد الجو حر خانق، مع رائحة أوراق الشجر المسحوقة. أحيانا كانت بعض حشرات السيكادا المستترة تردد لبضع دقائق متواصلة صريرا، له رنة معدنية مثل نقر وتر جيتار من الصلب، ثم تتوقف ليسود هدوء يلقي في النفس الفزع.
وهم في طريقهم إلى المطاردة الخامسة وصلوا إلى شجرة تين مجوسي ضخمة، بلغ الأسماع من أعلاها صوت هديل حمام إمبراطوري. كان الصوت كأنه خوار بقر آت من بعيد. برز أحد الطيور وحط وحيدا على أعلى فرع، فبدا شيئا رماديا صغيرا. قال فلوري لإليزابيث: «فلتجربي إطلاق النار جالسة. ركزي بصرك عليه واسحبي الزناد دون انتظار. ولا تغمضي عينك اليسرى.»
رفعت إليزابيث سلاحها، الذي كان قد طفق يرتجف كالعادة. تلبث مثيرو الطرائد في مجموعة للمشاهدة، ولم يستطع بعضهم أن يمتنعوا عن الطرقعة بألسنتهم؛ فقد اعتقدوا أنه من الغريب والصادم نوعا ما أن يروا امرأة تحمل سلاحا. بجهد عنيف حافظت إليزابيث على ثبات سلاحها لثانية، وسحبت الزناد. لم تسمع الطلقة؛ فالمرء لا يسمعها مطلقا حين تصيب الهدف. بدا أن الطائر قفز عاليا من على الفرع، ثم هوى، وظل يتدحرج، حتى تعلق في تفريعة ثم على ارتفاع عشر ياردات. وضع أحد مثيري الطرائد سيفه وراح يرمق الشجرة ليقدر الوضع؛ ثم سار إلى نبات متسلق ضخم، في سمك فخذ رجل وفي التواء عود السكر بالشعير، تدلى بعيدا من أحد الفروع. صعد جريا النبات المتسلق بسهولة كما لو كان سلما، وسار منتصب القامة على الفرع العريض، وهبط بالطائر إلى الأرض. ثم وضعه رخوا ودافئا في يد إليزابيث.
لم تقو إليزابيث على تركه؛ إذ فتنها ملمسه. بل وكان من الممكن أن تقبله وتضمه إلى صدرها. راح كل الرجال، فلوري وكو سلا ومثيرو الطرائد، يبتسم كل منهم للآخر لرؤيتها وهي تداعب الطائر النافق. وعلى مضض أعطته لكو سلا ليضعه في الحقيبة. كانت شاعرة برغبة غريبة في إلقاء ذراعيها حول رقبة فلوري وتقبيله؛ وبطريقة ما كان قتل الحمام هو ما أثار فيها هذا الشعور.
بعد المطاردة الخامسة شرح الصياد لفلوري أنهم يجب أن يعبروا أرضا فضاء مستخدمة في زراعة الأناناس، ويطاردوا الحيوانات في رقعة أخرى من الغابة بعدها. هكذا خرجوا إلى ضوء الشمس، الذي كان مبهرا بعد عتمة الأدغال. كانت الأرض الفضاء عبارة عن مستطيل من فدان أو اثنين مقتطعة من الغابة مثل رقعة صغيرة محاطة بحشائش طويلة، نبت فيها الأناناس، النبات الشائك الشبيه بالصبار في صفوف، تكاد تخنقه الأعشاب الضارة. وكان ثمة سياج من الشجيرات الشائكة يقسم الحقل من النصف. وما كادوا يعبرون الحقل حتى تصاعدت صيحة ديك حادة من وراء السياج.
توقفت إليزابيث وقالت: «اسمع! هل كان ذلك ديك الأدغال؟» «نعم، إنها تخرج لتأكل في هذا الوقت تقريبا.» «ألا يمكننا الذهاب لإطلاق النار عليه؟» «سنحاول إذا أردت. فإنها كائنات ماكرة. اسمعي، سوف نتسلل وراء السياج حتى نصل للمكان المواجه له. لا بد أن نمضي من دون صوت.»
أرسل كو سلا ومثيري الطرائد بعيدا، ومر هو وإليزابيث على أطراف الحقل وزحفا بحذاء السياج. كان عليهما الانحناء أرضا للاختفاء عن الأنظار. كانت إليزابيث في المقدمة، وقد سال العرق الحار على وجهها، مدغدغا شفتها العليا، بينما راح قلبها يدق بعنف. شعرت بفلوري يلمس كعبها من الخلف، فوقف الاثنان ونظرا من فوق السياج معا.
على بعد عشر ياردات كان ثمة ديك صغير في حجم البنطم ينقر في الأرض بنشاط. كان جميلا، بريش عنقه الحريري الطويل، وعرفه الناتئ، وذيله المقوس الأخضر الرمادي مثل لون أوراق الغار. كان معه ست دجاجات، طيور بنية أصغر حجما، على ظهرها ريش ماسي الشكل مثل حراشف الحية. رأت إليزابيث وفلوري كل هذا في بحر ثانية، بعدها ارتفعت الطيور في الهواء وطارت مثل الطلقات صوب الغابة في صياح وحفيف. وفي الحال، بحركة بدت تلقائية، رفعت إليزابيث سلاحها وأطلقت النار. كانت واحدة من تلك الرميات التي لا يوجد فيها تصويب، ولا وعي بالسلاح في يدك، حين يبدو الذهن سابحا وراء القذيفة ليصيب بها الهدف. كانت تعلم أن الطير هالك قبل حتى أن تسحب الزناد؛ وقد تدحرج وانتثر ريشه على بعد ثلاثين ياردة. صاح فلوري: «رمية موفقة، رمية موفقة!» في نشوة الحماس ألقى كل منهما سلاحه، واخترقا سياج الشجيرات الشائكة واستبقا جنبا إلى جنب إلى حيث كان الطائر راقدا.
قال فلوري مجددا منفعلا مثلها: «رمية موفقة! أقسم أنني لم أر قط أحدا يصيب طائرا محلقا في أول يوم له، مطلقا! لقد أطلقت النار من سلاحك في سرعة البرق. هذا مذهل!»
كانا جاثيين متواجهين بينهما الطائر النافق. في دهشة اكتشفا أن يديهما، يمينه ويسارها، كانتا متشابكتين معا بقوة؛ إذ جريا إلى الموضع يمسك كل منهما يد الآخر دون أن يلاحظ.
غشي كليهما صمت مفاجئ، شعور بشيء جلل لا بد أن يحدث. مد فلوري يده وتناول يدها الأخرى، فجاءته مذعنة ، عن طيب خاطر. وظلا للحظة جاثيين متشابكي الأيدي معا. توهجت الشمس عليهما وتسربت الحرارة من جسديهما؛ بدا الاثنان كأنهما يحلقان على غمام من الحرارة والبهجة. ثم أمسك بعضديها ليضمها إليها.
ثم فجأة أشاح برأسه بعيدا ووقف، وهو يشد إليزابيث للنهوض. ثم أفلت ذراعيها، إذ كان قد تذكر وحمته. لم تواته الجرأة على أن يفعلها. ليس هنا، ليس في وضح النهار! وقد نتج عن ذلك صد غاية في الفظاعة. وللتغلب على حرج اللحظة انحنى والتقط ديك الأدغال.
ثم قال: «كان بديعا. لست بحاجة إلى أي تعلم؛ فباستطاعتك الرماية بالفعل. يفضل أن نمضي إلى المطاردة التالية.»
كانا قد عبرا السياج والتقطا سلاحيهما للتو حين صدرت سلسلة من الصيحات من حافة الغابة. جاء اثنان من مثيري الطرائد يركضان نحوهما بقفزات هائلة، وهما يلوحان بذراعيهما في الهواء بشدة.
تساءلت إليزابيث: «ما الأمر؟» «لا أعلم، ربما رأيا حيوانا ما أو شيئا من هذا القبيل. يبدو من منظرهما أنه خبر حسن.» «مرحى! هيا بنا!»
انطلقا يركضان وعبرا الحقل سريعا، مخترقين الأناناس والحشائش الجافة الشائكة. كان كو سلا وخمسة من مثيري الطرائد واقفين في حشد يتحدثون كلهم في نفس واحد، بينما جعل الاثنان الآخران يومئان بحماس لفلوري وإليزابيث. وحين وصلا إليهم رأيا في وسط المجموعة امرأة عجوزا ترفع إزارها المهلهل بيد وتشير بسيجار كبير في اليد الأخرى. استطاعت إليزابيث أن تسمع كلمة ما بدت مثل «تشار» تتكرر عدة مرات.
تساءلت: «ما الذي يقولونه؟»
احتشد مثيرو الطرائد حول فلوري، يتحدثون كلهم بلهفة ويشيرون ناحية الغابة. بعد بضعة أسئلة لوح بيده ليسكتهم والتفت إلى إليزابيث وقال: «ويحي، صادفنا بعض من الحظ! كانت هذه المرأة العجوز تجوب الغابة، وتقول إنها لدى سماع صوت الطلقة التي أطلقتها لتوك رأت نمرا يجري عبر الممر. يعلم هؤلاء الرفاق أين قد يختبئ. إذا أسرعنا ربما تمكنوا من تطويقه قبل أن يتسلل هاربا، وإخراجه من مخبئه. هلا حاولنا؟» «هيا بنا! يا لها متعة بالغة! كم هو رائع، كم هو رائع أن نستطيع صيد ذلك النمر !» «هل تدركين أنه أمر خطير؟ سنظل متقاربين وستمضي الأمور على ما يرام غالبا، لكن السير ليس آمنا أبدا على الإطلاق. هل أنت مستعدة؟» «بالطبع، بالطبع! إنني لست خائفة. هيا نسارع ونبدأ!»
قال فلوري لمثيري الطرائد: «ليأت أحدكم معنا ويرينا الطريق. وأنت يا كو سلا، ضع المقود لفلو واذهب مع الآخرين. فلن تصمت أبدا معنا.» ثم أردف قائلا لإليزابيث: «علينا أن نسرع.»
رحل كو سلا ومثيرو الطرائد مسرعين بحذاء حافة الغابة. مثير الطرائد الآخر، نفس الشاب الذي كان قد تسلق الشجرة من أجل الحمامة، توغل في الغابة، وفي أثره فلوري وإليزابيث. وبخطوات قصيرة سريعة، تشبه الركض، قادهما إلى متاهة من مسارات الحيوانات. كانت الشجيرات تنمو منخفضة جدا حتى يكاد المرء يضطر للزحف أحيانا، وكانت النباتات المتسلقة متدلية عبر المسار مثل أسلاك الفخاخ. كانت الأرض مغبرة وساكنة تحت أقدامهم. وعند معلم ما في الغابة توقف مثير الطرائد، وأشار إلى الأرض إشارة إلى أن هذه البقعة مناسبة، ثم وضع إصبعه على شفتيه ليأمر بالصمت. وأخرج فلوري من جيبه أربعة من خراطيش صيد الحيوانات ضخمة وأخذ سلاح إليزابيث ليحشوه في صمت.
كان وراءهم حفيف خافت جعلهم جميعا يجفلون. كان شاب شبه عار معه قوس قاذف للكرات، لا أحد يدري من أين جاء، قد شق طريقه من بين الشجيرات. وقد نظر إلى مثير الطرائد، وهز رأسه وأشار إلى مقدمة المسار. جرى بين الشابين حوار بالإشارات، ثم بدا مثير الطرائد موافقا. ومن دون كلام تسلل الأربعة أربعين ياردة على المسار، وحول منعطف، ثم توقفوا مرة أخرى. في نفس اللحظة انطلقت من على بعد بضع مئات الياردات جلبة من الصيحات، تخللها نباح فلو.
شعرت إليزابيث بيد مثير الطرائد على كتفها، تدفعها إلى أسفل. جلس الأربعة القرفصاء متسترين بإحدى الشجيرات الشائكة، الأوروبيون في المقدمة، والبورميون خلفهم. واشتد من على بعد صخب صيحات وصليل إعمال السيوف في جذوع الأشجار حتى إنه كان يستعصي على المرء أن يصدق أن بإمكان ستة رجال إحداث كل هذه الضجة. شاهدت إليزابيث بعض النمل الكبير ذي الصفرة الباهتة يسير مثل الجنود على أشواك الشجيرة. وسقطت واحدة على يدها وزحفت صاعدة على ساعدها، لكنها لم تجرؤ على الحركة لإزاحتها. كانت تصلي في صمت قائلة: «أتضرع إليك يا إلهي أن تجعل النمر يأتي! أرجوك يا إلهي أن تجعل النمر يأتي!»
تعالى فجأة صوت طقطقة على الأوراق. فرفعت إليزابيث سلاحها، إلا أن فلوري هز رأسه بشدة وأنزل ماسورة السلاح مرة أخرى. جاءت واحدة من دجاج الأدغال تعدو عبر الممر مسرعة بخطوات طويلة صاخبة.
بدت صيحات مثيري الطرائد بعيدة تماما، وخيم على هذا الجانب من الغابة الصمت مثل سحابة سوداء. سقطت على الأرض النملة التي كانت على ذراع إليزابيث بعد أن قرصتها قرصة مؤلمة. بدأ يعتمل في قلبها يأس مريع؛ لن يأتي النمر؛ فقد تسلل مبتعدا إلى مكان ما، وضاع منهم. كادت أن تتمنى لو أنهم لم يعرفوا بوجوده قط؛ فقد آلمها الإحباط بشدة. ثم شعرت بمثير الطرائد يقرصها في مرفقها. كان مشرئبا بوجهه إلى الأمام، ووجنته الصفراء الكالحة الملساء على بعد بوصات قليلة فقط منها، حتى إنها استطاعت أن تشتم رائحة زيت جوز الهند الذي في شعره. كانت شفتاه الجافتان مزمومتين كأنه يريد أن يصفر؛ إذ كان قد سمع شيئا. ثم سمعه فلوري وإليزابيث أيضا، حفيف خافت للغاية، كأن ثمة كائنا ما من هواء يمرق في الغابة، بالكاد يمس الأرض بأقدامه. وفي اللحظة ذاتها برز رأس النمر وكتفاه من بين الشجيرات، على بعد خمس عشرة ياردة على الممر.
توقف بحافريه الأماميين على المسار. كان ظاهرا لهم رأسه المنخفض ذو الأذنين المسطحتين ونابه الأمامي المكشوف وساعده السميك المخيف. ولم يبد أصفر في الظل وإنما رماديا. كان يصيخ السمع، ثم رأت إليزابيث فلوري وهو يهب واقفا، ويرفع سلاحه ويضغط على الزناد في الحال. دوت الطلقة، وسمعوا في نفس الوقت تقريبا صوت ارتطام شديد؛ إذ سقط الحيوان منبطحا على الحشائش. صاح فلوري: «انتبهي! فلم يقض عليه بعد!» ثم أطلق النار مرة أخرى، فجاءهم صوت ارتطام جديد مع إصابة الطلقة الهدف . وراح النمر يلهث. فتح فلوري سلاحه وبحث في جيبه عن خرطوش، ثم ألقى كل خراطيشه على الممر وجثا على الأرض، يبحث سريعا بينها.
صاح فلوري: «اللعنة! لا يوجد بينها خرطوش واحد للحيوانات الضخمة. أين وضعتها بحق الجحيم؟»
كان النمر قد اختفى بعد سقوطه، وراح يتخبط مثل ثعبان ضخم جريح، وهو يصرخ بصوت مزمجر، منتحب، وحشي ومثير للشفقة. بدا أن الصوت يقترب. وكل خرطوش من الخراطيش التي وجدها فلوري كان على طرفها علامة ستة أو ثمانية. أما بقية الخراطيش ذات الطلقات الكبيرة، فقد بقيت مع كو سلا في الواقع. صار صوت تهشم الأوراق والزمجرة بالكاد على بعد خمس ياردات، لكنهما لم يستطيعا أن يريا شيئا؛ لأن الأجمة كانت كثيفة جدا.
كان الرجلان البورميان يصيحان: «أطلق النار! أطلق النار! أطلق النار!» ثم ابتعد صوتهما وهما يقولان: «أطلق النار! أطلق النار!» إذ كانا يثبان نحو أقرب الأشجار القابلة للتسلق. كان ثمة صوت في الشجيرات التحتية قريب جدا حتى إن الشجيرة التي كانت إليزابيث واقفة وراءها اهتزت.
قال فلوري: «يا إلهي، أوشك أن يصل إلينا! لا بد أن نجعله يرتد بطريقة ما. أطلقي النار حيث الصوت.»
رفعت إليزابيث سلاحها. كانت ركبتاها تصطكان مثل صنجين، لكن يدها كانت ثابتة مثل حجر. وسريعا أطلقت النار، مرة، ثم مرة أخرى. ثم تراجع الصوت. كان النمر يزحف بعيدا، عاجزا لكن سريعا، وما زال خفيا.
قال فلوري: «أحسنت! لقد أفزعته.»
هتفت إليزابيث وهي تتوثب هنا وهناك في هياج: «لكنه سيهرب! سيهرب!» وأوشكت أن تتبعه، لكن فلوري هب واقفا وجذبها. «لا تخافي! ابقي هنا وانتظري!»
وضع فلوري في سلاحه خرطوشين من الخراطيش ذات الطلقات الصغيرة وجرى وراء صوت النمر. ظلت إليزابيث للحظة لا تستطيع أن ترى سواء الحيوان أو الرجل، ثم ظهرا مجددا على رقعة خالية على بعد ثلاثين ياردة. كان النمر يزحف على بطنه متلويا، وهو ينشج مع كل حركة. رفع فلوري سلاحه وأطلق النار من على بعد أربع ياردات، فقفز النمر مثل الوسادة حين تصيبها طلقة، ثم تقلب ، وانكمش ورقد بلا حراك. نكز فلوري الجثة بماسورة سلاحه، فلم تحرك ساكنا.
نادى فلوري قائلا: «لا بأس، لقد قضي عليه. تعالوا وألقوا نظرة عليه.»
نزل الرجلان البورميان من على الشجرة، وذهبا هما وإليزابيث إلى حيث كان فلوري واقفا. كان النمر - الذي كان ذكرا - مسجى منكمشا، رأسه بين مخلبيه الأماميين. بدا أصغر كثيرا مما كان وهو حي؛ بدا بالأحرى مثيرا للشفقة، مثل هريرة نافقة. كانت ركبتا إليزابيث ما زالتا ترتعدان، وقد وقفت هي وفلوري يطلان على النمر، متلاصقين، لكن من دون أن يشبكا أيديهما هذه المرة.
ما لبث أن جاء كو سلا والآخرون، وهم يصيحون في فرح. تشممت فلو النمر الميت مرة واحدة، ثم هبط ذيلها وانطلقت خمسين ياردة، وهي تنشج. ولم يمكن استدراجها للاقتراب منه مرة أخرى. جلس الكل القرفصاء حول النمر وأخذوا يحدقون فيه. وشرعوا يربتون على بطنه الأبيض الجميل، الناعم مثل بطن الأرنب، ويعتصرون أقدامه لينتزعوا المخالب، ويسحبون شفتيه السوداوين ليفحصوا الأنياب. وسريعا ما اقتطع اثنان من مثيري الطرائد عود خيزران طويلا وعلقا عليه النمر من حوافره، ليتجرجر ذيله الطويل على الأرض، ثم سارا عائدين إلى القرية منتصرين. ولم ينبس أحد بكلمة عن مزيد من الصيد، رغم أن الضوء كان لا يزال باقيا. فقد كانوا جميعا، بما فيهم الأوروبيون، متلهفين للغاية لبلوغ ديارهم والتباهي بما فعلوه.
سار فلوري وإليزابيث جنبا إلى جنب عبر حقل الجذامة. وكان الآخرون يتقدمونهما بثلاثين ياردة بالأسلحة والنمر، وكانت فلو تسير خفية متأخرة عنهم بمسافة طويلة في الخلف. كانت الشمس في سبيلها للهبوط خلف الإيراوادي، وسطع الضوء بالتساوي على الوادي، صابغا هشيم الجذامة باللون الذهبي، ومصيبا وجوههم بشعاع أصفر هادئ. كاد كتف إليزابيث أن يلامس كتف فلوري أثناء سيرهما. وكان العرق الذي أغرق قميصيهما قد جف ثانية. لم يتحدثا كثيرا. وشعرا بتلك السعادة الجامحة النابعة من الإرهاق وإنجاز المراد، والتي لا يمكن أن يضاهيها أي شيء آخر في الحياة، سواء كانت بهجة من مباهج الجسد أو العقل.
قال فلوري حين اقتربا من القرية: «جلد النمر حق لك.» «لكن أنت الذي أطلقت عليه النار!» «لا بأس، احتفظي أنت بالجلد. إنني لأتساءل حقا كم امرأة في هذا البلد كانت ستحافظ على رباطة جأشها كما فعلت! لا أتخيلهن إلا وهن يصرخن ويغشى عليهن. سوف أجعل الجلد يدبغ لك في سجن كياوكتادا. فهناك سجين يستطيع دبغ جلود ناعمة مثل القطيفة. إنه يقضي عقوبة سبع سنوات، لذا تسنى له الوقت لتعلم الصنعة.» «حسنا، أشكرك شكرا جزيلا.»
لم تنطق كلمة أخرى حينذاك. لاحقا، بعد أن يتحمما من العرق والوسخ، ويطعما ويستريحا، سيلتقيان مرة أخرى في النادي. لم يتفقا على مواعيد، لكن كان مفهوما بينهما أنهما سيلتقيان. كان مفهوما أيضا أن فلوري سيطلب من إليزابيث أن تتزوجه، مع أنه لم يذكر شيئا عن هذا الأمر أيضا.
في القرية دفع فلوري لكل واحد من مثيري الطرائد ثماني آنات، وأشرف على سلخ جلد النمر، وأعطى زعيم القرية زجاجة جعة واثنين من الحمام الإمبراطوري. حشر الجلد والجمجمة في أحد الزوارق. وسرق كل شعر الشوارب، رغم محاولات كو سلا حراستها. وحمل بعض شباب القرية الجثة حتى يأكلوا القلب وعدة أعضاء أخرى، يعتقدون أن تناولها يجعلهم أقوياء وسريعين مثل النمر.
الفصل الخامس عشر
حين وصل فلوري إلى النادي وجد آل لاكرستين في حالة غير معتادة من الكآبة. كانت السيدة لاكرستين جالسة، كدأبها، في أفضل موضع أسفل المروحة، تقرأ القائمة المدنية [قائمة بالمرتبات والمعاشات التي تمنحها الحكومة البريطانية للموظفين التابعين لها في مستعمراتها]، التي تعد بمثابة «دليل ديبريت» في بورما. كانت مستاءة من زوجها، الذي عصاها بطلب «مقدار كبير من الشراب» بمجرد أن وصل إلى النادي، بل وأمعن في عصيانها بقراءة مجلة «بينكان». أما إليزابيث فكانت بمفردها في المكتبة الصغيرة ذات الجو الخانق، تقلب صفحات عدد قديم من مجلة «بلاكوودز».
بعد افتراقها عن فلوري، مرت إليزابيث بمغامرة بغيضة للغاية. كانت قد خرجت من حمامها، وترتدي ملابسها استعدادا للعشاء حين ظهر عمها بغتة في حجرتها. الحجة: معرفة المزيد عما حدث أثناء رحلة الصيد. وراح يقرص ساقها بطريقة لا يمكن أن يساء فهمها على الإطلاق. أصاب إليزابيث الروع، فقد كانت هذه أول مرة تعرف أن بعض الرجال لديهم القدرة على معاشرة بنات إخوانهم. لكننا نعيش ونتعلم. حاول السيد لاكرستين الاستمرار في الأمر على سبيل المزاح، لكنه كان أشد لخمة ويكاد يكون أشد سكرا من أن ينجح في ذلك. ولحسن الحظ أن زوجته كانت بعيدة عن مجال السمع، وإلا ربما كانت أثارت فضيحة من الطراز الأول.
بعد ما حدث، ساد العشاء جو من الحرج. فقد كان السيد لاكرستين عابسا، متعجبا، أي هراء هذا؟ الطريقة التي يتعالى بها هؤلاء النساء ويمنعنك من قضاء وقت ممتع! اللعنة، فقد كانت الفتاة على قدر من الجمال يكفي لتذكيره بالصور التي في مجلة «لا في باريزيان»! أوليس هو من يدفع نفقات معيشتها؟ يا للعار! أما من ناحية إليزابيث فقد كان الوضع خطيرا جدا؛ إذ كانت مفلسة وليس لديها ملجأ إلا منزل عمها. فقد سافرت ثمانية آلاف ميل لتقيم هنا. سيكون من الرهيب أن يصير منزل عمها غير صالح للإقامة بعد أسبوعين فقط.
بناء على ذلك، صار شيء واحد مؤكدا في ذهنها أكثر مما كان؛ وهو أنها ستوافق إذا طلب منها فلوري الزواج (وسوف يفعل، فليس هناك شك كبير في ذلك). في وقت آخر كان ثمة احتمال صغير أن تتخذ قرارا مغايرا. كانت في عصر ذلك اليوم، تحت تأثير تلك المغامرة الرائعة المثيرة «الجميلة» للغاية، قد اقتربت من أن تحب فلوري؛ بقدر ما استطاعت من القرب نظرا لحالته الخاصة. لكن ربما تعاودها شكوكها حتى بعد ذلك؛ فطالما كان ثمة شيء مريب بشأن فلوري؛ سنه ووحمته وأسلوبه الغريب النزق في الحديث، كلام «الثقافة الرفيعة» ذلك الذي كان مبهما ومربكا في الوقت ذاته. مرت عليها أيام بلغ بها الأمر أن كرهته. أما الحين فقد حسم تصرف عمها المسألة. مهما يكن من أمر عليها أن تهرب من منزل عمها، وعلى جناح السرعة. أجل، لا شك أنها ستتزوج فلوري حين يطلب يدها للزواج!
استطاع أن يرى الإجابة في وجهها حين دخل المكتبة. بدا مظهرها أرقا، أكثر استكانة مما عرفه. وكانت ترتدي نفس الفستان البنفسجي الفاتح الذي كانت ترتديه في ذلك الصباح الذي التقى بها فيه أول مرة، وقد منحته رؤية الفستان المألوف الشجاعة. بدا كأنه أدناها منه، مزيحا الغرابة والأناقة التي كانت توهن عزيمته أحيانا.
التقط المجلة التي كانت تقرؤها وقال ملحوظة ما؛ شرعا يثرثران لبرهة من الوقت نفس الثرثرة التافهة التي نادرا ما استطاعا تحاشيها. إنه لعجيب أن تستديم عادات الحديث التافه في كل اللحظات تقريبا. لكن بينما هما يثرثران وجدا نفسيهما منساقين إلى الباب ثم إلى الخارج، وبعد قليل إلى شجرة الياسمين الهندي الكبيرة لدى ملعب التنس. كانت ليلة اكتمال القمر. كان القمر متوهجا مثل عملة مشتعلة، ساطعا جدا حتى ليوجع ضوءه العيون، وهو يسبح عاليا في سماء في زرقة الدخان، انسابت في أنحائها خطوط قليلة من الغيم الأصفر. وكانت النجوم كلها خافية. أما شجيرات الكروتون، التي تبدو بشعة نهارا مثل أشجار غار أصابتها الصفراء، فقد حولها القمر إلى أشكال متداخلة بالأبيض والأسود مثل صور مذهلة مطبوعة من قوالب خشبية. عند سور المجمع كان ثمة عاملان درافيديان يسيران على الطريق، غير واضحي التفاصيل، فيما راحت أسمالهما البيضاء تشع وميضا. كانت شجرة الياسمين الهندي ترسل في الهواء الدافئ رائحة قوية.
قال فلوري: «فلتنظري إلى القمر، انظري إليه فحسب! كأنه شمس بيضاء. أشد ضوءا من النهار الشتوي الإنجليزي.»
رفعت إليزابيث ناظريها عبر فروع شجرة الياسمين الهندي، التي بدت كأن القمر قد حولها إلى قضبان من الفضة. انتشر الضوء سميكا، كأنه قابل للمس، على كل شيء، فكسا الأرض ولحاء الأشجار الخشن بقشرة مثل ملح براق، وبدت كل ورقة من أوراق الأشجار كأنها تحمل عبئا من الضوء الملموس، شبيه بالثلج. حتى إليزابيث، التي كانت لا تأبه لتلك الأشياء، كانت مبهورة. «إنه رائع! لا نرى ضوء القمر هكذا في الوطن مطلقا. إنه في غاية ... غاية ...» لما لم يواتها نعت سوى «ساطع»، لاذت بالصمت. كان من عاداتها أن تترك جملها دون أن تتمها، مثل روزا دارتل، وإن كان لسبب مختلف. «أجل، القمر العجوز يقدم أفضل ما عنده في هذا البلد. تلك الشجرة الكريهة الرائحة للغاية، أليس كذلك؟ شجرة مدارية بشعة! أبغض الشجرة التي تظل وارفة طوال العام، ألست كذلك؟»
كان يتحدث شارد الذهن إلى حد ما، ليملأ الوقت حتى يغيب العاملان عن مرمى البصر. وبمجرد اختفائهما وضع ذراعه حول كتف إليزابيث، ولما لم تجفل أو تنطق، أدارها وضمها إليه. صار رأسها مواجها لصدره وشعرها القصير ملامسا لشفتيه. وضع يده أسفل ذقنها ورفع وجهها ليقابل وجهه. لم تكن هي ترتدي نظارتها. «هل تمانعين؟» «لا.» «أقصد ألا تبالين ... بهذا الشيء لدي؟» وهز رأسه قليلا ليشير إلى الوحمة. لم يستطع تقبيلها دون أن يسأل هذا السؤال أولا. «لا، لا. بالطبع لا.»
بعد لحظة من تلاقي ثغريهما شعر بذراعيها العاريتين تستقران بخفة حول رقبته. وقفا متعانقين، وقد استندا إلى جذع شجرة الياسمين الهندي الناعم، جسده ملاصق لجسدها، وشفتاه ملاصقتان لشفتيها، طوال دقيقة أو أكثر. امتزجت رائحة الشجرة المثيرة للغثيان مع رائحة شعر إليزابيث. وقد أعطته الرائحة شعورا بالغفلة، بالبعد عن إليزابيث، مع أنها كانت بين ذراعيه. كل ما كانت تلك الشجرة الغريبة تمثله له؛ منفاه، السر، السنوات الضائعة. كانت مثل هوة لا سبيل لعبورها. كيف يمكنه يوما أن يجعلها تفهم ذلك الذي يريده منها؟ انفصل عنها ودفع بكتفيها برفق إلى الشجرة، وهو ينظر إلى وجهها، الذي استطاع رؤيته بوضوح شديد رغم أن القمر كان خلفها.
قال فلوري: «لا جدوى من أن أحاول إخبارك ماذا أنت بالنسبة إلي. ماذا أنت بالنسبة إلي! هذه العبارات التي فقدت وقعها! إنك لا تعلمين، ولا يمكن أن تدركي، كم أحبك. لكن يجب أن أحاول إخبارك. هناك أشياء كثيرة جدا يجب أن أخبرك بها. هل من الأفضل أن نعود إلى النادي؟ ربما يأتون للبحث عنا. يمكننا أن نتحدث في الشرفة.»
قالت هي: «هل تبعثر شعري؟» «إنه جميل.» «لكن هل صار مبعثرا. هلا هذبته لي أرجوك؟»
حنت رأسها إليه، فسوى خصلات شعرها القصير الرطب بيده . منحته الطريقة التي حنت بها رأسها له شعورا غريبا بالقرب، أقوى كثيرا من القبلة، كما لو كان زوجها بالفعل. آه، لا بد أن تصير له، كان هذا مؤكدا! فقط بالزواج منها من الممكن إنقاذ حياته. سيسألها في الحال. سارا على مهل بين شجيرات الكروتون عائدين إلى النادي، وذراعه ما زالت تحيط بكتفها.
قال مجددا: «يمكننا أن نتحدث في الشرفة. لسبب ما لم يتسن لنا، أنا وأنت، أن نتحدث بحق قط. يا إلهي، لكم اشتقت طوال هذه السنوات لشخص أتحدث معه! كم أود الحديث معك بلا توقف، بلا توقف! يبدو هذا مملا. أخشى أنني سأكون مملا. لا بد أن أرجوك أن تصبري على الأمر قليلا.»
صدر منها صوت ينم عن اعتراضها على كلمة «ممل». «لا، إنه ممل. أعلم ذلك. نحن الإنجليز المقيمين في الهند دائما ما نرى أشخاصا مملين. وإننا مملون. لكن لا يد لنا في هذا. فالأمر وما فيه أن هناك ... ما الكلمة المناسبة؟ ... شيطان بداخلنا يدفعنا للكلام. إننا نتحدث تحت وطأة عبء من الذكريات التي نتلهف لمشاركتها ولا نستطيع أبدا لسبب ما. إنه الثمن الذي ندفعه نظير قدومنا إلى هذا البلد.»
كانا في مأمن من المقاطعة في طرف الشرفة؛ إذ لم يكن ثمة باب يؤدي إليها مباشرة. كانت إليزابيث قد جلست باسطة ذراعيها على المنضدة الخوص الصغيرة، أما فلوري فظل يتمشى جيئة وذهابا، واضعا يديه في جيوب معطفه، ذاهبا إلى ضوء القمر المنسكب أسفل الحواف الشرقية لسقف الشرفة، وعائدا إلى الظل. «لقد قلت للتو إنني أحبك. الحب! لقد استهلكت الكلمة حتى صارت بلا معنى. لكن دعيني أحاول التفسير. هذا العصر حين كنت هناك تصطادين معي، شعرت، يا إلهي! أخيرا يوجد شخص يستطيع أن يشاركني حياتي، يعيشها معي حقا، هل ترين؟»
كان سيطلب يدها للزواج. قطعا، فقد انتوى أن يطلبها دون المزيد من التأخير. لكن لم تنطق الكلمات بعد؛ فقد وجد نفسه بدلا من ذلك يسترسل في الكلام بأنانية. لم يكن له حيلة في ذلك. كان من المهم جدا أن تفهم كيف كانت حياته في هذا البلد؛ أن تستوعب طبيعة الوحدة التي أراد أن تمحوها. وكان هذا صعب الشرح صعوبة مفرطة. من الشنيع أن تكابد ألما يكاد يكون بلا اسم. طوبى لأولئك المصابين بأمراض يمكن تصنيفها فحسب! طوبى للفقراء، المرضى، والذين نبذهم أحباؤهم، فعلى الأقل يعلم الناس بحالهم ويصغون بشفقة إلى شكاواهم. لكن هل يفهم ألم المنفى أولئك الذين لم يقاسوه؟ ظلت إليزابيث تشاهده في ذهابه وإيابه، وهو يدخل بؤرة ضوء القمر الذي جعل معطفه الحرير فضيا، ويخرج منها. كان قلبها لا يزال يخفق من أثر القبلة، لكن هامت أفكارها وهو يتكلم. هل ينوي أن يطلب منها الزواج؟ لشد ما يتباطأ في هذا الأمر! كانت مدركة إدراكا طفيفا أنه كان يقول شيئا عن الوحدة. آه، بالطبع! كان يحدثها عن الوحدة التي سيكون عليها أن تحتملها في الغابة حين يتزوجان. ما كان عليه أن يقلق. ربما تشعر حقا بشيء من الوحدة في الغابة أحيانا. وأنت على بعد أميال من كل شيء، بلا سينمات، أو حفلات راقصة، ولا أحد لتبادله الحديث سوى مبادلة أحدنا الآخر، وليس لديك شيء لتفعله في المساء سوى القراءة؛ إنه شيء مضجر بعض الشيء. لكن يمكن امتلاك جرامافون. كم ستختلف الحياة حين تتاح أجهزة الراديو المحمولة الجديدة تلك في بورما! كانت على وشك أن تقول هذا حين أضاف: «هل أوضحت لك مرادي على الإطلاق؟ هل صار لديك تصور للحياة التي نعيشها هنا؟ الغربة والوحدة والشجن! أشجار غريبة وزهور غريبة ومناظر غريبة ووجوه غريبة. كل هذا غريب كأنه كوكب مختلف. لكن لتعلمي - وهذا هو ما أريد بشدة أن تفهميه - لتعلمي أن العيش على كوكب مختلف قد لا يكون شيئا بالغ السوء، بل قد يكون أمتع شيء يخطر على البال، إذا كان لديك ولو شخص واحد لتقاسميه إياه. شخص واحد يستطيع أن يراه بعينين تشبهان عينيك. كان هذا البلد بمثابة جحيم من العزلة لي - إنه كذلك لغالبيتنا - إلا أنني أؤكد لك أنه قد يكون نعيما إذا لم يكن المرء وحيدا . هل يبدو كل ما أقوله بلا أي معنى؟»
توقف بجانب المنضدة، والتقط يدها. لم يستطع أن يرى في الظلام الجزئي سوى وجهها بيضاويا باهتا، مثل زهرة، لكن من ملمس يدها عرف في الحال أنها لم تفهم كلمة مما كان يقول. بالطبع كيف لها أن تفهم؟ كان هذا الحديث ذو الشجون بلا جدوى على الإطلاق! سيقول لها على الفور: هلا تزوجتني؟ ألا يوجد عمر لنتحدث فيه. هكذا أمسك يدها الأخرى وأنهضها برفق. «سامحيني على كل هذا الهراء الذي تحدثت به.»
فهمست بصوت خافت، متوقعة أنه على وشك أن يقبلها: «لا بأس.» «لا، إن الحديث هكذا من قبيل اللغو. فبعض الأشياء تقال بالكلمات وأشياء أخرى تأبى ذلك. كما أنه كان من الوقاحة أن أسترسل في الشكوى من حالي. لكنني كنت أحاول أن أمهد الطريق لشيء. فلتسمعيني، هذا ما أردت قوله. هل ...» «إليزابيث!»
كان ذلك صوت السيدة لاكرستين الكئيب العالي النبرة، ينادي من داخل النادي. «إليزابيث؟ أين أنت يا إليزابيث؟»
كان واضحا أنها كانت قريبة من الباب الأمامي، وستكون في الشرفة في بحر لحظة. ضم فلوري إليزابيث إليه، وتبادلا القبل على عجل. ثم أطلقها، مبقيا على يديها في يديه. «سريعا، الوقت يداهمنا. أجيبي على سؤالي. هل ...»
لكن لم تتم تلك الجملة قط عن ذلك؛ إذ وقع شيء استثنائي في نفس اللحظة تحت قدميه. راحت الأرض تمور وتتمايل مثل البحر؛ فأخذ يترنح ثم سقط وقد أصابه دوار، مرتطما بالأرض بساعده عند اندفاعه إليها. وحيث استلقى وجد نفسه يرج بعنف ذات اليمين وذات اليسار كأن وحشا ضخما ما تحت الأرض كان يؤرجح المبنى بأكمله على ظهره.
استعادت الأرض الثملى وضعها الصحيح على نحو مفاجئ، وجلس فلوري مستقيما، ذاهلا لكن من دون أذى بالغ. انتبه في وهن إلى إليزابيث وهي منبطحة بجانبه، وصرخات آتية من داخل النادي. كان يتسابق وراء البوابة رجلان بورميان في ضوء القمر وشعورهما الطويلة مسترسلة وراءهما. وكانا يصرخان بعلو صوتيهما: «(نجا ين) يهتز! (نجا ين) يهتز!»
شاهدهما فلوري دون فهم. من هو نجا ين. «نجا» هي بادئة تعطى للمجرمين. لا بد أن نجا ين مجرم. لكن لماذا كان يهتز؟ ثم تذكر. نجا ين هو عملاق يعتقد البورميون أنه مدفون، مثل تايفوس أسفل قشرة الأرض. بالتأكيد! كان هذا زلزالا.
هتف فلوري: «زلزال!» وتذكر إليزابيث فتحرك لينهضها. لكنها كانت تنهض بالفعل، ولم يصبها أذى، وأخذت تدلك مؤخرة رأسها.
قالت بصوت مفزوع بعض الشيء: «هل كان ذلك زلزالا؟»
اقتربت السيدة لاكرستين بهيئتها الفارعة بخطوات وئيدة، وقد تشبثت بالجدار مثل سحلية طويلة. وكانت تصرخ صراخا هستيريا قائلة: «يا للهول، زلزال! آه، يا لها من هزة مروعة! لا قبل لي بذلك. قلبي لا يحتمل! يا للهول، يا للهول! زلزال!»
كان السيد لاكرستين يترنح خلفها، بخطى مختلة غريبة بسبب الهزات الأرضية من ناحية والجين من ناحية أخرى.
قال السيد لاكرستين: «زلزال، سحقا!»
نهض فلوري وإليزابيث على مهل. ودخلوا جميعا، بذلك الشعور الغريب في باطن أقدامهم الذي يشعر به المرء حين يخطو من قارب مهتز إلى البر. هرع الساقي العجوز من حجرات الخدم، ووضع عمامته على رأسه بمجرد أن وصل، ومن ورائه حشد من الغلمان يثرثرون.
وانطلق في الكلام قائلا بلهفة: «زلزال يا سيدي، زلزال!»
قال السيد لاكرسيتن وهو يهبط بحرص إلى أحد المقاعد: «أعلم جيدا أنه كان زلزالا. أنت أيها الساقي، هات بعض المشروبات. والله إنني بحاجة إلى القليل من الشراب بعد ما جرى.»
تناولوا جميعا القليل من الشراب. ووقف الساقي، خجلا لكن مبتهجا، على ساق واحدة بجانب الطاولة، بالصينية في يده. وقال مجددا بحماس: «زلزال يا سيدي، زلزال كبير!» كان يتقد حماسا للكلام؛ وكذلك كان كل فرد من الآخرين. فقد غمرهم جميعا شعور غير معتاد ببهجة الحياة بمجرد أن غادر سيقانهم شعور القلقلة. فإن الزلزال يصير مسليا للغاية حين ينتهي. فإنه مما يبث في النفس بهجة شديدة أن تتبصر أنك لست جثة هامدة تحت كوم من الأنقاض، كما كان من الوارد جدا. وهكذا انطلقوا كلهم في الكلام بالإجماع: «ويحي، لم أر هزة كهذه في حياتي! لقد سقطت متمددا تماما على ظهري؛ شعرت كأن كلبا ضالا لعينا كان يحك نفسه تحت الأرض. اعتقدت أنه لا بد أن يكون انفجارا وقع في مكان ما.» وهكذا دواليك؛ ثرثرة الزلزال المعتادة. وحتى الساقي ضم للمحادثة.
قالت السيدة لاكرستين بلطف شديد، بالقياس إليها: «أعتقد أنك تتذكر الكثير جدا من الزلازل، أليس كذلك أيها الساقي؟» «أجل يا سيدتي، العديد من الزلازل! عام ألف وثمانمائة وسبعة وثمانين، وألف وثمانمائة وتسعة وتسعين، وألف وتسعمائة وستة، وألف وتسعمائة واثني عشر ... أتذكر العديد والعديد منها يا سيدتي!»
قال فلوري: «زلزال ألف وتسعمائة واثني عشر كان كبيرا بعض الشيء.» «لكن زلزال ألف وتسعمائة وستة كان أكبر يا سيدي! كانت هزة فظيعة جدا يا سيدي! وقد سقط صنم وثني كبير في المعبد فوق ال «ثاثانابينج»؛ أي الأسقف البوذي يا سيدتي، وهو ما يقول البورميون إنه فأل سيئ ينذر بفساد محصول الأرز والحمى القلاعية. أتذكر أيضا أول زلزال لي عام ألف وثمانمائة وسبعة وثمانين، حين كنت غلاما صغيرا، وكان الميجور ماكلاجان مستلقيا تحت الطاولة يعد بأنه سيوقع التعهد بالامتناع عن المسكرات في صباح اليوم التالي. لم يكن يعلم أنه زلزال. كذلك ماتت بقرتان من سقوط السقف عليهما ... إلخ».
مكث الأوروبيون في النادي حتى منتصف الليل، وتردد الساقي على الحجرة في زيارات قصيرة نحو ست مرات، ليحكي طرفة جديدة. ولم يوبخه الأوروبيون على الإطلاق، بل إنهم شجعوه على الحديث. لا شيء يضاهي الزلزال في الجمع بين الناس. هزة أخرى، أو ربما اثنتان، وكانوا سيطلبون من الساقي أن يجلس معهم إلى الطاولة.
في الوقت ذاته لم يتطور عرض فلوري عما وصل إليه. فلا يمكن لأحد أن يتقدم للزواج بعد زلزال مباشرة. وهو على كل حال لم ير إليزابيث بمفردها ما تبقى من ذلك المساء. لكن لا بأس بذلك؛ إذ كان يعلم أنها صارت له. سيكون في الصباح وقت كاف. بناء على هذا الخاطر، خلد إلى الفراش، مطمئن البال، ومنهك الجسد بعد اليوم الطويل.
الفصل السادس عشر
انطلقت النسور المقيمة على أشجار البينكادو السامقة عند الجبانة من على فروعها التي صبغتها فضلات النسور بلون أبيض، وراحت تحلق في توازن، صاعدة إلى أعالي السماء بحركات حلزونية. كان الوقت مبكرا، لكن كان فلوري قد خرج بالفعل. كان ذاهبا إلى النادي، لينتظر حتى تأتي إليزابيث ثم يطلب منها الزواج رسميا. فقد حثه دافع ما، لم يفهمه، على فعل ذلك قبل أن يعود الأوروبيون الآخرون من الغابة.
وحين خرج من بوابة المجمع وجد أن هناك وافدا جديدا في كياوكتادا. كان يعدو عبر الميدان على مهر أبيض شاب في يده رمح طويل مثل الإبرة. وكان يجري وراءه بعض السيخ، الذين بدوا مثل الجنود الهنود، يقتادون مهرين آخرين، أكمت وكستنائي، من لجاميهما. حين صار فلوري على نفس المستوى معه توقف على الطريق وصاح قائلا: «صباح الخير.» لم يكن قد تعرف على الشاب، لكنه من المعتاد في القواعد الصغيرة أن ترحب بالغرباء. لاحظ الآخر أن هناك من ألقى عليه التحية، فاستدار بمهره في تراخ وأخذه إلى جانب الطريق. كان شابا في حوالي الخامسة والعشرين، نحيل القامة لكن شديد الاستقامة، ينم مظهره عن أنه ضابط في سلاح الفرسان. كان له واحد من تلك الوجوه الشبيهة بوجوه الأرانب الشائعة بين الجنود الإنجليز، بعينين ذاتي زرقة فاتحة وأسنان أمامية على شكل مثلث صغير ظاهرة بين الشفتين؛ لكنه كان صلبا وجسورا بل وقاسيا على نحو غير مبال. أرنب، ربما، لكن أرنب صارم وعسكري. جلس على حصانه كما لو كان جزءا منه، وقد بدا يافعا ومتمتعا باللياقة البدنية بشكل يثير الغيظ. وكان وجهه النضر مسمرا بدرجة لائقة تماما بعينيه ذاتي اللون الفاتح، وقد بدا أنيقا كالصور بقبعته البيضاء المصنوعة من جلد الغزال وحذائه البولو الطويل الذي كان يلمع مثل غليون عتيق من الميرشوم. انتاب فلوري شعور بالضيق في حضرته منذ البداية.
قال فلوري: «كيف حالك؟ هل وصلت لتوك؟» «وصلت ليلة أمس في القطار الأخير.» كان له صوت صبياني فظ. «لقد أرسلت إلى هنا مع مجموعة من الرجال للاستعداد في حال أثار المشاغبون في منطقتكم أي متاعب.» ثم أردف قائلا: «اسمي فيرال؛ شرطة عسكرية.» لكن دون أن يستفسر عن اسم فلوري في المقابل. «أجل. لقد سمعنا أنهم سيرسلون أحدا ما. أين تسكن؟» «في بيت المسافرين بصورة مؤقتة. كان ثمة شحاذ أسود مقيم هناك حين وصلت ليلة أمس؛ موظف ضرائب أو شيء من هذا القبيل. وقد طردته. هذا المكان جحر قذر، أليس كذلك؟» قال ذلك بحركة للوراء من رأسه، مشيرا إلى كياوكتادا بأسرها. «أعتقد أنها مثل سائر القواعد الصغيرة. هل ستبقى طويلا؟» «شهر واحد فقط أو نحو ذلك، حمدا لله. إلى حين هطول الأمطار. إن الميدان لديكم رديء بحق، أليس كذلك؟» ثم أضاف، وهو يحف الحشائش اليابسة برأس حربته: «من المؤسف أنهم لا يحرصون على قص هذه الأشياء. هذا يجعل لعب البولو أو أي شيء من هذا القبيل ميئوسا منه تماما.»
قال فلوري: «أخشى أنك لن تستطيع لعب البولو هنا. التنس هو أقصى ما يمكننا توفيره. فلا يوجد منا سوى ثمانية إجمالا، وأكثرنا يمضي ثلاثة أرباع وقته في الغابة.» «يا للهول! يا له من جحر!»
بعد هذا ساد صمت. كان الرجال السيخ الطوال الملتحون واقفين في مجموعة حول رءوس خيولهم، يرمقون فلوري بنظرة لا تنم عن استحسان. بدا واضحا تماما أن فيرال قد مل من المحادثة ويريد الهروب. أما فلوري فلم يشعر قط في حياته أنه غير مرغوب فيه تماما إلى هذه الدرجة، أو أنه عجوز ورث الهيئة إلى هذا الحد. لاحظ أن مهر فيرال كان عربيا جميلا، أنثى فرس، بعنق أشم وذيل مقوس في نعومة الريش؛ كائن أبيض كالحليب بديع، يقدر بعدة آلاف من الروبيات. كان فيرال قد هز اللجام بالفعل ليستدير، شاعرا كما يبدو أنه قد تحدث بما يكفي هذا الصباح.
قال فلوري: «لديك فرسة رائعة.» «لا بأس بها، أفضل من الحيوانات البورمية الهجينة تلك. لقد جئت لممارسة رياضة التقاط أوتاد الخيام. فلا جدوى من ضرب كرة البولو في هذه الحثالة.» ثم نادى وهو يدور بمهره مبتعدا: «يا هيرا سينج!»
ناول الجندي الذي كان يمسك المهر الأكمت اللجام لزميله، وجرى إلى بقعة على بعد أربعين ياردة، وثبت في الأرض وتدا رفيعا من خشب البقس. لم يعر فيرال فلوري اهتمامه مرة أخرى، وإنما رفع حربته ووازن نفسه مستهدفا الوتد، فيما تراجع الهنديان بفرسيهما بعيدا عن الطريق ووقفا يشاهدان بتدبر. لكز فيرال جانبي المهرة بركبتيه بحركة بالكاد محسوسة، فوثبت متقدمة مثل القذيفة من المنجنيق. بسلاسة كأنه قنطور، انحنى الشاب النحيل المنتصب القامة على السرج، وأنزل حربته وغرسها في الوتد من دون خطأ. تمتم أحد الهنود قائلا بصوت أجش: «أحسنت!» رفع فيرال حربته وراءه بالطريقة التقليدية، ثم دار بفرسه وناول الوتد المطعون للجندي.
قصد فيرال الوتد مرتين أخريين، وأصابه في كل مرة. وقد تم ذلك برشاقة منقطعة النظير وبوقار غير عادي. كانت مجموعة الرجال بأسرها، الرجل الإنجليزي والهنود، منتبهة إلى عملية إصابة الوتد كما لو كانت طقسا دينيا. وقف فلوري يشاهد، متجاهلا؛ إذ كان وجه فيرال واحدا من تلك الوجوه التي صممت خصوصا لتجاهل الغرباء غير المرحب بهم. لكن بصرف النظر عن حقيقة أنه قد عومل بازدراء، فهو غير قادر على انتزاع نفسه والابتعاد؛ فقد ملأه فيرال بطريقة ما بشعور بشع بالدونية. وبينما هو يحاول التفكير في ذريعة ما لتجديد الحوار، رأى إليزابيث في لباس أزرق فاتح، حين ارتفع ببصره إلى جانب التل، وهي تخرج من بوابة عمها. لا بد أنها قد رأت وخز الوتد لثالث مرة. انتفض قلبه بشكل مؤلم. فقد خطرت له فكرة، إحدى تلك الأفكار الطائشة التي دائما ما تؤدي إلى متاعب. فنادى فيرال، الذي كان على بعد بضع ياردات منه، وأشار بعصاه: «هل هذان الاثنان مدربان على ذلك؟»
نظر فيرال من فوق كتفه متجهما؛ إذ كان قد توقع أن ينصرف فلوري بعد تجاهله. «ماذا؟»
أعاد فلوري قوله: «هل يستطيع الاثنان الآخران أن يفعلا ذلك؟» «الكستنائي لا بأس به. لكنه ينطلق إذا سمحت له.» «هلا سمحت لي بمحاولة التقاط الوتد؟»
قال فيرال بفظاظة شديدة: «حسنا، لكن لا تكثر من شد اللجام حتى تؤذي الشكيمة فمه .»
جاء جندي بالمهر، وتظاهر فلوري بأنه يتفحص سلسلة الشكيمة. لكنه كان في الواقع يتلكأ إلى أن تصير إليزابيث على بعد ثلاثين أو أربعين ياردة. عقد العزم على إصابة الوتد في نفس اللحظة التي تمر فيها بالضبط (وهو الأمر السهل تماما على صهوة الأمهار البورمية الصغيرة، شريطة أن يركضا مباشرة)، ثم يذهب إليها ومعه الوتد على رأس الحربة. كانت تلك الحركة المناسبة يقينا. لم يردها أن تظن أن ذلك الفتى الصغير متورد الوجه هو الشخص الوحيد الذي يستطيع امتطاء الخيل. كان يرتدي سروالا قصيرا، وهو ما لم يكن مريحا في ركوب الخيل، لكنه كان يعلم أنه، مثل أي شخص تقريبا، يبدو في أحسن صورة على صهوة الخيل.
راحت إليزابيث تقترب؛ فصعد فلوري إلى السرج، وأخذ الحربة من الهندي ولوح بها محييا إليزابيث. لكنها لم تحر ردا. ربما انتابها الخجل في حضور فيرال. كانت تنظر بعيدا، في اتجاه الجبانة، وقد توردت وجنتاها.
قال فلوري للرجل الهندي باللغة الهندية: «هيا!» ثم لكز جانبي الحصان بركبتيه.
في اللحظة التالية مباشرة، قبل أن يبدأ الحصان الوثب، وجد فلوري نفسه ينطلق في الهواء، ويرتطم بالأرض في دوي كادت تنخلع منه كتفه من مفصلها، ثم تدحرج بعدها عدة مرات. حمدا لله، وقعت الحربة بعيدا عنه. استلقى فلوري على ظهره، ورأى السماء الزرقاء والنسور المحلقة رؤية مشوشة. ثم استقرت عيناه على العمامة الكاكي والوجه الداكن لأحد الرجال السيخ، بلحية ممتدة حتى عينيه، وهو منحن فوقه.
قال فلوري بالإنجليزية: «ماذا حدث؟» ونهض على كوعه متألما. رد الرجل السيخي بإجابة ما بصوت أجش وأشار. رأى فلوري المهر الكستنائي ينطلق بعيدا في الميدان، وقد تدلى السرج تحت بطنه. لم يكن حزام السرج مربوطا، وكان قد انزلق؛ ولهذا سقط فلوري.
حين جلس فلوري وجد نفسه في ألم بالغ. كانت كتف القميص اليمنى قد تمزعت وتشربت دما، وشعر بمزيد من الدماء تنزف من وجنته. لقد خدش من الأرض الصلبة. وقبعته أيضا اختفت. تذكر إليزابيث فباغته ألم ممض، ورآها آتية ناحيته، على مسافة لا تزيد عن عشر يارادات، تنظر إليه مباشرة وهو ممدد بصورة مخزية جدا. قال في نفسه: «يا إلهي، يا إلهي، ويحي، كم أبدو أحمق حتما الآن!» صرف هذا الخاطر ألم الوقعة. وضع يده سريعا على وحمته، مع أن وجنته الأخرى هي التي جرحت. «إليزابيث! مرحبا يا إليزابيث! صباح الخير!»
كان قد صاح بلهفة وتوسل، كما يفعل المرء حين يدرك أنه يبدو أحمق. لم ترد، والعجيب لدرجة استعصاء تصديقه أنها سارت دون أن تتوقف ولو للحظة، كما لو كانت لم تره أو تسمعه.
نادى عليها مرة أخرى مدهوشا: «إليزابيث! هل رأيت سقوطي؟ لقد انزلق السرج. الجندي الأحمق لم يكن قد ...»
ما من شك أنها كانت قد رأته هذه المرة. أدارت وجهها بالكامل إليه لوهلة، ونظرت إليه وتجاهلته كما لو كان ليس موجودا. ثم حدقت بعيدا فيما وراء الجبانة. كان الأمر فظيعا. راح ينادي عليها باستياء: «إليزابيث! مهلا، إليزابيث!»
مضت في سبيلها بلا كلمة أو إشارة أو نظرة. وكانت تسير سريعا على الطريق، وهي تطقطق بكعبيها، وقد ولته ظهرها.
جاء الجنود حوله، وفيرال أيضا، جاء على جواده إلى حيث كان فلوري مستلقيا. حيا بعض الجنود إليزابيث؛ وتجاهلها فيرال، ربما لأنه لم يرها. نهض فلوري واقفا بصعوبة، فقد أصيب برضوض شديدة، لكن من دون كسور. أتى له الهنود بقبعته وعصاه، لكنهم لم يعتذروا على تقصيرهم. بل بدوا مستهزئين به إلى حد طفيف، كما لو كانوا يرون أنه لم ينل سوى ما يستحقه. من الوارد أنهم كانوا قد فكوا حزام السرج متعمدين.
قال فلوري بالأسلوب الضعيف الغبي الذي يتحدث به المرء في مثل تلك اللحظات: «انزلق السرج.»
قال فيرال باقتضاب: «لماذا لم تفحصه قبل أن تركب بحق الشيطان؟ لا بد أن تعلم أنه لا يمكن الثقة في هؤلاء الأرذال.»
بعد أن قال هذا هز اللجام ورحل، شاعرا أن الموقف قد انتهى. وتبعه الجنود دون تحية فلوري. حين وصل فلوري إلى بوابته نظر إلى الوراء ورأى أن المهر الكستنائي كان قد أمسك وأعيد وضع سرجه، وكان فيرال يلتقط الأوتاد على صهوته.
أربكته الوقعة إرباكا شديدا لدرجة أنه ظل حتى هذه اللحظة غير قادر على تجميع أفكاره. ما الذي قد يجعلها تتصرف هكذا؟ لقد رأته ملقى على الأرض ينزف ويتألم، ومرت به كما لو كان كلبا نافقا. كيف حدث ذلك؟ هل حدث؟ كان شيئا لا يصدق. هل من الممكن أن تكون غاضبة منه؟ هل من الممكن أن يكون قد ضايقها بأي طريقة؟ كان كل الخدم منتظرين لدى سور المجمع؛ إذ كانوا قد خرجوا لمشاهدة التقاط الأوتاد، وشاهد كل واحد منهم مذلته المريرة. ركض كو سلا جزءا من الطريق هابطا التل لملاقاته، بوجه قلق. «هل أصيب سيدي؟ هل أحمل سيدي إلى المنزل؟»
قال سيده: «لا. اذهب وأت لي ببعض الويسكي وقميص نظيف.»
حين عادا إلى المنزل أجلس كو سلا فلوري على الفراش ونزع قميصه الممزق الذي جعله الدم يلتصق بجسده. طرقع كو سلا بلسانه وقال: «هذه الجروح مليئة بالتراب. لا يجوز أن تلعب هذه الألعاب الصبيانية ممتطيا أمهار غريبة يا سيدي. ليس في سنك. هذا خطير جدا.»
قال فلوري: «لقد انزلق السرج.»
استأنف كو سلا كلامه قائلا: «تلك الألعاب تناسب ضباط الشرطة الشباب. أما أنت فلم تعد شابا يا سيدي. في الوقوع ضرر لمن في سنك. لا بد أن تحرص على نفسك أكثر.»
قال فلوري غاضبا: «هل تراني رجلا عجوزا؟» وكانت كتفه تؤلمه ألما بغيضا.
قال كو سلا بتهذيب لكن بحزم: «إنك في الخامسة والثلاثين يا سيدي.»
كان الأمر برمته مخزيا. أحضرت ما بو وما يي، اللتان كانتا في هدنة مؤقتة، قدرا به غثاء بشع مجهول زعمتا أنه مفيد للجروح. طلب فلوري سرا من كو سلا أن يلقيه من النافذة ويستبدل به مرهم البوريك. لاحقا، وهو جالس في مغطس حمام فاتر وكو سلا يزيل التراب من خدوشه بالإسفنجة، راح يتفكر عاجزا فيما حدث، باستياء متزايد، وقد صفا ذهنه أكثر. لقد ضايقها بشدة، كان هذا واضحا. لكنه لم يرها حتى منذ ليلة أمس، فكيف يمكن أن يكون قد ضايقها ؟ ولم يكن هناك أي إجابة معقولة.
شرح لكو سلا عدة مرات أن وقوعه كان بسبب انزلاق السرج. لكن من الجلي أن كو سلا، على تعاطفه، لم يصدقه. أدرك فلوري أن الوقعة ستظل تعزى إلى ضعف مهاراته الفروسية، حتى ينتهي أجله. لكنه من ناحية أخرى، كان من أسبوعين قد ظفر بصيت غير مستحق بأن جعل جاموسة غير مؤذية تولي الهرب. إن القدر عادل، إلى حد ما.
الفصل السابع عشر
لم ير فلوري إليزابيث مرة أخرى حتى ذهب إلى النادي بعد العشاء. لم يبحث عنها ويطلب منها تفسيرا، كما كان من الوارد أن يفعل. فقد وهنت عزيمته حين تطلع إلى وجهه في المرآة. كان بائسا للغاية بالوحمة في جانب والخدش في الجانب الآخر، في غاية البشاعة، حتى إنه لم يجرؤ على الظهور في ضوء النهار. بمجرد أن دخل قاعة الجلوس في النادي وضع يده على وحمته، وتعلل بأن لديه قرصة ناموسة على جبهته. كان مما لا قبل لشجاعته به ألا يغطي وحمته في لحظة كتلك. بيد أن إليزابيث لم تكن هناك.
بدلا ما ذلك دخل فلوري بالمصادفة في مشاجرة غير متوقعة. كان إليس وويستفيلد قد عادا لتوهما من الغابة، وكانا جالسين يحتسيان الشراب بمزاج متعكر؛ إذ كان قد ورد خبر من رانجون يفيد بأن محرر «بورميز باتريوت» قد حكم عليه بأربعة أشهر فقط سجنا على التشهير بالسيد ماكجريجور، وكان إليس متحفزا للاحتداد غضبا على هذه العقوبة المخففة. وبمجرد أن دخل فلوري شرع إليس يستفزه بتعليقات حول «ذلك الزنجي الحقير اللزج جدا». مجرد التفكير في المجادلة جعل فلوري يتثاءب في تلك اللحظة، لكنه أجاب دون تأن، وثار جدال. واحتدم. وبعد أن دعا إليس فلوري بفتى الزنوج المخنث، وأجابه فلوري بالمثل، اهتاج ويستفيلد هو الآخر. كان رجلا دمث الأخلاق، لكن أفكار فلوري المتمردة أحيانا كانت تزعجه. لم يستطع قط أن يفهم لماذا، حين كان الرأي الصواب واضحا من الرأي الخطأ في كل شيء، كان يبدو أن فلوري دائما ما يستمتع بالنزوع إلى الرأي الخطأ . طلب من فلوري «ألا يبدأ في الحديث مثل أحد مثيري الشغب الملاعين في حديقة هايد بارك»، ثم تلا عليه عظة لاذعة قصيرة، متخذا نصها من تطويبات «البوكا صاحب» الخمس، وهي:
الحفاظ على مكانتنا، اليد الحازمة (من دون القفاز المخملي)، نحن الرجال البيض لا بد أن نتكاتف معا، إن تعطه شبرا، يأخذ ذراعا، وروح الجماعة.
ظلت لهفة فلوري لرؤية إليزابيث تنهش قلبه نهشا طوال ذلك الوقت، حتى إنه بالكاد استطاع الإنصات لما كان يقال له. كما أنه كان قد سمع ذلك كله كثيرا، كثيرا جدا، مائة مرة، وربما ألف مرة، منذ أسبوعه الأول في رانجون، من رئيسه (عجوز أسكتلندي كان مدمنا للجين ومربيا كبيرا لأمهار السباق، وقد أقصي فيما بعد عن مجال السباقات لضلوعه في عمل مشين يتعلق بالمشاركة بنفس الحصان تحت اسمين مختلفين) حين رآه وهو يخلع قبعته لمروره بجنازة أحد أهل البلد فقال له: «تذكر يا فتى، تذكر دائما، أننا أسياد وهم قاذورات!» وقد اعتراه شعور بالاشمئزاز لاضطراره الإنصات لذلك الهراء حينئذ. لذلك قاطع ويستفيلد وهو يقول جاحدا: «اصمت! لقد سئمت من هذا الموضوع. إن فيراسوامي شخص طيب بحق، أفضل كثيرا من بعض الرجال البيض الذين أعرفهم. وإنني على أي حال سأقترح اسمه لعضوية النادي حين تنعقد الجمعية العمومية. فربما ينعش هذا المكان اللعين قليلا.»
هنا كان الشجار سيصير خطيرا لولا أنه انتهى كما كانت تنتهي أغلب الشجارات في النادي؛ بظهور الساقي، الذي سمع الأصوات المرتفعة. «هل ناداني أحد أيها السادة؟»
قال إليس متجهما: «لا، اذهب إلى الجحيم.»
انصرف الساقي، لكن النزاع انتهى بصورة مؤقتة. في نفس اللحظة سمع من الخارج وقع أقدام وأصوات؛ وصل آل لاكرستين النادي.
حين دخلوا قاعة الجلوس، لم يستطع فلوري حتى التجرؤ على النظر إلى إليزابيث مباشرة؛ لكن استرعى انتباهه أن ثلاثتهم كانوا أكثر تأنقا بكثير من المعتاد. حتى إن السيد لاكرستين كان يرتدي بذلة سهرة - بيضاء بسبب الموسم - وكان مفيقا تماما. بدا أن القميص المنشى والصديري المضلع قد جعلا قامته منتصبة وشدا من شكيمته مثل صدر الدرع. وبدت السيدة لاكرستين مليحة الشكل ورشيقة في فستان أحمر. على نحو يتعذر تحديده أعطى الثلاثة جميعا انطباعا بأنهم في انتظار استقبال ضيف بارز.
بعد طلب المشروبات، واستيلاء السيدة لاكرستين على المكان أسفل المروحة، اتخذ فلوري مقعدا خارج المجموعة؛ فلم يجرؤ بعد على الدنو من إليزابيث. كانت السيدة لاكرستين قد طفقت تتحدث على نحو غريب سخيف حول أمير ويلز العزيز، مصطنعة لكنة كأنها فتاة من الكورس رقيت مؤقتا لتلعب دور دوقة في مسرحية موسيقية كوميدية. تساءل الآخرون سرا ما الذي دهاها. كان فلوري قد أقام نفسه خلف إليزابيث تقريبا. كانت ترتدي ثوبا أصفر، قصيرا جدا كما كانت الموضة حينها، وجوارب بلون الشمبانيا ونعلا ملائما، وحملت مروحة كبيرة من ريش النعام. بدت مسايرة لأحدث صيحات الموضة، ويافعة للغاية، حتى إنه هابها أكثر مما هابها من قبل. صار مما يأبى التصديق أن يكون قد قبلها على الإطلاق. كانت هي تتحدث في سلاسة مع الآخرين جميعا في آن واحد، وكان هو من حين لآخر يتجرأ على المشاركة بكلمة في الحديث العام؛ لكنها لم ترد عليه مباشرة قط، ولم يعلم ما إذا كانت تتعمد تجاهله أم لا.
قالت السيدة لاكرستين بعد وقت قصير: «حسنا، من يود أن يلعب بريدج؟»
نطقتها متصنعة اللكنة بشكل جلي تماما. كانت لكنتها تزداد أرستقراطية مع كل كلمة تنطقها، وهو ما كان غير قابل للتفسير. بدا أن إليس وويستفيلد والسيد لاكرستين أرادوا اللعب. أما فلوري فرفض بمجرد أن رأى أن إليزابيث لن تلعب. كانت هذه فرصته الأخيرة للانفراد بها. حين انتقلوا جميعا إلى حجرة لعب الأوراق رأى بمزيج من الخوف والارتياح أن إليزابيث آخر من جاء. توقف في المدخل، معترضا طريقها، وكان قد شحب لونه لحد مخيف. انكمشت منه قليلا.
قال الاثنان في نفس الوقت: «أستميحك عذرا.»
قال هو وقد ارتعش صوته على رغمه: «لحظة واحدة. هل يمكنني التحدث معك؟ إذا كنت لا تمانعين، ثمة شيء لا بد أن أقوله.» «هلا تركتني أمر رجاء، يا سيد فلوري ؟» «أرجوك! أرجوك! إننا بمفردنا الآن. هل ترفضين حتى السماح لي بالكلام؟» «ما الأمر إذن؟» «هذا فقط. أيا كان الذي فعلته وضايقك، أرجوك أن تخبريني ما هو. أخبريني ودعيني أصلح الأمر. إنني لأقطع يدي ولا أضايقك. فلتخبريني ولا تتركيني لا أعلم حتى ما هو.» «لا أعلم حقا ما الذي تتحدث عنه. «أخبرك كيف ضايقتني؟» لماذا ترى أنك قد ضايقتني؟» «لا بد أنني فعلت! بعد الطريقة التي تصرفت بها!» ««بعد الطريقة التي تصرفت بها؟» لا أعلم ماذا تقصد. لا أعلم لماذا تتحدث بهذا الأسلوب الغريب من الأساس.» «لكنك تأبين حتى الحديث معي! هذا الصباح تغافلت عني أشد التغافل.» «قطعا أستطيع أن أفعل ما يحلو لي دون أن أسأل في ذلك.» «لكن أرجوك، أرجوك! لا بد أن تعلمي، فأنت لا تعلمين ما أشعر به من معاملتي باحتقار فجأة. بعد كل ما حدث، ليلة أمس فقط كنت ...»
تورد وجهها، وقالت: «أعتقد أن من منتهى ... منتهى الخسة أن تذكر تلك الأشياء!» «أعلم، أعلم كل ذلك. لكن ماذا بوسعي غير ذلك؟ لقد مررت بي هذا الصباح كأنني حجر. أعلم أنني ضايقتك بطريقة ما. هل يمكنك أن تلوميني إذا كنت أود أن أعرف ما الذي جنيته؟»
كان، كالعادة، يزيد الطين بلة بكل كلمة ينطق بها. أدرك أن جعلها تتحدث عن الشيء الذي ارتكبه، أيا كان، يبدو لها أسوأ من الشيء نفسه. لم تكن تنوي تفسيرا. كانت ستتركه في الظلام، تزدريه ثم تتظاهر بأن شيئا لم يحدث؛ تصرف النساء الفطري. إلا أنه ألح عليها مرة أخرى: «أرجوك أن تخبريني. لا أستطيع أن أترك كل ما بيننا ينتهي هكذا.»
قالت ببرود: «ما بيننا ينتهي؟ لم يكن هناك شيء لينتهي.»
شعر بجرح من فظاظة هذا التعليق، وقال سريعا: «لم تكوني هكذا يا إليزابيث! ليس من الكرم أن تتجاهلي رجلا تماما بعد أن كنت تعاملينه بود، ثم ترفضين حتى أن تخبريه بالسبب. الأحرى بك أن تصارحيني. أرجوك أن تخبريني ما الذي فعلته.»
رمقته بنظرة مواربة قاسية، قاسية ليس بسبب ما قد فعله، لكن لأنه جعلها تتحدث عنه. لكنها ربما كانت في لهفة لإنهاء الموقف، فقالت: «حسنا إذن، ما دمت تجبرني إجبارا على الحديث عن الأمر ...» «أجل؟» «عرفت أنه في نفس الوقت الذي كنت تتظاهر فيه ... حسنا، حين كنت ... معي ... آه، هذا بشع جدا! لا أستطيع أن أتكلم في الأمر.» «أكملي.» «عرفت أنك تحتفظ بامرأة بورمية. والآن، هلا سمحت لي بالمرور، رجاء؟»
وبهذا أقلعت - إذ لا يوجد كلمة أخرى مناسبة لذلك - أقلعت مولية عنه بحفيف من تنورتها القصيرة، واختفت داخل حجرة لعب الأوراق. ولبث هو يلاحقها بعينيه، وقد أعجزته الصدمة عن الكلام، وهو يبدو أحمق حماقة لا توصف.
كان الأمر فظيعا. لم يقو على مواجهتها بعد ذلك. التفت ليخرج سريعا من النادي، لكنه لم يجرؤ على مجرد المرور من باب حجرة لعب الأوراق، خشية أن تراه. ذهب إلى قاعة الجلوس، متسائلا كيف يولي الهرب، وأخيرا قفز من فوق درابزين الشرفة ونزل إلى مربع صغير من الحشائش منحدر حتى نهر الإيراوادي. كان العرق يتدفق من جبهته. أراد لو صرخ غضبا وضيقا. يا له من حظ لعين أن يمسك عليه خطأ كهذا، «الاحتفاظ بامرأة بورمية»، ولم يكن هذا صحيحا حتى! لكن لم يكن هناك أي جدوى من إنكار الأمر. آه، أي صدفة لعينة خبيثة التي قد جعلتها تسمع بالأمر؟
لكن في الحقيقة لم يكن الأمر صدفة. بل كان وارءه سبب معقول تماما، نفس السبب لتصرف السيدة لاكرستين العجيب في النادي هذا المساء. في الليلة السابقة، قبل الزلزال مباشرة، كانت السيدة لاكرستين تقرأ القائمة المدنية. كانت القائمة المدنية (التي تذكر بدقة دخل كل فرد من المسئولين في بورما) مصدر تسلية لا ينفد لها. وبينما هي تجمع راتب حارس الغابات الذي التقت به مرة في ماندالاي وبدلاته خطر لها أن تبحث عن اسم الملازم فيرال، الذي عرفت من السيد ماكجريجور أنه سيصل اليوم التالي مع مائة من رجال الشرطة العسكرية. وحين وجدت الاسم رأت أمامه كلمة كادت أن تفقدها صوابها.
كانت الكلمة هي «النبيل»!
النبيل! الملازمون النبلاء نادرون في كل مكان، في ندرة الألماس في الجيش الهندي، وفي ندرة طيور الدودو في بورما. وحين تكون عمة الشابة الوحيدة المناسبة للزواج في نطاق خمسين ميلا، وتسمع أن ملازما من النبلاء سيصل في موعد أقصاه اليوم التالي ... حسنا! بانزعاج تذكرت السيدة لاكرستين أن إليزابيث كانت بالخارج في الحديقة مع فلوري؛ فلوري السكير البائس، الذي لا يزيد راتبه عن سبعمائة روبية شهريا، والذي من المحتمل جدا أنه كان يطلب يدها حينذاك! في الحال هرعت لتنادي إليزابيث للدخول، لكن في هذه اللحظة تدخل القدر. إلا أن الفرصة سنحت للكلام في طريق العودة إلى المنزل. وضعت السيدة لاكرستين يدها بحنان على ذراع إليزابيث وقالت بأرق صوت تيسر لها أن تأتيه قط: «لا بد أنك تعلمين يا عزيزتي إليزابيث أن فلوري لديه امرأة بورمية، أليس كذلك؟»
في الواقع ظلت هذه العبوة الناسفة المدمرة للحظة دون أن تنفجر؛ إذ كانت إليزابيث جديدة جدا على نظام الحياة في البلد، حتى إن الملحوظة لم تترك لديها أثرا. فلم يبد الأمر أكثر أهمية من «أن يكون لديه ببغاء». «لديه امرأة بورمية؟ لماذا؟» «لماذا؟ عجبا! لماذا يحتفظ الرجل بالمرأة؟»
وبالطبع هنا قضي الأمر.
ظل فلوري مدة طويلة واقفا عند ضفة النهر. كان القمر في السماء، منعكسا على الماء مثل درع عريض من الإلكتروم. غيرت برودة الهواء بالخارج من حالة فلوري المزاجية. لم يعد لديه حتى الطاقة للغضب. فقد أدرك، بمعرفته لذاته وكرهه لها القاتلين اللذين يتأتيان للمرء في ذلك الوقت، إنه يستحق تماما ما حدث. بدا له لبرهة من الوقت أن ثمة مسيرة لا تنتهي من النساء البورميات، كتيبة من الأشباح، يسرن مارات به في ضوء القمر. يا إلهي، ما عددهن؟! ألف؟! لا، لكن مائة كاملة على الأقل. قال في نفسه يائسا: «إلى اليمين انظر!» فتحولت رءوسهن إليه، بيد أنه لم يكن لهن وجوه، وإنما أقراص بلا ملامح. تذكر إزارا أزرق هنا، وزوج أقراط ياقوت هناك، لكن بالكاد تذكر وجه أو اسم. إن الآلهة عادلون ومن رذائلنا الممتعة (ممتعة يقينا!) يصنعون أدوات ليعاقبونا. لقد ارتكب من الخطايا ما لم يترك له أملا في الخلاص، وكان هذا عقابه العادل.
اتخذ مساره على مهل وسط شجيرات الكروتون حول مبنى النادي. كان مغتما بشدة حتى إنه لم يشعر بألم المصيبة بالكامل بعد. سيبدأ الألم، مثل كل الجروح العميقة، بعد زمن طويل. مع مروره من البوابة هز شيء ما أوراق الشجر التي وراءه، فأصابه الفزع. كان ثمة همس بكلمات بورمية حازمة. «بايك-سان باي-لايك! بايك-سان باي-لايك!»
التفت سريعا، وتكررت عبارة «بايك-سان باي-لايك» (أعطني النقود). رأى امرأة واقفة تحت ظل شجرة البوانسيانا الذهبية. كانت ما هلا ماي. خرجت إلى ضوء القمر بحذر، تبدو عليها العدوانية، وظلت مبتعدة عنه كما لو كانت خائفة أن يضربها. كان وجهها مغطى بالبودرة، أبيض شاحبا في ضوء القمر، وقد بدا قبيحا مثل الجمجمة، ومتحديا.
كانت قد أفزعته فقال غاضبا باللغة الإنجليزية: «ماذا تفعلين هنا بحق الشيطان؟» «بايك-سان باي-لايك!» «أي نقود؟ ماذا تقصدين؟ لماذا تتعقبينني هكذا؟»
كررت فيما يشبه الصراخ: «بايك-سان باي-لايك! النقود التي وعدتني بها يا سيدي. لقد قلت إنك ستعطيني مزيدا من النقود. أريدها الآن، في الحال!» «كيف يمكنني أن أعطيك إياها الآن؟ ستحصلين عليها الشهر القادم. لقد أعطيتك من قبل مائة وخمسين روبية.»
ثار انزعاجه حين بدأت تصرخ قائلة: «بايك-سان باي-لايك!» وعددا من العبارات المشابهة بأعلى صوتها. بدت على شفير حالة هستيرية؛ إذ كان حجم الصخب الآتي منها مزعجا.
صاح قائلا: «الزمي الصمت! سيسمعونك في النادي.» وندم في الحال على وضع الفكرة في رأسها. «حسنا! الآن عرفت ما سيخيفك! أعطني النقود في الحال وإلا سأصرخ طلبا للنجدة وأخرجهم جميعا هنا. هيا الآن وإلا بدأت الصراخ!»
قال: «أيتها السافلة!» وتقدم خطوة نحوها. وثبت بخفة بعيدا عن متناوله، وخلعت نعليها سريعا، ووقفت متحدية إياه. «أسرع! خمسون روبية الآن والباقي غدا. إلي بها! وإلا أطلقت صرخة تصل إلى البازار!»
جعل فلوري يسب، فلم يكن هذا الوقت المناسب لتلك الفضيحة. وأخيرا أخرج محفظته ووجد فيها خمسا وعشرين روبية، فرماها على الأرض. انقضت ما هلا ماي على الأوراق المالية وعدتها. «قلت خمسين روبية يا سيدي!» «كيف يمكنني أن أعطيك خمسين روبية وهي ليست معي؟ هل تعتقدين أنني أسير معي خمسون روبية؟» «قلت خمسين روبية!»
قال بالإنجليزية: «ابتعدي عن طريقي!» ودفعها عن طريقه.
لكن أبت المرأة الدنيئة أن تتركه وشأنه. شرعت تتبعه على الطريق مثل كلب مشاكس، وهي تصيح «بايك-سان باي-لايك! بايك-سان باي-لايك!» كأن الصياح وحده يستطيع أن يوجد النقود. حث السير، لإبعادها عن النادي من ناحية، وعلى أمل التخلص منها من ناحية أخرى، لكنها بدت على استعداد لاتباعه حتى المنزل إذا استدعى الأمر. ثم لم يعد يستطيع الصبر على الأمر بعد مدة، فاستدار لحملها على التراجع. «امضي في الحال! إذا تتبعتني أكثر من ذلك لن تحصلي مني على آنة أخرى قط.» «بايك-سان باي-لايك!»
قال: «ما الجدوى من هذا أيتها الحمقاء؟ كيف أعطيك مالا وليس معي ولو بيسة أخرى؟» «عذر كاذب!»
تحسس عاجزا في جيوبه. كان السأم قد بلغ به مبلغه حتى إنه كان سيعطيها أي شيء ليتخلص منها. وجدت أصابعه علبة سجائره التي كانت من الذهب، فأخرجها. «هل ترحلين إذا أعطيتك هذه؟ يمكنك أن ترهنيها مقابل ثلاثين روبية.»
بدا على ما هلا ماي التفكر في الأمر، ثم قالت عابسة: «أعطني إياها.»
ألقى علبة السجائر على الحشائش على جانب الطريق. اختطفتها وارتدت في الحال وهي تضمها إلى بلوزتها، كأنها خائفة أن يأخذها مرة أخرى. استدار هو وسلك طريقه إلى المنزل، حامدا الرب لابتعاده عن وقع صوتها. كانت علبة السجائر هي نفسها التي كانت قد سرقتها قبل عشرة أيام.
نظر وراءه حين بلغ البوابة، فوجد أن ما هلا ماي لا تزال واقفة أسفل التل، كأنها تمثال صغير أحاله ضوء القمر إلى اللون الرمادي. لا بد أنها راقبته في صعوده التل كما يراقب الكلب غريبا يرتاب فيه حتى يغيب عن نظره. كان أمرا عجيبا. عبر رأسه الخاطر ذاته الذي عرض له قبل بضعة أيام حين أرسلت له خطاب الابتزاز، أن سلوكها صار غريبا ومخالفا لطبعها. فقد كانت تبدي إلحاحا لم يكن يتخيل قدرتها عليه؛ كأن أحدا ما كان يدفعها إلى ذلك بلا شك.
الفصل الثامن عشر
بعد مشاجرة الليلة السابقة ظل إليس طوال الأسبوع يتطلع إلى مضايقة فلوري. فقد أطلق عليه اسم نانسي - اختصارا لفتى الزنوج المخنث، لكن لم تفهمه النساء - وراح يختلق عنه الفضائح الجامحة؛ إذ كان إليس دائما ما يلفق الفضائح عن أي شخص يتشاجر معه؛ فضائح تتحول، بالاستطرادات المتكررة، إلى نوع من الملاحم. وسريعا ما تضخمت عبارة فلوري التي لم يتوخ الحذر عند قولها عن كون الدكتور فيراسوامي «شخص طيب جدا»، فتحولت إلى صحيفة كاملة مليئة بالتجديف والفتنة.
قال إليس: «أقسم بشرفي يا سيدة لاكرستين.» - كانت السيدة الكرستين قد صار لديها بغض مفاجئ لفلوري بعد اكتشاف السر العظيم لفيرال، وكانت على استعداد تام للإنصات لحكايات إليس - «أقسم بشرفي، لو أنك كنت موجودة ليلة أمس واستمعت إلى الأشياء التي قالها ذلك الرجل فلوري ... حسنا، كان الدم سيتجمد في عروقك!» «حقا! الحقيقة أنني طالما اعتقدت أن لديه أفكارا غريبة. ما الذي كان يتكلم عنه هذه المرة؟ أرجو ألا تكون الاشتراكية؟» «أسوأ.»
كان هناك روايات طويلة. لكن أصيب إليس بخيبة أمل؛ إذ إن فلوري لم يبق في كياوكتادا ليضايقه. فقد عاد للمعسكر في اليوم التالي بعد صد إليزابيث له. سمعت إليزابيث أغلب ما قيل عنه من قصص مشينة. صارت تفهمه تماما الآن. أدركت لماذا كان كثيرا جدا ما يضجرها ويغضبها. كان رفيع الثقافة - أبغض العبارات إليها - رفيع الثقافة، في مصاف لينين وأيه جيه كوك والشعراء الصغار القذرين في مقاهي مونبارناس. كان بإمكانها أن تغفر له مسألة عشيقته البورمية نفسها في يسر، ولكن ليس ذلك الأمر. كتب فلوري إليها بعد ثلاثة أيام خطابا، أرسله يدا بيد؛ فقد كان معسكره على مسيرة يوم من كياوكتادا. لكن إليزابيث لم ترد.
من حسن حظ فلوري أنه كان مشغولا للغاية في ذلك الوقت ليفكر في الأمر. فقد كان المعسكر بأسره في فوضى منذ غيابه الطويل؛ إذ غاب نحو ثلاثين من العمال، وتدهورت حالة الفيل المريض عن ذي قبل، ولبثت كمية هائلة من جذوع التيك كان لا بد من شحنها قبل عشرة أيام؛ لأن المحرك كان عاطلا. حاول فلوري الذي كان جاهلا بالماكينات استقصاء الأجزاء الداخلية للمحرك حتى غطاه السخام والشحم وأخبره كو سلا بحدة أن الرجال البيض لا يجدر بهم أن يؤدوا «مهام العمال». وأخيرا حمل المحرك على العمل أو الارتجاج على الأقل. واكتشف أن الفيل المريض كان يعاني من الديدان الشريطية. أما العمال فقد تركوا العمل لانقطاع موردهم من الأفيون؛ فهم يرفضون البقاء في الغابة من دون الأفيون، الذي يتعاطونه على سبيل الوقاية من الحمى. فقد جعل يو بو كين مسئولي الضرائب يقومون بغارة ويصادرون الأفيون، لرغبته في إيذاء فلوري. راسل فلوري الدكتور فيراسوامي، سائلا معونته، فأرسل إليه الطبيب كمية من الأفيون، حصل عليه بطريقة غير شرعية، ودواء للفيل وخطابا دقيقا بالتعليمات، وقد استخرجت دودة شريطية طولها واحد وعشرون قدما. هكذا كان فلوري يظل مشغولا طوال اثنتي عشرة ساعة يوميا. في المساء حين لا يعود لديه شيء ليفعله كان يتوغل في الغابة ويسير ويسير حتى يلسع العرق عينيه وتدمي النباتات الشائكة ركبتيه. كان الليل أشق عليه؛ إذ كانت مرارة ما حدث تتغلغل بداخله، كما يحدث دائما، شيئا فشيئا.
في الوقت ذاته، مرت عدة أيام ولم تر إليزابيث فيرال إلا على بعد مائة ياردة على الأقل. كان عدم ظهوره في النادي مساء يوم وصوله خيبة أمل كبرى. فقد استاء السيد لاكرستين بشدة حين وجد أنه أجبر على ارتداء بذلة السهرة دون جدوى. في الصباح التالي جعلت السيدة لاكرستين زوجها يرسل رسالة تطفل إلى بيت المسافرين، يدعو فيها فيرال إلى النادي؛ لكن لم يأت رد. مرت أيام أخرى، ولم يحرك فيرال ساكنا للانضمام إلى المجتمع المحلي. بل وكان يتجاهل حتى زياراته الرسمية، فلم يتكلف عناء تقديم نفسه في مكتب السيد ماكجريجور. كان بيت المسافرين قائما في الجهة الأخرى من البلدة، قرب المحطة، وكان قد استقر به المقام تماما هناك. كان ثمة قاعدة تقتضي أن يخلي الساكن بيت المسافرين بعد عدد محدد من الأيام، لكن فيرال تجاهلها بأسلوب سلمي. ولم يره الأوروبيون إلا في الميدان صباحا ومساء. ففي اليوم الثاني بعد وصوله جاء خمسون من رجاله بمناجل وأزالوا الزرع من جزء كبير من الميدان، بعدها كان يشاهد فيرال أثناء عدوه بالفرس هنا وهناك، وهو يمارس البولو. ولم يكن يلقي بالا على الإطلاق لأي من الأوروبيين الذي يمرون في الطريق. وقد حنق عليه ويستفيلد وإليس، وحتى السيد ماكجريجور قال إن سلوك فيرال كان «فظا». كانوا جميعا سيتذللون للملازم النبيل لو أنه كان قد أظهر ولو أقل قدر من اللياقة؛ وهكذا مقته الجميع من البداية ما عدا السيدتين. هكذا الأمر دائما مع ذوات الألقاب، الناس إما تعشقهم أو تبغضهم. فإذا رحبوا بأحد كان ذلك بساطة محببة، وإذا تجاهلوا أحدا كان ذلك تكبرا مذموما؛ لا يوجد أنصاف حلول.
كان فيرال الابن الأصغر لأحد النبلاء، ولم يكن ثريا على الإطلاق، لكنه كان يستطيع إعالة نفسه في الأشياء الوحيدة التي كانت تهمه بحق؛ الملابس والخيل بأنه كان نادرا ما يسدد فواتيره إلا بعد صدور مذكرة قانونية ضده. وكان قد جاء الهند في كتيبة من سلاح الفرسان البريطاني، وحول منه إلى الجيش الهندي؛ لأنه كان أرخص ويتيح له حرية أكبر لممارسة البولو. بعد عامين تضخمت ديونه حتى إنه دخل شرطة بورما العسكرية، التي ساء صيتها وحيث كان من الممكن ادخار المال؛ إلا أنه بغض بورما - فهو لم يكن بالبلد المناسب للفرسان - ولذا كان قد تقدم بطلب بالفعل للعودة إلى كتيبته. كان فيرال من نوعية الجنود الذين يتبادلون الأحاديث حين يريدون. في الوقت ذاته، كان من المقرر أن يبقى في كياوكتادا لشهر فقط، ولم يكن لديه نية الاختلاط بمجتمع الأوروبيين التافهين في المنطقة؛ إذ كان يعرف مجتمع تلك القواعد البورمية الصغيرة؛ رعاع مقرفون مخنثون لا يملكون خيولا. كان يحتقرهم.
لم يكونوا الناس الوحيدين الذين كان فيرال يحتقرهم؛ إذ تحتاج مختلف الأشياء التي يحتقرها وقتا طويلا لتفهرس بالتفصيل. كان يحتقر سكان الهند غير العسكريين أجمعين، باستثناء قلة من لاعبي البولو المعروفين. وكان يحتقر الجيش بأسره، ما عدا سلاح الفرسان. كان يحتقر كل الكتائب الهندية، المشاة والفرسان على حد سواء. صحيح أن هو نفسه كان ينتمي لكتيبة محلية، لكن هذا كان فقط لمصلحته. ولم يكن يكترث للهنود، واقتصرت معرفته باللغة الأردية على كلمات السباب، مع تصريف كل الأفعال مع ضمير الغائب المفرد. وكان يعتبر رجال الشرطة العسكرية بمثابة العمال. وكثيرا ما كان يسمع أثناء تقدمه بين الصفوف لتفقدها وهو يتمتم قائلا: «يا إلهي، يا له من خنزير مزر!» وخلفه الضابط الهندي العجوز حاملا سيفه. وقد تورط فيرال في مشكلة ذات مرة بسبب آرائه الصريحة حول القوات المحلية. كان ذلك أثناء استعراض عسكري، حيث كان فيرال بين مجموعة من الضباط واقفين خلف الجنرال. ثم اقتربت إحدى كتائب المشاة الهندية من أجل العرض.
قال أحد الأشخاص: «لواء البنادق.»
فقال فيرال بصوته الصبياني الفظ: «انظروا كيف يبدو.»
كان كولونيل لواء البنادق الأشيب واقفا على مقربة، وقد احمر غضبا حتى عنقه وأبلغ عن فيرال للجنرال. وجه توبيخ إلى فيرال لكن الجنرال، الذي كان هو نفسه ضابطا في الجيش البريطاني، لم يؤنبه بشدة. لم يلم شيء خطير حقا بفيرال قط بطريقة أو بأخرى، مهما بلغت إساءته. وأينما كان يقيم في أنحاء الهند، كان يخلف وراءه أثرا من أشخاص أهانهم وواجبات أغفلها وفواتير لم يسددها. ومع ذلك لم تلاحقه قط الفضائح التي كان أحرى بها أن تلاحقه. فقد كان الحظ حليفه دائما، ولم يكن لقبه وحده الذي ينقذه. كان ثمة شيء في عينيه يجعل المطالبين بسداد الديون وزوجات المسئولين البريطانيين في الهند وحتى الكولونيلات يجبنون أمامه.
كانتا عينين مربكتين، ذاتي زرقة فاتحة وجاحظتين قليلا، لكن صافيتان أشد ما يكون الصفاء. تفحصانك، وتضعانك في الميزان فلا تجد لك وزنا، بنظرة واحدة باردة قد تستغرق خمس ثوان. إذا كنت النوع المناسب من الرجال - أي إذا كنت ضابطا في سلاح الفرسان ولاعب بولو - فسوف يعمل فيرال لك حسابا بل ويعاملك باحترام؛ أما إذا كنت من أي نوع آخر من الرجال أيا كان، فسوف يزدريك إلى أقصى درجة حتى إنه لن يستطيع إخفاء ذلك ولو حاول. لم يكن يفرق معه مطلقا ما إذا كنت غنيا أو فقيرا، فلم يكن من الناحية الاجتماعية سوى شخص متكبر بطبيعته. بالطبع كان مثل جميع أبناء الأسر الثرية يعتقد أن الفقر مقزز وأن الفقراء فقراء لأنهم يفضلون الحياة المقززة. لكنه كان يحتقر العيش المرفه. كان ينفق، أو بالأحرى يستدين، مبالغ طائلة على الملابس، لكن يعيش زاهدا مثل ناسك. كان يمارس التمارين الرياضية دون انقطاع وبقسوة، ويرشد استهلاكه للشراب والسجائر، وينام على فراش المعسكر (مرتديا بيجامة حرير) ويتحمم بالماء البارد في أشد أوقات الشتاء برودة. كان لا يقدس سوى الفروسية واللياقة البدنية. وقع حوافر الخيل في الميدان، والشعور بالقوة والاتزان وجسمه متشبث بالسرج مثل كائن القنطور، وعصا البولو وهي مرنة في يده؛ كانت تلك الأشياء هي الديانة التي يعتنقها والهواء الذي يتنفسه. كان الأوروبيون في بورما بعاداتهم من معاقرة الخمر وملاحقة النساء والتسكع بوجوههم الشاحبة يثيرون اشمئزازه متى خطرت على باله عاداتهم. أما الواجبات الاجتماعية بجميع أشكالها فقد كان يدعوها أمورا نسائية ويتجاهلها. والنساء كان يبغضهن؛ إذ كن من وجهة نظره نوعا من جنيات البحر هدفهن هو استدراج الرجال بعيدا عن البولو وتوريطهم في حفلات الشاي ولعب التنس. لكنه لم يكن منيعا ضد النساء؛ فقد كان شابا والنساء من كل الأطياف تقريبا يتهافتن عليه؛ وكان يستسلم بين الفينة والفينة. لكن سرعان ما كانت هفواته تثير اشمئزازه، فيتصرف بغلظة مسرفة حين تقتضي الضرورة وتواجهه أي صعوبة في الهرب. وكان قد أقدم على ذلك الهروب نحو اثنتي عشرة مرة خلال العامين اللذين قضاهما في الهند.
مر أسبوع كامل ولم يتأت لإليزابيث حتى التعرف على فيرال. كان هذا مثيرا للغاية! كل يوم، صباحا ومساء، كانت هي وزوجة عمها تسلكان الطريق إلى النادي وتعودان مرة أخرى، مارتين بالميدان؛ وكان فيرال هناك، يضرب كرات البولو التي يلقيها إليه الجنود الهنود، متجاهلا المرأتين تماما. قريبا جدا لكنه بعيد جدا! ما زاد الطين بلة أنه ولا واحدة من المرأتين كانت ترى أنه من اللائق التحدث في الأمر مباشرة. ذات مساء ضرب الكرة ضربة شديدة فانطلقت في حفيف وسط الحشائش وتدحرجت على الطريق أمامهما. توقفت إليزابيث وزوجة عمها تلقائيا. لكن كان الجندي وحده الذي جرى لالتقاط الكرة. كان فيرال قد رأى المرأتين وظل مبتعدا.
في الصباح التالي توقفت السيدة لاكرستين بعد خروجهما من البوابة. كانت قد أقلعت مؤخرا عن ركوب الريكشا [عربة صغيرة يجرها رجل]. أسفل الميدان كان رجال الشرطة العسكرية مصطفين، صفا بلون الغبار بحراب لامعة. كان فيرال مواجها لهم، لكن من دون لباسه الرسمي؛ كان نادرا ما يرتدي لباسه الرسمي من أجل طابور الصباح، معتقدا أنه غير ضروري مع رجال من الشرطة العسكرية. كانت المرأتان تجولان بنظريهما في كل شيء عدا فيرال، وتتمكنان في الوقت ذاته، وبطريقة ما، من النظر إليه.
قالت السيدة لاكرستين: «البغيض في الأمر ...» - كانت هذه العبارة لتغيير الموضوع، لكن لم يكن الموضوع بحاجة إلى مقدمة - «البغيض في الأمر أن عمك عليه حقا الرجوع إلى المعسكر قريبا.» «هل يجب عليه ذلك حقا؟» «أخشى هذا. وتكون الأجواء بغيضة للغاية في المعسكر في هذا الوقت من العام! آه، وذلك الناموس!» «ألا يستطيع البقاء أكثر قليلا؟ أسبوعا مثلا؟» «لا أعتقد أنه يستطيع. لقد لبث في المقر نحو شهر حتى الآن. وسوف تستاء الشركة إذا علمت بالأمر. وبالطبع ستضطر كلتانا إلى الذهاب معه. يا للضجر! الناموس ... فظيع للغاية!»
قطعا فظيع! أن يضطروا إلى الرحيل قبل أن تكون إليزابيث قد قالت لفيرال كيف حالك حتى! لكنهما كانتا ستضطران إلى الذهاب حتما إذا ذهب السيد لاكرستين. فلن يصلح قط أن يترك بمفرده. فإن الشيطان يجد بعض المفاسد حتى في الغابة. سرى وهج كأنه حريق مشتعل في صف الجنود؛ كانوا يخلعون حرابهم قبل السير راحلين. انعطف الصف المغبر يسارا، وأدوا التحية وساروا مبتعدين في صفوف من أربعة أفراد، بينما جاء العساكر من صفوف الشرطيين بالأمهار وعصي البولو. وهنا اتخذت السيدة لاكرستين قرارا بطوليا.
قالت: «أرى أن نسلك الطريق المختصر عبر الميدان. فهذا أسرع كثيرا من الدوران يمينا باتخاذ الطريق.»
كان أقصر بنحو خمسين ياردة، لكن لم يسلك أحد ذلك الطريق مشيا قط، بسبب بذور الحشائش التي تدخل في الجوارب. توغلت السيدة لاكرستين بجسارة في الحشائش، متخلية حتى عن التظاهر بالتوجه إلى النادي، واتجهت مباشرة إلى فيرال. كانت كل من المرأتين تفضل التعذيب حتى الموت على المخلعة على الإقرار بأنها كانت تريد أي شيء سوى اتخاذ طريق مختصر. رآهما فيرال آتيتين، فراح يسب، وكبح جماح مهره. لم يكن من اللائق أن يتجاهلهما الآن وقد جاءتا علنا لتبادراه بالكلام. يا لجسارة هاتين المرأتين! اتجه إليهما ببطء ممتطيا فرسه وعلى وجهه إمارات التجهم، وهو يطارد كرة البولو بضربات صغيرة.
صاحت السيدة لاكرستين بصوت مبالغ في عذوبته، من على بعد عشرين ياردة: «صباح الخير يا سيد فيرال!»
رد عليها عابسا قائلا: «صباح الخير!» بعد أن رأى وجهها وعدها واحدة من العجائز الهرمات المهزولات المألوف وجودهن في القواعد الهندية.
في اللحظة التالية صارت إليزابيث في نفس المستوى مع زوجة عمها. كانت قد خلعت نظارتها وأخذت تؤرجح قبعتها بيدها. لماذا تقلق من الإصابة بضربة شمس؟ فقد كانت مدركة تماما لجمال شعرها القصير. هبت نسمة ريح - ما أجملها هذه النسمات اللطيفة التي تهب فجأة في الأيام الحارة الخانقة! - وأمسكت بثوبها القطني وألصقته بها، فظهر إطار جسدها، نحيفا وفتيا مثل شجرة. ظهورها المباغت بجانب المرأة الأكبر سنا التي سفعتها الشمس كان مفاجأة سارة لفيرال. وقد وجف حتى إن المهرة العربية شعرت بذلك وكانت ستشب على قائميها الخلفيين، فاضطر إلى إحكام قبضته على اللجام. لم يكن قد عرف حتى هذه اللحظة، ولا اهتم بالاستفسار عما إذا كان ثمة نساء شابات في كياوكتادا.
قالت السيدة لاكرستين: «ابنة أخي زوجي.»
لم يجب، لكنه ألقى بعصا البولو بعيدا، وخلع قبعته . وظل هو وإليزابيث يحدق كل منهما في الآخر لوهلة. بدا وجهاهما النضران خاليين من العيوب في أشعة الشمس القاسية. وكانت بذور الحشائش تنغز ساقي إليزابيث نغزا شديدا مؤلما، ولم تستطع من دون نظارتها أن ترى فيرال وفرسه إلا غشاوة مائلة للبياض. لكنها كانت سعيدة، سعيدة! راح قلب إليزابيث يتوثب وتدفق الدم إلى وجهها، فصبغه بطبقة رقيقة شفافة. «حقا إنها جميلة!» كان هو الخاطر الذي جال بذهن فيرال يكاد يعصف به. أما الهنود المتجهمون الذين أمسكوا برءوس الأمهار، فأخذوا يحملقون بفضول في المشهد، كأن حسن الشابين قد ترك أثره عليهم هم الآخرين.
كسرت السيدة لاكرستين الصمت، الذي استمر نصف دقيقة.
فقالت بشيء من المكر: «أتعلم يا سيد فيرال، إننا نعتقد أنك كنت قاسيا بعض الشيء لتجاهلك لنا نحن المساكين طيلة هذا الوقت. فإننا نتلهف بشدة لرؤية وجه جديد في النادي.»
كان هو لا يزال ينظر إلى إليزابيث حين أجاب، لكن التغير في نبرة صوته كان ملحوظا. «كنت أنوي المجيء لبضعة أيام. فقد كنت مشغولا لأقصى درجة؛ في وضع رجالي في مقراتهم وما إلى ذلك.» ثم أضاف قائلا: «إنني آسف» - لم يكن من عادته الاعتذار، لكنه كان قد حسم أمره، فهذه الفتاة كانت حقا شيئا استثنائيا بشكل ما - «آسف على عدم الرد على رسالتكم.» «آه، لا عليك! فإننا مدركون تماما. لكننا نرجو أن نراك في النادي هذا المساء! هذا لأننا ...» قالت منهية حديثها بمكر أكثر: «إذا خيبت ظننا مرة أخرى، سيراودنا الظن أنك شاب مشاغب!»
كرر اعتذاره قائلا: «آسف، سوف أكون هناك هذا المساء.»
لم يكن هناك المزيد ليقال، فمضت المرأتان إلى النادي. لكنهما بالكاد مكثتا خمس دقائق؛ إذ كانت بذور الحشائش تعذبهما أيما تعذيب حتى إنهما اضطرتا للعودة إلى المنزل سريعا وتغيير جواربهما في الحال.
أوفى فيرال بوعده وذهب إلى النادي ذلك المساء. وقد وصل مبكرا عن الآخرين، وكان قد جعل حضوره ملحوظا تماما قبل أن يكون هناك بخمس دقائق. حين دخل إليس النادي انطلق الساقي العجوز من حجرة لعب الأوراق وتربص به. كان في جزع شديد، والدموع تنهمر على وجنتيه. «سيدي! سيدي!»
قال إليس: «ما الأمر بحق الشيطان!» «سيدي! سيدي! لقد ضربني سيد جديد يا سيدي!» «ماذا؟» «ضربني يا سيدي!» ارتفع صوته وهو يقول «ضربني!» بعويل باك طويل، «ضررربني!» «ضربك؟ هذا ما تستحقه. من الذي ضربك؟» «سيد جديد يا سيدي. سيد من الشرطة العسكرية. ضربني بقدمه يا سيدي ... هنا!» ودعك نفسه من الخلف.
قال إليس: «تبا!»
ذهب إليس إلى قاعة الجلوس، حيث كان فيرال يقرأ «ذا فيلد»، لا يظهر منه سوى طرف سرواله القطني الخفيف وحذاؤه البني المصفر اللامع. وهو لم يتكلف أن يحرك ساكنا عند سماع دخول شخص آخر الحجرة. وقد توقف إليس وقال: «أنت! ما اسمك؟ فيرال!» «ماذا؟» «هل ركلت الساقي؟»
ظهرت عينا فيرال الزرقاوان العابستان من وراء «ذا فيلد»، مثل عيني إحدى القشريات حين تطل من وراء صخرة.
قال مرة أخرى في الحال: «ماذا؟» «قلت هل ضربت الساقي اللعين؟» «أجل.» «ماذا تقصد إذن بفعلتك هذه؟» «لقد خاطبني الوغد بوقاحة. طلبت منه ويسكي وصودا فأتى به دافئا. طلبت منه أن يضيف له ثلجا، فرفض. تفوه ببعض الترهات اللعينة حول ادخار القطع الأخيرة من الثلج. فركلت مؤخرته. لقد استحق العقاب.»
استحال إليس رماديا تماما، وقد استشاط غضبا. إذ كان الساقي قطعة من مقتنيات النادي ولا يجوز أن يركله الغرباء. لكن أكثر ما أغضب إليس أنه من الوارد تماما أن يكون فيرال قد شك أنه مشفق على الساقي، بل أن يكون مستنكرا لعقاب الركل في حد ذاته. «استحق العقاب؟ أعتقد أنه استحق العقاب بحق فعلا. لكن ما دخلك أنت بالأمر بحق الجحيم؟ من أنت لتأتي وتركل خدامنا؟» «هراء يا عزيزي. لقد كان بحاجة لأن يركل. لقد فقدتم السيطرة على خدمكم هنا.» «ما دخلك أنت في الأمر إذا كان بحاجة لأن يركل أيها الوضيع الوقح اللعين؟ فلست حتى عضوا في النادي. إن ضرب الخدم مهمتنا نحن وليس مهمتك.»
أنزل فيرال «ذا فيلد» وأفسح المجال لعينه الأخرى. لم تتغير نبرة صوته الجافي . فلم تكن أعصابه تفلت قط مع واحد من الأوروبيين؛ لم يكن هذا ضروريا قط. «يا عزيزي، إنني أركل مؤخرة أي شخص يخاطبني بوقاحة. هل تريد أن أركل مؤخرتك؟»
تبخر كل غضب إليس فجأة. لم يكن خائفا، فلم يعتره الخوف قط في حياته؛ لكن كانت عينا فيرال أكثر مما يستطيع مواجهته. كان باستطاعة تينك العينين أن تجعلاك تشعر كأنك تحت شلالات نياجرا! ذوى السباب على شفتي إليس؛ كاد صوته أن يخذله. ثم قال متذمرا بل وآسفا: «لكن سحقا، لقد كان محقا تماما في عدم إعطائك آخر قطعة من الثلج. هل تعتقد أننا نشتري هذا الثلج من أجلك فقط؟ إننا لا نستطيع الحصول على الأشياء سوى مرتين أسبوعيا في هذا المكان.»
قال فيرال: «هذه إدارة سيئة فاسدة من جانبكم إذن.» وتراجع وراء «ذا فيلد»، مسرورا بالانسحاب من الموضوع.
كان إليس بلا حول ولا قوة. فقد كان الهدوء الذي عاد به فيرال لجريدته، ناسيا بحق وجود إليس، مثيرا للحنق. أليس حريا به أن يركل الحقير الصغير ركلة قوية؟
لكن لم تأت تلك الركلة بطريقة أو بأخرى. استحق فيرال العديد من الركلات في حياته، لكنه لم ينل واحدة منها قط وربما لن ينال أبدا. تسلل إليس عائدا إلى حجرة لعب الأوراق، لينفس عن مشاعره على الساقي، تاركا فيرال مسيطرا على قاعة الجلوس.
مع دخول السيد ماكجريجور من بوابة النادي بلغ مسمعه صوت موسيقى. وظهر بصيص من ضوء المصابيح الأصفر من خلال النبات المتسلق الذي غطى فاصل ملعب التنس. كان السيد ماكجريجور في مزاج مرح هذا المساء؛ إذ كان قد منى نفسه بحديث طويل ممتع مع الآنسة لاكرستين - فيا لها من فتاة ذكية ذكاء استثنائيا! - وكان لديه حكاية مسلية للغاية ليقصها عليها (كانت في الواقع قد رأت النور بالفعل في أحد تلك المقالات الصغيرة في «بلاكوودز») عن عملية قطع طريق جرت في ساجاينج عام 1913. كان متأكدا أنها ستحب سماعها. دار حول فاصل ملعب التنس متشوقا. في الملعب، في ضوء القمر المتضائل الذي امتزج بضوء المصابيح المعلقة بين الأشجار، كان فيرال وإليزابيث يرقصان. كان الغلمان قد أخرجوا مقاعد ومنضدة من أجل الجرامافون، وكان سائر الأوروبيين جالسين أو واقفين حولها. مع توقف السيد ماكجريجور عند زاوية الملعب، دار فيرال وإليزابيث، ومرقا بجانبه، على بعد لا يزيد عن ياردة. كانا يرقصان متقاربين جدا، وقد انحنى جسدها إلى الوراء أسفل جسده. ولم يلحظ أي منهما السيد ماكجريجور.
التمس السيد ماكجريجور طريقه حول الملعب، وقد استولى على دواخله شعور بائس بارد. فليودع حديثه مع الآنسة لاكرستين إذن! بذل جهدا بالغا لإجبار وجهه على بشاشته ومرحه المألوفين حين بلغ الطاولة.
قال بصوت حزين على الرغم منه: «مساؤكم راقص!»
لم يجب أحد. فقد كان الجميع يشاهدون الثنائي الذي في ملعب التنس. في غفلة تامة عن الآخرين، انطلق فيرال وإليزابيث ودارا مرارا وتكرارا، وأحذيتهما تنزلق بسلاسة على الأسمنت الزلق. كان فيرال يرقص كما يمتطي الخيل، برشاقة منقطعة النظير. كان الجرامافون يلعب أغنية: «أرني الطريق إلى داري.» التي طافت العالم آنذاك مثل الوباء ووصلت حتى إلى بورما: «أرني الطريق إلى داري، فقد تعبت وأريد أن أخلد للنوم؛ تناولت بعض الشراب منذ ساعة، وقد لعب الخمر برأسي ...» إلخ.
انسابت الموسيقى الرديئة المملة الكئيبة بين الأشجار الظليلة وعبير الزهور المتدفق، مرة تلو الأخرى؛ إذ كانت السيدة لاكرستين تعيد إبرة الجرامافون إلى البداية كلما اقتربت من الوسط. صعد القمر عاليا، وقد اصفر صفرة فاقعة، وبدا في ارتفاعه من عتمة الغيم الداجن في الأفق، مثل امرأة عجوز تزحف خارجة من الفراش. ظل فيرال وإليزابيث يرقصان، دون كلل، شكلا منظرا مبهجا للحواس بهتت معالمه في العتمة. كانا يتحركان في انسجام تام كأنهما جسد واحد. وكان السيد ماكجريجور وإليس وويستفيلد والسيد لاكرستين واقفين يشاهدون، واضعين أياديهم في جيوبهم، لا يجدون شيئا ليقولوه، وقد أخذ الناموس يقرصهم في كواحلهم. طلب أحدهم المشروبات، لكن الويسكي كان مذاقه كالعلقم في أفواههم. فقد كانت أمعاء الرجال الأربعة جميعا تتلوى من مرارة الحسد.
لم يطلب فيرال من السيدة لاكرستين أن يراقصها، ولا ألقى بالا لسائر الأوروبيين، حين جلس أخيرا هو وإليزابيث. إنما اكتفى بالاستئثار بإليزابيث لنصف ساعة أخرى، ثم غادر النادي بتحية مقتضبة لآل لاكرستين ومن دون كلمة لأي شخص آخر. كان الرقص طويلا مع فيرال قد ترك إليزابيث في حالة أشبه بالحلم. كما أنه سألها أن تخرج معه لركوب الخيل! فكان سوف يعيرها أحد أمهاره! ولم تلحظ حتى أن إليس، الذي أغضبه تصرفها، كان يبذل ما في وسعه ليكون فظا فظاظة صريحة. كان الوقت متأخرا حين عاد آل لاكرستين إلى منزلهم، لكن ظل النوم دون أن يواتي إليزابيث وزوجة عمها؛ فقد ظلتا تعملان بنشاط حتى منتصف الليل، في تقصير سروال ركوب الخيل الخاص بالسيدة لاكرستين، وتوسيع ربلتي الساقين ليناسب إليزابيث.
قالت السيدة لاكرستين: «أرجو أن تكوني على معرفة بكيفية امتطاء الخيل يا عزيزتي.» «بالتأكيد! فقد امتطيت الخيل كثيرا جدا في الوطن.»
ربما امتطت الخيل عشر مرات في المجمل، حين كانت في السادسة عشرة. لكن لا يهم، سوف تتدبر أمرها بطريقة أو بأخرى! فقد تمتطي نمرا ما دام فيرال سيصطحبها.
حين انتهتا أخيرا من السروال وارتدته إليزابيث لقياسه، تنهدت السيدة لاكرستين لدى رؤيتها. كانت تبدو فاتنة في السروال، فاتنة للغاية! ثم خطر لهما أنه خلال يوم أو اثنين سيكون عليهم العودة إلى المعسكر، لأسابيع أو ربما شهور، ويتركون كياوكتادا وهذا الشاب المروم. يا لها من خسارة! مع انتقالهما إلى الدور العلوي توقفت السيدة لاكرستين عند الباب. فقد طرأ على بالها أن تقدم على تضحية كبرى ومؤلمة. أخذت إليزابيث من منكبيها وقبلتها بمودة حقيقية أكثر مما أبدت من قبل. «عزيزتي، سيكون من المؤسف بحق أن ترحلي من كياوكتادا الآن!» «هذا صحيح إلى حد ما.» «إذن لدي فكرة يا عزيزتي. لن نعود إلى تلك الغابة البشعة! سوف يعود عمك وحده. وأنا وأنت سنبقى في كياوكتادا.»
الفصل التاسع عشر
كان الحر يزداد سوءا. كاد أبريل أن ينتهي، لكن لم يكن ثمة أمل في سقوط الأمطار لثلاثة أسابيع أخرى، أو ربما خمسة. حتى الفجر الجميل العابر صار يفسده التفكير في الساعات الطويلة المقبلة التي تسطع فيها الشمس حتى تعمي البصر؛ حيث يشعر المرء بالألم في رأسه ويخترق الوهج أي غطاء ويجعل الجفون تلتصق في نوم خال من الراحة. لم يكن أحد، سواء شرقي أو أوروبي، يستطيع أن يبقى مستيقظا في حر النهار دون معاناة؛ وفي الليل، على النقيض، مع عواء الكلاب وفيضان العرق الذي كان يتجمع ويجعل الطفح الجلدي مؤلما، لم يكن أحد يستطيع النوم. وكان الناموس في النادي مزعجا بشدة حتى إنه كان لا بد من حرق عيدان البخور في كل الزاويا، وكان النساء يجلسن واضعات سيقانهن في أكياس وسائد. وحدهما فيرال وإليزابيث لم يأبها للحر. فقد كانا شبابا ودماؤهما متجددة، وكان فيرال أكثر لامبالاة وكانت إليزابيث أكثر سعادة من الاكتراث للطقس على الإطلاق.
جرى الكثير من المشاحنات وتناقل النميمة في النادي تلك الأيام. كان فيرال قد أثار حفيظة الكل. فقد اعتاد المجيء إلى النادي ليمكث ساعة أو ساعتين في المساء، لكنه كان يتجاهل الأعضاء الآخرين، ويرفض المشروبات التي يعرضونها عليه، ويرد على محاولات إجراء حوار معه بكلمات قصيرة فظة. وكان يجلس تحت المروحة على المقعد الذي كان قبل ذلك مكرسا للسيدة لاكرستين، يقرأ ما يروق له من الصحف، حتى تأتي إليزابيث، فيرقص معها ويتحدث لساعة أو ساعتين ثم يفر دون حتى أن يلقي التحية على أي حد. في الوقت ذاته كان السيد لاكرستين بمفرده في المعسكر، وكان، حسب الشائعات التي كانت ترتد إلى كياوكتادا، يستعين على وحدته بطائفة شديدة التنوع من النساء البورميات.
كان إليزابيث وفيرال يخرجان لركوب الخيل معا كل مساء تقريبا. كان فيرال يكرس الفترات الصباحية، بعد استعراض الجنود، للعب البولو، لكنه كان قد قرر أن يخصص الأمسيات لإليزابيث. وألفت هي ركوب الخيل، تماما كما اعتادت على الرماية؛ بل كان لديها من الثقة ما جعلها تخبر فيرال أنها قد «مارست الصيد كثيرا جدا» في الوطن. لكنه عرف من لمحة أنها كانت تكذب، لكنها على الأقل لم تكن سيئة إلى درجة أن تكون مزعجة له.
اعتاد الاثنان أن يصعدا بالخيل الطريق الأحمر المتجه إلى الغابة، ويعبرا الجدول القريب من شجرة البينكادو الكبيرة المغطاة بزهور الأوركيد، ثم يتبعان مسار العربات الضيق؛ حيث كان التراب ناعما وكان باستطاعة الخيل أن ترمح. كان الحر خانقا في الغابة المغبرة، وظلت تتردد دمدمات رعد بعيد بلا مطر. ورفرفت طيور خطاف صغيرة حول الخيل، تسايرها السرعة، لاصطياد الذباب الذي كانت حوافرها تكشف عنه. كانت إليزابيث تمتطي المهر الأكمت، ويمتطي فيرال المهر الأبيض. وكانا في طريق العودة يسيران بمهريهما اللذين حلك لونهما من العرق متقاربين، متقاربين بشدة حتى إن ركبته كانت تحتك بركبتها أحيانا، وكانا يتحدثان. كان باستطاعة فيرال أن يترك سلوكه العدائي ويتحدث بود شديد حين يختار ذلك، وقد اختار ذلك بالفعل مع إليزابيث.
يا للسعادة التي كانت تكتنف جولاتهما معا! سعادة أن تكون على صهوة جواد وفي عالم الخيل، عالم الصيد والسباق، البولو وصيد الخنازير البرية! إذا لم تكن إليزابيث تحب فيرال لأي شيء آخر؛ فقد كانت ستحبه لأنه أدخل الخيل في حياتها. كانت تلح عليه ليتحدث عن الخيل كما كانت تلح على فلوري من قبل ليتحدث عن الرماية. لم يكن فيرال ثرثارا، هذا صحيح. كان أفضل ما في إمكانه قوله هو بضع جمل غليظة سخيفة عن البولو وصيد الخنازير البرية، وقائمة بقواعد هندية وأسماء كتائب. ورغم ذلك فقد استطاع أن يثير حماس إليزابيث كما لم يستطع كل حديث فلوري أن يفعل قط. كان مجرد رؤيته على صهوة الفرس أكثر استثارة للمشاعر من أي كلمات. فقد كانت تحيط به هالة من الفروسية والجندية. وكانت إليزابيث ترى في وجهه المسمر وجسده القوي المستقيم كل الرومانسية، روعة حياة الخيالة وأبهتها. رأت الحدود الشمالية الغربية ونادي الفرسان، رأت ملاعب البولو وساحات الثكنات الحارة الجافة، والفصائل البنية للخيالة وهم يرمحون ورمحاهم الطويلة متزنة وأذيال عمامتهم متطايرة؛ وسمعت نداء البوق وجلجلة المهاميز، والفرق الموسيقية العسكرية وهي تعزف خارج قاعات الطعام والضباط جالسين يتناولون العشاء في زيهم الرسمي المهندم الرائع. كم هو بديع، عالم الفروسية ذلك، كم هو بديع! وكان هو عالمها، فقد انتمت إليه، وولدت من رحمه. كانت في تلك الأيام تعيش بالخيل وتفكر فيها وتحلم بها، تكاد تكون مثل فيرال نفسه. وجاء عليها وقت حيث صارت لا تكذب كذبتها الصغيرة فحسب بشأن «ممارسة الصيد كثيرا جدا»، بل أوشكت أن تصدقها.
انسجم الاثنان كثيرا بكل السبل الممكنة. ولم يثر ضجرها ولا جزعها قط كما فعل فلوري. (بل إنها في الواقع كادت تنسى فلوري؛ وحين كان يخطر على بالها، كانت وحمته هي ما تتذكره لسبب ما.) كان الرابط الذي قرب بينهما أن فيرال كان يزدري أي شيء يمت لل «ثقافة الرفيعة» بصلة أكثر منها حتى. وقد أخبرها ذات مرة أنه لم يقرأ كتابا منذ كان في سن الثمانية عشرة، وأنه «مقت» الكتب مقتا شديدا؛ «باستثناء أعمال جوروكس وما إلى ذلك بالطبع.» (جوروكس هو شخصية كوميدية تهوى سباق الخيل والصيد، ظهرت في بعض الروايات والمجلات الفكاهية). في مساء جولتهما الثالثة أو الرابعة لركوب الخيل ذهب ليودعها عند بوابة منزل آل لاكرستين. كان فيرال قد استطاع مقاومة كل دعوات السيدة لاكرستين لتناول الطعام؛ فلم يكن حتى ذاك الوقت قد وطأ بقدمه منزل آل لاكرستين، ولم يكن ينوي ذلك. بينما كان السائس يأخذ مهر إليزابيث، قال فيرال: «سأخبرك بشيء. حين نخرج المرة القادمة سوف تركبين بليندا، وسأركب أنا المهر الكستنائي. أعتقد أنك صرت ماهرة في الركوب بما يكفي لتحسني ركوب بليندا.»
بليندا كانت الفرس العربية التي اقتناها فيرال منذ عامين، ولم يسمح قط لأي أحد حتى هذه اللحظة بامتطائها، ولا حتى السائس. كان هذا أكبر فضل يمكنه تصوره. وقد قدرت إليزابيث وجهة نظر فيرال تمام التقدير وأدركت عظمة ذلك الفضل، وكانت ممتنة له.
في المساء التالي، وهما عائدان جنبا إلى جنب على صهوة الخيل، أحاط فيرال ذراعه بمنكب إليزابيث، ورفعها عن السرج وجذبها إليها، فقد كان شديدا جدا. ألقى اللجام، وبيده الخاوية رفع وجهها ليقابل وجهه؛ والتقت شفتاهما. ظل يضمها بشدة للحظة، ثم أنزلها إلى الأرض ونزل عن فرسه. وقفا متعانقين، وقد تضام قميصاهما الخفيفان المبتلان عرقا، قابضا على اللجامين في ثنية ذراعه.
في الوقت نفسه تقريبا قرر فلوري، الذي كان على بعد عشرين ميلا، أن يعود إلى كياوكتادا. كان واقفا على حافة الغابة عند ضفة جدول ناضب، بعد أن سار ليصيب نفسه بالإنهاك، وأخذ يشاهد بضع عصافير صغيرة مجهولة الاسم تأكل بذور الحشائش الطويلة. كانت الذكور صفراء فاقعة اللون، والإناث مثل إناث طيور السنونو. ولأن حجمها كان في غاية الضآلة فلا يسمح لها بثني العيدان، فقد كانت تقترب منها وهي تهتز، وتتشبث بها أثناء طيرانها وتنزلها إلى الأرض بثقلها. ظل فلوري يشاهد الطيور بلا مبالاة، يكاد أن يبغضها لأنها لم تستطع أن تثير فيه أي اهتمام. في غمرة خموله ألقى عليها سيفه لتجفل. ليتها كانت هنا، ليتها كانت هنا! كل شيء - الطيور والأشجار والزهور، كل شيء - كان ميتا وبلا معنى؛ لأنها لم تكن هنا. مع مرور الأيام تيقن أكثر من فقدانها وصار أمرا واقعا حتى بات يسمم كل لحظة.
تسكع قليلا في الغابة، وهو يضرب النباتات المتسلقة بسيفه. كان يشعر بأطرافه مرتخية وثقيلة. ثم انتبه إلى نبتة فانيليا برية تدلت على إحدى الشجيرات، فانحنى ليتشمم قرونها الرفيعة الزكية الرائحة. لكن أثار فيه العبق شعورا بالذبول والضجر القاتل. وحيدا، وحيدا، معزولا في بحر الحياة! بلغ به الألم أشده حتى إنه ضرب الشجرة بقبضته، فارتعدت ذراعه وتشقق اثنان من مفاصل أصابعه. لا بد أن يذهب إلى كياوكتادا. كان في ذلك حماقة، فبالكاد مضى أسبوعان منذ الموقف الذي جرى بينهما، وكانت فرصته الوحيدة أن يعطيها بعض الوقت لتنسى الأمر. لكن لا بد أن يرجع رغم ذلك. فلم يعد يقوى على البقاء في هذا المكان الرتيب، وحده مع أفكاره بين عدد لا حصر له من أوراق الأشجار الغافلة.
ثم خطرت له فكرة سارة. يمكنه أن يأخذ لإليزابيث جلد النمر الذي كان في السجن لدبغه. سيكون عذرا ليراها، وفي عموم الأحوال حين يأتي شخص محملا بالهدايا فالناس تصغي إليه. لن يدعها تقاطعه قبل أن يشرع في الكلام. سوف يشرح، ويلطف الأمر، يجعلها تدرك أنها كانت ظالمة له. لم يكن من الصحيح أن تدينه من أجل ما هلا ماي، التي طردها من منزله من أجل إليزابيث. قطعا لا بد أنها ستسامحه حين تسمع حقيقة القصة. ويجب أن تسمعها هذه المرة؛ سوف يجبرها أن تصغي له حتى إذا اضطر لأن يقبض على ذراعيها وهو يتكلم.
وقد عاد في نفس المساء. كانت الرحلة تستغرق عشرين ميلا، في مسارات للعربات مليئة بالأخاديد، لكن قرر فلوري السير ليلا، متعللا بأن الجو يكون أبرد. كاد الخدم أن يتمردوا على فكرة السير ليلا، وانهار سامي العجوز في اللحظة الأخيرة في نوبة شبه حقيقية وكان لا بد من إغداق الجين عليه حتى يقوى على السفر. كانت الليلة خالية من القمر، فالتمسوا طريقهم على ضوء المصابيح، الذي برقت فيه عينا فلو مثل الزمرد ولمعت فيه عينا الثور مثل حجر القمر. حين بزغت الشمس توقف الخدم ليجمعوا الحطب ويطهوا الإفطار، لكن فلوري كان متلهفا ليكون في كياوكتادا، فسبقهم متعجلا. لم يشعر بأي تعب، فقد أفعمته فكرة جلد النمر بآمال مبالغ فيها. هكذا عبر النهر المترقرق في زورق واتجه مباشرة إلى كوخ الدكتور فيراسوامي، فوصل إلى هناك في حوالي العاشرة.
دعاه الطبيب للإفطار، وأخذه إلى حمامه حتى يتمكن من الاغتسال والحلاقة، بعد أن هش النساء إلى مكان مناسب للاختباء. أثناء الإفطار كان الطبيب الشديد الانفعال وكثير الاتهامات لل «تمساح»؛ فقد اتضح أن التمرد المزيف كان على وشك الاندلاع آنذاك. لم تتسن الفرصة لفلوري ليذكر مسألة جلد النمر إلا بعد الإفطار. «بالمناسبة يا دكتور، ماذا عن ذلك الجلد الذي أرسلته إلى السجن ليدبغ؟ هل فرغ منه؟»
قال الطبيب بقليل من الارتباك وهو يحك أنفه: «آه.» دخل المنزل - كانا يتناولان الإفطار في الشرفة؛ إذ كانت زوجة الطبيب قد اعترضت بعنف على إحضار فلوري للداخل - وعاد سريعا بجلد ملفوف.
شرع يقول وهو يفرده: «في الواقع ...» «ويحي يا دكتور!»
كان الجلد تالفا تماما. فقد كان جامدا مثل الورق المقوى ، مع تشقق الجلد المدبوغ وتغير لون الفراء بل وتآكلت أجزاء منه. كما كانت رائحته كريهة ببشاعة. كان كأنه حول إلى قطعة من النفايات بدلا من دبغه. «مهلا يا دكتور! أي عبث هذا الذي فعلوه به! كيف حدث هذا بحق الشيطان؟» «آسف جدا يا صديقي! كنت على وشك الاعتذار. كان هذا أفضل ما في وسعنا. لا يوجد في السجن الآن من يعرف كيفية دبغ الجلود.» «سحقا، كان هناك ذلك السجين الذي اعتاد دبغ الجلود دبغا جميلا!» «أجل. لكنه رحل عنا منذ ثلاثة أسابيع، للأسف.» «رحل؟ كنت أعتقد أنه سيقضي سبع سنوات؟» «ماذا؟ ألم تسمع يا صديقي؟ كنت أعتقد أنك تعلم من الذي كان يدبغ الجلود. إنه نجا شوي أو.» «نجا شوي أو؟» «المجرم الذي هرب بمساعدة يو بو كين.» «سحقا!»
ارتاع فلوري من الحظ العاثر بشدة. لكنه في عصر اليوم، بعد أن تحمم وارتدى بذلة نظيفة، ذهب إلى منزل آل لاكرستين، نحو الساعة الرابعة. كان الوقت مبكرا جدا على الزيارات، لكنه أراد أن يضمن اللحاق بإليزابيث قبل أن تذهب إلى النادي. وقد استقبلته السيدة لاكرستين، التي كانت نائمة وغير مستعدة لاستقبال زائرين، بقلة ذوق، دون أن تطلب منه الجلوس حتى. «أخشى أن إليزابيث لم تنزل بعد. إنها ترتدي ملابسها للخروج لركوب الخيل. ألن يكون من الأفضل أن تترك رسالة؟» «أفضل أن أراها، إذا لم يكن لديك مانع. لقد أتيت لها بجلد النمر الذي اصطدناه معا.»
تركته السيدة لاكرستين واقفا في حجرة الاستقبال يعتريه شعور ببلادة وثقل غير عادي كما يحدث للمرء في مثل هذه الأوقات. إلا أنها جاءت بها، وانتهزت الفرصة لتهمس لها خارج الباب قائلة: «تخلصي من ذلك الرجل الكريه بأسرع ما يمكن يا عزيزتي. فإنني لا أطيق وجوده في المنزل في هذا الوقت من اليوم.»
حين دخلت إليزابيث الحجرة راح قلب فلوري يخفق بعنف حتى جاشت مشاعره. كانت ترتدي قميصا حريريا وسروالا لركوب الخيل، وبشرتها مسفوعة قليلا. لم تبد قط بهذا الجمال حتى في ذكرياته. هنا خارت قواه، وضاع في الحال؛ فقد هربت كل ذرة من شجاعته المضطربة. وبدلا من التقدم لملاقاتها تراجع للوراء فعليا. جاء من خلفه صوت ارتطام مخيف؛ فقد قلب إحدى الطاولات الصغيرة فوقع وعاء زهور الزينيا الذي كان عليها واندفع على الأرض.
هتف مذعورا وقال: «آسف جدا!» «لا بأس! لا تعر الأمر أي اهتمام!»
ساعدته على رفع الطاولة، وهي تثرثر أثناء ذلك بابتهاج وسلاسة كأن لم يحدث شيء: «لقد غبت طويلا يا سيد فلوري! تبدو كأنك جديد تماما! لقد افتقدناك بشدة في النادي ... إلخ.» كانت تشدد على كل كلمة، بذلك الألق المبهرج الصارخ الذي تلجأ إليه المرأة حين تتهرب من واجب أخلاقي. كان مرعوبا منها، حتى إنه لم يقو على النظر إلى وجهها. تناولت هي صندوق سجائر وعرضت عليه واحدة، لكنه رفضها. فقد كانت يده ترتجف بشدة ليستطيع أن يمدها ويأخذها.
قال بصوت رتيب: «لقد أحضرت لك ذلك الجلد.»
فرده على الطاولة التي كانا قد رفعاها للتو. بدا الجلد رثا ورديئا للغاية حتى إنه تمنى لو أنه لم يحضره قط. دنت منه لتتفحص الجلد، اقتربت جدا حتى صارت المسافة بين وجنتها الشبيهة بالزهر ووجنته أقل من قدم، واستطاع أن يشعر بدفء جسدها. لكن خوفه منها كان بالغا حتى إنه ابتعد مسرعا. في نفس اللحظة تراجعت هي أيضا، منقبضة باشمئزاز بعد أن التقطت رائحة الجلد النتنة. اعتراه خزي رهيب، كما لو كانت الرائحة النتنة رائحته هو وليس الجلد.
ابتعدت ياردة أخرى عن رقعة الجلد وقالت: «أشكرك شكرا جزيلا يا سيد فلوري! يا لها من رقعة جلد كبيرة وجميلة، أليس كذلك؟» «كانت كذلك، لكنهم أفسدوها، على ما أخشى.» «لا! سيسرني الاحتفاظ بها! هل ستبقى طويلا في كياوكتادا؟ لا بد أن الحر كان فظيعا في المعسكر!» «نعم؛ كان الجو حارا جدا.»
المدهش أنهما ظلا يتكلمان عن الجو طيلة ثلاث دقائق. فقد كان مغلوبا على أمره. وكل ما وعد نفسه بقوله، كل حججه ودفاعاته، احتبست في حنجرته. قال لنفسه: «أيها الأحمق، ماذا تفعل يا أيها الأحمق؟ هل قطعت عشرين ميلا من أجل هذا؟ هيا، فلتقل ما جئت لقوله! أمسكها بين ذراعيك؛ اجعلها تصغي إليك، فلتركلها، فلتضربها، أي شيء أفضل من أن تتركها تخرسك بهذا اللغو!» لكن بلا جدوى، بلا جدوى! لم يستطع لسانه أن ينبس سوى بتفاهات عقيمة. كيف يستطيع أن يدافع أو يحتج وأسلوبها المبتهج المسترسل، الذي كان يهوي بكل كلمة لمستوى دردشة النادي كان يسكته قبل أن يتكلم؟ أين يتلقينه، ذلك الابتهاج البغيض المصحوب بالقهقهة؟ في مدارس الفتيات المعاصرات متقدات الذهن، لا شك. زادت قطعة الجيفة التي على الطاولة من شعوره بالخزي مع كل لحظة. ظل واقفا هناك شبه أبكم، يبدو قبيحا قبحا أخرق بوجهه الشاحب المتغضن بعد قضاء ليلة بلا نوم، وبدت وحمته كأنها لطعة من الوحل.
تخلصت هي منه بعد دقائق قليلة جدا بأن قالت: «حسنا يا سيد فلوري، أستميحك عذرا، فإنني يجب حقا أن ...»
أفصح أو بالأحرى تمتم قائلا: «ألن تخرجي بصحبتي مرة أخرى يوما ما؟ للسير، الرماية ... أو أي شيء؟» «لم يعد لدي أي متسع من الوقت هذه الأيام! أكاد أكون مشغولة في كل الأمسيات. هذا المساء سأخرج لركوب الخيل.» ثم أضافت قائلة: «مع السيد فيرال.»
ربما أضافت ذلك لتجرحه. كانت هذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها بصداقتها مع فيرال. ولم يستطع أن يتخلص من نبرة الحسد الرتيبة الجزعة من صوته وهو يقول: «هل تخرجين مع فيرال لركوب الخيل كثيرا؟» «كل مساء تقريبا. كم هو فارس رائع! ولديه مجموعة ممتازة من أمهار البولو!» «آه. وأنا بالطبع ليس لدي أمهار تلعب البولو.»
كان هذا أول شيء يقوله ويقترب من الجدية، وقد جرحها بحق. إلا أنها أجابته بنفس الأسلوب المبتهج السلس الذي كانت تتحدث به، ثم اصطحبته إلى الباب. عادت السيدة لاكرستين إلى حجرة الاستقبال، وشمت رائحتها، فأمرت الخدم في الحال بإخراج جلد النمر النتن وحرقه.
لبث فلوري عند بوابة حديقته متظاهرا بإطعام الحمام. لم يستطع أن يحرم نفسه من ألم رؤية إليزابيث وفيرال وهما يبدآن جولتهما بالخيل. كم عاملته بجفاء، كم عاملته بقسوة ! إنها لبشاعة ألا يتحلى الناس باللياقة حتى للتشاجر. بعد قليل ارتقى فيرال الطريق إلى منزل آل لاكرستين ممتطيا المهر الأبيض، والسائس يمتطي المهر الكستنائي، ثم لبث مهلة، وظهرا بعدها معا، فيرال على صهوة المهر الكستنائي، وإليزابيث على الأبيض، وهرولا سريعا صاعدين التل. كانا يثرثران ويضحكان، وقد اقترب منكبها في القميص الحرير من منكبه بشدة. ولم يلتفت أي منهما إلى فلوري.
حين اختفيا في الغابة، كان فلوري ما زال يتسكع في الحديقة. كان الوهج قد كمد واستحال أصفر. وكان البستاني منهمكا في انتزاع الزهور الإنجليزية، وقد ذوى أغلبها، بعد أن قضت عليها أشعة الشمس الشديدة، ويزرع زهور البلسم ونبات عرف الديك والمزيد من الزينيا. مرت ساعة، ثم تقدم على الطريق هائما رجل هندي حزين بشرته بلون التربة، يرتدي مئزرا للخصر وعمامة لونها برتقالي وردي حمل عليها سلة غسيل.
وقد أنزل السلة وحيا فلوري منحنيا. «من أنت؟» «تاجر كتب يا سيدي.»
كان تاجر الكتب هو بائع متجول للكتب يهيم من قاعدة لأخرى في أنحاء بورما العليا. وكان نظام التبادل لديه هو أن تعطيه مقابل أي كتاب في مجموعته أربع آنات، وأي كتاب آخر. لكن ليس أي كتاب تماما؛ إذ إن تاجر الكتب رغم أنه أمي فقد تعلم كيف يتعرف على كتاب الإنجيل ويرفضه.
فكان يقول آسفا: «لا يا سيدي، لا. (وهو يقلبه في يديه البنيتين المفلطحتين باستنكار) لا يمكنني أن آخذ هذا الكتاب ذا الغلاف الأسود والحروف المذهبة. لا أعلم السبب، لكن كل السادة البيض يعرضون علي هذا الكتاب، ولا يقبل أحد منهم أن يأخذه. ما الذي قد يكون في هذا الكتاب الأسود؟ لا بد أنه شيء خبيث.»
قال فلوري: «اخرج نفاياتك.»
بحث بين الكتب عن رواية مثيرة؛ إدجار آلان والاس أو أجاثا كريستي أو شيء من هذا القبيل؛ أي شيء ليسكن الاضطراب الرهيب الذي كان في قلبه. بينما هو منحن على الكتب رأى الرجلين الهنديين يهتفان ويشيران في اتجاه حافة الغابة.
قال البستاني بصوته الشبيه بمن امتلأ فمه بالطعام: «انظر!»
كان المهران خارجين من الغابة؛ لكن من دون راكبين. هبط الاثنان التل آتيين خببا تتدلى الركاب وتتخبط أسفل بطنيهما، وقد بدا عليهما خجل ساذج كالذي يبدو على الحصان الذي هرب من سيده.
ظل فلوري ضاما أحد الكتب إلى صدره غافلا. لقد ترجل فيرال وإليزابيث. لم تكن حادثة؛ فلا يمكن لأحد أن يتخيل أن يسقط فيرال عن حصانه مهما شطح بخياله. لقد نزلا عن الخيل، والمهران هربا.
لقد نزلا. لأي سبب؟ لكنه كان يعلم السبب! لم تكن مسألة شك: فقد كان متيقنا. أمكنه أن يرى الأمر برمته وهو يحدث، في واحدة من تلك الهلوسات الشديدة الدقة في تفاصيلها والقذارة في فحشها حتى ليستحيل تحملها. وهنا رمى الكتاب بعنف واتجه إلى المنزل، تاركا تاجر الكتب خائب الأمل. سمعه الخدم وهو يتحرك داخل المنزل، ثم يطلب زجاجة ويسكي. احتسى شرابا لكنه لم يجده نفعا، ثم ملأ ثلثي قدح، وأضاف إليه كمية مناسبة من المياه ليجعله مستساغا، وابتلعه. لم تلبث الجرعة الملوثة الباعثة على الغثيان أن تنزل جوفه حتى كررها. كان قد أقدم على نفس الشيء في المعسكر ذات مرة، منذ سنوات، حين أوجعه ألم الأسنان وجعا شديدا وكان على بعد ثلاثمائة ميل من طبيب الأسنان. حين دقت الساعة السابعة دخل عليه كو سلا كالعادة ليقول إن مياه الحمام صارت ساخنة. كان فلوري مستلقيا على أحد المقاعد الطويلة، وقد خلع معطفه وتقطع قميصه عند العنق.
قال كو سلا: «حمامك يا سيدي.»
لم يجب فلوري، فلمس كو سلا ذراعه، ظانا أنه نائم. كان فلوري ثملا جدا حتى إنه لم يقو على الحركة. وكانت الزجاجة الفارغة قد تدحرجت على الأرض، تاركة خطا من قطرات الويسكي خلفها. نادى كو سلا على با بي والتقط الزجاجة وهو يطرقع بلسانه. «انظر! لقد شرب أكثر من ثلاثة أرباع الزجاجة!» «مرة أخرى؟ كنت أعتقد أنه قد أقلع عن الشراب؟» «إنها تلك المرأة الملعونة، على ما أظن. الآن لا بد أن نحمله برفق. أمسك أنت كعبيه، وأنا سأحمل رأسه. هكذا. هيا ارفعه!»
حملا فلوري إلى الحجرة الأخرى ووضعاه برفق في الفراش.
تساءل با بي قائلا: «هل سيتزوج حقا هذه المرأة الإنجليزية؟» «الرب يعلم. إنها عشيقة ضابط الشرطة الشاب الآن، حسب ما سمعت. إن عاداتهم مختلفة عن عاداتنا. أعتقد أنني أعلم ما الذي سيحتاجه الليلة.» أضاف هذا وهو يفك حمالات فلوري؛ فقد كان كو سلا متمرسا في الفن الضروري جدا لدى خادم العزاب، وهو فن خلع ملابس سيده من دون أن يوقظه.
كان الخدم بالأحرى مسرورين برؤية هذه العودة لعادات العزوبية. استيقظ فلوري قرب منتصف الليل، عاريا في بركة من العرق. شعر كأن جسما معدنيا كبيرا حاد الزوايا يتخبط داخل رأسه. كانت الناموسية مرفوعة، وثمة شابة جالسة بجانب الفراش تهوي له بمروحة خوص. كان وجهها زنجي الملامح مليحا، بدا في ضوء الشموع ذهبي اللون مائلا للبرونزي. أوضحت له أنها بغي، وأن كو سلا استأجرها على مسئوليته مقابل عشر روبيات.
كان رأس فلوري يؤلمه ألما مبرحا، فقال بوهن للمرأة: «أعطيني شيئا لأشربه بالله عليك.» أتته ببعض المياه الغازية التي كان كو سلا قد تأهب بتبريدها ونقع منشفة ووضع كمادة حول جبهته. كانت المرأة كائنا بدينا لطيف الطبع. أخبرته أن اسمها ما سين جالاي، وأنها بجانب ممارسة مهنتها الأخرى كانت تبيع سلال الأرز في البازار القريب من متجر لي ييك. تحسن حال رأس فلوري بعد قليل، وطلب منها سيجارة؛ وعندئذ قالت ما سين جالاي بسذاجة، بعد أن أتت بالسيجارة: «هل أخلع ملابسي الآن يا سيدي؟»
قال فلوري بفتور لنفسه: لم لا؟ أفسح لها مكانا على الفراش. لكن حين شم الرائحة المألوفة للثوم وزيت جوز الهند، شعر بألم ما بداخله، وبكى بالفعل متوسدا برأسه كتف ما سين جالاي السمين، وهو ما لم يفعله منذ كان في الخامسة عشرة من عمره.
الفصل العشرون
في الصباح التالي ثار الكثير من الهرج والمرج في كياوكتادا؛ إذ اندلع التمرد الذي ترددت عنه الإشاعات طويلا. لم يسمع فلوري عنه إلا خبرا مبهما حينها؛ إذ إنه كان قد عاد إلى المعسكر بمجرد أن شعر أنه قادر على السير بعد الليلة التي أسرف فيها في الشراب، ولم يعلم القصة الحقيقية للتمرد إلا بعد عدة أيام، من خطاب طويل ساخط من الدكتور فيراسوامي.
كان أسلوب الدكتور في كتابة الرسائل عجيبا. فقد كان نظمه للجمل متهلهلا، وكان يستخدم الحروف الاستهلالية بوفرة مثل علماء اللاهوت في القرن السابع عشر، أما في الخط المائل فكان ينافس الملكة فيكتوريا. كان الخطاب من ثماني صفحات امتلأت بخطه الصغير المتمدد.
وقد قال في الخطاب:
صديقي العزيز
ستأسف كثيرا عند السماع بأن حيل التمساح قد آتت ثمارها. التمرد - التمرد المزعوم - انتهى وولى. وقد كان وا أسفاه أشد عنفا مما كنت أرجو.
جرى كل شيء كما تنبأت به لك. في اليوم الذي عدت فيه إلى كياوكتادا كان جواسيس يو بو كين قد أخبروه أن الرجال التعساء المساكين الذين أضلهم مجتمعون في الغابة بالقرب من ثونجوا. في نفس الليلة اتجه سرا مع يو لوجيل، مفتش الشرطة، وهو محتال كبير مثله، إذا كان ذلك ممكنا، واثني عشر كونستابلا. وقد شنوا غارة على ثونجوا وداهموا المتمردين، الذين كانوا سبعة فقط! في مخبأ عسكري متداع في الغابة. كذلك جاء السيد ماكسويل، الذي كان قد سمع بإشاعات التمرد، آتيا من معسكره ببندقيته وانضم أخيرا إلى يو بو كين والشرطة في هجومهم على المخبأ. في الصباح التالي صدرت أوامر لبا سين، خادم يو بو كين والقائم بأعماله الوضيعة، بتصعيد الدعوة للتمرد بأقصى درجة ممكنة من الإثارة، وهو ما حدث، فهرع السيد ماكجريجور والسيد ويستفيلد والملازم فيرال إلى ثونجوا مصطحبين خمسين جنديا هنديا مسلحين بالبنادق إلى جانب الشرطة المدنية. لكنهم وصلوا ليجدوا أن الأمر انتهى تماما ويو بو كين جالسا أسفل شجرة تيك كبيرة في وسط القرية يختال ويعظ أهل القرية، الذين راحوا ينحنون جميعا في خوف شديد تلامس جباههم الأرض وهم يقسمون أنهم سيظلون مخلصين للحكومة إلى الأبد، وهكذا كان التمرد قد انتهى بالفعل. أما الساحر المزعوم، الذي لم يكن إلا حاويا في سيرك وتابعا ليو بو كين، فقد اختفى في مكان مجهول، لكن ألقي القبض على ستة من المتمردين. هكذا كانت النهاية.
يجب أن أخبرك كذلك أنه كان هناك وفاة مؤسفة للغاية. فقد كان السيد ماكسويل متلهفا جدا لاستخدام بندقيته على ما أظن وحين حاول أحد المتمردين الهرب أطلق عليه النار وأصابه في بطنه، فمات إثر ذلك. أعتقد أن أهل القرية يحملون بعض الضغينة تجاه السيد ماكسويل بسبب ذلك. لكن من وجهة النظر القانونية موقف السيد ماكسويل سليم؛ لأن الرجال كانوا يتآمرون على الحكومة يقينا.
لكنني أعتقد يا صديقي أنك لا تدرك كم قد يكون هذا الأمر برمته وبالا علي! أعتقد أنك ستدرك علاقته بالمنافسة بيني وبين يو بو كين، والدعم الهائل الذي سيعطيه له بالتأكيد. إنه انتصار للتمساح. فقد صار يو بو كين الآن بطل المنطقة. إنه صديق الأوروبيين المحبب. لقد سمعت أن السيد إليس نفسه قد أثنى على تصرفه. أؤكد لك أنه لو كان بإمكانك أن تشهد الزهو البغيض والأكاذيب التي يحكيها الآن عن أن المتمردين لم يكونوا سبعة بل مائتين! وكيف داهمهم بالمسدس في يده - هو الذي لم يفعل سوى أنه وجه العمليات من مسافة آمنة بينما الشرطة والسيد ماكسويل هم الذين زحفوا إلى المخبأ - كنت ستجد الأمر مثيرا للغثيان حقا. بل وبلغت به الوقاحة أن أرسل تقريرا رسميا بالواقعة بدأه قائلا: «بفضل يقظتي المخلصة وجسارتي المجازفة.» وقد بلغني خبر مؤكد بأنه جعل هذه المجموعة من الأكاذيب تكتب مسبقا قبل الواقعة بأيام. إنه شيء مقزز. وحين يخطر لي أنه الآن وهو في ذروة انتصاره سوف يشرع في التشنيع علي مجددا بكل أشكال الأذى المتاحة لديه ... إلخ.
صودر مخزون أسلحة المتمردين بالكامل. مستودع الأسلحة الذي كانوا ينوون الزحف به إلى كياوكتادا حين تجمع أتباعهم تألف من التالي:
بندقية صيد ماسورتها اليسرى تالفة، كانت قد سرقت من أحد ضباط الغابات قبل ثلاث سنوات.
ستة مسدسات مصنوعة محليا صنعت مواسيرها من أنابيب زنك مسروقة من السكك الحديدية. وتستخدم بطريقة بدائية عن طريق دفع مسمار في فرجة الإشعال وإشعاله بحجر.
تسعة وثلاثين خرطوشا عيار اثني عشر.
أحد عشر مسدسا تقليديا مصنوعا من خشب التيك.
بعض المفرقعات الصينية الكبيرة التي كانت ستشعل بغرض الترهيب.
بعد ذلك حكم على اثنين من المتمردين بالنفي خمسة عشر عاما، وبالسجن ثلاث سنوات وخمس وعشرين جلدة على اثنين، والسجن عامين على واحد.
كان من الجلي تماما أن التمرد البائس قد انتهى ولم يعد هناك أي خطر يتهدد الأوروبيين، وهكذا عاد ماكسويل إلى معسكره من دون حراسة. نوى فلوري البقاء في المعسكر حتى يبدأ هطول الأمطار، أو على الأقل إلى حين انعقاد الجمعية العمومية في النادي؛ إذ كان قد وعد بالمشاركة فيها، لاقتراح اختيار الطبيب؛ مع أن موضوع المؤامرة بين يو بو كين والطبيب برمته صار أمرا سقيما له مع انشغاله بالتفكير في مشكلته الشخصية.
مضت أسابيع أخرى وصار الحر بشعا. بدا كأنه تمخض عن الأمطار المتأخرة سخونة في الجو. كان فلوري متوعكا، ويعمل بلا انقطاع منشغلا بمهام صغيرة كان الأجدر تركها للمشرف، جاعلا العمال يكرهونه بل الخدم أيضا. كان يحتسي الجين طوال الوقت، لكن حتى الشرب لم يعد يستطيع إلهاءه. ظلت صورة إليزابيث بين ذراعي فيرال تلاحقه مثل الألم العصبي أو ألم الأذن. كانت تغشاه في أي وقت، حية ومقززة، فتشتت أفكاره، وتنتزعه من على شفير النوم، وتجعل الطعام في فمه علقما. في بعض الأحيان كان يستبد به غضب مستوحش، حتى إنه ضرب كو سلا ذات مرة. كان أسوأ ما في الأمر التفاصيل - التفاصيل القذرة دوما - التي كان يظهر بها المشهد الخيالي. يبدو أن دقة التفاصيل في حد ذاتها كانت تثبت حقيقة الواقعة.
هل هناك في العالم ما هو أكثر وقاحة وأكثر خزيا من الرغبة في امرأة لن تكون لك أبدا؟ ظل فلوري طيلة هذه الأسابيع لا يأتي ذهنه سوى الأفكار القاتلة أو الفاحشة. إنه العرض الشائع للغيرة. كان قد أحب إليزابيث حبا روحيا، وعاطفيا لا شك، رغبة في عطفها أكثر من ملامساتها؛ والآن، بعد أن فقدها، صار يعذبه شوق الجسد الشديد الدناءة. لكنه لم يعد يراها مثالية. إنما يكاد يراها الآن على حقيقتها - سخيفة ومتغطرسة وبلا قلب - لكن لم يؤثر هذا في اشتياقه إليها. فهل يحدث هذا أي اختلاف على الإطلاق؟ في الليل حين يضطجع ساهدا، وقد جر فراشه خارج الخيمة من أجل البرودة، وبينما هو يجول ببصره في الظلام المخملي الذي كان يتردد فيه نباح أحد الكلاب أحيانا، كان يكره نفسه للصور التي سكنت عقله. كان شيئا دنيئا جدا أن يحسد رجلا أجدر منه وتفوق عليه. كان ذلك حسدا؛ فحتى الغيرة هي مسمى أفضل بكثير من الشيء الذي يعتريه. وبأي حق يشعر بالغيرة؟ لقد عرض نفسه على فتاة أصغر وأجمل بكثير من أن تناسبه، وقد رفضته عن حق. لقد نال الإهانة التي استحقها. لم يكن حتى ثمة أي استئناف لذلك الحكم؛ فلا شيء مطلقا سيجعله شابا مجددا، أو يمحو وحمته وعقدا من عمره قضاه في الفسق وحيدا. لم يكن في وسعه سوى أن يقف ويشاهد الرجل الأمثل وهو يحصل عليها ويحسده، مثل ... بيد أن التشبيه لم يكن حتى يستحق الذكر. إن الحسد شيء رهيب. إنه غير سائر أنواع المعاناة جميعا في أنه لا سبيل للتستر عليه ولا الارتقاء به إلى مستوى المأساة. إنه ليس مؤلما فحسب، وإنما مقزز أيضا.
لكن في الوقت ذاته هل كان صحيحا ما شك فيه؟ هل صار فيرال حقا حبيب إليزابيث؟ لا سبيل لمعرفة ذلك؛ لأن الأمر إذا كان كذلك، فلن يخفى في مكان مثل كياوكتادا. أغلب الظن أن السيدة لاكرستين كانت ستخمنه، حتى إذا لم يخمنه الآخرون. لكن كان ثمة شيء مؤكد، وهو أن فيرال لم يتقدم للزواج منها حتى الآن. مر أسبوع، أسبوعان، ثلاثة أسابيع؛ ثلاثة أسابيع مدة طويلة جدا في قاعدة هندية صغيرة. كان فيرال وإليزابيث يركبان الخيل معا كل مساء، ويرقصان معا كل ليلة؛ إلا أن فيرال لم يدخل حتى منزل آل لاكرستين قط. بالطبع كانت النميمة عن إليزابيث لا تنقطع. وسلم كل الشرقيين بأنها عشيقة فيرال. كانت رواية يو بو كين للأمر (إذ كان من شأنه أن يكون مصيبا في الأساس حتى حين يخطئ في التفاصيل) أن إليزابيث كانت محظية فلوري وهجرته من أجل فيرال؛ لأن فيرال دفع لها نقودا أكثر. كان إليس أيضا يختلق حكايات حول إليزابيث جعلت السيد ماكجريجور يرتبك. لم تسمع السيدة لاكرستين هذه النميمة، بصفتها قريبتها، لكنها ازدادت قلقا. في كل مساء حين كانت إليزابيث تعود إلى المنزل بعد جولتها كانت تلقاها مستبشرة، متوقعة أن تقول: «يا عمتي! ما رأيك؟!» ثم الخبر السعيد. لكن الخبر لم يأت قط، ولم تستطع التكهن بأي شيء مهما استقرأت وجه إليزابيث بعناية. حين مرت ثلاثة أسابيع توترت السيدة لاكرستين ثم اعتراها بعض السخط في النهاية؛ فقد كان يستحوذ على تفكيرها خاطر أن زوجها بمفرده - أو بالأحرى ليس بمفرده - في المعسكر. فقد تركته يعود إلى المعسكر حتى تعطي إليزابيث فرصتها مع فيرال على أي حال (إلا أن السيدة لاكرستين لم تكن لتعبر عن الأمر بذلك الابتذال). ذات مساء راحت تؤنب إليزابيث وتهددها بأسلوبها الموارب. اقتصرت المحادثة على حوار منفرد من التنهدات تخللته فترات توقف طويلة جدا - إذ لم تحر إليزابيث جوابا مطلقا.
بدأت السيدة لاكرستين ببعض الملحوظات العامة، في إشارة إلى صورة في مجلة «تاتلر»، عن أولئك الفتيات المعاصرات المتسرعات اللواتي يرتدين ملابس البحر وما إلى ذلك ويجعلن أنفسهن رخيصات رخصا بغيضا مع الرجال. قالت السيدة لاكرستين إن الفتاة لا بد ألا تجعل نفسها شديدة الرخص مع الرجل أبدا؛ وإنما لا بد أن تجعل نفسها ... لكن مضاد «الرخيص» على ما يبدو هو «الباهظ»؛ وذلك لم يبد مناسبا مطلقا، لذلك غيرت السيدة لاكرستين مسارها. راحت تخبر إليزابيث عن خطاب جاءها من الوطن بمزيد من الأخبار عن تلك الفتاة المسكينة جدا التي ظلت في بورما فترة من الوقت وتجاهلت الزواج في حماقة شديدة. كانت تعاني معاناة مفجعة، وهذا بالتأكيد يثبت كم لا بد أن تكون الفتاة مقبلة على الزواج من أي شخص، أي شخص حرفيا. تبين أن الفتاة العزيزة المسكينة البائسة قد فقدت وظيفتها وظلت تتضور جوعا فعليا لمدة طويلة، بعدها اضطرت إلى العمل خادمة عادية في مطبخ تحت إمرة طاهية فظة الطباع بغيضة تستأسد عليها بأسلوب مروع للغاية. وبدا أن الخنافس السوداء في المطبخ كانت فوق الوصف تماما! ألا ترى إليزابيث أن الأمر فظيع أشد الفظاعة؟ خنافس سوداء!
لاذت السيدة لاكرستين بالصمت بعض الوقت، لتترك الخنافس السوداء ترسخ في ذهنها، قبل أن تقول: «إنه لمن المؤسف حقا أن السيد فيرال سيغادرنا حين يبدأ سقوط الأمطار. سوف تبدو كياوكتادا خاوية تماما من دونه!»
قالت إليزابيث بلا مبالاة بقدر ما استطاعت: «ومتى تسقط الأمطار في العادة؟» «في أول يونيو تقريبا هنا. بعد أسبوع أو أسبوعين فقط من الآن ... يبدو من السخافة أن أذكر الأمر مجددا يا عزيزتي، لكنني لا أستطيع أن أبعد عن ذهني صورة تلك الفتاة المسكينة البائسة وهي في المطبخ بين الخنافس السوداء!»
تكرر ذكر الخنافس السوداء أكثر من مرة في حديث السيدة لاكرستين فيما تبقى من المساء. لكنها انتظرت حتى اليوم التالي لتقول بنبرة شخص يذكر خبرا غير مهم: «بالمناسبة، أعتقد أن فلوري سوف يعود إلى كياوكتادا في بداية يونيو. لقد قال إنه سيشارك في الجمعية العمومية للنادي. ربما من الممكن أن ندعوه للعشاء ذات يوم.»
كانت هذه المرة الأولى التي تذكر فيها أي منهما فلوري منذ اليوم الذي أتى فيه بجلد النمر لإليزابيث. بعد أن ظل شبه منسي لعدة أسابيع، عاد لذهن كل من المرأتين كملاذ أخير موحش.
بعد ثلاثة أيام أرسلت السيدة لاكرستين رسالة إلى زوجها ليعود إلى كياوكتادا. كان قد مكث في المعسكر طويلا بما يكفي ليستحق قضاء فترة في المقر. وقد عاد بوجه متورد أكثر من ذي قبل - وهو ما فسره على أنه سفعة شمس - وأصابت يديه رعشة شديدة حتى إنه صار بالكاد يستطيع إشعال سيجارة. إلا أنه احتفل برجوعه ذلك المساء بأن تحايل على السيدة لاكرستين حتى تخرج من المنزل، ودخل مخدع إليزابيث وأقدم على محاولة محمومة لاغتصابها.
طوال هذا الوقت كان ثمة فتنة أخرى قائمة، لا يعلم بها أي أحد من الأشخاص ذوي الأهمية؛ إذ إن «الساحر» (الذي كان بعيدا الآن، يبيع حجر الفلاسفة لقرويين سذج في بلدة مرطبان) كان قد أدى مهمته أفضل قليلا مما انتوى. وعلى أي حال كان ثمة احتمال أن تنشأ مشكلة جديدة؛ ربما بعض الغضب البعيد اليائس. حتى يو بو كين لم يكن يعلم شيئا عنه بعد. لكن كالعادة كانت الآلهة تحارب في صفه، فأي تمرد سيجعل الأول يبدو أكثر خطورة مما كان؛ ومن ثم يضيف إلى مجده.
الفصل الحادي والعشرون
متى تهبين أيتها الرياح الغربية حتى تهطل بهبوبك الأمطار الخفيفة؟ كان الأول من يونيو، يوم الجمعية العمومية، ولم تكن قطرة مطر قد سقطت بعد. حين مضى فلوري في ممشى النادي كانت شمس العصر، التي مالت أشعتها تحت حافة قبعته، لا تزال حامية، حتى إنها سفعت عنقه حتى ضاق بها. جاء البستاني مترنحا على الممشى، وقد لزجت عضلات صدره بالعرق، حاملا صفيحتي كيروسين مملوءتين بالمياه على خشبة مستعرضة على كتفيه. ألقى بهما على الأرض، فأراق القليل من الماء على قدميه السمراوين النحيلتين، وحيا فلوري. «قل لي يا أيها البستاني، هل ستسقط الأمطار؟»
أشار الرجل بغموض في اتجاه الغرب وقال: «لقد حجبتها التلال يا سيدي.»
كانت كياوكتادا شبه مطوقة بالتلال، وكانت شآبيب المطر تعلق بهذه التلال، لدرجة أنه أحيانا كانت لا تسقط الأمطار حتى آخر يونيو. كانت تربة أحواض الزهور، التي جرفت لكتل ضخمة مبعثرة، تبدو رمادية وصلبة مثل الخرسانة. ذهب فلوري إلى قاعة الجلوس ووجد ويستفيلد يتسكع لدى الشرفة، مرسلا نظره إلى النهر؛ إذ كانت الأستار قد رفعت. أسفل الشرفة استلقى غلام على ظهره في الشمس، وراح يشد حبل المروحة بكعب رجله مظللا وجهه بشق عريض من ورقة موز. «مرحبا يا فلوري! لقد صرت نحيلا للغاية.» «وأنت أيضا.» «هممممم، نعم. إنه الطقس اللعين. ليس لدي شهية إلا للشراب. يا إلهي، كم أتوق إلى سماع الضفادع حين تبدأ النقيق! هيا نتناول شرابا معا قبل مجيء الآخرين. يا أيها الساقي!»
قال فلوري حين أتى الساقي بالويسكي والصودا الفاترة: «هل تعلم من الذي سيأتي للاجتماع؟» «المجموعة بأسرها على ما أعتقد. لقد عاد لاكرستين من المعسكر منذ ثلاثة أيام. لقد استمتع هذا الرجل أيما استمتاع بعيدا عن زوجته! فقد كان المفتش يخبرني بما يجري في معسكره. كانت تأتيه أعداد كبيرة من المومسات. لا بد أنه جلبهن خصيصا من كياوكتادا. سوف يلقى عقابا شديدا حين ترى زوجته فاتورة النادي. فقد أرسلت اثنتا عشرة زجاجة ويسكي إلى معسكره في أسبوعين.» «هل سيأتي الشاب فيرال؟» «لا؛ فهو عضو مؤقت. إنه لم يكن ليهتم بالحضور على أي حال، ذلك التافه الصغير. ماكسويل أيضا لن يأتي. يقول إنه لا يستطيع مغادرة المعسكر بعد. وأرسل رسالة قال فيها إن إليس سينوب عنه في حالة إجراء تصويت. لكنني لا أعتقد أنه سيكون هناك شيء للتصويت عليه، صحيح؟» أردف قوله هذا وهو يرمق فلوري بنظرة مواربة؛ إذ تذكر كلاهما مشاجرتهما السابقة بشأن هذا الموضوع. «أعتقد أن الأمر يتوقف على ماكجريجور.» «ما أعنيه هو أن من الأحرى بماكجريجور أن يتغاضى عن هذا الهراء اللعين بشأن انتخاب عضو من أهل البلد، أليس كذلك؟ ليس هذا بالوقت المناسب لذلك. بعد التمرد وما إلى ذلك.»
قال فلوري: «صحيح، ما الذي جرى في التمرد؟» فلم يرد أن يبدأ المشاحنة بشأن انتخاب الطبيب من الآن. فقد أراد أن يتجنب المتاعب بضع دقائق «هل من أخبار جديدة؟ هل تعتقد أنهم سيحاولون محاولة أخرى؟» «لا، لقد انتهى الأمر تماما، على ما أخشى. لقد نكصوا نكص الجبناء. صارت المنطقة بأسرها هادئة مثل مدرسة لعينة للفتيات. شيء محبط للغاية.»
وجف قلب فلوري إذ سمع صوت إليزابيث في الحجرة المجاورة. في هذه اللحظة دخل السيد ماكجريجور، يتبعه إليس والسيد لاكرستين. بهذا اكتمل النصاب، فلم يكن لعضوات النادي حق التصويت. كان السيد ماكجريجور مستعدا يرتدي بذلة حرير ويحمل دفاتر حسابات النادي تحت إبطه. وبهذا استطاع أن يضفي مظهرا شبه رسمي حتى على أمر بسيط مثل اجتماع النادي.
قال السيد ماكجريجور بعد تبادل التحيات المعتادة: «حيث إننا جميعا هنا كما يبدو، فسوف ... آه ... نباشر أعمالنا.»
قال ويستفيلد وهو يجلس: «تفضل.»
قال السيد لاكرستين: «فليناد أحدكم الساقي بحق المسيح. أخاف أن تسمعني زوجتي وأنا أناديه.»
قال السيد ماكجريجور بعد أن رفض تناول الشراب وأخذ كل من الآخرين واحدا: «أعتقد أنكم تريدون مني مراجعة حسابات نصف العام قبل أن نستغرق في جدول الأعمال؟»
لم يكونوا راغبين في ذلك على وجه التحديد، لكن راح السيد ماكجريجور يراجع كل الحسابات بدقة متناهية؛ إذ كان يستمتع بهذا النوع من الأشياء. أما فلوري فقد هامت به أفكاره. فبعد قليل سينشب شجار شديد، ويا له من شجار خطير! فسوف يسخطون حين يلاقونه يقترح اسم الطبيب بعد كل ما كان. وكانت إليزابيث في الحجرة المجاورة. استحالة ألا تسمع الشجار حين ينشب. وسوف تزداد احتقارا له على احتقارها حين ترى الآخرين وهم يوبخونه. هل سيراها هذا المساء؟ هل ستتحدث معه؟ أخذ يحدق في النهر اللامع الذي امتد على مساحة ربع ميل. كان على الضفة البعيدة رهط من الرجال، ارتدى أحدهم عمامة خضراء، منتظرين بجانب زورق. وفي قناة عند الضفة القريبة، كان ثمة صندل هندي رديء الصنع ضخم الحجم يسير ببطء يائس وهو يشق طريقه بصعوبة ضد التيار السريع. مع كل ضربة كان المجذفون العشرة، الدرافيديون المهزولون، يتقدمون إلى الأمام وينزلون بمجاذيف بدائية بشفرات على شكل قلوب، في الماء. كانوا يشدون قاماتهم الهزيلة، ثم يتراجعون بمشقة، وقد شدت أجسامهم وتلوت، مثل كائنات معذبة من مطاط أسود، فيتقدم جسم الصندل الثقيل ياردة أو ياردتين. بعد ذلك كان المجذفون يثبون إلى الأمام، وهم يلهثون، لينزلوا بمجاذيفهم مرة أخرى في الماء قبل أن يكبح التيار الصندل.
قال السيد ماكجريجور بنبرة أكثر جدية: «والآن سنأتي إلى النقطة الرئيسية في جدول الأعمال. وهي بالطبع تلك ... آه ... المسألة البغيضة، التي أخشى أنه لا بد من مواجهتها، بشأن اختيار عضو من أهل البلد لهذا النادي. حين ناقشنا المسألة قبل ذلك ...» «ماذا بحق الجحيم!»
كان إليس هو من قاطع الحديث، وكان منفعلا للغاية حتى إنه هب واقفا . «ماذا بحق الجحيم! لا شك أننا لن نخوض في هذا الأمر مجددا. تتحدث عن اختيار زنجي لعين لهذا النادي، بعد كل ما حدث! يا إلهي، أعتقد أن فلوري نفسه قد تغاضى عن الأمر الآن.» «يبدو صديقنا إليس متفاجئا. أعتقد أن المسألة نوقشت من قبل.» «أعتقد أنها كانت نوقشت بالفعل من قبل! وكلنا قلنا رأينا فيها. بالله ...»
قال السيد ماكجريجور بحلم: «أرجو أن يجلس صديقنا إليس قليلا.»
جلس إليس على مقعده مرة أخرى، وهو يهتف قائلا: «هراء لعين!» كان فلوري يشاهد وراء النهر مجموعة من البورميين على زورق، وهم يحملون عليه لفة طويلة غريبة الشكل. في نفس الوقت أخرج السيد ماكجريجور خطابا من ملف أوراقه. «ربما من الأحرى أن أفسر كيف استجدت هذه المسألة في المقام الأول. أخبرني المفوض أن الحكومة كانت قد أرسلت نشرة دورية، تقترح فيها أن على النوادي التي ليس فيها أعضاء من أهل البلد أن تختار عضوا واحدا على الأقل؛ أي تقبله تلقائيا. وتقول النشرة ... آه أجل! ها هي: «إنها سياسة خاطئة أن توجه الإهانات الاجتماعية إلى مسئولين رفيعي المكانة من أهل البلد.» فلتسمحوا لي أن أقول إنني أختلف معهم قطعيا. لا شك أننا جميعا كذلك. نحن من نؤدي الأعمال الفعلية للحكومة نرى الأشياء بشكل مختلف جدا عن هؤلاء ... آه ... البرلمانيين أمثال باجيت الذين يتدخلون في أعمالنا من مواقعهم البعيدة. يتفق المفوض معي تماما. إلا أن ...»
قاطعه إليس وقال: «لكن هذا كله هراء لعين! ما علاقة المفوض أو أي شخص آخر بالأمر؟ لا شك أننا نستطيع أن نفعل ما يحلو لنا في نادينا اللعين. ليس من حقهم أن يملوا علينا ما نفعله خارج العمل.»
قال ويستفيلد: «بالضبط.» «لقد استبقتني. فقد أخبرت المفوض أنني لا بد أن أطرح المسألة على سائر الأعضاء. واقترح هو المسار التالي: إذا لاقت الفكرة أي تأييد في النادي فهو يرى أن من الأفضل أن نختار عضوا من أهل البلد. أما إذا كان النادي بأسره ضدها فمن الممكن إغفالها. أي إذا كان القرار بإجماع الآراء.»
قال إليس: «حسنا، إن الإجماع تام قطعا.»
قال ويستفيلد: «هل تقصد أن الأمر يتوقف على ما إذا كنا نقبل بهم هنا أم لا؟» «أعتقد أن بإمكاننا اعتبار الأمر كذلك.» «حسنا، لنقل إذن إننا نرفضه فردا فردا.» «ولنقل ذلك بحزم شديد بحق الرب. نريد أن ننتهي من هذه المسألة بصفة نهائية.»
قال السيد لاكرستين بصوت أجش: «لا فض فوك! لنبعد الأراذل السود عنه. روح الجماعة وتلك الأشياء.»
كان السيد لاكرستين ممن يمكن أن يعول عليه دائما من أجل الآراء العاقلة في موقف كهذا. كان في أعماقه لا يكترث ألبتة للراج البريطاني، بل ولم يأبه له قط، وكان لا يبالي سواء احتسى شرابه مع شرقي أو مع رجل أبيض؛ لكنه كان دائما على استعداد لترديد: «لا فض فوك!» بصوت عال متى اقترح أحدهم قرع خادم قليل الأدب بالخيزرانة أو إلقاء دعاة القومية في الزيت المغلي. كان يفتخر بأنه قد يسكر قليلا وما إلى ذلك، لكن ليكن، فقد كان وطنيا. كانت هذه هي صورته للاحترام. شعر السيد ماكجريجور في باطنه بشيء من الارتياح إزاء الاتفاق العام. فإذا اختير عضو شرقي، لا بد أن يكون ذلك العضو هو الدكتور فيراسوامي، وقد صار يداخله شك كبير تجاه الطبيب منذ الهروب المريب لنجا شوي أو من السجن.
قال السيد ماكجريجور: «هل أعتبركم جميعا متفقين إذن؟ إذا كان الأمر كذلك فسأخبر المفوض. إن لم يكن كذلك فلا بد أن نبدأ مناقشة المرشح للعضوية.»
هنا نهض فلوري واقفا؛ إذ كان عليه أن يقول كلمته. شعر كأن قلبه قد صعد إلى حلقه وبدأ يخنقه. كان واضحا مما قاله السيد ماكجريجور أن في وسعه ضمان اختيار الطبيب بأن يقول كلمته. لكن يا له من أمر شديد الضجر والإزعاج! يا للضجة اللعينة التي ستترتب على ذلك! كم تمنى لو أنه لم يعد الطبيب بذلك قط! لكن لا جدوى، فقد وعده، ولا يمكنه أن يحنث بوعده. منذ زمن قصير جدا كان سيحنث به، لكونه سيدا إنجليزيا صالحا، وبأي سهولة! لكن ليس الآن. عليه أن يثابر حتى النهاية. وقف مواربا حتى تكون وحمته مخفية عن الآخرين، وقد شعر مسبقا بأن صوته صار رتيبا وشاعرا بالإثم. «هل لدى صديقنا فلوري شيء ليقترحه؟» «نعم. أقترح اختيار الدكتور فيراسوامي عضوا في هذا النادي.»
تصاعدت صيحة استياء شديدة من الثلاثة الآخرين، حتى إن السيد ماكجريجور اضطر لأن يطرق على الطاولة بشدة ليذكرهم أن السيدات كن في الحجرة المجاورة. لكن لم يلق إليس بالا ألبتة، وهب واقفا مرة أخرى، وقد صار الجلد حول أنفه رماديا تماما. ظل هو وفلوري يواجه كل منهما الآخر كأنهما على وشك الاشتباك بالأيدي. «هلا سحبت ما قلته يا أيها الوضيع اللعين؟» «لا، لن أسحبه.» «أيها الخنزير القذر! يا فتى الزنوج المخنث! أيها الوغد اللعين، الخبيث الدنيء.»
صاح ماكجريجور: «نظام!»
صاح إليس بعينين تكادان أن تذرفا الدموع: «انظر إليه، انظر إليه! يخذلنا جميعنا من أجل زنجي أكرش! بعد كل ما قلناه له! في حين أننا لا بد أن نتكاتف جميعا معا حتى نبعد زهمة الثوم عن هذا النادي إلى الأبد. يا إلهي، ألا يجعلكم تجهرون بما يعتمل في صدوركم أن تروا شخصا يتصرف مثل ذلك؟»
قال ويستفيلد: «تراجع يا عزيزي فلوري! لا تكن شديد الحماقة!»
قال السيد لاكرستين: «هذه بلشفية بحتة، سحقا!» «هل تظنون أنني آبه لما تقولون؟ ما دخلكم بالأمر؟ القرار قرار ماكجريجور.»
قال السيد ماكجريجور مغتما: «إذن هل أنت ... آه ... متمسك بقرارك؟» «نعم.»
تنهد السيد ماكجريجور وقال: «يا للأسف! حسنا، أعتقد أنني ليس لدي خيار ...»
صاح إليس وهو يتوثب غضبا: «لا، لا، لا! لا ترضخ له! لنطرح الأمر للتصويت. وإن لم يضع ذلك الوغد كرة سوداء مثلنا سنطرده هو نفسه من النادي أولا، ثم ... حسنا! أيها الساقي!»
مثل الساقي وقال: «سيدي!» «أحضر صندوق الاقتراع والكرات. انصرف الآن!» أضاف ذلك تقريبا في نفس الوقت الذي امتثل فيه الساقي للأمر.
كان الهواء قد صار راكدا؛ فقد توقفت المروحة عن العمل لسبب ما. وقف السيد ماكجريجور يبدو عليه الاستنكار لكن مع الاحتفاظ بسمت الحكم ، فأخرج من صندوق الاقتراع درجي الكرات السوداء والكرات البيضاء. «لا بد أن نبدأ بالترتيب. يقترح السيد فلوري اختيار الدكتور فيراسوامي، الجراح المدني، عضوا لهذا النادي. إنه مخطئ خطئا كبيرا من وجهة نظري؛ لكن! قبل أن نطرح الأمر للتصويت.»
قال إليس: «لماذا الإطالة في الأمر؟ ها هي مشاركتي! ومشاركة أخرى عن ماكسويل.» ألقى بكرتين سوداوين في الصندوق، ثم استحوذت عليه إحدى نوبات غضبه المفاجئ، فأخذ درج الكرات البيضاء ورماها على الأرض، فطارت في شتى الاتجاهات. «هيا! التقط واحدة إذا كنت تريد استخدامها!» «أيها الأحمق اللعين! ماذا تظن جدوى ما تفعله؟» «سيدي!»
توجسوا جميعا ونظروا حولهم. كان الغلام يحملق فيهم من فوق سور الشرفة، بعد أن تسلق إليها من أسفل. تشبث بالسور بإحدى ذراعيه النحيلتين وبالأخرى أشار تجاه النهر وهو يقول: «سيدي! سيدي!»
تساءل ويستفيلد: «ما الأمر؟»
اتجهوا جميعا إلى النافذة. كان الزورق الذي رآه فلوري في النهر موجودا عند الضفة عند نهاية الحديقة. وكان الرجل البورمي ذو العمامة الخضراء يخرج منه.
قال إليس بصوت مختلف تماما: «هذا أحد حراس الغابات التابعين لماكسويل! يا إلهي! لقد حدث شيء ما!»
رأى حارس الغابة السيد ماكجريجور فحياه متعجلا شارد الذهن ورجع إلى الزورق. خرج وراءه أربعة رجال آخرون، فلاحون، وبمشقة حملوا إلى البر اللفة الغريبة التي كان فلوري قد رآها من بعيد. كان طولها ست أقدام، ملفوفة بقطع قماش مثل المومياء. شعر كل منهم بشيء في أعماق نفسه. نظر حارس الغابة إلى الشرفة، فرأى أنه لا يوجد مطلع، فقاد الفلاحين في الممشى إلى واجهة النادي. كانوا قد رفعوا اللفة على أكتافهم مثل حملة النعش. كان الساقي قد هرع إلى حجرة الجلوس مرة أخرى، وقد بهت وجهه هو الآخر - أي صار رماديا.
قال السيد ماكجريجور بحدة: «أيها الساقي!» «سيدي!» «اذهب سريعا وأغلق باب حجرة لعب الأوراق. وأبقها مغلقة. لا تدع السيدات يشاهدن الأمر.» «حسنا يا سيدي!»
عبر البورميون بحملهم الممر متثاقلين. حين دخلوا تعسر أولهم وكاد يقع؛ إذ كان قد وطئ إحدى الكرات البيضاء المبعثرة على الأرض. جثا البورميون، وأنزلوا حملهم على الأرض ووقفوا حوله يبدو عليهم تبجيل غريب، منحنين قليلا، وقد ضم كل منهم كفيه معا. جلس ويستفيلد على ركبتيه، وأزاح القماش.
قال لكن من دون دهشة كبيرة: «يا إلهي! فلتنظروا إليه! انظروا إلى الصغير المسكين!»
كان السيد لاكرستين قد انسحب إلى الطرف الآخر من الحجرة، وهو يتفوه بعبارات التذمر. كان الجميع منذ اللحظة التي وضعت فيها اللفة على البر يعرفون ما الذي تحتوي عليه. كانت جثة ماكسويل، وقد تمزقت أشلاء بسيوف اثنين من أقارب الرجل الذي كان قد أطلق عليه النار.
الفصل الثاني والعشرون
أثار موت ماكسويل صدمة بالغة في كياوكتادا. وسوف يثير صدمة في جميع أرجاء بورما، وسيظل الناس يتحدثون عن القضية - قضية كياوكتادا، هل تتذكرونها؟ - لسنوات بعد نسيان اسم الشاب المسكين. إلا أنه لم يأس عليه أحد بشكل شخصي بحت. فقد كان ماكسويل شخصا بلا أهمية - مجرد «رفيق طيب» مثل أي واحد من سائر عشرة آلاف من الرفاق الطيبين بحكم لونهم في بورما - من دون أصدقاء مقربين. لكن هذا لا يعني أنهم لم يكونوا غاضبين. بل على النقيض، فقد كادت تثور ثائرتهم في ذلك الوقت. فقد وقع ما لا يغتفر؛ لقد قتل رجل أبيض. وحين يحصل هذا، تسري رجفة في أبدان الإنجليز في الشرق. قد يقتل ثمانمائة شخص سنويا في بورما؛ هم بلا أهمية؛ أما مقتل رجل أبيض فهو فعل بشع وانتهاك للمقدسات. سوف يؤخذ بثأر ماكسويل المسكين، كان هذا يقينا. لكن لم يذرف الدمع لوفاته سوى خادم أو اثنان، وحارس الغابة الذي أحضر جثته والذي كان محبا له.
من ناحية أخرى، كان من العجيب أن هناك من سره الأمر، ولم يكن هذا سوى يو بو كين.
قال يو بو كين لما كين: «إنها هبة حقيقية من السماء! أنا نفسي ما كنت لآتي ترتيبا أفضل من ذلك. ما كنت أحتاجه حتى يأخذوا التمرد الذي خططت له على محمل الجد هو القليل من إراقة الدماء. وها قد حصل! الحقيقة يا ما كين أنني كل يوم أزداد يقينا أن ثمة قوة عليا تعمل لصالحي.» «إنك مجرد من الحياء حقا يا كو بو كين! لا أدري كيف تجرؤ على التفوه بمثل تلك الأشياء. ألا ترتعب من أن تحمل ذنب مقتل شخص؟» «ماذا! أنا؟ ذنب مقتل شخص؟ ما الذي تتحدثين عنه؟ إنني لم أقتل حتى دجاجة طيلة حياتي.» «لكنك المستفيد من مقتل هذا الفتى التعيس.» «أستفيد منه! سأستفيد منه بالتأكيد! قطعا، ولما لا؟ هل أنا المسئول ما دام شخص آخر اختار أن يرتكب جريمة قتل؟ إن الصياد يصطاد السمك، فيحكم عليه باللعنة على فعلته. لكن هل يحكم علينا نحن باللعنة لتناول السمك؟ بالتأكيد لا. لماذا لا نأكل السمك ما دام ميتا؟ لا بد أن تدرسي الأسفار بإمعان أكثر يا عزيزتي كين كين.»
أقيمت الجنازة في الصباح التالي، قبل الإفطار. كان الأوروبيون جميعا حاضرين، ما عدا فيرال، الذي كان يعدو في الميدان كدأبه تماما، في الجهة المقابلة تقريبا للجبانة. تلا السيد ماكجريجور مراسيم الجنازة، ووقفت جماعة الرجال الإنجليز الصغيرة حول القبر، قبعاتهم في أياديهم، يتصببون عرقا في بذلاتهم السوداء التي استخرجوها من أعماق صناديقهم. راحت أشعة الصباح القاسية تضرب وجوههم من دون رحمة، وقد بدت أكثر اصفرارا من ذي قبل على الملابس الرثة القبيحة. بدت كل الوجوه متغضنة ما عدا وجه إليزابيث، وكان الدكتور فيراسوامي الطيب ونفر من الشرقيين حاضرين، لكنهم نأوا بأنفسهم تأدبا في الخلفية. كان في الجبانة الصغيرة ستة عشر شاهد قبر؛ لموظفي شركات أخشاب، ومسئولين، وجنود قتلوا في اشتباكات منسية. «تخليدا لذكرى جون هنري سباجنال، الذي كان يعمل في شرطة الهند الإمبراطورية، والذي مات بالكوليرا أثناء عمله الدءوب من أجل ... إلخ.»
كانت ذكريات فلوري عن سباجنال باهتة؛ إذ كان قد مات على نحو مفاجئ جدا بعد إصابته بالهذيان الارتعاشي للمرة الثانية. في إحدى الزوايا كانت قبور الأوروبيين الآسيوين، بصلبانها الخشبية. كسا كل شيء في الجبانة نبات الياسمين المتسلق، بزهوره الصغيرة ذات القلب البرتقالي. وبين الياسمين انتشرت جحور كبيرة للجرذان مؤدية إلى القبور.
اختتم السيد ماكجريجور مراسيم الجنازة بصوت عميق وقور، وتقدم الآخرين في الخروج من الجبانة، حاملا قبالة بطنه خوذته الرمادية، المقابل الشرقي للقبعة العالية الخاصة بالمناسبات الرسمية. تلكأ فلوري عند البوابة، آملا أن تتحدث إليزابيث إليه، لكنها مرت به دون أن تنظر إليه. لقد نبذه الجميع ذلك الصباح. كان في موقف مخز؛ فحادثة القتل جعلت ما ارتكبه من خيانة الليلة الماضية يبدو بشعا بشكل ما. قبض إليس على ذراع ويستفيلد، وتوقفا بجوار المقبرة، حيث أخرجا علبتي سجائرهما. وقد استطاع فلوري أن يسمع صوتيهما السوقيين عبر القبر المفتوح. «يا إلهي يا ويستفيلد، يا إلهي، كلما خطر لي ذلك ال... الصغير المسكين وهو راقد ميتا. يا إلهي! كم يغلي دمي! لم أستطع النوم طوال الليل، كنت مغتاظا للغاية.» «أتفق معك أنه أمر شنيع للغاية. لكن لا تقلق، أعدك أن يعدم اثنان لقاء ما حدث. قتيلان مقابل قتيل، سنفعل ما بوسعنا.» «اثنان! لا بد أن يكونوا خمسين! لا بد أن نقيم الأرض ونقعدها حتى يعدم هؤلاء الرجال. هل عرفتم أسماءهم؟» «نعم، بالطبع! المنطقة اللعينة بأسرها تعرف من الجاني. إننا دائما ما نعرف الجناة في هذه القضايا. المشكلة الوحيدة هي حمل أهل القرية الملاعين على الكلام.» «حسنا، فلتحملهم على الكلام هذه المرة بحق الرب. ولا تأبه للقانون اللعين. أوسعهم ضربا حتى يعترفوا، عذبهم، افعل أي شيء. إذا احتجت إلى رشوة أي شهود، فإنني على استعداد لإعطائك بعض المال.»
تنهد ويستفيلد وقال: «أخشى أننا لا نستطيع فعل مثل تلك الأشياء. ليتنا نستطيع. يعرف رجالي كيف يرهبون الشاهد متى أمرتهم بذلك. بربطهم بكثيب للنمل. بالفلفل الأحمر. لكن هذا لن ينفع الآن. لا بد أن نلتزم بقوانيننا الغبية الملعونة. لكن لا تقلق، سوف يشنق أولئك الرجال بلا شك. فلدينا كل الأدلة التي نحتاج إليها.» «حسن! إذا لم تستطع إدانتهم، عند إلقاء القبض عليهم، أطلق عليهم النار، أطلق عليهم النار حقا! ادع أنهم كانوا سيفرون أو شيء من هذا القبيل. إن أي شيء أفضل من ترك أولئك الأوغاد طلقاء.» «لا تخف، لن يصيروا طلقاء. سوف نقبض عليهم. سنقبض على شخص ما، على أي حال. أن تعدم الشخص الخطأ أفضل كثيرا من ألا تعدم أحدا.» أردف قوله هذا، في اقتباس غير واع.
قال إليس وهما يبتعدان عن القبر: «أحسنت قولا! لن أنام مستريح البال ثانية حتى أراهم معلقين في المشنقة. رباه! هيا نبتعد عن هذه الشمس! أكاد أموت من الظمأ.»
كان الكل يتعذب من العطش، نوعا ما، لكن لم يكن من تمام اللياقة أن يذهبوا إلى النادي لاحتساء الشراب بعد الجنازة مباشرة. هكذا افترق الأوروبيون إلى منازلهم، بينما راح عمال النظافة الأربعة بفئوسهم يلقون بالتراب الرمادي الشبيه بالأسمنت في القبر مرة أخرى، وشكلوه في ركام غير مستو.
بعد الإفطار، سار إليس إلى مكتبه، حاملا في يده خيزرانة، وقد اشتد وهج الحر لدرجة تعمي العيون. كان إليس قد تحمم وغير ملابسه فارتدى قميصا وسروالا قصيرا، فقد عاد إليه الطفح الجلدي بأبشع صوره لارتدائه بذلة ثقيلة مع أنه كان لساعة فقط. أما ويستفيلد فكان قد خرج، في زورقه البخاري، مع مفتش ونفر من الرجال، للقبض على القتلة. وكان قد أمر فيرال بمصاحبته، ليس لأن وجود فيرال كان ضروريا، لكن لأنه يحسن بذلك الوضيع الصغير أن يؤدي القليل من العمل، كما قال ويستفيلد.
أخذ إليس يلوي كتفيه؛ فقد كاد الطفح الجلدي لديه يفوق قدرته على الاحتمال. وكان الغضب يفور بداخله كأنه شراب الحنظل. كان قد ظل طوال الليل يتفكر فيما حدث. لقد قتلوا رجلا أبيض، قتلوا رجلا أبيض، الأراذل الملاعين، الخنازير السفلة الجبناء! الخنازير، الخنازير، كم لا بد أن يعانوا على ما اقترفوه! لماذا وضعوا هذه القوانين المتساهلة اللعينة؟ لماذا نرضخ لأي شيء؟ ماذا لو كان هذا قد حدث في مستعمرة ألمانية، قبل الحرب! الألمان الرجال الأشداء! كانوا يعرفون كيف يعاملون الزنوج. بالهجمات الانتقامية! وسياط من جلود الخرتيت! كانوا يغيرون على قراهم، ويقتلون مواشيهم، ويحرقون محاصيلهم، ويبيدونهم، ويقذفونهم من المدافع.
نظر إليس محدقا في شلالات الضوء الرهيبة المتدفقة من خلال الفجوات في الأشجار. كانت عيناه الضاربتان للون الأخضر متسعتين ويملؤهما الحزن. مر به رجل بورمي هادئ المحيا في منتصف العمر، حاملا خيزرانة ضخمة، كان ينقلها من كتف إلى الآخر في امتعاض أثناء مروره بإليس. هنا أحكم إليس قبضته على عصاه. ليت ذلك الخنزير يعتدي عليك، أو حتى يسبك، أي شيء، حتى يكون لك الحق أن تضربه! ليت هؤلاء الأوغاد الرعاديد يبدون استعدادا للقتال بأي طريقة ممكنة ولو مرة! بدلا من التسلل خلفك، ملتزمين بالقانون حتى لا تتسنى لك الفرصة للانتقام منهم مطلقا. ليت تمردا حقيقيا يقوم، فتعلن الأحكام العرفية من دون رحمة! جرت في ذهنه صور دموية جميلة؛ أهل البلد وهم مكومون في تلال يصرخون ألما، والجنود يذبحونهم، ويطلقون عليهم النيران، ويطئونهم بالخيل، فتدهس حوافرها أمعاءهم حتى تخرج من أجسادهم، ويمزعون وجوههم إربا بالسياط!
جاء على الطريق خمسة طلاب في المدرسة الثانوية يسيرون جنبا إلى جنب. رآهم إليس قادمين، صف من الوجوه الصفراء الحاقدة، وجوه مخنثة، ناعمة نعومة كريهة ونضرة، تبتسم له ابتسامة عريضة بصفاقة متعمدة. أرادوا في قرارة أنفسهم أن يستفزوه، لكونه رجلا أبيض. من المرجح أن يكونوا قد سمعوا بحادثة القتل، واعتبروها انتصارا، لكونهم وطنيين، مثل كل طلبة المدارس. افترت ثغورهم عن ابتسامات عريضة في وجه إليس أثناء مرورهم به. كانوا يحاولون إثارة غيظه صراحة، مدركين أن القانون في صفهم. شعر إليس بصدره يعلو، فقد كان منظر وجوههم وهي تسخر منه مثل صف من الصور الصفراء يثير الحنق، فتوقف عن السير فجأة. «مهلا! علام تضحكون يا أيها الرعاع الصغار؟»
التفت الصبية. «قلت علام تضحكون بحق الجحيم؟»
رد أحد الصبية بوقاحة، لكن ربما جعلته لغته الإنجليزية الركيكة يبدو أكثر وقاحة مما قصد. «ليس من شأنك.»
مرت لحظة لم يدر إليس خلالها ما الذي كان يفعله. في تلك اللحظة شن هجوما عنيفا بكل ما أوتي من قوة، فهوت العصا، طاخ، على عيني الصبي مباشرة. ارتد الصبي صارخا، وفي نفس الآونة ألقى الأربعة الآخرون بأنفسهم على إليس. لكنه كان أشد من أن يقدروا عليه؛ إذ أبعدهم عنه ووثب متراجعا، وهو يضرب بعصاه بعنف شديد حتى إنه لم يجرؤ أحد منهم على الاقتراب. «الزموا أماكنكم أيها ال...! ابتعدوا وإلا أقسم بالله أن أصيب واحدا آخر منكم!» رغم أنهم كانوا أربعة فقد كان هو مهيبا للغاية حتى إنهم تدافعوا متراجعين في ذعر. أما الصبي الذي أصيب فقد خر على ركبتيه مغطيا وجهه بذراعيه، وهو يصرخ: «لقد عميت! لقد عميت!» استدار الأربعة الآخرون بغتة وانطلقوا نحو كومة من اللاتريت المستخدم في إصلاح الطرق، كانت على بعد عشرين ياردة. ظهر أحد كتبة إليس في شرفة المكتب وراح يتوثب في توتر. «اصعد يا سيدي، اصعد في الحال. سوف يقتلونك!»
مع أن إليس كان يحتقر الفرار، فقد اتجه نحو سلم الشرفة. طارت في الهواء كتلة من اللاتريت وتحطمت على العمود، فهرع الكاتب إلى الداخل. أما إليس فظهر في الشرفة ليواجه الصبية، الذين كانوا في الأسفل، يحمل كل منهم ملء يده لاتريت، وهو يقهقه من السعادة.
جعل يصيح فيهم من أعلى: «أيها الزنوج الصغار الأقذار الملاعين! لقد تفاجأتم هذه المرة، أليس كذلك؟ اصعدوا هذه الشرفة وتعاركوا معي، أنتم الأربعة! لا تجرءون. أربعة أمام واحد لكنكم لا تجرءون على المواجهة! هل تحسبون أنفسكم رجالا؟ أيها الجرذان الصغار الوضعاء الحقراء!»
ثم تحول إلى اللغة البورمية ناعتا إياهم بأبناء الخنازير المسافحين. كانوا طوال ذلك الوقت يقذفونه بكتل من اللاتريت، بيد أن أذرعهم كانت كليلة فلا يرمون بمهارة. وكان هو يتفادى الحجارة، وكلما أخطأته واحدة قهقه انتصارا. بعد قليل تصاعدت صيحات آتية من أول الطريق؛ إذ كان الصوت قد سمع في قسم الشرطة، فخرج بعض الكونستابلات ليروا ما الأمر، وهنا ولى الصبية الفرار منطلقين، تاركين إليس منتصرا تماما.
كان إليس قد استمتع بالعراك من كل قلبه، لكنه استشاط غضبا بمجرد انتهائه، وكتب رسالة شديدة اللهجة إلى السيد ماكجريجور، أخبره فيها أنه قد اعتدي عليه اعتداء همجيا وأنه يريد القصاص. وأرسل معها إلى مكتب السيد ماكجريجور اثنين من الكتبة شهدا الواقعة، وساعيا، ليؤكدوا صحة القصة. وقد كذبوا في انسجام تام. «هاجم الصبية السيد إليس من دون أي استثارة على الإطلاق، وقد دافع عن نفسه ... إلخ.» لكن حتى لا نظلم إليس، لا بد من القول بأنه ربما صدق أن هذه هي الرواية الصحيحة للقصة. انزعج السيد ماكجريجور إلى حد ما، وأمر الشرطة بالعثور على التلاميذ الأربعة واستجوابهم. إلا أن الصبية كانوا متوقعين أن يقع شيء من هذا القبيل، فاحتجبوا بعيدا عن الأنظار؛ وقد ظلت الشرطة تفتش البازار طوال اليوم دون أن تعثر عليهم. في المساء أخذ الصبي المصاب إلى طبيب بورمي استطاع أن يعميه بأن دهن عينه اليسرى بخليط سام من الأوراق المسحوقة.
التقى الأوروبيون في النادي كالمعتاد ذلك المساء، ما عدا ويستفيلد وفيرال، اللذين لم يعودا بعد. كان الكل متكدر المزاج. كان وقوع الهجوم غير المبرر على إليس (فقد كان ذلك هو الوصف المقبول له)، بعد حادثة القتل مباشرة، مما أثار فزعهم بقدر ما أغضبهم. وجعلت السيدة لاكرستين تردد نغمة: «سوف نقتل ونحن نائمون.» لكي يهدئ السيد ماكجريجور من روعها أخبرها أن في حالات اندلاع التمرد دائما ما تحبس السيدات الأوروبيات داخل السجن حتى ينتهي كل شيء؛ غير أنه لم يبد أنها أطمأنت كثيرا لذلك. تعامل إليس مع فلوري بجفاء، وكادت إليزابيث أن تتجاهله تمام التجاهل. كان قد جاء إلى النادي ولديه أمل مجنون أن ينهي خلافهما، لكن سلوكها جعله في غاية من الحزن حتى إنه ظل أغلب المساء متواريا في المكتبة. ظل الحال هكذا حتى الساعة الثامنة حين تناول كل منهم عددا من المشروبات فصار الجو أكثر ألفة بعض الشيء، وقال إليس: «ما رأيكم لو أرسلنا بعض الغلمان إلى منازلنا حتى ترسل لنا وجبات العشاء هنا؟ يمكننا أيضا أن نلعب بعض أدوار البريدج. أفضل من الخمول في المنزل.»
السيدة لاكرستين التي كانت خائفة من العودة إلى المنزل، تلقفت الاقتراح. كان الأوروبيون أحيانا ما يتناولون العشاء في النادي حين يريدون السهر. استدعي اثنان من الغلمان، وحين أخبرا بما كان مطلوبا منهما، انفجرا في البكاء في الحال. بدا أنه كان لديهما يقين أنهما إذا صعدا طريق التل سيقابلان شبح ماكسويل. هكذا أرسل البستاني بدلا منهما. حين مضى الرجل لاحظ فلوري أن القمر كان بدرا مرة أخرى؛ مضت أربعة أسابيع بالتمام منذ ذلك المساء، الذي صار الآن بعيدا بعدا تعجز الكلمات عن وصفه، حين قبل إليزابيث تحت شجرة الياسمين الهندي.
كانوا قد جلسوا للتو إلى طاولة البريدج، وكانت السيدة لاكرستين قد انسحبت لتوها من اللعب بسبب التوتر الشديد، حين أتاهم صوت ارتطام قوي فوق السقف. فزع الكل ونظروا إلى الأعلى.
قال السيد ماكجريجور: «سقطت ثمرة جوز هند!»
قال إليس: «لا يوجد أي شجر جوز هند هنا.»
في اللحظة التالية وقعت أشياء متعددة في نفس الوقت. دوى صوت انفجار آخر أعلى كثيرا من الأول؛ إذ سقط أحد المصابيح الجاز عن خطافه، وتحطم على الأرض، قاب قوسين أو أدنى من السيد لاكرستين، الذي قفز متحاشيا إياه وهو يصيح، فيما راحت السيدة لاكرستين تصرخ، وهرع الساقي إلى الحجرة، عاري الرأس، وقد امتقع وجهه فصار بلون القهوة الرديئة. «سيدي، سيدي! جاء رجال أشرار! أتوا ليقتلونا جميعا يا سيدي!» «ماذا؟ رجال أشرار؟ ماذا تقصد؟» «كل أهل القرية بالخارج يا سيدي! في أياديهم عصي كبيرة وسيوف، وكلهم مهتاجون! سيذبحون رقاب السادة يا سيدي!»
تراجعت السيدة لاكرستين مرتمية على كرسيها، وظلت تطلق صرخات عالية حتى إنها غطت على صوت الساقي.
قال إليس بحدة، ملتفتا إليها: «فلتلزمي الصمت! أنصتوا جميعا! أنصتوا لذلك الصوت!»
تصاعد من الخارج صوت همهمات عميق خطير، مثل دمدمة عملاق غاضب. حين سمعه السيد ماكجريجور، الذي كان قد وقف، تسمر وثبت نظارته على أنفه كمن يتأهب للعراك. «هذا نوع من الشغب! التقط المصباح أيها الساقي. انتبهي إلى زوجة عمك يا آنسة لاكرستين. تأكدي إذا كانت قد أصيبت. وليأت بقيتكم معي!»
توجهوا جميعا إلى الباب الأمامي، الذي كان قد أغلقه أحد الأشخاص، غالبا الساقي. كان وابل من الحصى الصغير يقع عليه محدثا ضجة مثل سقوط البرد. وقد ثبط الصوت السيد لاكرستين عن عزمه فتراجع وراء الآخرين.
وقال: «اللعنة، فليتربس أحدكم الباب اللعين!»
قال السيد ماكجريجور: «لا، لا! لا بد أن نخرج. من المهلك ألا نواجههم!»
فتح الباب وقدم نفسه لهم بجسارة من أعلى السلم. كان في الممشى نحو عشرين بورميا، في أياديهم إما سيوف وإما عصي. وخارج السور، على امتداد الطريق في الجهتين وحتى الميدان كان حشد ضخم من الناس. كان كأنه بحر من الناس، ألفان على الأقل، جعله ضوء القمر يبدو أبيض في أسود، وقد لمعت في مواضع شتى منه سيوف معقوفة. وقف إليس بهدوء بجانب السيد ماكجريجور، واضعا يديه في جيوبه. أما السيد لاكرستين فقد اختفى.
رفع السيد ماكجريجور يده إيذانا بالصمت. ثم صاح بصرامة وقال: «ما الهدف من هذا؟»
تصاعدت صيحات، وطارت من على الطريق كتل من اللاتريت بحجم كرات الكريكيت، لكنها لم تصب أحدا لحسن الحظ. استدار أحد الرجال الذين على الطريق ولوح بذراعه للآخرين، هاتفا ألا يبدءوا القذف بعد. ثم تقدم لمخاطبة الأوروبيين. كان رجلا متين البنيان طلق المحيا في نحو الثلاثين من العمر، ذا شارب مقوس لأسفل، يرتدي قميصا تحتانيا، وإزارا مثنيا حتى ركبتيه.
قال السيد ماكجريجور مرة أخرى: «ما القصد من هذا؟»
تحدث الرجل بابتسامة مبشرة، وأسلوب ليس بالغ الوقاحة. «لم نأت لنتشاجر معك يا سيدي. لقد جئنا من أجل تاجر الأخشاب، إليس.» (نطقه إليت) «فالصبي الذي ضربه هذا الصباح فقد بصره. لا بد أن ترسل إلينا إليت، حتى نستطيع أن نعاقبه. أما بقيتكم فلن يمسكم أذى.»
قال إليس من فوق كتفه لفلوري: «فلتتذكر وجه ذلك الشخص. سنحبسه سبع سنوات على ذلك لاحقا.»
امتقع السيد ماكجريجور فصار قرمزيا تماما لبرهة من الوقت؛ كان سخطه بالغا حتى كاد يختنق به. ظل بضع لحظات لا يقوى على الكلام، وحين تكلم تكلم بالإنجليزية. «من تظن نفسك مخاطبا؟ لم أسمع طوال عشرين عاما وقاحة هكذا! اذهبوا في الحال وإلا استدعيت الشرطة العسكرية!» «من الأفضل أن تسرع أيها السيد. نعلم أنه لا يوجد عدالة لنا في محاكمكم، لذلك لا بد أن نعاقب إليت بأنفسنا. أرسله إلينا هنا. وإلا جعلناكم جميعا تبكون على ذلك.»
قام السيد ماكجريجور بحركة عصبية بقبضته، كأنه يدق مسمار، وهتف، متلفظا بأول سباب له منذ عدة سنوات: «اذهب يا ابن الكلب!»
تعالى هدير مدو من الطريق، وانهمرت الحجارة بغزارة، حتى أصابت الكل، وفيهم البورميون الواقفون في الممشى. أصابت إحدى الأحجار السيد ماكجريجور مباشرة، حتى إنها كادت توقعه. فر الأوروبيون إلى الداخل سريعا وأوصدوا الباب. تهشمت نظارة السيد ماكجريجور وتدفق الدم من أنفه. حين عادوا إلى قاعة الجلوس وجدوا السيدة لاكرستين متشنجة على إحدى الأرائك مثل حية في حالة هيستيرية، والسيد لاكرستين واقفا في حيرة في وسط الحجرة، حاملا زجاجة فارغة، والساقي جاثيا في الزاوية، يؤدي علامة الصليب (فقد كان روميا كاثوليكيا)، والغلمان يبكون، وإليزابيث وحدها هادئة، مع أنها كانت شاحبة جدا.
هتفت حين رأتهم قائلة: «ماذا حدث؟»
فقال إليس بغضب، وهو يتحسس قفاه حيث أصابه أحد الأحجار: «إننا في مأزق، هذا ما حدث! البورميون يحيطون بنا من كل ناحية، يقذفوننا بالصخور. لكن الزموا الهدوء! فليس لديهم الشجاعة لاختراق الأبواب.»
قال السيد ماكجريجور بألفاظ غير واضحة؛ لأنه كان يوقف نزيف أنفه بمنديله: «استدع الشرطة في الحال!»
قال إليس: «غير ممكن! لقد نظرت في الأنحاء حين كنت تتحدث إليهم. لقد حاصرونا، محق الله أرواحهم اللعينة! لا يمكن لأحد أن يصل إلى صفوف الشرطة على الإطلاق. مقر فيراسوامي مليء بالرجال.» «لا بد أن ننتظر إذن. يمكننا أن نأمل أن يدبروا من تلقاء أنفسهم. فلتهدئي يا عزيزتي السيدة لاكرستين. أرجوكي أن تتمالكي أعصابك! الخطر هين جدا.»
لم يبد الخطر هينا، فلم يعد الضجيج يتوقف، وبدا أن البورميين كانوا يتوافدون على المجمع بالمئات. وعلا الصخب بغتة حتى لم يعد من الممكن سماع صوت أحد إلا بالصياح. أغلقت كل النوافذ التي في قاعة الجلوس، ووضعت بعض المصاريع الزنك الداخلية ذات الثقوب، التي كانت تستخدم أحيانا لإبعاد الحشرات، وأوصدت. توالت سلسلة من أصوات التكسير؛ إذ تحطمت النوافذ، ثم انهالت الحجارة بلا توقف من جميع النواحي، فرجت الجدران الخشبية الرفيعة وبدا من المرجح أن تكون قد تصدعت. فتح إليس أحد المصاريع ورمى زجاجة بعنف على الحشد، لكن اندفع ساعتها عشرة أحجار فاضطر أن يغلق المصراع سريعا. بدا أن البورميين لم يكن لديهم خطة سوى رمي الحجارة والهتاف والطرق على الجدران، لكن حجم الضوضاء وحده كان مثيرا للأعصاب. وقد أصاب الأوروبيين شيء من الذهول في البداية. لكن لم يفكر أي منهم في إلقاء اللوم على إليس، المسئول الوحيد عن هذا الأمر؛ فقد بدا بالطبع أن الخطر الذي تهددهم جميعا قد قارب بينهم لبعض الوقت. وقف في وسط الحجرة السيد ماكجريجور، الذي كان في عمى جزئي من دون نظارته، في حيرة من أمره، تاركا يده اليمنى للسيدة لاكرستين، التي أخذت تمسدها، بينما تشبث أحد الغلمان باكيا بساقه اليسرى. أما السيد لاكرستين فقد اختفى مرة أخرى. وراح إليس يذرع الحجرة جيئة وذهابا وهو يدبدب بقدميه، ثم لوح بقبضته في اتجاه صفوف الشرطة.
وصاح غير آبه لوجود نساء: «أين الشرطة، أولئك الأراذل الجبناء الملعونون؟ لماذا لم يظهروا؟ يا إلهي، لن تواتينا فرصة أخرى كهذه ولو بعد مائة عام! لو كان لدينا عشر بنادق فقط هنا، لكنا استطعنا أن نفتك بأولئك الأوغاد!»
أجابه السيد ماكجريجور هاتفا: «سيأتون في الحال! اختراق ذلك الحشد سيستغرق بضع دقائق.» «لماذا لا يستخدمون بنادقهم مع أولئك الأوغاد الوضعاء؟ فبإمكانهم إرداؤهم في أكوام من الجثث إذا فتحوا عليهم النار فحسب. يا إلهي، كيف يضيعون فرصة كهذه!»
اخترقت كتلة من الصخور أحد المصاريع الزنك، وتبعتها أخرى من خلال الثقب الذي أحدثته، وحطمت إحدى صور «الجرو بونزو»، وارتدت، فجرحت مرفق إليزابيث، ثم سقطت أخيرا على الطاولة. تعالت صيحة انتصار من الخارج، ثم تلتها سلسلة خبطات شديدة على السطح؛ إذ كان بعض الأطفال قد تسلقوا الأشجار وأخذوا يلهون بالتزحلق على السطح على مؤخراتهم. وعندئذ تفوقت السيدة لاكرستين على نفسها بأن أتت صرخة طغت على الجلبة التي بالخارج بمنتهى البساطة.
صاح إليس: «فليكتم أحدكم صوت تلك الشمطاء الكريهة! يظن السامع أن ثمة خنزير يقتل. لا بد أن نفعل شيئا. تعال يا فلوري أنت وماكجريجور. فليفكر أحد في مخرج من هذا المأزق!»
على حين غرة خارت أعصاب إليزابيث وأجهشت بالبكاء؛ إذ كانت قد جرحت حين أصابها الحجر. وقد دهش فلوري حين وجدها وقد تشبثت بذراعه بشدة، وهو ما جعل قلبه يتوثب حتى في تلك اللحظة. كان قد ظل يشاهد الموقف بشبه لا مبالاة، مرتبكا من الجلبة دون شك، لكن من دون خوف بالغ؛ إذ طالما وجد صعوبة في الاعتقاد بأن الشرقيين قد يكونون مؤذين بحق. ولم يدرك خطورة الموقف إلا حين شعر بيد إليزابيث على ذراعه. «أرجوك يا سيد فلوري، فلتفكر في شيء أرجوك! فإنك تستطيع، إنك تستطيع! افعل أي شيء قبل أن يتمكن أولئك الرجال المريعون من الدخول إلى هنا!»
قال السيد ماكجريجور بامتعاض: «ليت بإمكان واحد منا الوصول إلى صفوف الشرطة! ضابط بريطاني ليقتادهم بعيدا! لا بد أن أحاول وأذهب بنفسي في أسوأ الأحوال.»
صاح إليس: «لا تكن مغفلا! لن ينوبك سوى الذبح! سوف أذهب إذا أوشكوا على الاقتحام بحق. آه من أن يقتلني خنزير مثل أولئك! كم يثير ذلك حنقي! كم يثير حنقي أنه كان بإمكاننا قتل الحشد اللعين بأسره لو كان باستطاعتنا أن نأتي بالشرطة هنا!»
صاح فلوري يائسا: «ألا يستطيع أحد السير بمحاذاة ضفة النهر؟» «لا جدوى! المئات منهم يجوسون الأنحاء. لقد تقطعت بنا السبل؛ البورميون من ثلاث جهات والنهر من جهة!» «النهر!»
انبثقت في ذهن فلوري واحدة من تلك الأفكار المدهشة التي يتجاهلها المرء فقط لكونها بديهية جدا. «النهر! بالطبع! يمكننا أن نصل إلى صفوف الشرطة بمنتهى السهولة. هل تعلمون ذلك؟» «كيف؟» «عن طريق النهر، في الماء! بالسباحة!»
هتف إليس: «أحسنت يا رجل!» وخبطه على كتفه. واعتصرت إليزابيث ذراعه وكادت ترقص تهللا. صاح إليس: «سأذهب إذا أردت!» لكن فلوري هز رأسه، وكان قد شرع يخلع حذاءه. كان جليا أنه لم يعد هناك وقت ليضيعوه؛ فقد ظل البورميون يتصرفون مثل الحمقى حتى ذلك الوقت، لكن لا أحد يعلم ماذا قد يحدث إذا تمكنوا من اقتحام النادي. استعد الساقي الذي كان قد تغلب على ذعره الأول، وفتح النافذة المؤدية إلى الحديقة، وألقى نظرة سريعة في الخارج وقد تنحى جانبا. كان عدد البورميين في الحديقة بالكاد عشرين. فقد تركوا خلفية النادي دون حراسة، مفترضين أن النهر سيقطع خط الرجعة.
صاح إليس في أذن فلوري: «انطلق في الحديقة بأسرع ما يمكن! سوف يتفرقون بلا شك حين يرونك.»
وصاح السيد ماكجريجور من الناحية الأخرى: «مر الشرطة بأن تفتح النيران في الحال! لديك تفويض مني بذلك.» «واطلب منهم أن يصوبوا على أهداف منخفضة! لا أن يطلقوا النار في الهواء. وإنما يصيبون ليقتلوا. في الأمعاء مثلا.»
قفز فلوري من الشرفة، فتألمت قدماه من الأرض الصلبة، وبعد ست خطوات كان لدى ضفة النهر. وقد حدث ما قاله إليس له؛ إذ تراجع البورميون عند رؤيته وهو يهبط قافزا. تبعته عدة أحجار، لكن لم يذهب في أثره أحد، لا ريب أنهم اعتقدوا أنه كان يحاول الفرار فقط، كما أنهم استطاعوا أن يروا في ضوء القمر الساطع أنه ليس إليس. خلال لحظة أخرى كان قد شق طريقه خلال الشجيرات وصار في الماء.
غاص فلوري عميقا فتلقفه القاع المخيف للنهر، وابتلعه حتى ركبتيه حتى إنه لم يستطع أن يحرر نفسه قبل عدة ثوان. حين عاد إلى السطح تجمع حول شفتيه زبد فاتر، مثل الرغوة التي تتجمع على الجعة، ودخل حلقه شيء إسفنجي وراح يخنقه. كان ذلك عود أحد نباتات زنبق الماء. استطاع أن يبصقه، ثم وجد أن التيار السريع كان قد جرفه عشرين ياردة بالفعل. كان البورميون يجرون بلا هدف نوعا ما في أنحاء الضفة، وهم يتصايحون. لم يستطع فلوري، وعيناه في مستوى الماء، أن يرى الحشد وهم يحاصرون النادي لكنه استطاع أن يسمع هديرهم العميق الخبيث، الذي بدا أعلى حتى مما كان على الشاطئ. بحلول الوقت الذي صار فيه أمام خطوط الشرطة العسكرية بدت الضفة شبه خاوية من الرجال. تمكن من انتزاع نفسه بمشقة من التيار والخوض متعثرا في الوحل الذي ابتلع جوربه الأيسر. على بعد مسافة قصيرة من الشاطئ كان ثمة رجلان عجوزان جالسان بجانب سور، يشحذان أعمدته، كأن ليس هناك شغب على بعد مائة ميل منهما. زحف فلوري إلى البر، وتسلق السور وركض متثاقلا عبر ساحة العروض العسكرية البيضاء بلون القمر، وقد تهدل سرواله المبتل. بقدر ما أتاحت له الضوضاء أدرك أن الصفوف كانت خاوية تماما. كانت خيول فيرال تتقافز في ذعر في بعض المرابط على اليمين. فخرج فلوري إلى الطريق ركضا، ورأى ما حدث.
كان جهاز الشرطة بأسره، العسكرية والمدنية، نحو مائة وخمسين رجلا في المجمل، قد هاجم الحشد من الوراء، متسلحين بالعصي فقط. كانوا محاصرين تماما. فقد كان الحشد كثيفا للغاية حتى إنه بدا مثل سرب هائل من النحل يمور ويدور. كان يبدو للعيان في كل مكان رجال الشرطة وهم محشورون بلا حول ولا قوة بين جحافل البورميين، يقاومون بحدة لكن بلا جدوى، وقد ضاق عليهم الخناق ضيقا حتى استعصى عليهم استخدام عصيهم. تشابكت جماعات كاملة من الرجال مثل تمثال لاوكون وأبنائه بالعمامات المفكوكة. تعالت أصوات السباب بثلاث أو أربع لغات، وسحب من الغبار، وروائح العرق وزهور القطيفة الخانقة، لكن بدا أنه لم يصب أحد إصابة بالغة. لم يستخدم البورميون سيوفهم خوفا من استفزاز الإنجليز لإطلاق النار من بنادقهم. شق فلوري طريقه في الزحام فابتلعه في الحال مثل الآخرين. اكتنفه بحر من الأجساد وراح يتقاذفه من ناحية لأخرى، وهو يخبط ضلوعه ويخنقه برائحته الحيوانية. ظل يقاوم حتى يتقدم يساوره شعور يشبه الحلم؛ إذ كان الموقف في غاية من الغرابة والخيال. كان الشغب بأسره سخيفا من البداية، والأسخف أن البورميين، الذين قد يقتلونه، لم يعلموا ماذا يفعلون به الآن وهو بينهم. هتف بعضهم بالسباب في وجهه، ودفعه البعض الآخر وداسوا على قدميه، بل وحاول البعض أن يفسح له الطريق، لكونه رجلا أبيض. ظل وقتا طويلا جدا عالقا في الزحام، عاجزا، وقد التصق ذراعاه بجانبيه، حتى وجد نفسه يصارع رجلا بورميا قصيرا وبدينا أشد منه بأسا بكثير ، ثم اصطدم به عشرة رجال مثل الموجة وتوغلوا به أكثر في قلب الجموع. شعر فجأة بألم ممض في إصبع قدمه اليمنى الكبير؛ إذ كان قد وطئه شخص يرتدي حذاء برقبة. كان ضابطا هنديا في الشرطة العسكرية، من الأمراء، بدين جدا، بشارب، وبلا عمامة. كان قابضا على عنق أحد البورميين ويحاول ضرب وجهه، فيما انهمر العرق من رأسه العاري الحليق. ألقى فلوري بذراعه حول عنق الضابط الهندي واستطاع أن ينتزعه من خصمه وصاح في أذنه، لكن تاهت منه اللغة الأردية، فصاح بالبورمية وقال: «لماذا لم تطلقوا النار؟»
ظل وقتا طويلا غير قادر على سماع رد الرجل. ثم سمعه: «لم أتلق أوامر بذلك!» «أحمق!»
في هذه اللحظة اصطدم بهما جمع آخر من الرجال، وظلا للحظة أو لحظتين متسمرين في مكانيهما وغير قادرين على الحركة مطلقا. أدرك فلوري أن الضابط كان لديه صفارة في جيبه وكان يحاول الوصول إليها. وأخيرا انتزعها وأطلق بها عدة صفارات حادة، لكن لم يكن ثمة أمل في حشد أي رجال حتى يستطيعوا الوصول إلى مكان خال. كان الخروج من التجمهر عملا مخيفا، أشبه بالخوض حتى عنقك في بحر دبق. في بعض الأحيان كان يسيطر الإنهاك على أطراف فلوري حتى إنه كان يقف بلا حراك، تاركا الجموع توقفه بل وتدفعه إلى الوراء. أخيرا وجد نفسه وقد اندفع خارج الحشد، بفعل التدافع العادي للناس أكثر من جهده هو. كان الضابط قد خرج هو الآخر، وعشرة أو خمسة عشر جنديا، ومفتش شرطة بورمي. جلس أغلب الجنود مقرفصين يكادون يسقطون من التعب، وقد صاروا يعرجون بعد أن وطئت أقدامهم. «هيا، انهضوا! اركضوا بأسرع ما يمكن إلى موقعكم! وليأت كل منكم ببعض البنادق ومشط ذخيرة.»
كان أكثر إرهاقا من أن يتحدث بالبورمية، لكن فهمه الرجال وعرجوا بخطوات ثقيلة في اتجاه موقع الشرطة. وتبعهم فلوري، ليبتعد عن الحشود قبل أن يهاجموه مرة أخرى. حين وصل إلى البوابة كان الجنود قد رجعوا ببنادقهم ويتأهبون بالفعل لإطلاق النار.
قال الضابط الهندي وهو يلهث: «سيعطينا السيد الأمر !»
هتف فلوري بالمفتش قائلا: «أنت! هل تتحدث الهندوستانية؟» «أجل يا سيدي.» «فلتخبرهم إذن أن يطلقوا النار عاليا، فوق رءوس الناس مباشرة. والأهم من ذلك أن يطلقوا النار جميعا معا. اجعلهم يفهمون ذلك.»
تولى المفتش البدين الذي كانت لغته الهندوستانية أسوأ حتى من فلوري، شرح المطلوب، شرحا أغلبه قفز وإيماءات. رفع الجنود بنادقهم، ثم دوى هدير، تردد صداه على جانب التل. اعتقد فلوري من أول وهلة أن أمره قد أغفل؛ إذ سقط القسم الأقرب إليهم من الحشد بالكامل مثل كوم من القش. إلا أنهم كانوا هم من طرحوا أنفسهم أرضا مذعورين. أطلق الجنود وابلا ثانيا من الرصاص، لكن لم يكن ثمة حاجة إليه. فقد كان الحشد قد شرع يتدفق بعيدا عن النادي مثل نهر يغير مساره. تدافع الناس على الطريق، حيث وجدوا الرجال المسلحين معترضين سبيلهم، فحاولوا التراجع، وهنا نشأت معركة جديدة بين من في المقدمة ومن في الخلف؛ في النهاية نفر الحشد بأكمله إلى الخارج وجعلوا يتدفقون على مهل في الميدان. تحرك فلوري والجنود بتمهل في اتجاه النادي في أثر الحشد المتراجع. تخلف رجال الشرطة، الذين كانوا محاصرين، فرادى وأزواجا. كانت عمائمهم قد اختفت وقلاشينهم مجرجرة ورائهم على بعد ياردات، لكن لم يصبهم أذى أخطر من الرضوض. وراح رجال الشرطة المدنية يسحبون عددا قليلا جدا من المسجونين. حين وصلوا إلى مجمع النادي كان البورميون لا يزالون يتدفقون منه، طابور لا ينتهي من الرجال يقفزون برشاقة من خلال فجوة في السور مثل موكب من الغزلان. بدا لفلوري أن الظلام اشتدت حلكته. خلص شخص ضئيل في لباس أبيض نفسه من ذيل الحشد وسقط منهكا بين ذراعي فلوري. كان ذلك هو الدكتور فيراسوامي، وقد تمزقت رابطة عنقه مع أن نظارته ظلت سليمة بمعجزة. «دكتور!» «آه يا صديقي! آه، كم أنا منهك!» «ماذا تفعل هنا؟ هل كنت في قلب ذلك الحشد؟» «كنت أحاول ردعهم يا صديقي. لكن كان دون جدوى حتى جئت أنت. لكن على الأقل هناك من الرجال من يحمل أثر هذه على ما أعتقد.»
ومد قبضته الصغيرة لفلوري ليرى مفاصل أصابعه وقد أصيبت. لكن الظلام كان دامسا بالطبع. في نفس الآونة سمع فلوري صوتا أخنف وراءه. «حسنا يا سيد فلوري، لقد انتهى الأمر تماما الآن! مجرد زوبعة في فنجان كالعادة. أنا وأنت معا تكاثرنا عليهم. ها، ها!»
كان هذا يو بو كين. ذهب نحوهما وقد بدت عليه أمارات المحارب، حاملا هراوة ضخمة، وواضعا مسدسا في حزامه. كان يرتدي لباسا منزليا عن عمد - قميص داخلي وسروال فضفاض - ليعطي الانطباع أنه كان قد هرع من منزله بأقصى سرعة. وهو الذي ظل مختبئا حتى زال الخطر، ثم تقدم مسرعا لاغتنام أي نصيب ممكن من الفضل.
قال متحمسا: «يا له من عمل رائع يا سيدي! انظر كيف يصعدون جانب التل هاربين! لقد دحرناهم على أكمل وجه.»
نهج الطبيب وهو يقول ساخطا: «دحرناهم!» «مهلا عزيزي الدكتور! لم ألحظ أنك كنت هنا. أمن المعقول أنك كنت موجودا أثناء الشجار أيضا؟ أنت تخاطر بحياتك الغالية جدا! من كان يصدق شيئا كهذا؟»
قال فلوري بغضب: «أنت نفسك جئت متأخرا!» «حسنا، حسنا يا سيدي، يكفي أننا فرقناهم، وإن كانوا ...» أردف بقليل من التشفي؛ إذ كان قد لاحظ نبرة فلوري «متجهين صوب منازل الأوروبيين، كما ستلاحظ. أعتقد أنه قد يخطر لهم أن يقوموا بالقليل من أعمال النهب في طريقهم.»
إن الرجل لوقح وقاحة جديرة بالإعجاب. دس يو بو كين هراوته الكبيرة أسفل ذراعه وسار بجانب فلوري بأسلوب شبه متعال، بينما تخلف عنهما الطبيب، وقد تملكه الحرج على رغمه. توقف الرجال الثلاثة عند بوابة النادي. كان الظلام آنذاك حالكا فوق العادة، والقمر مختفيا. على ارتفاع منخفض انسابت غيوم سوداء، بالكاد مرئية، في اتجاه الشرق مثل قطيع من كلاب الصيد. وهبت ريح، تكاد تكون باردة، على جانب التل وكسحت سحابة من الغبار وبخار الماء الخفيف أمامها. وفجأة فاحت رائحة رطوبة قوية للغاية. تسارعت الريح، واهتزت الأشجار، ثم بدأ بعضها يصطدم ببعض بشدة، وأطلقت شجرة الياسمين الهندي سحابة من البراعم بالكاد مرئية. استدار الرجال الثلاثة وهرعوا بحثا عن ملجأ، فذهب الشرقيان إلى منزليهما، وذهب فلوري إلى النادي. إذ كانت السماء قد بدأت تمطر.
الفصل الثالث والعشرون
في اليوم التالي كانت البلدة أهدأ من مدن الكاتدرائيات في صباح يوم الإثنين. دائما ما يكون الحال كذلك بعد اندلاع شغب. باستثناء بضعة مساجين، كان كل شخص مشكوك في ضلوعه في الهجوم على النادي لديه حجة غياب قوية. بدت حديقة النادي كأنما اندفع فيها قطيع من ثيران البيسون، لكن البيوت لم تنهب، ولم يكن ثمة إصابات جديدة بين الأوروبيين، باستثناء أنه قد عثر على السيد لاكرستين بعد انتهاء كل شيء في حالة سكر شديد أسفل طاولة البلياردو؛ حيث أوى مع زجاجة ويسكي. جاء ويستفيلد وفيرال في الصباح الباكر، معهما قاتلا ماكسويل قيد الاعتقال؛ أو بالأحرى معهما شخصان سيعدمان سريعا على جريمة قتل ماكسويل. حين سمع ويستفيلد بخبر الشغب، أصابه غم لكنه سلم بالأمر؛ فقد تكرر الأمر، وقع شغب حقيقي، ولم يكن موجودا ليقمعه! بدا أنه قدره ألا يقتل أحدا أبدا. شيء محبط للغاية. كان تعليق فيرال الوحيد على الأمر أنها كانت «وقاحة شديدة» من جانب فلوري (وهو مدني) أن يعطي أوامر للشرطة العسكرية.
في الوقت ذاته، كانت الأمطار تنهمر بلا توقف. بمجرد أن استيقظ فلوري وسمع دبدبة المطر على السطح ارتدى ملابسه وهرع إلى الخارج، تتبعه فلو. وبعيدا عن مرأى المنازل خلع ملابسه وترك المطر ينضح جسده العاري. فوجئ حين وجد جسده مغطى بالكدمات من الليلة الفائتة؛ بيد أن المطر أزال في بحر ثلاث دقائق كل أثر لطفحه الجلدي. إن لماء الأمطار قوى علاجية رائعة. سار فلوري إلى منزل الدكتور فيراسوامي، يأتي من حذائه صوت طرطشة وتسيل على عنقه من آن لآخر دفقات ماء من حافة قبعته العريضة. كانت السماء رمادية، وراحت عواصف دوارة لا حصر لها تطارد كل منها الأخرى في أنحاء الميدان مثل كتائب الخيالة. مر به بورميون يرتدون قبعات خشبية ضخمة لكن رغم ذلك فقد تدفق الماء من أجسادهم مثل تماثيل الآلهة البرونزية القائمة في فساقي . وكانت هناك شبكة من الجداول التي راحت تجلي أحجار الطريق. كان الطبيب قد عاد إلى المنزل لتوه حين وصل فلوري، وأخذ ينفض مظلته المبتلة من على سور الشرفة. وقد حيا فلوري متحمسا وقال: «اصعد يا سيد فلوري، اصعد في الحال! لقد جئت في الوقت المناسب. كنت على وشك أن أفتح زجاجة أولد تومي جين. اصعد حتى نشرب نخبك، بصفتك منقذ كياوكتادا!»
استغرقا في حديث طويل معا. كان الطبيب يداخله شعور المنتصر؛ فقد اتضح أن ما قد جرى الليلة السابقة قد حل مشكلاته بشبه معجزة. إذ أحبطت مؤامرات يو بو كين؛ ولم يعد الطبيب تحت رحمته، بل صار العكس. أخذ الطبيب يشرح لفلوري قائلا: «الأمر وما فيه يا صديقي أن هذا الشغب - أو بالأحرى تصرفك النبيل للغاية فيه - كان خارج تخطيط يو بو كين. كان قد أثار التمرد المزعوم وفاز بمجد الإطاحة به، وظن أن أي تمرد آخر سيضيف له المزيد من المجد. لقد بلغني أن فرحته حين سمع بمقتل ماكسويل، كانت حقا ...» - ضم الطبيب سبابته وإبهامه معا - «ما الكلمة التي في بالي؟» «فاضحة؟» «نعم؛ فاضحة. يقال إنه كاد يرقص فعلا - هل تتخيل منظرا مقززا كهذا؟ - وهتف: «أقل ما هنالك أنهم الآن سيأخذون التمرد الذي دبرته على محمل الجد!» ذلك هو اعتباره لحياة البشر. أما الآن فقد انتهى انتصاره. لقد تعثر التمرد في منتصف الطريق.» «كيف؟» «لأن الفضل في فض الشغب يرجع إليك وليس إليه، ألا ترى ذلك! ومن المعروف أنني صديقك؛ ومن ثم فإنني أستظل بظل مجدك، إذا جاز التعبير. ألست أنت بطل الساعة؟ ألم يستقبلك أصدقاؤك الأوروبيون بالترحاب حين عدت إلى النادي ليلة أمس؟» «الحق أنهم فعلوا، وقد كان الأمر جديدا تماما لي. حتى السيدة لاكرستين ظلت تحتضنني، وصارت تناديني: «عزيزي السيد فلوري.» وقد صبت جام غضبها على إليس؛ إذ لم تنس أنه نعتها بالشمطاء الكريهة، وطلب منها التوقف عن القبع مثل الخنزير.» «أحيانا ما يكون السيد إليس بالغ الحسم في تعبيراته. لقد لاحظت ذلك.» «العيب الوحيد في الأمر أنني طلبت من الشرطة إطلاق النار فوق رءوس الحشود بدلا من التصويب عليها مباشرة. ويبدو أن ذلك مخالف لكل لوائح الحكومة. وقد اغتاظ إليس قليلا من ذلك، وقال: «لماذا لم تصب بعضا من أولئك الأوغاد حين كان لديك فرصة؟» فأشرت إلى أن هذا كان سيؤدي إلى إصابة الشرطة الذين كانوا في خضم الجمهرة؛ لكن كما قال، ما هم سوى زنوج على أي حال. بيد أنهم غفروا لي كل خطاياي، وأدلى السيد ماكجريجور بشيء باللاتينية، مقتبسا من هوراس، على ما أعتقد.»
بعد ذلك بنصف ساعة سار فلوري وحيدا إلى النادي؛ إذ كان قد وعد بمقابلة السيد ماكجريجور وحسم مسألة انتخاب الطبيب. لكن لن يكون في الأمر صعوبة الآن. فسوف يطاوعه الآخرون حتى ينسى أمر الشغب الغبي؛ وبإمكانه الذهاب وإلقاء خطبة في مدح لينين، وسوف يتقبلونها. انهمرت عليه الأمطار الجميلة، فبللته من رأسه إلى أخمص قدميه، وملأت أنفه برائحة الأرض، التي طواها النسيان خلال شهور الجفاف المريرة. قطع فلوري الحديقة المدمرة؛ حيث انحنى البستاني وتناثر على ظهره العاري ماء المطر، وجعل يحفر حفرا من أجل زهور الزينيا. كانت كل الزهور تقريبا قد دهست حتى الموت. كانت إليزابيث هناك، في الشرفة الجانبية، كأنها كانت تنتظره. خلع هو قبعته، فانسكبت كمية من الماء من حافتها، وانعطف للانضمام إليها.
حياها رافعا صوته بسبب المطر الذي كان يحدث ضجيجا عند سقوطه على السطح المنخفض، وقال: «صباح الخير!» «صباح الخير! أليست الأمطار غزيرة؟ إنها تنهمر بشدة!» «هذه ليست أمطارا حقيقية. انتظري حتى يوليو. سيفيض خليج البنغال كله علينا، على دفعات.»
بدا أنهما يجب ألا يلتقيا أبدا دون أن يكون حوارهما عن الطقس. غير أن وجهها وشى بشيء مختلف اختلافا جذريا عن الكلمات التافهة. بل تغير سلوكها تماما منذ ليلة أمس، لذلك داخلته الشجاعة. «كيف حال الموضع الذي أصابه ذلك الحجر؟»
مدت إليه ذراعها وتركته يمسكها. كان سلوكها رقيقا، بل ووديعا. هنا أدرك أن مأثرته ليلة أمس قد جعلته شبه بطل في عينيها. لم تكن تعلم كم كان الخطر صغيرا في الحقيقة، وسامحته على كل شيء، حتى ما هلا ماي؛ لأنه أظهر شجاعة في اللحظة المناسبة. إنها حادثة الجاموسة والنمر تتكرر مرة أخرى. كان قلبه يدق في صدره، فانزلق بيده على ذراعها وأدخل أصابعه في أصابعها. «إليزابيث ...»
قالت: «سيرانا أحدهم!» وسحبت يدها، لكن غير غاضبة. «لدي شيء أود أن أقوله لك يا إليزابيث. هل تذكرين الخطاب الذي كتبته لك من الغابة، بعد ما جرى بيننا منذ عدة أسابيع؟» «نعم.» «هل تذكرين ما قلته فيه؟» «نعم. آسفة أنني لم أكتب ردا. كل ما هنالك ...» «لم يكن لي أن أتوقع منك الرد حينذاك. أردت فقط أن أذكرك بما قلته.» بالطبع كان جل ما قاله في الخطاب، على استحياء شديد، أنه يحبها، وسوف يظل يحبها أبدا، مهما حدث. كانا واقفين يواجه كل منهما الآخر، مقتربين جدا. باندفاع أخذها بين ذراعيه وضمها إليه، وقد حدث هذا على نحو مفاجئ جدا حتى إنه فيما بعد وجد صعوبة في تصديق أنه حدث على الإطلاق. ظلت مستسلمة للحظة وتركته يرفع وجهها ويقبلها؛ ثم تراجعت فجأة وهزت رأسها. ربما لأنها خشيت أن يراهما أحد، أو ربما لأن شاربه كان مبتلا جدا من المطر فحسب. دون أن تقول أي شيء آخر انفصلت عنه ودخلت النادي مسرعة. كان على وجهها نظرة كدر أو تأنيب ضمير؛ لكنها لم تبد غاضبة.
تبعها إلى النادي ببطء أكثر، فقابل السيد ماكجريجور الذي كان في غاية من انشراح النفس. بمجرد أن رأى فلوري قال بصوت مدو ومزاج مرح: «أها! ها هو البطل المغوار!» ثم هنأه مجددا بأسلوب أكثر جدية. انتهز فلوري الفرصة بأن قال عبارات قليلة في حق الطبيب؛ إذ رسم صورة حية لبسالة الطبيب أثناء الشغب «كان واقفا في خضم الحشد، يقاوم مثل الأسد.» ولم يكن في ذلك الكثير من المبالغة؛ فقد خاطر الطبيب بحياته حقا. وقد انبهر السيد ماكجريجور، وكذلك الآخرون حين سمعوا بالأمر. فدائما ما تستطيع شهادة أوروبي واحد أن تفيد رجلا شرقيا أكثر من شهادة ألف من أهل بلده ؛ وكان رأي فلوري في هذه الآونة له ثقل. هكذا استعاد الطبيب صيته الحسن فعليا، وصار من الممكن الاطمئنان لانتخابه عضوا في النادي.
بيد أنه لم يتأت الاتفاق نهائيا على الأمر بعد؛ لأن فلوري كان بصدد العودة إلى المعسكر. وقد مضى في المساء نفسه، مسافرا ليلا، ولم ير إليزابيث مرة أخرى قبل مغادرته. كان السفر في الغابة آمنا تماما في ذلك الوقت؛ فقد كان من الجلي أن التمرد العقيم قد انتهى. ونادرا ما يأتي أي أحد على ذكر التمرد بعد بدء الأمطار؛ إذ يكون البورميون منشغلين للغاية بالحرث، كما يتعذر خوض مجموعات كبيرة من الناس في الحقول المغمورة بالمياه على أي حال. كان فلوري سيعود إلى كياوكتادا بعد عشرة أيام، عندما تحين زيارة القس التي كان يقوم بها كل ستة أسابيع. الحقيقة أنه لم يرغب أن يكون في كياوكتادا بينما إليزابيث وفيرال هناك. إلا أنه، على ما في ذلك من غرابة، كان قد زال عنه كل الأسى - كل الحسد الفاحش المتغلغل الذي كان يعذبه من قبل - بعد أن عرف أنها قد صفحت عنه. كان فيرال فقط الذي يحول بينهما الآن. باتت حتى صورتها بين أحضان فيرال بالكاد تؤثر فيه؛ لأنه كان يعلم أن العلاقة لا بد أن تنتهي في أسوأ الأحوال. إذ كان من المؤكد تماما أن فيرال لن يتزوج أبدا من إليزابيث؛ فالشبان من عينة فيرال لا يتزوجون من الفتيات المعدمات اللواتي يتعرفون عليهن في قواعد هندية مجهولة. فقد كان يسلي وقته مع إليزابيث ليس إلا. عما قليل سيهجرها، وستعود هي إليه - إلى فلوري، حسبه ذلك - ذلك أفضل كثيرا مما كان يرجوه. ثمة مذلة في الحب الحقيقي، مذلة بغيضة بعض الشيء بشكل ما.
كان يو بو كين مستشيطا غضبا؛ فقد باغته الشغب البائس على حين غفلة، إذا كان ثمة ما يمكن أن يباغته على غفلة مطلقا، وكان بمثابة العقدة في منشار خططه. وهكذا تحتم الشروع مجددا في عملية تشويه سمعة الطبيب. وقد بدأ بلا شك بفيض غزير من الخطابات المجهولة ، حتى إن هلا بي اضطر إلى التغيب عن العمل لأسبوعين كاملين - متعللا بالالتهاب الشعبي هذه المرة - حتى يكتبها. واتهم فيها الطبيب بشتى الجرائم من اللواط إلى سرقة طوابع بريد الحكومة. في ذلك الوقت مثل للمحاكمة السجان الذي سمح بهروب نجا شوي أو. وقد أفرج عنه بانتصار؛ إذ كان يو بو كين قد أنفق حتى مائتي روبية في رشوة الشهود. انهال على السيد ماكجريجور المزيد من الخطابات، تبرهن بالتفاصيل أن الدكتور فيراسوامي، المدبر الحقيقي للهروب، حاول تحويل اللوم عنه إلى مرءوس بلا حول ولا قوة. بيد أن النتائج كانت مخيبة للآمال؛ فقد فتح على البخار الخطاب السري الذي كتبه السيد ماكجريجور إلى المفوض، وكانت نبرته مقلقة للغاية - إذ تحدث السيد ماكجريجور عن الطبيب قائلا إنه «تصرف بمنتهى الشرف في ليلة الشغب» - حتى إن يو بو كين استدعى مجلسا حربيا.
قال يو بو كين للآخرين: «حان الوقت لاتخاذ خطوة حاسمة.» كانوا جالسين في اجتماع سري في الشرفة الأمامية، قبل الإفطار. كان بينهم ما كين وبا سين وهلا بي، والأخير هو فتى مشرق الوجه مبشر بالنجاح في الثامنة عشرة، له سلوك شخص سيفلح يقينا في الحياة.
واصل يو بو كين كلامه فقال: «لقد وصلنا لطريق مسدود؛ وذلك الطريق هو فلوري. من كان يتوقع أن يقف ذلك الجبان التعيس بجانب صاحبه. لكن هذا ما حدث. وما دام هو يدعم فيراسوامي سنظل مغلوبين على أمرنا.»
قال با سين: «لقد تحدثت إلى ساقي النادي يا سيدي، وقد أخبرني أن السيد إليس والسيد ويستفيلد ما زالا لا يريدان انتخاب الطبيب عضوا في النادي. ألا تعتقد أنهما سوف يتشاجران مع فلوري مرة أخرى بعد أن تنسى مسألة الشغب؟» «بالطبع سيتشاجران؛ فإنهما دائما ما يتشاجران. لكن في الوقت ذاته لقد وقع الضرر. فلنفترض أن ذلك الرجل انتخب! سوف أموت من الغيظ حقا إذا حصل ذلك. كلا، لم يتبق أمامنا سوى حل واحد. سوف نهاجم فلوري نفسه.» «فلوري يا سيدي! لكنه رجل أبيض!» «وهل آبه لذلك؟ لقد دمرت رجالا بيضا من قبل. متى ألحقت العار بفلوري، ستكون نهاية الطبيب. وسوف يلحقه العار! سوف أفضحه حتى إنه لن يجرؤ على دخول ذلك النادي ثانية أبدا.» «لكنه رجل أبيض يا سيدي! ما الذي يمكننا اتهامه به؟ من قد يصدق أي شيء ضد رجل أبيض؟» «ليس لديك حس التخطيط يا كو با سين. إنك لا تكيل التهم لرجل أبيض؛ وإنما عليك أن تضبطه متلبسا بالجرم. نفضحه في العلن وهو في حالة تلبس. سأرى كيف سأبدأ الأمر. والآن اصمت بينما أتدبر السبيل لذلك.»
ساد الصمت، ووقف يو بو كين يحدق في المطر عاقدا يديه الصغيرتين وراءه فوق الارتفاع الطبيعي لردفيه. وظل الثلاثة الآخرون يرمقونه من الطرف الآخر للشرفة، خائفين بعض الشيء مما قاله عن الهجوم على رجل أبيض، ومنتظرين ضربة معلم لمواجهة الموقف الذي فاق قدراتهم. كان في المشهد شبه صغير من اللوحة الشهيرة (هل كانت للرسام ميسونيه) لنابليون في موسكو، التي يظهر فيها منكبا على خرائطه بينما مارشالاته منتظرون في صمت، بقبعاتهم المردودة في أياديهم. لكن بالطبع كان يو بو كين أكثر كفاءة للموقف من نابليون. فخلال دقيقتين كانت خطته جاهزة. حين استدار كان وجهه المكتنز تغمره فرحة مفرطة. أخطأ الطبيب حين وصف يو بو كين فقال إنه كان يحاول الرقص؛ فجسم يو بو كين لم يكن ملائما للرقص؛ لكنه لو كان ملائما لذلك، لكان رقص في هذه اللحظة. وقد أشار إلى با سين وجعل يهمس في أذنه لبضع ثوان.
ختم همسه قائلا: «أعتقد أن تلك هي الخطوة المناسبة، أليس كذلك؟»
بطيئة زحفت على وجه با سين ابتسامة عريضة مترددة مرتابة.
أردف يو بو كين متهللا: «خمسون روبية ستغطي كل التكاليف غالبا.»
كشف عن الخطة بالتفصيل. وحين استوعبها الآخرون انطلقت منهم ضحكات مدوية لم يملكوا لها كبتا، كلهم، حتى با سين الذي نادرا ما يضحك، وحتى ما كين التي استنكرت الأمر من أعماق قلبها. كانت الخطة شديدة الإحكام حقا لدرجة يصعب مقاومتها. فقد كانت عبقرية.
استمر هطول الأمطار طوال ذلك الوقت. في اليوم التالي لعودة فلوري إلى المعسكر ظلت تمطر طوال ثمان وثلاثين ساعة متواصلة، أحيانا بطيئة الوتيرة مثل الأمطار الإنجليزية، وأحيانا تنهمر في شلالات حتى يخيل للمرء أن محيطا كاملا قد ارتفع في السحب حتما. كان دق المطر على الأسطح يصير مثيرا للسخط بعد ساعات قليلة. في الفترات بين سقوط الأمطار كانت الشمس تتوهج بشدة كالعادة، ويبدأ الوحل يتشقق ويلتهب، وتنتشر بقع الطفح الجلدي في أنحاء الجسم. وقد خرجت أسراب من الخنافس الطائرة من شرانقها بمجرد بدء الأمطار؛ وتفشت كائنات كريهة معروفة باسم البق المنتن، كانت تغزو المنازل بأعداد مهولة، وتنتشر على موائد الطعام فتجعل الطعام غير قابل للأكل. ظل فيرال وإليزابيث يخرجان لركوب الخيل في المساء، حين لا تكون الأمطار شديدة جدا. كانت كل حالات الطقس سواء لدى فيرال، لكنه لم يكن يروقه أن يرى أمهاره مغطاة بالوحل. مضى نحو أسبوع، ولم يتغير شيء بينهما؛ فلم يزدادا قربا أو تباعدا عما كانا عليه من قبل. وظل عرض الزواج دون أن ينطق، مع أنه ما زال مرتقبا بثقة. ثم وقع أمر أثار الجزع. فقد تسرب خبر إلى النادي، عن طريق السيد ماكجريجور، يفيد بأن فيرال سوف يغادر كياوكتادا؛ كانت الشرطة العسكرية ستبقى في كياوكتادا، لكن مع مجيء ضابط آخر مكان فيرال، دون أن يعلم أحد يقينا متى. صارت إليزابيث في حالة فظيعة من الترقب. لا شك أنه سيقول شيئا قاطعا قريبا ما دام سيرحل؟ لم تكن تستطيع أن تسأله، لم تكن تجرؤ حتى أن تسأله ما إذا كان سيرحل حقا؛ لم يكن بوسعها سوى أن تنتظر أن يتكلم. لكنه لم يقل شيئا. ثم ذات مساء، من دون إنذار، تخلف عن المجيء إلى النادي. ومر يومان كاملان دون أن تراه إليزابيث على الإطلاق.
كان ذلك مروعا، لكن لم يكن باليد حيلة. ظل فيرال وإليزابيث لأسابيع لا يفترقان، لكنهما كانا نوعا ما أشبه بالغرباء؛ إذ كان قد نأى بنفسه جدا عنهم جميعا، فهو لم ير حتى منزل آل لاكرستين من الداخل قط. ولم تكن معرفتهم به وثيقة لدرجة أن يبحثوا عنه في بيت المسافرين، أو يكتبوا له خطابا؛ كما أنه لم يعاود الظهور في الاستعراض الصباحي في الميدان. لم يكن في الإمكان سوى الانتظار حتى يقرر أن يظهر مرة أخرى. وحين يفعل، هل سيطلب منها الزواج؟ قطعا، سيفعل ذلك بالتأكيد! كان لدى إليزابيث وزوجة عمها اعتقاد راسخ أنه سوف يطلب منها الزواج (لكن لم تصرح أي منهما بالأمر في كلامها). تطلعت إلى لقائهما التالي بأمل كاد أن يكون مؤلما. كانت تتضرع إلى الله أن يمنحها أسبوعا على الأقل قبل رحيله! إذا خرجت معه لركوب الخيل أربع مرات أخرى، أو ثلاث مرات، أو حتى مرتين فقط، فقد يئول كل شيء خير مآل. فكانت تدعو الله أن يعود إليها قريبا! لم تتخيل أنه حين يعود سيكون من أجل الوداع فقط! كانت المرأتان تذهبان إلى النادي كل مساء وتمكثان لساعة متأخرة جدا، تتسمعان وقع خطوات فيرال بالخارج وهما تتظاهران بأنهما لا تفعلان ذلك؛ لكنه لم يظهر قط. أما إليس، الذي كان مدركا تماما للموقف، فظل يراقب إليزابيث باستمتاع حاقد. ما زاد الطين بلة أن السيد لاكرستين صار لا يتورع عن مضايقة إليزابيث. لقد أصبح متهورا تماما، فكان يتربص بها، ويقبض عليها، ويشرع في قرصها وملامستها بأسلوب يثير بالغ الاشمئزاز، يكاد لا يأبه لوجود الخدم. وكان دفاعها الوحيد أن تهدده بأنها ستخبر زوجته؛ ولحسن الحظ أنه كان شديد الغباء ليدرك أنها لن تجرؤ على ذلك أبدا.
في الصباح الثالث وصلت إليزابيث وزوجة عمها إلى النادي في الوقت المناسب هروبا من عاصفة ممطرة عاتية. كانتا قد جلستا في قاعة الجلوس بضع دقائق حين سمعتا صوت شخص يدبدب بحذائه لإخراج الماء منه في الممر. اضطرب قلب كل من المرأتين، فهذا قد يكون فيرال. ثم دخل شاب قاعة الجلوس، وهو يفك أزرار معطف مطر طويل. كان شابا جسيما مرحا بليد الذهن في الخامسة والعشرين تقريبا، بوجنتين ممتلئتين نضرتين، وشعر بلون الزبد، وبلا جبهة، وضحكة تصم الآذان كما تكشف فيما بعد.
صدر عن السيدة لاكرستين صوت غير واضح، وقد بدر منها لخيبة أملها. إلا أن الشاب حياهما بألفة وليدة اللحظة، لكونه واحدا من أولئك الذين يخاطبون أي شخص بألفة مبتذلة بمجرد أن يلتقوا به.
قال الشاب: «مرحبا، مرحبا! ها قد دخل أمير الأحلام! أرجو ألا أكون قد تطفلت أو شيء من هذا القبيل؟ هل اقتحمت اجتماعا عائليا أو ما شابه؟»
قالت السيدة لاكرستين مدهوشة: «لا، على الإطلاق!» «أقصد أنني ... خطر لي أن أزور النادي زيارة خاطفة وألقي نظرة، هذا جل ما في الأمر. من أجل التعود على صنف الويسكي المحلي فحسب. لقد وصلت ليلة أمس فقط.»
قالت السيدة لاكرستين في حيرة؛ إذ لم يكونوا يتوقعون أي وافدين جدد: «هل ستقيم هنا؟» «نعم، بالضبط. لحسن حظي بالتأكيد.» «لكننا لم نسمع ... آه، صحيح! أعتقد أنك من قسم الغابات؟ محل السيد ماكسويل المسكين؟» «ماذا؟ قسم الغابات؟ كلا ألبتة! إنني رجل الشرطة العسكرية الجديد.» «ماذا؟» «رجل الشرطة العسكرية الجديد. سأحل مكان العزيز فيرال. فقد تلقى الرجل أوامر بالعودة إلى كتيبته. إنه مغادر في عجلة شديدة. وقد ترك كل شيء في فوضى عارمة للعبد لله.»
مع أن ضابط الشرطة العسكرية كان شابا متبلد الإحساس فقد لاحظ أن وجه إليزابيث صار باهتا فجأة. وقد وجدت نفسها غير قادرة على الكلام بتاتا. ومضت بضع ثوان قبل أن تستطيع السيدة لاكرستين أن تهتف قائلة: «السيد فيرال، يرحل؟ إنه لم يرحل بعد قطعا؟» «يرحل؟ لقد رحل!» «رحل؟» «حسنا، كنت أقصد أن القطار سيتحرك بعد نحو نصف ساعة. لا بد أن يكون قد وصل إلى المحطة الآن. لقد أرسلت فرقة عساكر لترعى احتياجاته. فلا بد أن يسافر بأمهاره وما إلى ذلك.»
ربما كان هناك المزيد من الشروح، لكن لم تسمع إليزابيث ولا زوجة عمها كلمة منها. على أي حال، خلال خمس عشرة ثانية كانتا الاثنتان بالخارج على السلم الخارجي، دون كلمة وداع حتى لضابط الشرطة العسكرية. نادت السيدة لاكرستين على الساقي بحدة. «أيها الساقي! أرسل عربة الريكشا للواجهة في الحال!» وأردفت حين ظهر سائق الريكشا: «إلى المحطة بسرعة!» وبعد أن استقرت جالسة في العربة، وخزته في ظهره بطرف مظلتها ليبدأ التحرك.
كانت إليزابيث قد ارتدت معطفها الواقي من المطر وكانت السيدة لاكرستين ترتعد في العربة خلف مظلتها، لكن لم يكن لأي منهما فائدة كبيرة في مواجهة الأمطار. فقد راحت تهطل عليهم هطولا، حتى إن فستان إليزابيث ابتل قبل أن يبلغوا البوابة، وكادت العربة تنقلب في الريح. أحنى سائق العربة رأسه وراح يقاومها، متذمرا. كانت إليزابيث في حال من العذاب. لقد كان خطأ، كان خطأ يقينا. لقد كتب لها رسالة لكنها ضلت الطريق. كان هذا ما في الأمر، ولا بد أن يكون كذلك! لا يمكن أن يكون قد قصد أن يتركها دون حتى أن يقول لها وداعا! وحتى إن كان كذلك، لا، إنها لن تيأس حتى في هذه الحالة! حين يراها على رصيف المحطة، للمرة الأخيرة، لن تصل به القسوة أن ينبذها! مع اقترابهم من المحطة تخلفت عن العربة وقرصت وجنتيها لتتضرجا حمرة. مرت بهم فرقة من جنود الشرطة العسكرية بخطوات متعجلة، وقد ابتلت بذلاتهم الرسمية الخفيفة حتى صارت أسمالا، يدفعون عربة يد بينهم. لا بد أنهم فرقة العساكر التي كانت مع فيرال. حمدا لله، كان ما زال هناك ربع ساعة. لم يكن القطار سيغادر قبل ربع ساعة أخرى. حمدا لله، على هذه الفرصة الأخيرة لرؤيته على الأقل!
وصلوا الرصيف في الوقت المناسب بالضبط لرؤية القطار وهو يخرج من المحطة وتزداد سرعته بسلسلة من الصيحات تصم الآذان. ناظر المحطة، وهو رجل قصير ممتلئ أسود، كان واقفا على الخط يتطلع إلى القطار بأسف، وقد أمسك قبعة صغيرة مقاومة للماء على رأسه بيد، وباليد الأخرى راح يدرأ رجلين هنديين صاخبين، كانا يتوثبان حوله ويحاولان لفت انتباهه إلى شيء ما. مالت السيدة لاكرستين بجسمها خارج العربة وهتفت بصوت مرتعش في المطر: «يا ناظر المحطة!» «سيدتي!» «أي قطار هذا؟» «إنه قطار ماندالاي يا سيدتي.» «قطار ماندالاي! لا يمكن!» «أؤكد لك ذلك يا سيدتي! إنه قطار ماندالاي لا شك.» تقدم نحوهما، وهو يخلع قبعته. «لكن السيد فيرال، ضابط الشرطة. إنه ليس على متنه بالتأكيد؟» «بلى يا سيدتي، لقد رحل.» وأشار بيده ناحية القطار، الذي كان قد راح يبتعد سريعا في سحابة من الأمطار والبخار. «لكن ميعاد تحرك القطار لم يكن قد حان!» «لا يا سيدتي. كان أمامه عشر دقائق أخرى.» «لماذا تحرك إذن؟»
لوح ناظر المحطة بقبعته معتذرا يمينا وشمالا. وقد بدا على وجهه الأسمر المكتنز أسى بالغ. «أعلم يا سيدتي، أعلم! إنها أول مرة على الإطلاق! فقد أمرني ضابط الشرطة العسكرية الشاب وشدد على أمره أن أبدأ الرحلة! لقد قال إن كل شيء جاهز وإنه لا يريد أن يظل منتظرا. أشرت إلى أنه شيء مخالف للقواعد. فقال إنه لا يأبه لمخالفة القواعد. اعترضت أنا فأصر. بإيجاز ...»
وقام بحركة أخرى قصد بها أن فيرال كان من نوعية الرجال الذين يفرضون إرادتهم، حتى إذا كان في ذلك سفر قطار قبل موعده بعشر دقائق. ساد صمت. وفجأة هرع إليهم الهنديان، معتقدين أنهما وجدا فرصتهما، وأخذا ينوحان، وعرضا على السيدة لاكرستين بعض الدفاتر الحقيرة لتطالعها.
صاحت السيدة لاكرستين بذهن شارد: «ماذا يريد هذان الرجلان؟» «إنهما بائعا كلأ يا سيدتي. يقولان إن الملازم فيرال قد رحل مدينا لهما بمبالغ كبيرة من المال. أحدهما مقابل التبن، والآخر مقابل الذرة. إنه أمر لا يعنيني.»
تصاعدت ضوضاء عن القطار البعيد، الذي دار عند المنعطف، مثل دودة سوداء من الخلف تنظر من فوق كتفها أثناء سيرها، واختفى. رفرف السروال الأبيض المبتل لناظر المحطة بشكل بائس حول ساقيه. ما إذا كان فيرال قد جعل القطار يتحرك مبكرا للهروب من إليزابيث، أو للهروب من بائعي الكلأ، كان سؤالا شائقا لم تتضح إجابته قط.
ذهبوا في طريق العودة، ثم صعدوا بمشقة التل في تلك الرياح الشديدة حتى إنهم كانوا أحيانا يرجعون إلى الوراء عدة خطوات. حين وصلتا إلى الشرفة كانتا تلهثان بشدة. أخذ الخدم معطفيهما اللذين تدفق منهما الماء، ونفضت إليزابيث بعض الماء عن شعرها. كسرت السيدة لاكرستين صمتها لأول مرة منذ غادرتا المحطة وقالت: «حسنا! من بين كل التصرفات الفظة، فهذا هو الأكثر فظاظة، الأشد قبحا ...!»
بدت إليزابيث شاحبة وباهتة، رغم المطر والريح التي ضربت وجهها. لكنها لم تش بشيء.
وإنما قالت بفتور: «أعتقد أنه كان يجدر به أن يودعنا.» «صدقيني يا عزيزتي، إنه في صالحك أنك تخلصت منه ...! كما قلت في البداية، إنه شاب بغيض للغاية!»
بعد ذلك بوقت قصير، بينما كانتا جالستين لتناول الإفطار، بعد أن تحممتا وارتدتا ملابس جافة، وصارتا في حال أفضل، قالت: «أخبريني، أي الأيام اليوم؟» «السبت يا عمتي.» «السبت. إذن هذا المساء سوف يصل القس العزيز. كم سيكون عدد الموجودين في القداس غدا؟ حسنا، أعتقد أننا جميعا سنكون هنا! كم هذا لطيف! سيكون السيد فلوري موجودا هو الآخر. أعتقد أنه قال إنه سوف يعود من الغابة غدا.» ثم أضافت بصوت يكاد ينم عن المحبة: «عزيزي السيد فلوري!»
الفصل الرابع والعشرون
كانت الساعة السادسة مساء تقريبا، حين أخذ يدق الجرس الغبي في البرج الصفيح ذي الستة أقدام للكنيسة كلانك-كلانك، كلانك-كلانك! حين شد ماتو العجوز الحبل من الداخل. كانت أشعة شمس الغروب، التي كسرتها العواصف الممطرة البعيدة، تغمر الميدان بضوء متألق جميل. تساقطت الأمطار في وقت سابق من اليوم، وسوف تمطر مرة أخرى. اجتمعت الطائفة المسيحية في كياوكتادا، وعددها خمسة عشر شخصا، عند باب الكنيسة في انتظار قداس المساء.
كان فلوري هناك بالفعل، والسيد ماكجريجور بقبعته الرمادية وملابسه المعتادة، والسيد فرانسيس والسيد صامويل، اللذان كان يتجولان مبتهجين في بذلتين من قماش الدريل غسلتا لتوهما؛ فقد كان قداس الكنيسة الذي يقام كل ستة أسابيع أهم حدث اجتماعي في حياتهما. القس، الذي كان رجلا طويل القامة ذا شعر أشيب ووجه مهذب حائل اللون، يرتدي نظارة أنف، كان واقفا على سلم الكنيسة في ثوبه الكهنوتي وروبه، اللذين كان قد وضعهما في منزل السيد ماكجريجور. كان يبتسم ابتسامة ودية لكن عاجزة بعض الشيء لأربعة مسيحيين من جماعة الكارين الإثنية في بورما بخدود متوردة كانوا قد جاءوا لينحنوا له تحية؛ فلم يكن يتحدث كلمة من لغتهم ولا يتحدثون هم لغته. كان ثمة مسيحي شرقي آخر، هندي أسمر محزون، من عرق غير محدد، وقف في الخلفية على استحياء. كان حاضرا دائما في قداسات الكنيسة، لكن لم يكن أحد يعلم من هو أو لماذا كان مسيحيا. لا شك أن المبشرين أسروه صغيرا وعمدوه؛ فالهنود الذين يعتنقون المسيحية وهم كبار يرتدون جميعا بلا استثناء تقريبا.
استطاع فلوري أن يرى إليزابيث وهي تنزل التل، ترتدي ثوبا بنفسجيا فاتحا، مع عمها وزوجته. كان قد رآها ذلك الصباح في النادي، تسنت لهما دقيقة فقط بمفردهما قبل مجيء الآخرين. كان قد سألها سؤالا واحدا فحسب. «هل رحل فيرال إلى الأبد؟» «نعم.»
لم يكن هناك حاجة لقول شيء آخر. أمسك ذراعيها ببساطة وجذبها إليه. وقد ذهبت طوعا، بل وبسعادة أيضا، هناك في ضوء النهار الساطع، القاسي على وجهه المشوه. ظلت للحظة متشبثة به تشبثا يشبه الأطفال. كان كأنه قد أنقذها أو حماها من شيء ما. رفع وجهها ليقبلها واندهش حين وجد أنها كانت تبكي. لم يكن هناك وقت للكلام حينذاك، ولا حتى ليسألها: «هل تتزوجينني؟» لا يهم، بعد القداس سيتوفر وقت كاف. وربما يزوجهما القس، في زيارته التالية، بعد ستة أسابيع فقط من ذلك الوقت.
كان إليس وويستفيلد وضابط الشرطة العسكرية الجديد آتين من النادي، حيث احتسوا بضعة مشروبات سريعة ليصمدوا في القداس. كان يتبعهم ضابط الغابات الذي أرسل ليشغل منصب ماكسويل، والذي كان رجلا شاحبا، طويلا، أصلع تماما إلا من خصلتين مثل الشارب أمام أذنيه. لم يتسن لفلوري وقت ليزيد عن قول: «مساء الخير.» لإليزابيث حين وصلت. لما رأى ماتو أن الجميع كانوا حاضرين، توقف عن قرع الجرس، وتقدمهم الكاهن في الدخول، يتبعه السيد ماكجريجور، حاملا قبعته أمام بطنه، وآل لاكرستين والمسيحيون من أهل البلد. قرص إليس فلوري في مرفقه وهمس في أذنه ثملا: «هيا، قف في الصف. حان وقت عرض التباكي. سريعا سر!»
دخل هو والضابط العسكري وراء الآخرين، يتأبط كل منهما ذراع الآخر، بحركات راقصة. ظل ضابط الشرطة يهز عجيزته الممتلئة مقلدا راقصة مهرجان البوي، حتى وصل إلى الداخل. جلس فلوري في نفس المقعد مع هذين الاثنين، في الجهة المقابلة لإليزابيث، إلى يمينها. كانت المرة الأولى على الإطلاق التي يجازف فيها بالجلوس بوحمته في مواجهتها. همس إليس وهم يجلسون، مجترا ضحكة من رجل الشرطة: «أغمضوا عيونكم وعدوا حتى خمسة وعشرين.» كانت السيدة لاكرستين قد اتخذت مجلسها خلف الهارمونيوم، الذي لم يكن أكبر حجما من طاولة الكتابة. أقام ماتو عند الباب وبدأ يسحب المروحة، كانت معدة بحيث تهوي على المقاعد الأمامية فقط؛ حيث يجلس الأوروبيون. جاءت فلو تتشمم الممر، حتى وجدت مقعد فلوري وجلست أسفله، وبدأ القداس.
كان فلوري ينتبه لكن انتباها متقطعا. كان بالكاد واعيا بالوقوف والركوع والتمتمة «آمين» على الصلوات اللامتناهية، وبإليس وهو يلكزه ويهمس بسباب المقدسات من خلف كتاب التراتيل. لكنه كان في غاية السعادة لدرجة العجز عن لملمة أفكاره. فقد رد الجحيم يوريديس. كان الضوء الأصفر يفيض من خلال الباب المفتوح، ويطلي بالذهب الظهر العريض لمعطف السيد ماكجريجور الحرير كأنه قماش منسوج من الذهب. كانت إليزابيث، وهي على الجانب الآخر من الممر الضيق، قريبة جدا من فلوري حتى إنه استطاع سماع كل حفيف لفستانها ويشعر، كما هيئ له، بدفء جسدها؛ إلا أنه لم يجرؤ على النظر إليها ولو مرة، خيفة أن يلاحظ الآخرون. راح الهارمونيوم يطلق أنغاما متهدجة كالمصاب بالتهاب الشعب الهوائية والسيدة لاكرستين تحاول جاهدة أن تضخ إليه هواء كافيا بالدواسة الوحيدة السليمة. وكان الغناء جلبة متنافرة غريبة؛ صدحا جادا من السيد ماكجريجور، ونوعا من الهمهمة الخجلانة من سائر الأوروبيين، ومن الخلف خوار مرتفع بلا كلمات؛ فقد كان المسيحيون الكارين يحفظون ألحان التراتيل لكن من دون الكلمات.
شرعوا يجثون مرة أخرى. فهمس إليس قائلا: «المزيد من الجثو اللعين.» ساد الجو عتمة، وتردد نقر خفيف من سقوط المطر على السطح؛ اهتزت الأشجار بالخارج مصدرة أصوات خشخشة، ودارت سحابة من أوراق الشجر الصفراء خارج النافذة. شاهدها فلوري من خلال فتحات أصابعه. منذ عشرين عاما، في أيام الآحاد في الشتاء، وهو جالس على مقعده في كنيسة الرعية في الوطن، كان من دأبه أن يشاهد الأوراق الصفراء، كما يفعل في هذه اللحظة، وهي تنجرف وتخفق في السماوات الرمادية. هل من الممكن، الآن، أن يبدأ من جديد كأن تلك السنوات الدنسة لم تمسه قط؟ رمق إليزابيث بنظرة مواربة من خلال أصابعه، وهي جاثية وقد أحنت رأسها واختفى وجهها وراء يديها المبقعتين. حين يتزوجان، حين يتزوجان، أي متعة سيحظيان بها معا في هذه الأرض الأجنبية لكن الطيبة! تخيل إليزابيث في معسكره، وهي تستقبله عند عودته متعبا من العمل وكو سلا وهو يأتي مسرعا من الخيمة بزجاجة جعة؛ رآها وهي تسير معه في الغابة، وتشاهد طيور أبو قرن على أشجار التين المجوسي وتقطف زهورا مجهولة الأسماء، ورآها وهي تخوض بخطوات ثقيلة وسط ضباب الجو البارد تطارد طيور الشنقب والبط البري في المراعي السبخة. رأى منزله كما ستتولى تجديده. رأى صالونه ولم يعد مهملا ومثل بيوت العزاب، بأثاث جديد من رانجون، ووعاء زهور بلسم وردية مثل البراعم على الطاولة، وكتب وألوان مائية وبيانو أسود. البيانو قبل أي شيء! لبث يتأمل البيانو في ذهنه؛ فهو رمز للحياة المتحضرة والمستقرة، ربما لأنه لم يكن ماهرا في الموسيقى. لقد انعتق إلى الأبد من شبه الحياة التي عاشها العقد الماضي، بمجونها وأكاذيبها وألم المنفى والوحدة والتعامل مع العاهرات والمرابين والسادة البيض.
تقدم الكاهن من منصة القراءة الصغيرة التي كانت تستخدم أيضا كمنبر، ونزع الرباط عن لفافة بورق العظة، وسعل، وأعلن عن النص الذي سيقرؤه. «باسم الآب والابن والروح القدس. آمين.»
همس إليس قائلا: «فلتختصر كلامك، بحق المسيح.»
لم يلحظ فلوري كم دقيقة مرت؛ فقد انسابت كلمات العظة إلى رأسه هادئة، همهمة غير واضحة، تكاد تكون غير مسموعة. كان لا يزال يتخيل حياتهما حين يتزوجان، حين يتزوجان ...
مهلا! ماذا حدث؟
توقف الكاهن دون أن يكمل الكلمة. وخلع نظارته الأنفية وراح يلوح بها في قلق لشخص في المدخل. كان هناك صراخ صاخب مخيف. «بايك-سان باي-لايك! بايك-سان باي-لايك!»
هب الكل في مقاعدهم والتفتوا. كانت ما هلا ماي. مع التفاتهم دخلت الكنيسة ودفعت ماتو العجوز جانبا. ثم لوحت بقبضتها لفلوري. «بايك-سان باي-لايك! بايك-سان باي-لايك! هذا هو الذي أقصده، فلوري، فلوري! (نطقته بورلي.) ذلك الشخص الجالس في المقدمة هناك، ذو الشعر الأسود! استدر وواجهني يا أيها الجبان! أين النقود التي وعدتني بها؟»
كانت تصرخ مثل المجنونة، والناس يحدقون فيها بأفواه مفتوحة، وقد منعهم فرط الذهول من الحركة أو الكلام. كان وجهها رماديا من البودرة، وشعرها الملبد مشعثا، وطرف إزارها متآكلا. بدت مثل شمطاوات البازار في صراخهن. كأن باطن فلوري قد تحول إلى جليد. يا إلهي، يا إلهي! هل سيعلمون ... هل ستعلم إليزابيث ... أن تلك هي المرأة التي كانت عشيقته؟ لكن لم يكن ثمة أمل، ولا ذرة أمل، في أي التباس. لقد صرخت باسمه مرارا وتكرارا. حين سمعت فلو الصوت المألوف، تملصت من أسفل المقعد، وسارت في الممر وهزت ذيلها لما هلا ماي. كانت المرأة الخسيسة تصيح بحكاية مفصلة لما فعله بها فلوري. «انظروا إلي، أيها الرجال البيض، والنساء كذلك، انظرن إلي! انظروا كيف قضى علي! انظروا إلى هذه الأسمال التي أرتديها! وهو جالس هناك، الكاذب، الجبان، يتظاهر بأنه لا يراني! إنه يتركني أتضور جوعا عند بوابته مثل الكلب الضال. آه، لكنني سوف أفضحك! استدر وانظر إلي! انظر إلى الجسم الذي قبلته ألف مرة، انظر، انظر ...»
وبدأت تمزق ثيابها فعلا؛ آخر البذاءات التي تقوم بها النساء البورميات الوضيعات النشأة. صدر صرير عن الهارمونيوم إذ تشنجت السيدة لاكرستين. كان الناس قد استعادوا وعيهم وطفقوا يتحركون. استعاد الكاهن صوته، بعد أن ظل يهمهم دون جدوى، وقال بحدة: «أخرجوا تلك المرأة!» كسا وجه فلوري الشحوب. كان بعد اللحظة الأولى قد أشاح برأسه عن الباب وجز على أسنانه في جهد يائس ليبدو غير مكترث. لكن دون جدوى، دون جدوى مطلقا. كان وجهه شاحبا مثل العظم، والعرق يلمع على جبينه. أقدم فرانسيس وصامويل على أول فعل مفيد في حياتهما ربما، فهبا عن مقعديهما فجأة، وأمسكا ذراعي ما هلا ماي وجرجراها إلى الخارج، وهي لا تزال تصرخ.
بدت الأجواء هادئة جدا في الكنيسة حين سحباها أخيرا بعيدا عن مجال السمع. كان المشهد شديد الثورة، وشديد الحقارة، حتى إنه أثار استياء الكل. حتى إليس بدا مشمئزا. لم يستطع فلوري كلاما أو حركة. إنما جلس يحدق متسمرا في المذبح، بوجه جامد شديد الشحوب، حتى إن وحمته بدت فيه كأنها بقعة طلاء أزرق لامع. نظرت إليه إليزابيث عبر الممر، فكاد شعورها بالاشمئزاز أن يصيبها بالغثيان. لم تكن قد فهمت كلمة مما قالته ما هلا ماي، لكن كان مغزى المشهد واضحا تماما. محض التفكير في أنه كان حبيب تلك المخلوقة المخبولة الرمادية الوجه جعل فرائصها ترتعد. لكن ما كان أسوأ من ذلك، وأسوأ من أي شيء، هو دمامته في هذه اللحظة. فقد روعها وجهه؛ إذ كان شديد الشحوب والتجهم والهرم. لم يبد فيه شيء حيا سوى الوحمة. عندئذ كرهته من أجل وحمته. لم تكن حتى هذه اللحظة قد أدركت كم هي شيء مخز، ولا يغتفر.
مثل التمساح، هاجم يو بو كين نقطة الضعف. فغني عن القول أن هذه الفضيحة كانت من تدبير يو بو كين. كان قد رأى فرصته كالعادة، ولقن ما هلا ماي دورها باهتمام. أنهى الكاهن عظته في الحال تقريبا. وبمجرد انتهائها هرع فلوري إلى الخارج، دون أن ينظر إلى أي من الآخرين. كان الظلام قد حل، حمدا لله. على بعد خمسين ياردة من الكنيسة توقف، وأخذ يراقب الآخرين وهم يقصدون النادي أزواجا. بدا له أنهم يسارعون في الذهاب. لا بد لهم من ذلك، بالطبع! فسيكون هناك شيء ليتحدثوا عنه في النادي الليلة! انقلبت فلو على ظهرها قبالة كاحليه، طالبة اللهو. فقال لها: «ابتعدي أيتها الحيوانة اللعينة!» وركلها. توقفت إليزابيث عند باب الكنيسة. بدا أن السيد ماكجريجور كان، لحسن الحظ، سيعرفها على الكاهن. بعد قليل ذهب الرجلان في اتجاه منزل السيد ماكجريجور؛ حيث كان الكاهن سيبيت الليلة، واتبعت إليزابيث الآخرين، فكانت على بعد ثلاثين ياردة خلفهم. ركض فلوري خلفها ولحق بها قرب بوابة النادي. «إليزابيث!»
التفتت، ورأته، فبهت لونها، وكانت ستمضي مسرعة دون أن تنبس بكلمة. لكنه كان في جزع مفرط، فقبض على معصمها. «إليزابيث! يجب علي أن أتحدث معك!» «اتركني أمضي، إذا سمحت!»
بدآ يقاومان، ثم توقفا سريعا. كان اثنان من المسيحيين الكارين الذين خرجوا من الكنيسة، واقفين على بعد خمسين ياردة، ويحدقان فيهما في الظلام الجزئي باهتمام شديد. بدأ فلوري يتحدث ثانية بنبرة أخفض: «أعلم يا إليزابيث أنه ليس من حقي أن أوقفك هكذا. لكن لا بد أن أتحدث إليك، لا بد! أرجوك أن تسمعي ما لدي لأقوله. لا تهربي مني، أرجوك!» «ماذا تفعل؟ لماذا تمسك بذراعي؟ دعني أذهب في الحال!» «سوف أتركك تذهبين، مهلا! لكن أصغي إلي، أرجوك! أجيبي على هذا السؤال. هل بإمكانك أن تسامحيني على الإطلاق، بعد ما حدث؟» «أسامحك؟ ماذا تقصد بأن أسامحك؟» «أعلم أنني في حال من الخزي. كان موقفا غاية في الوضاعة! لكنه بشكل ما ليس ذنبي. سوف تدركين ذلك حين تهدئين. هل تعتقدين - ليس الآن، فقد كان موقفا رديئا للغاية، لكن لاحقا - هل تعتقدين أن بإمكانك نسيانه؟» «لا أعلم حقا ما الذي تتحدث عنه. أنساه؟ ما دخلي بالأمر. أعتقد أنه شيء مقزز جدا، لكنه ليس من شأني. لا أفهم لماذا تستجوبني هكذا على الإطلاق.»
عند ذاك كاد اليأس أن يتملكه. فقد كانت نبرتها بل وكلماتها هي بالضبط نفسها التي استخدمتها في شجارهما السابق. كانت هي الحركة ذاتها مجددا. بدلا من سماعه للنهاية كانت ستتهرب منه وتثني عزيمته، تزدريه بدعوى أنه ليس له حكم عليها. «إليزابيث! أجيبيني أرجوك. أرجوك كوني منصفة معي! الأمر جاد هذه المرة. لا أتوقع أن تعودي إلي في الحال. لا يمكنك هذا بعد أن فضحت علانية هكذا. لكنك رغم كل هذا، كدت تعدينني أن نتزوج ...» «ماذا! وعدت بأن أتزوجك؟ متى وعدت بأن أتزوجك؟» «أعلم أنه لم يكن بالكلمات. لكنه كان شيئا متفقا عليه بيننا .» «لم يكن بيننا اتفاق على شيء من هذا القبيل! أعتقد أنك تتصرف بطريقة في غاية البشاعة. سوف أمضي إلى النادي في الحال. عمت مساء!» «إليزابيث! إليزابيث! اسمعيني. ليس من العدل أن تدينيني دون أن تسمعي دفاعي. كنت تعلمين من قبل بما فعلته، وتعلمين أنني صرت أعيش حياة مختلفة منذ التقيت بك. ما حدث هذا المساء كان محض صدفة. تلك المرأة الحقيرة، التي أقر بأنها كانت في السابق ... حسنا.» «لن أصغي، لن أصغي إلى تلك الأشياء! إنني ذاهبة!»
أمسك معصميها مجددا، وضمها هذه المرة. فقد كان المسيحيان الكارين قد اختفيا لحسن الحظ. «كلا، كلا، سوف تسمعينني! أفضل أن أكدرك كدرا بالغا عن أن تتركيني لهذه الحيرة. لقد مر أسبوع تلو الآخر، وشهر تلو الآخر، دون أن يتسنى لي الحديث معك مباشرة ولو مرة. ولا يبدو أنك تعلمين أو تأبهين لمقدار ما تسببينه لي من عذاب. لكن هذه المرة يجب أن تجيبيني.»
راحت تقاوم قبضته، وكانت قوية لدرجة مدهشة. كان وجهها أشد حنقا مما رآه أو تخيله قط. كانت تبغضه لدرجة أنها كانت ستضربه لو كانت يداها سائبتين. «دعني أذهب! أيها الحيوان، دعني أذهب أيها الحيوان!» «يا إلهي، يا إلهي، ويحي أن نتعارك هكذا! لكن ماذا في يدي؟ لا يمكنني أن أتركك تذهبين دون أن تسمعيني. يجب أن تسمعيني يا إليزابيث!» «لن أسمعك! لن أناقش الأمر! بأي حق تطرح علي الأسئلة؟ اتركني أذهب!» «سامحيني، سامحيني! أجيبي على هذا السؤال الوحيد. هل تقبلين - ليس الآن، لكن لاحقا، حين ينسى هذا الموضوع المشين - هل تقبلين الزواج مني؟» «لا، أبدا، أبدا!» «لا تجيبي هكذا! لا تجعليه نهائيا. قولي لا للوقت الحاضر كما تريدين، لكن بعد شهر، سنة، خمس سنوات ...» «ألم أقل لا؟ لماذا تصر على الإلحاح؟» «أصغي إلي يا إليزابيث. لقد حاولت مرارا وتكرارا أن أخبرك ماذا تعنين لي! آه، لا فائدة من الكلام في الأمر! لكن فلتحاولي أن تفهمي. ألم أخبرك شيئا عن الحياة التي نعيشها هنا؟ ذلك النوع البشع من الموت أحياء! التردي ، الوحدة، الحسرة على الذات؟ حاولي أن تفهمي معنى ذلك، وأنك الشخص الوحيد في الكون الذي يستطيع إنقاذي منه.» «هلا تركتني أذهب؟ لماذا تصر على افتعال هذه الفضيحة القبيحة؟» «ألا يعني لك أي شيء أن أقول لك أني أحبك؟ لا أعتقد أنك أدركت قط ما الذي أريده منك. إذا أردت سوف أتزوجك وأعدك ألا أمسك حتى أبدا. لن آبه لذلك حتى، ما دمت معي. لكنني لا أستطيع أن أمضي في حياتي وحيدا، وحيدا دائما. ألا يمكنك أن تحملي نفسك على أن تسامحيني أبدا؟» «أبدا، أبدا! لن أتزوجك حتى لو كنت الرجل الأخير على وجه الأرض. أفضل أن أتزوج ال... الكناس!»
ثم أجهشت بالبكاء. فأدرك أنها كانت تقصد ما قالته، وصعدت الدموع إلى عينيه. قال مرة أخرى: «للمرة الأخيرة. تذكري أنه شيء مهم أن يكون لديك شخص واحد يحبك. تذكري أنه رغم أنك ستجدين رجالا أكثر ثراء وشبابا وأفضل مني في كل شيء فإنك لن تجدي أحدا يهتم بك بقدر ما أهتم أنا. ومع أنني لست ثريا فعلى الأقل أستطيع أن أوفر لك منزلا. هناك معيشة متحضرة ومحترمة.»
قالت بهدوء أكثر: «ألم تقل ما يكفي؟ هلا تركتني أذهب قبل أن يأتي أحد؟»
أرخى قبضته حول معصميها. لقد خسرها، كان ذلك أكيدا. مرة أخرى راودته رؤية منزلهما كما كان قد تخيله، مثل هلوسة، جلية إلى حد مؤلم؛ رأى حديقتهما، وإليزابيث وهي تطعم نيرو والحمام على الممر لدى زهور الفلوكس الصفراء كالكبريت التي ارتفعت حتى بلغت كتفيها؛ والصالون، بألوان الماء على الجدران، وزهور البلسم في الوعاء الخزف وقد انعكست على الطاولة، ورفوف الكتب، والبيانو الأسود. البيانو الخرافي المستحيل؛ رمز لكل شيء أودى به ذلك الموقف التافه!
قال في يأس: «لا بد أن تمتلكي بيانو.» «إنني لا أعزف على البيانو.»
تركها تذهب. فلم يكن ثمة جدوى من الاستمرار. لم تلبث أن تحررت منه حتى أطلقت ساقيها للريح وركضت فعلا إلى حديقة النادي؛ إذ كان وجوده شيئا بغيضا جدا لها. توقفت بين الأشجار لتخلع نظارتها وتمسح آثار الدموع عن وجهها. يا له من حيوان، حيوان! لقد آلم معصميها بشدة. كم كان حيوانا بشعا! حين خطر لها وجهه كما بدا في الكنيسة، شاحبا تومض فيه الوحمة البشعة، كادت تتمنى أن يموت. لم يكن ما فعله هو الذي روعها. كان من الممكن أن تغفر له ألف إثم ارتكبه. لكن ليس بعد تلك الفضيحة المخزية المزرية، وما كان عليه وجهه المشوه من دمامة خبيثة في تلك اللحظة. كانت وحمته، في نهاية المطاف، التي حكمت عليه بالهلاك. ستغتاظ زوجة عمها حين تعرف أنها رفضت فلوري. وتذكرت عمها وقرصه لساقيها ... ما بينهما، فأدركت أن الحياة سوف تكون مستحيلة هنا. ربما عليها العودة إلى الوطن من دون زواج بعد كل ما كان. والخنافس السوداء! فليكن. إن أي شيء - سواء العنوسة أو العمل الشاق، أي شيء - لهو أفضل من البديل. الموت نفسه أفضل، أفضل كثيرا. وإذا كانت المادة قد شغلت بالها قبل ساعة، فقد نسيتها. إنها لا تذكر حتى أن فيرال نبذها وأن الزواج من فلوري كان سينقذ ماء وجهها. كان جل ما أدركته أنه قد حط من شرفه ورجولته، وأنها تبغضه كما لو كان مصابا بالخبل أو البرص. كانت الغريزة أبلغ من المنطق بل وحتى المصلحة، ولم تكن تستطيع الاستمرار في مقاومتها كما لا تستطيع التوقف عن التنفس.
أما فلوري، فحين اتجه إلى التل صاعدا، صحيح أنه لم يركض، لكنه سار بأسرع ما في طاقته. فلا بد أن يفعل ما عليه فعله سريعا. كان الظلام قد اشتد للغاية. هرولت فلو المسكينة على مقربة من قدميه، غير مدركة حتى ذلك الوقت أن في الأمر أي شيء خطير، وهي تئن في رثاء على نفسها لتؤنبه على الركلة التي سددها إليها. حين وصل إلى الممر هبت ريح على أشجار الموز، فهزت الأوراق الممزقة وبعثت رائحة رطوبة. إذن ستتساقط الأمطار مرة أخرى. كان كو سلا قد وضع المائدة وأخذ يزيل بعض الخنافس الطائرة التي انتحرت بالاصطدام بالمصباح الكيروسين. من الواضح أنه لم يسمع بالفضيحة التي كانت في الكنيسة بعد. «عشاء مولاي جاهز. هل سيتناول مولاي عشاءه الآن؟» «لا، ليس بعد. أعطني ذلك المصباح.»
أخذ المصباح، ودخل المخدع وأغلق الباب. استقبلته رائحة الغبار ودخان السجائر، واستطاع أن يرى على الوهج الأبيض المرتعش للمصباح الكتب المتعفنة والسحالي التي على الحائط. إذن فقد عاد مجددا إلى هذا - إلى الحياة الخفية القديمة - بعد كل شيء، عاد إلى حيث كان من قبل.
أليس من الممكن أن يتحملها! لقد تحملها قبل ذلك. كان هناك مسكنات؛ الكتب وحديقته والشراب والعمل والمومسات والصيد وأحاديثه مع الطبيب.
لا، لم تعد محتملة. منذ مجيء إليزابيث بعث إلى الحياة مجددا إحساسه بالألم وأهم من ذلك الأمل، الذي كان يظن أنه مات بداخله. تداعى الخمول شبه المريح الذي كان يعيش فيه. وإذا كان يعاني الآن، فالآتي أسوأ كثيرا. بعد قليل سوف يتزوجها شخص آخر. لشد ما يستطيع تصور الأمر - لحظة سماعه الخبر! - «هل عرفت أن فتاة لاكرستين سترحل عنه أخيرا؟ لقد حجز «فلان» المسكين المذبح، فليكن الرب في عونه ... إلخ.» والسؤال المعتاد: «حقا؟ متى سيكون ذلك؟» مع مراعاة جمود الوجه، تظاهرا بعدم الاكتراث. ثم اقتراب يوم عرسها، ليلة دخلتها. آه، ليس ذلك! مناظر فاحشة، فاحشة. فلتبق عينيك مركزتين على ذلك. الفحش. أخرج حقيبة المعدات العسكرية الصفيح من أسفل الفراش، وأخرج مسدسه الآلي، وأدخل مشط خراطيش في خزانة الذخيرة، وسحب واحدا إلى المغلاق.
كان كو سلا مذكورا في وصيته. تبقت فلو. وضع المسدس على المنضدة وخرج. كانت فلو تلعب مع با شين، أصغر أبناء كو سلا، أسفل ساتر المطبخ، حيث كان الخدم قد تركوا بقايا حطب. كانت ترقص حوله كاشفة عن أسنانها الصغيرة، تتظاهر بعضه، بينما الصبي الصغير، الذي احمرت بطنه في وهج الجمر، يصفعها صفعات واهنة، ضاحكا لكن شبه خائف. «فلو! تعالي يا فلو!»
سمعته وجاءت طائعة، ثم توقفت بغتة لدى باب مخدع النوم. بدا أنها أدركت حينئذ أن ثمة شيئا خطأ. فتراجعت قليلا ووقفت تنظر إليه مرعوبة، راغبة عن دخول المخدع. «ادخلي!»
هزت ذيلها لكنها لم تتزحزح . «تعالي يا فلو! يا عزيزتي فلو! تعالي!»
أصيبت فلو بالهلع فجأة، فجعلت تئن وسقط ذيلها وتراجعت منكمشة. صاح فلوري: «تعالي، عليك اللعنة!» ثم أخذها من طوقها وألقى بها في الحجرة، وأغلق الباب وراءها. ثم ذهب إلى المنضدة من أجل المسدس. «تعالي هنا! افعلي ما أمرتك به!»
جثمت على الأرض وراحت تئن طلبا للسماح. وقد أوجعه أن يسمع أنينها «تعالي يا فتاتي العزيزة! يا عزيزتي فلو! لن يؤذيك سيدك. فلتأتي.» زحفت إلى قدميه ببطء شديد، متمددة على بطنها، وهي تبكي، ورأسها محني كأنها خائفة من النظر إليه. حين صارت على بعد ياردة منه أطلق النار، فتفجرت جمجمتها أشلاء.
بدا دماغها مثل المخمل الأحمر. هل هكذا سيبدو هو؟ فليكن القلب إذن، وليس الرأس. وصله صوت الخدم وهم يركضون خارجين من حجراتهم ويصيحون؛ لا بد أنهم قد سمعوا صوت الطلقة. هنا شق معطفه سريعا وسدد فوهة المسدس إلى قميصه. على امتداد حافة المنضدة كانت سحلية صغيرة، شفافة كأنها مخلوق جيلاتيني، تلاحق فراشة بيضاء. سحب فلوري الزناد بإبهامه.
حين اندفع كو سلا إلى الغرفة، لم ير من أول وهلة سوى جثة الكلبة. ثم رأى قدمي سيده، بالكعبين لفوق، بارزتين من وراء الفراش. فهتف بالآخرين لإبعاد الأطفال خارج الغرفة، فتراجعوا جميعا عن المدخل وهم يطلقون الصيحات. خر كو سلا على ركبتيه خلف جثة فلوري، في نفس اللحظة التي أتى فيها با بي مهرولا من الشرفة. «هل أطلق النار على نفسه؟» «أعتقد ذلك. اقلبه على ظهره. مهلا، انظر! فلتركض إلى الطبيب الهندي! اجر بأقصى سرعة!»
كان في قميص فلوري ثقب دقيق، لا يزيد عن الثقب الناتج عن مرور قلم رصاص في فرخ من الورق النشاف. كان واضحا تماما أنه جثة هامدة. تمكن كو سلا بصعوبة بالغة أن يجره إلى الفراش، فقد رفض الخدم الآخرون أن يلمسوا الجثة. وبعد عشرين دقيقة ليس إلا حضر الطبيب. كان قد تلقى خبرا مبهما بأن فلوري مصاب، فقاد دراجته صاعدا التل بأقصى سرعة رغم هبوب ريح ممطرة. ثم ألقى دراجته في حوض الزهور وأسرع بالدخول من خلال الشرفة. كان مقطوع النفس، غير قادر على الرؤية بنظارته. فخلعها، وحدق حاسر البصر في الفراش. قال مهتاجا: «ما الأمر يا صديقي؟ أين أصبت؟» ثم دنا أكثر، ورأى ما على الفراش، فأطلق صوتا مبحوحا. «آه، ما هذا؟ ماذا ألم به؟»
خر الطبيب على ركبتيه، ومزق قميص فلوري ووضع أذنه على صدره. ارتسم على وجهه الألم، وقبض على منكبي الرجل الميت وأخذ يهزه كأن الشدة وحدها تستطيع أن تعيده للحياة. سقطت إحدى ذراعيه بارتخاء على حافة الفراش. رفعها الطبيب مرة أخرى، ثم انفجر في البكاء فجأة، آخذا اليد الميتة بين يديه. كان كو سلا واقفا عند نهاية الفراش، وقد امتلأ وجهه الأسمر بالتجاعيد. نهض الطبيب، ثم فقد السيطرة على نفسه لوهلة، فاستند إلى عمود الفراش وبكى بكاء صاخبا بشعا، موليا كو سلا ظهره، وكتفاه السمينتان ترتجفان. وبعد قليل تمالك نفسه واستدار مرة أخرى. «كيف حدث هذا؟» «لقد سمعنا طلقتين. لقد أطلقهما بنفسه، هذا أكيد. لكنني لا أعلم لماذا.» «كيف عرفت أنه فعل ذلك عمدا؟ كيف عرفت أنها لم تكن حادثة؟»
على سبيل الإجابة، أشار كو سلا صامتا إلى جثة فلو. استغرق الطبيب في التفكير للحظة، ثم لف الرجل المحتضر في الملاءة وعقدها عند القدمين والرأس، بيدين خفيفتين متمرستين. مع وفاته، انطمست الوحمة في الحال، حتى إنها لم تبد سوى بقعة رمادية باهتة. «ادفن الكلبة على الفور. وأنا سأخبر السيد ماكجريجور أنها كانت حادثة بينما كان ينظف مسدسه. تأكد من دفن الكلبة. كان سيدك صديقي. لن أرضى أن يكتب على شاهد قبره أنه مات منتحرا.»
الفصل الخامس والعشرون
من حسن الحظ أن القس كان في كياوكتادا، فأمكنه، قبل اللحاق بالقطار في مساء اليوم التالي، أن يتلو مراسيم الجنازة حسب الأصول، بل أن يلقي خطبة قصيرة أيضا حول محاسن المتوفى. يصير كل الرجال الإنجليز صالحين حين يموتون. «الوفاة في حادث» كان هو الحكم الرسمي (فقد أثبت الدكتور فيراسوامي بكل مهاراته الطبية القانونية أن الملابسات تشير إلى حادث) وقد روعي نقش هذا على شاهد قبره. لكن لم يعن هذا أن أحدا صدق بالطبع. فقد كانت المرثية الحقيقية لفلوري هي التعليق، الذي تردد في حالات نادرة - فالرجل الإنجليزي الذي يموت في بورما سريعا ما ينسى - «فلوري؟ آه، كان رجلا ذا شعر أسود، وكانت لديه وحمة. لقد أطلق النار على نفسه في كياوكتادا عام 1926. قال الناس إنه من أجل فتاة. يا له من أحمق مسكين!» باستثناء إليزابيث، ربما لم يندهش أي أحد كثيرا لما حدث. فإن عدد حالات الانتحار بين الأوروبيين في بورما كبير إلى حد ما، ولا ينشأ عنها قدر كبير من الدهشة.
ترتب على وفاة فلوري نتائج كثيرة. أولها وأهمها أن الدكتور فيراسوامي قد قضي عليه، بل وعلى النحو الذي كان قد تنبأ به. فالشرف الذي تمتع به لكونه صديق رجل أبيض - الشيء الوحيد الذي أنقذه من قبل - تبدد. لم تكن علاقة فلوري بالأوروبيين جيدة قط، هذا صحيح؛ لكنه كان رجلا أبيض على كل حال، وكانت صداقته تمنح وجاهة ما. وبمجرد وفاته، صار سقوط الطبيب يقينا. انتظر يو بو كين المهلة اللازمة، ثم شن هجومه مرة أخرى، أشد من كل مرة. لم تمر ثلاثة أشهر إلا وكان زرع في رأس كل أوروبي في كياوكتادا أن الطبيب كان مجرما عتيدا. لم يوجه له اتهام رسمي مطلقا؛ كان يو بو كين شديد الحرص في هذا الشأن. إليس نفسه كان سيحتار أي رذيلة يرميه بها تحديدا؛ لكن ظل من المتفق عليه أنه كان وغدا. رويدا رويدا، تبلور الشك العام فيه في عبارة بورمية واحدة: «شوك دي.» كان يقال إن فيراسوامي رجل ضئيل ماهر فعلا؛ فهو طبيب بارع بالنسبة إلى كونه من أهل البلد، لكنه كان «شوك دي». المعنى التقريبي لعبارة «شوك دي» هو غير جدير بالثقة، وحين يصير مسئول «من أهل البلد» معروفا بأنه «شوك دي»، تكون نهايته.
وصل الهمز واللمز إلى شخصيات ما في المناصب العليا، فتراجع الطبيب إلى منصب مساعد جراح ونقل إلى مستشفى ماندالاي العام. ولا يزال هناك، ومن المرجح أن يظل كذلك. وماندالاي هي بلدة بغيضة بعض الشيء؛ فهي مغبرة وحرها لا يطاق، ويقال إن لديها خمسة أشياء رئيسية تتسم بها وهي المعابد والكلاب الضالة والخنازير والقساوسة والمومسات، كما كانت الأعمال الروتينية في المستشفى مضجرة. وقد أقام الطبيب خارج حرم المستشفى في كوخ أشبه بفرن صغير بسياج حديدي مضلع حول حدوده الصغيرة، وكان في المساء يعمل في عيادة خاصة لتعويض راتبه المنخفض. والتحق بنادي درجة ثانية يرتاده محامون هنود. كانت مفخرته الرئيسية عضو أوروبي وحيد؛ كهربائي من جلاسجو يدعى ماكدوجال، رفت من شركة «إيراوادي» لسكره، ويكسب الآن رزقا غير مستقر من العمل في ورشة. كان ماكدوجال شخصا أخرق بليدا، لا يهتم إلا بالويسكي والمولدات المغناطيسية. لكن الطبيب لم يكن ليصدق أبدا أن ثمة رجلا أبيض أحمق، فكان يحاول كل ليلة تقريبا أن يشركه فيما لا يزال يسميه «حديثا راقيا»: لكن النتائج كانت غير مرضية بالمرة.
ورث كو سلا أربعمائة روبية بموجب وصية فلوري، فأنشأ مع أسرته مقهى في البازار. لكن المقهى خسر، وهو ما لم يكن منه مفر مع مشاجرات المرأتين طوال الوقت بداخله، فاضطر كو سلا وبا بي إلى العودة إلى الخدمة. كان كو سلا خادما بارعا. إلى جانب المهارات المفيدة من جلب المومسات، والتعامل مع المرابين، وحمل السيد إلى فراشه حين يثمل، وإعداد شراب منشط معروف باسم محار البراري في الصباح التالي، كان يستطيع الخياطة والرتق وإعادة ملء الخراطيش، ورعاية الفرس، وكي البذل، وتزيين مائدة الطعام بأشكال متداخلة خلابة من أوراق الأشجار المقصوصة وحبوب الأرز المصبوغة. كان يستحق خمسين روبية شهريا. لكنه هو وبا بي كانا قد استسلما لحياة الخمول أثناء خدمة فلوري، وهكذا طردا من وظيفة تلو الأخرى. وقد مر عليهما عام صعب عانيا فيه الفقر، وأصيب با شين الصغير بالسعال، حتى مات به أخيرا ذات ليلة كان الحر فيها خانقا. يعمل كو سلا الآن خادما ثانويا لدى تاجر أرز في رانجون لديه زوجة مصابة بالعصاب تتذمر بلا انقطاع، وصار با بي سقاء في نفس المنزل مقابل ست عشرة روبية في الشهر. أما ما هلا ماي فأصبحت في بيت دعارة في ماندالاي. كاد يزول عنها حسنها، وكان زبائنها يدفعون لها أربع آنات فقط وأحيانا يركلونها ويضربونها. وكانت تتندم على الأوقات الطيبة حين كان فلوري على قيد الحياة، ربما بمرارة أكثر من أي من الآخرين، حيث لم تتحل بالحكمة لادخار أي من النقود التي كانت تنتزعها منه.
حقق يو بو كين كل أحلامه ما عدا واحدا. بعد إلحاق العار بالطبيب، لم يكن ثمة مفر من انتخاب يو بو كين لعضوية النادي، وقد انتخب، رغم احتجاجات صارمة من إليس. وفي نهاية المطاف أضحى الأوروبيون سعداء بعض الشيء أنهم انتخبوه؛ فقد كان إضافة للنادي يسعهم احتمالها. فلم يكن يأتي كثيرا، وكان مداهنا في سلوكه، ويدعوهم إلى الشراب على حسابه بلا حدود، وتطور سريعا إلى لاعب بريدج بارع. بعد بضعة أشهر نقل من كياوكتادا ورقي. وظل يشغل منصب نائب المفوض، عاما كاملا، قبل تقاعده، وخلال هذا العام جنى عشرين ألف روبية من الرشاوى. وبعد تقاعده بشهر، دعي إلى حفل رسمي في رانجون، لتسلم الوسام الذي منحته له الحكومة الهندية.
وقد كان مشهدا مذهلا، ذلك الحفل. فوق المنصة علقت الأعلام والزهور، وجلس الحاكم، يرتدي معطفا طويلا رسميا، على شيء شبيه بالعرش، وراءه مجموعة من الضباط المعاونين والسكرتارية. وفي أنحاء القاعة وقف حرس الحاكم من جنود الخيالة الهنود الملتحين، بقاماتهم الطويلة، مثل تماثيل شمع لامعة، في أياديهم رماح ذات رايات. وبالخارج كان ثمة فرقة موسيقية تصخب بالموسيقى من حين إلى آخر. تألقت الشرفة بالبلوزات البيضاء للسيدات البورميات وأوشحتهن الوردية، وفي قلب القاعة كان مائة رجل أو يزيد في انتظار استلام أوسمتهم. كان هناك مسئولون بورميون في أزر لامعة من ماندالاي، وهنود بعمامات من قماش منسوج من الذهب، وضباط بريطانيون بكامل زيهم الرسمي تقعقع أغمدة سيوفهم، وعمد قرى شيوخ عقدت شعورهم الرمادية خلف رءوسهم وتدلت سيوفهم بمقابضها الفضية من أكتفاهم. راح أحد السكرتارية يقرأ بصوت جهوري واضح قائمة الجوائز، التي تراوحت من وسام الإمبراطورية الهندية برتبة زميل إلى شهادات شرف داخل صناديق فضية منقوشة. ما لبث أن جاء دور يو بو كين حيث تلا السكرتير المكتوب في القائمة قائلا: «إلى يو بو كين، مساعد نائب مفوض، متقاعد، جزاء على خدمته الممتدة والمخلصة ولا سيما تعاونه في الوقت المناسب في سحق تمرد شديد الخطورة في منطقة كياوكتادا ... إلخ.»
هنا أنهض يو بو كين على قدميه اثنان من الأتباع اللذين وضعا هناك لذلك الغرض، ثم سار متمايلا إلى المنصة، وانحنى بقدر ما أتاحت له بطنه، وتقلد الوسام حسب الأصول وهنئ، فيما أخذت ما كين ومؤيدون آخرون يصفقون بحماس ويرفرفون بأوشحتهم من الشرفة.
كان يو بو كين قد جنى كل ما قد يجنيه رجل فان، وحان الوقت الآن للتأهب للعالم الآخر، بعبارة مختصرة، الشروع في بناء معابد. لكن للأسف، كانت هذه هي النقطة التي أخفقت فيها خططه. بعد احتفال الحاكم بثلاثة أيام فقط، قبل وضع ولو لبنة واحدة في تلك المعابد المكفرة عن الذنوب، أصابت يو بو كين سكتة دماغية وقضى نحبه دون أن ينبس بكلمة مرة أخرى. فلا يوجد رادع للقدر. انفطر قلب ما كين للكارثة. فحتى إذا بنت المعابد بنفسها، لن تفيد يو بو كين بشيء؛ إذ لا يكسب المرء الحسنات إلا بأعماله. إنها تتألم بالغ الألم حين يرد على بالها أين أصبح يو بو كين حتما الآن؛ يهيم في جحيم مريع مجهول تحت الأرض، حيث الظلام والأفاعي والجن. حتى إذا كان قد نجا من الاحتمال الأسوأ، فقد تحقق خوفه الآخر، وعاد إلى الأرض في جسد فأر أو ضفدعة. ربما يلتهمه الآن ثعبان في هذه اللحظة نفسها.
أما إليزابيث، فقد آل بها الحال مآلا أفضل مما كانت تتوقع. بعد وفاة فلوري تخلت السيدة لاكرستين عن كل تظاهر في الحال، وقالت صراحة إنه لا يوجد رجال في هذا المكان الكريه وإن الأمل الوحيد هو الذهاب إلى رانجون أو مايمو والبقاء هناك عدة أشهر. لكنها لا تستطيع مطلقا أن ترسل إليزابيث إلى رانجون أو مايمو بمفردها، وذهابها معها يعني الحكم على السيد لاكرستين بالموت بالهذيان الارتعاشي. مرت شهور، وبلغت الأمطار الذروة، وكانت إليزابيث قد عقدت العزم للتو على العودة إلى الوطن بعد كل ما كان، بلا نقود وبلا زوج، حين تقدم السيد ماكجريجور للزواج منها. كانت الفكرة في رأسه منذ وقت طويل؛ لكنه بالطبع كان في انتظار مرور فترة كافية على وفاة فلوري.
وقد وافقت إليزابيث عليه مسرورة. كان عجوزا بعض الشيء، لكن مندوب المفوض ليس بالمنصب الذي يستهان به، لا شك أنه كان زوجا أفضل بكثير من فلوري. وهما الآن يعيشان في سعادة كبيرة. طالما كان السيد ماكجريجور رجلا سمحا، لكنه صار أكثر إنسانية ولطفا منذ زواجه. كما انخفض دوي صوته، وتوقف عن ممارسة تمارينه الصباحية. وزادت إليزابيث نضجا بسرعة مدهشة، وبرزت صرامة ما طالما اتسم بها أسلوبها. إذ يعيش خدمها في رعب منها، ولو أنها لا تتحدث البورمية. وقد أصبح لديها معرفة شاملة بالقائمة المدنية، فصارت تقيم حفلات عشاء صغيرة ممتعة، مدركة كيف تضع زوجات المسئولين التابعين في أماكنهن. إنها باختصار تملأ بمنتهى النجاح الموقع الذي خلقتها لأجله الطبيعة منذ البداية، موقع زوجة مسئول بريطاني في الهند.
Bilinmeyen sayfa